الأزمة الأمنية في تونس: تحدي استعادة الدولة زمام المبادرة

يضرب العنف تونس في سياق متأزم اقتصاديًّا واجتماعيًّا بسبب تراكم سياسات خاطئة أنتجت تهميشًا لفئات عديدة. وهناك أسباب عميقة تعود إلى تغير طبيعة مهام المؤسسة الأمنية منذ الثورة وبداية المسار الانتقالي. ويُخشى أن تكون تدابير السلطة لمواجهة الاضطرابات الأمنية مقدمة لتراجع المنظومة الحقوقية.
2015715111828422734_20.jpg
يُخشى أن تكون تدابير السلطة لمواجهة الاضطرابات الأمنية مقدمة لتراجع المنظومة الحقوقية (رويترز)
ملخص
من بلد يعيش حالة انتقال ديمقراطي جعلته التجربة الأنجح والأكثر سلمية في بلدان الربيع العربي، لم تلبث تونس أن تحولت في الأشهر الأخيرة لبلد يحتل فيه الوضع الأمني والهجمات المسلحة مقدمات نشرات الأخبار. وما أغفله المراقبون للوضع التونسي طيلة السنوات القليلة الماضية هو المؤشرات على عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي انعكست شُحًّا في موارد الدولة، وبالتالي عجزًا عن مواجهة أزمة البطالة ومقتضيات الحرب المفروضة على البلد ضد المسلحين. وتعيش البلاد على وقع الخوف من هجمات دامية جديدة في ظلِّ اكتشاف السلطات لضعف جهاز الأمن وعدم قدرته غالبًا على تلافي العمليات بعد أن غيَّرت الجماعات من طرق عملها وركزت في الآونة الأخيرة على استهداف البنية الاقتصادية للدولة. وتُقبل تونس على أوقات شديدة الصعوبة في الأشهر القادمة، حيث لا تملك الحكومة حلولًا ولا موارد لمواجهة الأزمة متعددة الجوانب التي تمر بها. ورغم بداية الحديث عن تغيير الحكومة الحالية قبل نهاية السنة، إلا أنه لا يبدو أن ذلك سيحدث اختراقًا كبيرًا إزاء الوضع الذي يزداد تعقيدًا.

تعرضت تونس في 26 يونيو/حزيران إلى أعنف هجوم مسلح في تاريخها أوقع حوالي أربعين من الضحايا معظمهم من السائحين البريطانيين. وقد جاء هذا الهجوم الدموي بعد أقل من ثلاثة أشهر على هجوم متحف باردو الذي أوقع هو الآخر عددًا كبيرًا من القتلى السائحين. وأثار هجوم سوسة تساؤلات مختلفة وحادة حول طبيعة الاستعدادات التي اتخذتها الأجهزة الأمنية لاتِّقاء مزيد من الهجمات المسلحة منذ هجوم باردو، وهي استعدادات لا يبدو أنها حققت المطلوب. من جهة أخرى، فإن هجوم سوسة جاء في سياق جديد باستهداف الجماعات المسلحة لأكثر القطاعات الاقتصادية حيوية في تونس، وهو القطاع السياحي الذي يوفر فرص شغل لحوالي نصف مليون من الناشطين الاقتصاديين بصفة مباشرة وغير مباشرة. كما يأتي هذا الهجوم في ظرف سياسي متأزم بفعل عجز الحكومة الائتلافية حتى اللحظة عن إيجاد حلول للأزمات المشتعلة، بل واتخاذها إجراءات ستزيد من حدَّة الأزمة السياسية والاجتماعية في المستقبل المنظور.

فشل أمني وسعي لاستعادة المبادرة

تمر تونس حاليًا بأزمة اقتصادية واجتماعية في سياق عملية انتقال ديمقراطي عسير، إلا أن تدخل العامل الأمني، منذ اغتيال الزعيمين المعارضين للترويكا شكري بلعيد ومحمد البراهمي في شتاء وصيف عام 2013 وعدد من الأحداث الأمنية اللاحقة، قد جعل الاضطرابات الأمنية أحد أبرز وجوه الأزمة التونسية الشاملة إلى الحدِّ الذي يجعلها تبدو منذ هجوم باردو في الربيع المنقضي، كأنها أصل الأزمة، في حين أن باقي الأزمات لا تتجاوز كونها مجرد تجليات لها.

هناك أسباب عميقة للأزمة الأمنية في تونس، تعود في جُلِّها إلى كون المهام التي نشأت عليها المؤسسة الأمنية قد تغيرت تغيرًا جذريًّا منذ الثورة وبداية مسار الانتقال الديمقراطي، وهي تغييرات أصابت العقيدة الأمنية بالتشويش نتيجة عدم الاستقرار الذي ضرب المؤسسة الأمنية بفعل التغيير السريع للحكومات، وكذلك نتيجة لتعدد مراكز النفوذ الذي أرساه الدستور الصغير، ثم دستور يناير/كانون الثاني 2014. وقد تكونت العقيدة الأمنية طيلة عهدي بورقيبة وابن علي على مركزية قصوى للقرار، ومواجهة المعارضة في سياق ديكتاتوري. كما أن التدريب وتقنيات العمل اقتصرت طيلة عقود من الزمن على الاستجابة لتلك الحاجيات وتلبية تلك العقيدة.

منذ عمليتي الاغتيال عام 2013 وتوالي العمليات المسلحة عقبها، بدا أن المؤسسة الأمنية تكتشف ظاهرة العنف المسلح وتتلمس طرق مواجهته بحِرفية منقوصة، حتى وإن استطاعت هذه المؤسسة إفشال العديد من العمليات واعتقال كثير من الخلايا المسلحة في الأشهر الأخيرة، لاسيما نجاحها في القضاء على عناصر مسلحة خطيرة في منطقة القطار بجهة قفصة في العاشر من يوليو/تموز الجاري. وقد بدا بعد كل عملية مسلحة أن الجماعات المسلحة قادرة على استباق ردة الفعل الأمنية، والتعامل معها لتجاوزها وإيقاع أكبر أذى ممكن، بل أكثر من ذلك تنويع الأهداف ضمن خطة لم تعد خافية، مثل استهداف العسكريين والأمنيين من طرف المجموعات المسلحة الصغيرة المستوطنة بجبال المنطقة الغربية، واستهداف المقرات السيادية والأهداف الاقتصادية بالنسبة للمجموعات المستوطنة بالمدن.

هناك قناعة لدى أجهزة الدولة بأن قرب الساحة الليبية وتأزمها هو سبب رئيسي في تزايد العمليات المسلحة بتونس، وهو رأي لا يبدو بعيدًا عن التحليل الموضوعي، لكن ما يغيب عنه هو أن تطور هذه الظاهرة قد جعل من العنف المسلح منتَجًا تونسيًّا يجري تصديره إلى ليبيا وغيرها؛ ما يعني أن الأسباب العميقة للظاهرة تعتبر محلية وتكمن في سياسة اقتصادية خاطئة وأزمة اجتماعية موروثة، وخاصة في انكسار العلاقة بين الدولة وقسم من التونسيين، ما يجعل هذا القسم أكثر استعدادًا لاستيعاب أدبيات العنف والمرور إلى التنفيذ.

يشير بعض الاستبيانات التي أُنجزت في منطقة الشمال الغربي التونسي قبل شهرين، أي بُعيْد هجوم باردو، إلى أن خمسة بالمائة من الشباب يجاهرون بمساندتهم لتنظيم داعش، وأن أكثر من نصفهم مستعد للانخراط فيها إذا ما أُتيحت له الفرصة؛ حيث تُعتبر منطقة الشمال الغربي التونسي أكثر الجهات فقرًا، وكانت قد صوَّتت في معظمها لحزب نداء تونس في انتخابات مجلس الشعب، وللباجي قايد السبسي في الرئاسيات. كما أن دراسة قام بها "المرصد الوطني للشباب"، وهو مؤسسة رسمية، أعلن مديرها عن نتائجها يوم 14 يوليو/تموز تُبيِّن أن ثلث الشبان التونسيين يُبدون تعاطفًا مع التيار السلفي "في جانبه الدعوي والخيري". وإذا علمنا أن أكثر من نصف المجتمع من الشباب، تصبح الظاهرة شديدة الخطورة.

وبالرغم من حالة التعاطف الدولي التي أنتجتها حادثتا باردو وسوسة، إلا أن التعاون الدولي مع تونس في مواجهة العنف يظل في مستويات ضعيفة. وتشير معطيات متواترة لتكثيف الولايات المتحدة تعاونها الاستخباري مع تونس لملاحقة الجماعات المسلحة عبر استخدام متزايد للطائرات بدون طيار التي تجوب المناطق التونسية من حين لآخر، لكن الاتفاقية التي أُمضيت بين البلدين في العشرين من مايو/أيار في واشنطن، والتي أثارت الكثير من اللغط، كانت دون المأمول بكثير بالنسبة لحكومة وجدت نفسها في حرب ضارية ضد جماعات مسلحة، إضافة إلى تسببها في أزمة مع الجار الغربي: الجزائر؛ ما أدى لتخفيض الجزائريين نسق تعاونهم الأمني مع تونس كرد فعل على اتفاقية واشنطن.

تثير الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة عقب عملية سوسة الكثير من الشكوك حول قدرتها على مواجهة مزيد من الهجمات؛ حيث أعلنت الحكومة إغلاق ثمانين مسجدًا من "المساجد الخارجة عن السيطرة"، كما أعلنت خطة لحماية الوحدات الفندقية وتتبع الأحزاب والجمعيات المخالفة للدستور والقوانين، ودعوة جيش الاحتياط لدعم المجهود الأمني، وتكثيف المداهمات "لتتبع العناصر المشبوهة". وبعد أيام قليلة فقط تبين أن خطة حماية الوحدات السياحية غير ناجعة؛ حيث دعت بريطانيا في التاسع من يوليو/تموز رعاياها لمغادرة تونس بصورة عاجلة لتدني مستوى الحماية المتوفرة، لتتبعها في ذلك الدنمارك في اليوم التالي. فيما عدا ذلك، فلا أحد على ثقة بأن هذه الاجراءات التي يُفترض أنها اتُّخذت بعد هجوم باردو، فعَّالة. في المقابل، وفي مسارٍ مواز للعمل الحكومي، انخرط بعض وسائل الإعلام المساندة للسلطة في حملة ضد المدافعين عن حقوق الانسان، الذين اعتُبروا أحيانًا "طابورًا خامسًا" للإرهاب؛ ما أثار مخاوف من أن يرافق الحملة على الجماعات المسلحة استهداف لحقوق الانسان على نحو ممنهج.

تثير الاجراءات التي اتخذتها الحكومة، خاصة إغلاق المساجد والجمعيات واستهداف المدارس القرآنية التي تعتبرها الحكومة الحالية "مفارخ للإرهاب"، الكثير من المخاوف من عودة الدولة لسياسة تجفيف المنابع التي اتبعتها في عهد ابن علي، مع فارق وحيد هو أن حركة النهضة التي طُبِّقت ضدها هذه السياسة سابقًا، هي اليوم ضمن التحالف الحكومي الذي يجيز هذه السياسة. ومن المعلوم أن هذه السياسة قد أنتجت في عهد ابن علي نفسه، آلاف العناصر الشابة المتشددة التي التحقت فيما بعد ببؤر التوتر في العالم، بدءًا من العراق ثم سوريا ثم ليبيا. وفي السياق الجديد، تعني العودة إلى هذه السياسة توفير مبررات إضافية للمجموعات المسلحة باتهام الدولة باستهداف الإسلام ومظاهر التدين، في سياق يتسم بتراجع تأثير الحركات الإسلامية المعتدلة، وخاصة حركة النهضة (باعتبار وجودها في التحالف الذي يجيز هذه السياسة). وستجبر السياسة الجديدة المجموعات المتشددة على الاختفاء وتنظيم نفسها بنجاعة أكبر، وتقليص فترة التعبئة للمرور بسرعة أكبر للعمل العنيف؛ ما يعني أنها ستكون تدابير عكسية ضمن سياسة أمنية فاشلة على العموم.

من جهة أخرى، وعلى امتداد الأيام الأخيرة يتناقل بعض الأوساط أخبارًا عن تتبع ملتحين ومحجبات، وتجاوز رجال الأمن لسلطتهم، وهو ما يدعم المدافعين على الحريات والدستور في مخاوفهم. وكان آخر قرار اتخذته الحكومة وأعلن عنه رئيسها في حوار صحفي يوم الثلاثاء 7 يوليو/تموز، هو بناء جدار عازل على الحدود التونسية الليبية "لمنع تدفق السلاح والمقاتلين". لكن الكثيرين داخل الأوساط الرسمية يعرفون أن جانبًا مهمًّا من السلاح يتدفق منذ مدة عبر المعابر الرسمية، بتواطؤ من بعض الشبكات، وأن كميات منه مخزَّنة بالفعل ببعض جهات البلاد، وهناك شكوك حقيقية في أن يستطيع هذا الإجراء تحقيق اختراق فعلي في الوضع الأمني، لكن انعكاساته الاقتصادية ستكون بلا أدنى شك كبيرة؛ حيث تعرف الحكومة أن الاقتصاد غير الرسمي يمثل النشاط الرئيسي في جنوب البلاد، وهو الذي يُصنَّف في خانة التهريب. وفي حين لا تملك الحكومة القدرة ولا الرؤية لتعويض هذا النشاط غير الرسمي بآخر مهيكَل، فإن قرار إنشاء الجدار العازل سيزيد من حدَّة الأزمة الاقتصادية بالجنوب، وبالبلاد بشكل عام، ما يعني أن الحكومة ستكون مدعوة للبحث عن إجراءات تعويضية في وقت قياسي.

 الأوضاع الاجتماعية وقود الأزمة الأمنية

تُظهر صعوبة الأزمة الأمنية في تونس أن اتهام المعارضة للترويكا في السابق بالتراخي في مواجهة الجماعات المسلحة كان ينطوي على كثير من الدعاية الانتخابية. ورغم أن نداء تونس قد بنى قسمًا مهمًّا من خطابه الانتخابي على الملف الأمني وقدَّم الوعود بالقضاء على العنف في ظرف وجيز، إلا أن ما يراه التونسيون من عجز عن التقدم في هذا الملف، وتزايد وتيرة الهجمات وتصاعد دمويتها، يجعل قسمًا كبيرًا متشائمًا بخصوص حلٍّ سريع لهذه الأزمة. وعلى المستوى الاقتصادي، تعجز الدولة عن تعبئة الإمكانات المالية الضرورية لإنجاز انتصار سريع على المسلَّحين الذين أصبحوا اليوم يتمركزون في المدن. ورغم الوعود بأموال طائلة من قِبل بعض القوى الإقليمية والدولية لتونس قبل الانتخابات، كانت خيبة الحكومة شديدة في هذا المجال؛ ما يعني العجز عن مواجهة امتدادات أزمة البطالة المستشرية. وقد زادت الاضطرابات الاجتماعية، خاصة في منطقة الحوض المنجمي، من حدَّة الأزمة، وحرمت الدولة من أية مداخيل لقطاع الفوسفات الاستراتيجي لمدة أشهر طويلة.

تجد الدولة اليوم صعوبات شديدة في التعامل مع المسلحين على مستوى فهمها وإدراك التطورات التي مرَّت بها هذه الجماعات في الآونة الأخيرة، بل وفهم السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يمنحها أنصارًا جددًا كل يوم. وتُفضِّل عوضًا عن ذلك مواجهتها بعقل أمني غير ناجع، وبممارسة أمنية قاصرة. ولا يدرك جزء من الطبقة السياسية اليوم أن خيبة أمل الشباب في ما آلت إليه العملية السياسية هي أحد الأسباب التي تجعل قسمًا منهم يكفر بها، وأن آمال بناء العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص التي تذوب تدريجيًّا، هي أحد أسباب الظاهرة التي يُرجَّح أن تتفاقم. في المقابل، حيث تسعى المجموعات المسلحة إلى حرمان الدولة من إمكانياتها الاقتصادية في حربها ضد المسلحين باستهداف القطاع السياحي بدرجة أولى؛ ما يعني توفير الظروف لزيادة حدَّة الأزمة الاجتماعية، وزيادة عدد اليائسين، أي زيادة عدد الجاهزين للانتداب في الجماعات المسلحة.

هنالك عجز عن إيجاد حلول للأزمة الاجتماعية بفعل شُحِّ الموارد، بالمقابل فإن نفقاتها في تصاعد مستمر. بالإضافة إلى أن الائتلاف الحكومي الحالي لا يستطيع إجراء تحويرات عميقة في البنية الاقتصادية حتى ولو أراد ذلك، وهو حتمًا لا يريدها بفعل طابعه الليبرالي. ومن ناحية أخرى يتزايد ضغط المؤسسات الدولية على تونس من أجل المزيد من تحرير الاقتصاد، ما يعني احتمالات انفجار اجتماعي كبير في حال قبول الحكومة بهذه الضغوط. وتوضح مؤشرات عديدة أن الحكومة بتركيبتها الحالية لن تستطيع الاستمرار إلى فصل الشتاء القادم. وتفسر ذلك التصريحات المتواترة المتبرمة من أدائها خاصة من قبل الحزب الأغلبي نداء تونس.

فصل الشتاء هو أخطر الفصول في تونس، فجميع الانتفاضات الاجتماعية تمت فيه، بما في ذلك الثورة. ويتوقع المراقبون الاقتصاديون ألا تحقق الحكومة الحالية نسبة نمو تفوق الواحد بالمائة في نهاية العام، وهذا في حدِّ ذاته مُنبئ بحجم الصعوبات. لكن الحكومة مدعومة بالرئاسة، لا تنفكُّ تقاوم لزيادة حظوظها في البقاء، من ذلك قرار فرض حالة الطوارئ مجددًا في البلاد. ويعرف المراقبون أن هذا القرار بالرغم من التجاوزات الدستورية والقانونية التي تكتنفه، فإنه ليس له تأثير كبير في مواجهة العنف، وأن الأمر لا يعدو في الحدِّ الأدنى "إحداث رجَّة نفسية" لدى التونسيين، وفي الحد الأقصى التصدي للإضرابات والاعتصامات التي تعطِّل دوران عجلة الاقتصاد، حتى تتمكن الحكومة من استعادة جزء من الموارد المالية الضائعة.

تواجه الحكومة الأزمة التي تضيِّق عليها الخناق بإجراءات أقل من المطلوب، وذلك بسبب شُحِّ الموارد وغياب الرؤية. وتسيطر الأحزاب المكونة للحكومة على أغلبية مريحة جدًّا في البرلمان، لكن ذلك لا يمكِّنها من أدوات عمل كبيرة لمواجهة الأزمة الراهنة. مع ذلك، فإن الحديث عن تغيير الحكومة الحالية يتزايد؛ حيث يتجه الحزبان الأغلبيان، النهضة ونداء تونس، إلى تشكيل حكومة بينهما قبل الشتاء لتأكيد "التقارب الإسلامي-العلماني" الذي يمكن أن يكسر الاستقطاب الثنائي بين التيارين، وهو توجُّه بدأت بواكيره مع تجربة حكم الترويكا، ولكن لا أحد من قيادات الحزبين يؤمن فعلًا بأن تغيير الحكومة قد يحقق المطلوب. وهناك إقرار بانسداد في الآفاق، خاصة بعد إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل أنه غير معني بإيقاف المطالبات بزيادة الأجور ردًّا على مطلب الهدنة الاجتماعية.

على المستوى الإقليمي، سجَّلت الحكومة الحالية إخفاقات عديدة في ملفات دبلوماسية حساسة بتراجع تأثير تونس في الوضع الليبي وبالأزمة الصامتة في العلاقة بالجزائر، بالإضافة إلى عدم إنجاز أي تقدم في ملفات التعاون الدولي؛ ما يعني تواصل انحسار الاستثمار الأجنبي. في مقابل ذلك، تسود القناعة بأن رجال الأعمال ومنظمة الأعراف لا يقومون بما يكفي لامتصاص البطالة، ويشتكي هؤلاء من اضطراب السياق الاجتماعي وكثرة الإضرابات، حتى طالبت منظمة الأعراف في العاشر من يوليو/تموز بتعليق الفصل السادس والثلاثين من الدستور الذي يُقِرُّ حق الإضراب.

خاتمة

يضرب العنف تونس في سياق متأزم اقتصاديًّا واجتماعيًّا بسبب تراكم تاريخي طويل للسياسات الخاطئة التي أنتجت تهميشًا كبيرًا وواسعًا لفئات وجهات عديدة. في المقابل، فإن الأوساط الرسمية لا تملك فهمًا موضوعيًّا لظاهرة العنف؛ ما يجعل الكثير من الإجراءات المتخذة قاصرة عن مكافحتها بالنجاعة المطلوبة، وكل ذلك في حضور مؤسسة أمنية غير جاهزة وتحلُّل للأجهزة أدى إلى مراكمة الفشل في الانتصار في هذه الحرب لحدِّ الآن؛ حيث يُتوقع تنصيب حكومة جديدة على الأغلب قبل نهاية السنة، لكن ذلك لن يحل المشاكل الحادة، سواء على الصعيد الأمني أو الاقتصادي والاجتماعي.

يتوقع المتابعون للنشاط المسلح أن تتعرض تونس لهجمات جديدة قد تستهدف فضاءات تجارية أو مؤسسات سيادية؛ ما سيزيد من أزمة الحكومة والأحزاب المكونة لها، ويدفعها للتوسع في تجاوز القانون واستهداف حقوق الانسان. ولا تملك الحكومة الحالية حلولًا للحلقة المفرغة التي تدور فيها البلاد بسبب شُحِّ الإمكانات وغياب الرؤية، وهو ما يجعل من أي تغيير حكومي محاولة لإيجاد متنفَّس سياسي لأزمة خانقة.