مقدمة
تمثل قضية كوسوفو واحدًا من أطول الصراعات العرقية في أوروبا المعاصرة، وتتميز بالطبيعة المتنوعة للجهات الفاعلة فيها، والتعقيد غير المتجانس لتفاعلاتها. وقد ظهرت هذه الجوانب بوضوح خلال الحرب "الأهلية" التي استمرت نحو عامين بين 1998 إلى 1999، ولم تجد طريقها إلى الحل النهائي إلى اليوم. فبعد فترة قصيرة من الهدوء الهش منذ مطلع الألفية الجديدة، تخللته توترات قصيرة بين حادة وأخرى أقل حدة، عادت العلاقات بين كوسوفو وصربيا في الأشهر الأخيرة إلى تصعيد التوتر إلى أعلى درجاته. ويعود سبب الأزمة هذه المرة، في ظاهره، إلى تحديد الوضع القانوني للبلديات الشمالية الأربع في كوسوفو، والتي تُسمى "رابطة البلديات الصربية".
وقد ساعد المجتمع الدولي، ممثلًا في الاتحاد الأوروبي، والمبعوثيْن الأميركي والأوروبي بالإضافة إلى أنقرة، في تهدئة التوترات المتصاعدة بين كوسوفو وصربيا لسنوات. وتكثفت تلك الجهود في الأشهر الأخيرة على خلفية خروج صرب كوسوفو في مظاهرات عارمة صحبتها أعمال شغب واسعة، بدأت بالاحتجاج على إصدار كوسوفو قوانين تلزم الصرب في شمال البلاد باستخراج بطاقات هوية كوسوفية، وحملهم على تغيير لوحات سياراتهم الصربية إلى لوحات تصدرها سلطات كوسوفو.
لم تنجح الجهود الأوروبية المتتالية في إحراز تقدم ملموس وحاسم في نزع فتيل الخلافات القائمة بين الجارتين-العدوتين، منذ عقود طويلة. وتبدو قضية الخلاف الأبرز على مستوى درجة ومدى تنفيذ اتفاق الحكم الذاتي الذي من المفترض أن تتمتع به أربع بلديات مرتبطة بدولة صربيا، وتضم أغلبية صربية تعدادها ما بين 25 و40 ألفًا على الأكثر بحسب إحصاء عام 2011.
أطلق سكان شمال كوسوفو، من الصرب، حركة احتجاجية ضد سيطرة بريشتينا على البلديات "الصربية" قبل عامين، لتبلغ المظاهرات مستويات عنيفة بشكل متزايد. وكان ممثلو صرب الشمال قد انسحبوا من مؤسسات حكومة كوسوفو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. ثم توقفت الاحتجاجات، في أواخر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، على إثر وساطة وجهود من الاتحاد الأوروبي هدفت إلى صنع السلام بين الفرقاء السياسيين والإثنيين. وجاء التحول الأهم، على صعيد خفض التوتر وتقريب وجهات النظر، مع موافقة رئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، ورئيس صربيا، ألكسندر فوتشيتش، في 27 فبراير/شباط 2023، على الخطوط العريضة التي قدمتها الصفقة الفرنسية-الألمانية الجديدة(1). غير أن الصفقة، التي دعمها أيضًا بقوة المفوض السامي للعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، والممثل الخاص للحوار بين بلغراد وبريشتينا ميروسلاف لايتشاك، جاءت غامضة الصياغة حول أجندة التطبيع وتنفيذها على الأرض، ما زاد من تعقيد التوصل إلى حل سريع وواضح المعالم.
ومع تباطؤ الطرفين في تنفيذ الاتفاق، في نهاية فبراير/شباط 2023، وخاصة الملحق المصاحِب، تعثرت المحادثات بشأن الخطوات التالية، وسادت لغة التهديد والمماطلة واستعراض القوة من الجانبين لفرض متغيرات على أرض الواقع قد تساعد لاحقًا، أقوى الطرفين، في تنفيذ أجندته. ولا شك أن لهذا الصراع، المهدِّد بقوة للأمن والاستقرار والسلم في المنطقة، وفي كامل أوروبا والعالم في حالة توسعه وخروجه عن السيطرة، خلفياتِه وسياقاته الداخلية والإقليمية والدولية.
خلفيات التاريخ وتجاذبات السياسة
خلفية الصراع بين الألبان والصرب عرقية في المقام الأول، بالإضافة إلى مؤثرات أخرى مثل التاريخ والدين والثقافة واللغة. فالصرب يعتبرون كوسوفو مهد دولتهم، ويؤكدون على انتمائهم للأراضي التي ضموها في العصور الوسطى وكانت عاصمة للدولة الصربية حينها. وقد كان مقر الكنيسة الأرثوذكسية في مدنية "بيتش" التابعة لكوسوفو المستقلة اليوم، وكانت الكنيسة مركزًا ثقافيًّا للدولة، فضلًا عن كونها مصدرًا للهوية الوطنية للصرب. ومع وجود العديد من الأديرة فيها، أطلق صرب كوسوفو اسم "القدس الصربية" على كوسوفو. من جهتهم، يعتبر الألبان كوسوفو مهد دولتهم وأمتهم؛ فهم يعرِّفون أنفسهم بأنهم ينحدرون من قومية قبائل الإيليريين الذين سكنوا كوسوفو خلال القرن الثاني قبل الميلاد، ويؤمنون بأن السلاف، الذين ينحدر منهم الصرب، قدموا إلى كوسوفو في القرن السادس الميلادي. هذه الرواية التاريخية يتبناها الألبان وتشكِّل أساس مطالباتهم بالإقليم كشعب أصلي. ولا يزال يُنظر إلى الصرب على أنهم شعب يفتقد إلى جذور الانتماء في المنطقة(2).
يعود أحد أسباب الصراع الأساسية إلى الظروف التاريخية التي شكلت كوسوفو عبر القرون، وولَّدت مستويات متعددة من العداء بين الصرب والألبان، وأسهمت في ديناميات التنافس المتأصلة بينهما، فضلًا عن الصراعات السياسية اللاحقة. في هذا السياق، يجدر التأكيد على أن كوسوفو، بالنسبة إلى الطرفين، تحمل قيمًا أسطورية ورمزية يعتز بها كل منهما. وقد تم تزوير بعض الهويات على إثر هزيمة الإمبراطورية العثمانية في معركة كوسوفو بوليي عام 1389(3). ويعتبر الصرب والألبان، على حدٍّ سواء، أن تضحيات هائلة قُدمت في تلك المعركة في محاولة فاشلة للحفاظ على حرية الأمتين المتناحرتين.
من الناحية السياسية والعسكرية، أسفرت معركة كوسوفو، البعيدة في التاريخ، عن خسارة الدولة الصربية التي كانت مستقلة. وقد أدت خسارتها إلى تثبيت الاحتلال العثماني للمنطقة نحو خمسمئة عام خضع خلالها الصرب للإمبراطورية العثمانية، من عام 1459 إلى أوائل القرن العشرين. وكانت إحدى نتائج خضوع كوسوفو للحكم التركي التصاعد التدريجي للعداوة بين الألبان والصرب، لاسيما بسبب ما كان يُعرف بـ"سياسة الاستعمار والأسلمة" التي انتهجها الحكم العثماني. وفي كوسوفو، أدت تلك السياسة إلى أن أصبح الألبان المجموعة العرقية المهيمنة، خاصة أنهم اعتنقوا الإسلام في غالبيتهم، على عكس الصرب. وبسبب ذلك، عامل الأتراك الألبان على أنهم مجموعة متميزة، بينما أصبح الصرب، الذين ظلوا أرثوذكسًا، غرباء منفصلين.
وفي القرن العشرين، عُكِس ذلك النظام الاجتماعي والسياسي نتيجة للواقع الجيوسياسي الذي أفرزته مرحلة ما بعد حروب البلقان الأولى 1912-1913 والحرب العالمية الأولى 1914-1918. فأُلحقت كوسوفو بإقليم الدولة التي أنشأها الصرب، مملكة صربيا (1912-1918)، ثم ضُمَّت لاحقًا إلى مملكة يوغوسلافيا (1918-1941)(4). وأدت الظروف السياسية التي مرت بها كوسوفو، التابعة لمملكة يوغسلافيا ثم إلى يوغسلافيا السابقة، إلى هجرات كبيرة للألبان على إثر تعرضهم إلى تمييز متزايد وضغوطات مختلفة من قبل الصرب. ثم تغير الوضع مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية عندما أُدمجت كوسوفو في ألبانيا الموالية للفاشية، ففضَّل الألبان العودة إلى كوسوفو. وقد تلت إعادة التوطين الألبانية أعمال انتقامية ضد الصرب الذين كانوا مهيمنين في السابق؛ ما أدى بعد ذلك إلى نزوح جماعي للسكان الصرب.
بعد الحرب، تغير التكوين العرقي بأكمله في كوسوفو على حساب الصرب. ومن أسباب هذا التحول ارتفاع معدل المواليد بين السكان الألبان، وموجات الهجرة الصربية التي كانت مدفوعة باعتبارات اقتصادية إلى حد كبير؛ حيث كانت كوسوفو واحدة من أقل المناطق نموًّا اقتصاديًّا في يوغوسلافيا. وفي العام 1990، كانت نسبة سكان كوسوفو من الألبان 81%، مقابل ما يقرب من 11% من الصرب. وقد وظفت حكومات كوسوفو المتعاقبة هذه الميزة الديمغرافية مرارًا وتكرارًا على الساحة الدولية باعتبارها واحدة من الحجج الرئيسية المؤيدة لمنح كوسوفو الاستقلال.
خلال حقبة جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، كان لكوسوفو وضع سياسي خاص تمتعت فيه بالحكم الذاتي بموجب دستور عام 1974. في الممارسة العملية، كان هذا يعني أن كوسوفو أصبحت حكومة مستقلة تتمتع بصلاحيات كاملة لتسيير شؤون مواطنيها ومؤسساتها، إلى جانب إدخال منهج ألباني في المناهج التعليمية الصربية. وفي العام 1980 بدأ ألبان كوسوفو بالمطالبة بمنح كوسوفو وضع الجمهورية على غرار باقي جمهوريات يوغوسلافيا الأخرى، غير أن السلطات اليوغوسلافية لم تنظر إلى مطالبهم بجدية. ويعزى ذلك أساسًا إلى تنفيذ برنامج الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوشيفيتش، في عام 1989، بإلغاء الحكم الذاتي عن كوسوفو، فضلًا عن دفاعه القوي عما اعتبره حقوقًا تاريخية ودينية للصرب الذين يعيشون في المنطقة(5).
أدت سياسة إلغاء الحكم الذاتي لكوسوفو عام 1990، واعتماد الدستور الجديد لجمهورية صربيا مصحوبًا بقوانين إدارية مقيدة لاستقلال المقاطعة الذي عملت بمقتضاه ما بين عامي 1946-1973، إلى احتجاجات الألبان ضد هذه التغييرات. وكان رد السلطات اليوغسلافية قمعيًّا ووحشيًّا، استخدمت فيه القوة العسكرية، ما أدى إلى تأزم خطير في العلاقات الصربية-الألبانية. وردًّا على التضييقات الصربية، أنشأ ألبان كوسوفو، الذين عانوا من التمييز الصربي وإلغاء المؤسسات السياسية والتسريح الجماعي للعمال وإدخال المناهج الصربية في النظام التعليمي، سلطة موازية لسلطات جمهورية صربيا الاشتراكية أسموها "دولة جمهورية كوسوفو" لرعاية شؤون الرعايا الألبان وتحصيل الضرائب والإشراف على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية. وفي استفتاء سري نُظِّم في سبتمبر/أيلول 1991، أعلن ألبان كوسوفو استقلال جمهورية كوسوفو. وفي العام التالي، نظموا اقتراعًا سريًّا على البرلمان والرئيس، وانتُخب إبراهيم روغوفا، زعيم الرابطة الديمقراطية لكوسوفو (حزب المعارضة الألباني)، أول رئيس لجمهورية كوسوفو(6).
لم يحظ إعلان استقلال كوسوفو بموافقة المجتمع الدولي، بما في ذلك دول الإقليم. وظل ألبان كوسوفو يأملون في التوصل إلى حل لمسألة وضعهم السياسي، خاصة ضمن اتفاق دايتون للسلام (1995) الذي أنهى الحرب في البوسنة. غير أن المجتمع الدولي تجاهل هذه المشكلة؛ ما زاد من تغذية شعور الإحباط لدى الألبان في كوسوفو. إزاء هذا الشعور، عارضت جماعات قومية مسلحة، في طليعتها جيش تحرير كوسوفو، سياسة "المقاومة السلبية" التي انتهجها زعيمها إبراهيم روغوفا في فترة حكمه من 1996 إلى 1997. فبدأ جيش تحرير كوسوفو خوض معارك مسلحة يومية ضد الصرب، ومرة أخرى بدأت هجرة الألبان من كوسوفو خوفًا من انتقام صربي أكيد.
في مواجهة الحرب المستعرة بين الطرفين، ولوضع حدٍّ لخطر زعزعة استقرار البلقان، كثف المجتمع الدولي، وخاصة أميركا وروسيا بوريس يلتسين، جهوده الدبلوماسية لوقف العنف واستعادة السلام في كوسوفو. ضمن هذه الجهود، اعتمد مجلس الأمن قرارات فرضت حظرًا على الأسلحة على كل من يوغوسلافيا وكوسوفو. وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول 1998، وقَّع المبعوث الأميركي إلى المنطقة، ريتشارد هولبروك، والرئيس الصربي، سلوبودان ميلوشيفيتش، اتفاقًا لوقف إطلاق النار. بعد ذلك انسحبت القوات الصربية جزئيًّا من كوسوفو، لكن وقف إطلاق النار لم يصمد طويلًا. فمع اكتشاف سكان بلدة راتشاك، في 15 يناير/كانون الثاني 1999، جثث 45 مدنيًّا من أصل ألباني عاد الصراع إلى التأجج، واتهم الألبانُ حكومةَ ميلوشيفيتش بارتكاب المذبحة(7).
بقدر ما كانت الجريمة وحشية، بقدر ما مثَّلت نقطة تحول مهمة في الصراع. فقد بادرت دول مجموعة الاتصال، التي ضمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا، إلى حمل طرفي النزاع على إجراء محادثات سلام في الشهر التالي في رامبوييه الفرنسية ضمن خطة لإنهاء الصراع(8). ولكن الصرب رفضوا الخطة التي كانت تقضي، من جهة، بقبول السلطات الصربية السماح لقوات الناتو "كفور" بدخول يوغوسلافيا، وإنفاذ ومراقبة تنفيذ اتفاق السلام، ومن جهة ثانية إجراء استفتاء، بعد ثلاث سنوات من تاريخ التوقيع، لتحديد المستقبل السياسي لكوسوفو.
بعد فشل محادثات السلام وإصرار القوات الصربية على سياسة القمع المفرط والقتل على الهوية اللذين تعرض لهما ألبان كوسوفو بقصد تطهير الإقليم عرقيًّا، اتخذ الناتو قرارًا بتوجيه ضربات جوية ليوغوسلافيا، في 24 مارس/آذار، تواصلت على مدى 78 يومًا حتى العاشر من يونيو/حزيران 1999، ضمن عملية عسكرية سُميت "عملية القوة المتحالفة". كانت دوافع التدخل المُعلنة إنسانية، وتمحورت حول وقف القتال ومنع التطهير العرقي، وإقامة سلام دائم، واستعادة الحكم الذاتي لكوسوفو. وبعيدًا عن تقييم شرعية العملية العسكرية ضد يوغسلافيا وما لحقها من انتقادات بسبب ما أحدثته من أضرار في الأرواح والمنشآت المدنية الحيوية، فقد أجبر قصف الناتو الرئيس ميلوشيفيتش على القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات حول السلام ووقف سياسة التهجير والتطهير العرقي. وهكذا، أُجبرت حكومة بلغراد على توقيع اتفاقية مع حلف شمال الأطلسي في "كومانوفو" في جمهورية مقدونيا الشمالية لإنهاء التدخل في يوغوسلافيا(9).
بموجب اتفاقية كومانوفو، انسحب معظم القوات الصربية من كوسوفو، ودخلت القوة الدولية "كفور" إلى كوسوفو لحفظ السلام تحت قيادة الناتو. وبعدها اعتُمدت الشروط النهائية لاتفاقية السلام لإنهاء النزاع المسلح في كوسوفو في القرار 1244 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي قضى بأن تظل كوسوفو تحت الإدارة المؤقتة لبعثة الأمم المتحدة، على أن تبقى جزءًا لا يتجزأ من جمهورية صربيا ويوغوسلافيا(10). لكن إعلان بريشتينا استقلال كوسوفو من جانب واحد، في 17 فبراير/شباط 2008، أبطل، بحكم الواقع، الجزء المتعلق ببقاء كوسوفو ضمن جمهورية يوغسلافيا، في حين ظل تعهد قوة كوسوفو الدولية باستعادة النظام والأمن ساري المفعول حتى اليوم.
الوضع الراهن للصراع
يثير الوضع المتوتر بين بريشتينا وبلغراد قلقا أوروبيًّا وأميركيًّا متزايدًا من إمكانية انفجاره واتساع نطاقه. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن بريشتينا ظلت منذ عام 2011 تحاول إخضاع المناطق ذات الأغلبية الصربية في كوسوفو إلى ولايتها القضائية الكاملة، بعد أن كان لهذه الأقاليم في السابق سلطتان بلديتان متوازيتان، إحداهما تابعة لبريشتينا والأخرى لبلغراد، بينما تعمل الأخيرة كإدارات للمدينة. وفي العام 2013، حلَّت بلغراد رسميًّا سلطاتها البلدية في كوسوفو ودفعت صرب كوسوفو إلى المشاركة في الانتخابات التي نظمتها بريشتينا. في المقابل، غضَّت كل من بريشتينا والاتحاد الأوروبي الطرف عن التبعية شبه الكاملة للقيادة السياسية لصرب كوسوفو للحزب التقدمي الصربي الحاكم في بلغراد، فكانت النتيجة وجود مزيج من الولايات القضائية والولاءات المتقاطعة. وبحلول العام 2015، باتت الحكومات البلدية والشرطة والقضاء مسؤولة رسميًّا أمام بريشتينا، في حين ظل قادة الصرب في كوسوفو موالين لسلطات بلغراد. أما سكان شمال كوسوفو الصرب فلا يزالون متشبثين بعناصر الهوية الصربية حتى وهم يستوعبون خضوعهم لنظام بريشتينا على مضض. وظلوا يحتفظون بالوثائق الشخصية الصربية ويقودون السيارات التي تحمل لوحات تراخيص صربية، ولا يتشاركون مع الأغلبية الألبانية الساحقة من سكان كوسوفو أي مظهر من مظاهر الانتماء إلى الوطن.
ومع تولى ألبين كورتي منصب رئيس الوزراء في كوسوفو، في شهر مارس/آذار من العام 2021، وبعد فترة وجيزة من وصوله إلى السلطة، اتخذت حكومته خطوات أكثر حزمًا نحو دمج الشمال مع بقية كوسوفو؛ مما أدى إلى رد فعل عنيف مهد الطريق لتصعيد الاحتجاجات. وقد انتهجت القيادة الجديدة في بريشتينا سياسة التصدي الحازم لكل ما تعتبره مخططات تخريب وجرائم مقاومة فرض القانون التي تورط فيها العديد من قادة الصرب في الشمال، كما حظرت استخدام لوحات تراخيص السيارات الصربية. وردًّا على الاعتقالات التي لحقت بعض الشخصيات الصربية البارزة، ثار الصرب الشماليون وأغلقوا الطرق، وأشعلوا النار في المكاتب الحكومية، وأطلقوا النار على الشرطة بما في ذلك عناصر شرطة كوسوفو الدولية.
أدت هذه الجولة الجديدة من الاحتجاجات إلى تصعيد خطير، فسعت بريشتينا إلى حماية قواتها من خلال نشر وحدات شرطة عسكرية خاصة وإنشاء قواعد محصنة. في المقابل، حمل المتظاهرون الصرب أسلحتهم الشخصية، واستقال جميع المسؤولين الصرب الشماليين بمن فيهم رؤساء البلديات وأعضاء الجمعية الوطنية وعناصر الشرطة والقضاة وغيرهم من موظفي الخدمة المدنية من مناصبهم بعد أن أقالت الحكومة قائد شرطة المنطقة الشمالية لرفضه تنفيذ الأوامر التي تمنع قيادة السيارات الحاملة للوحات صربية. وفي أبريل/نيسان 2023، قاطع الصرب الانتخابات المبكرة التي جرت في البلديات الشمالية الأربع، فلم تتجاوز نسبة التصويت 4%. ولأن المشاركة انحصرت في الأقلية الصغيرة غير الصربية فقد فازت قائمة من المرشحين المحليين من الألبان، ولكن الأغلبية الصربية رفضت تلك النتائج.
وفي يونيو/حزيران 2023، عاد التوتر إلى ميتروفيتسا على إثر إصرار كورتي تنصيب رؤساء البلديات الأربع المنتخبين حديثًا وجعلهم يستلمون مناصبهم والعمل من مقر البلديات، في خطوة رفضها صرب الشمال. كما رفضتها بروكسل وواشنطن، اللتان اعتبرتا الخطوة استفزازية ولم تتم بالتشاور مع قوات حفظ السلام الدولية "كفور". وهددا بفرض عقوبات على بريشتينا إذا لم تسحب رؤساء البلديات والقوات المصاحبة لهم وتهيئ لانتخابات بلدية جديدة تكون أكثر شفافية وبمشاركة الأغلبية الصربية من سكان شمال كوسوفو. أما صرب كوسوفو فكان ردهم قويًّا وعنيفًا، فعززوا صفوف المحتجين بأفراد من العسكريين الصرب؛ ما مثَّل انتهاكًا لقرار مجلس الأمن الدولي 1244 لعام 1999 الذي أوجب انسحاب جميع القوات المسلحة الصربية من كوسوفو. ثم تطورت الأحداث بعد ذلك إلى حد حشد الرئيس الصربي، فوتشيتش، قوات خاصة من الجيش الصربي بآلياتها الثقيلة على الحدود المشتركة وإعلان جاهزية قوات جيش بلاده، التي وصفها بالأكثر تسليحًا واستعدادًا من كل جيوش المنطقة. وفي الأسبوع الثاني من يوليو/تموز، أعلن حالة التعبئة العامة في البلاد عبر استدعاء متطوعين للالتحاق بالخدمة العسكرية. في المقابل، استلمت بريشتينا من تركيا سربًا من مسيرات بيرقدار، وقال رئيس الوزراء الكوسوفي كورتي، إن بلاده باتت أكثر أمانًا من أي وقت مضى في رسالة تحد لبلغراد، علمًا بأن قرار مجلس الأمن الدولي 1244، لا يسمح لكوسوفو بتأسيس جيش نظامي.
في خضم هذا السباق نحو مزيد من التسلح، يبدو حل قضية كوسوفو أكثر صعوبة وتعقيدًا، خاصة في ظل التحولات الجيوسياسية التي يشهدها الوضع الدولي، مع استمرار وتعقد "العملية العسكرية" الروسية في أوكرانيا، وتصاعد التوتر الأميركي-الصيني، وإمكانية تغير خارطة التحالفات الدولية.
أمل جديد أم عود على بدء؟
منذ بداية العام 2023، جرت عدة جولات من المحادثات تحت إشراف الممثل السامي للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بمشاركة المبعوث الأميركي إلى المنطقة، غابرييل إسكوبار، والممثل الأممي الخاص، ميروسلاف لايتشاك. في أواخر فبراير/شباط، توصل طرفا النزاع إلى اتفاق، أعلن عنه دون التوقيع عليه. استُلهم الاتفاق من معاهدة الدولة الألمانية في حقبة الحرب الباردة الموقعة عام 1972 بين جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقد مهدت تلك المعاهدة الطريق لأطراف ثالثة لفتح علاقات مع الدولتين، على الرغم من أن أيًّا منهما لم تعترف رسميًّا بالأخرى، وسمحت لكلتيهما بالانضمام إلى الأمم المتحدة. ويرى كثير من المراقبين أن الاتفاق الأخير بين كوسوفو وصربيا يستنسخ المعاهدة الألمانية في جوهرها، وحتى في صياغتها، ويهدف بالمثل إلى السماح للدول الخمس الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي لا تعترف باستقلال كوسوفو، وهي: إسبانيا ورومانيا وسلوفاكيا وقبرص واليونان، بتغيير موقفها دون المطالبة بنفس الشيء من صربيا.
في هذا السياق، وعلى الرغم من غموض الاتفاق الأخير وقلة التفاصيل المنشورة بشأنه، إلا أنه تضمن بعض الالتزامات التي يمكن الوقوف عندها. فقد وافقت كوسوفو على إنشاء "مستوى مناسب من الإدارة الذاتية" للأقلية الصربية في شمال كوسوفو، بالإضافة إلى "إضفاء الطابع الرسمي" على مركز الكنيسة الأرثوذكسية الصربية في كوسوفو. ويُنظر إلى هاتين الخطوتين كعامل إيجابي لتحديث الوعود السابقة، منذ العام 2013، بمنح البلديات الشمالية قدرًا من الحكم الذاتي. من جانبها، وافقت صربيا على الاعتراف بجوازات سفر كوسوفو والشهادات العلمية ولوحات ترخيص السيارات والطوابع الجمركية (على الورق، تنص الاتفاقية على الاعتراف المتبادل، ولكن من الناحية العملية، تقبل كوسوفو بالفعل الوثائق الصربية). كما تعهدت بلغراد بعدم الاعتراض على سعي بريشتينا للحصول على العضوية في "أي منظمة دولية". وقد اعتبر هذا الالتزام تمهيدًا لانضمام كوسوفو إلى مجلس أوروبا، وهو ما اعترضت عليه بلغراد، وانضمامها لاحقًا لهيئات أخرى بما في ذلك الأمم المتحدة.
صحيح أن المحادثات التي توسط فيها الاتحاد الأوروبي أوقفت تصعيد التوتر، ولكن بعد توقيع اتفاق فبراير/شباط تباطأ التقدم، ولم تتمكن بروكسل من دفع الطرفين للبدء في تنفيذ بنود الاتفاق. ولم يكن هناك أي معنى للموعد الذي يمكن فيه للألبان أو الصرب الإيفاء بالتزاماتهم. فلا أحد منهما يريد التحرك، خوفًا من رد الفعل السياسي الداخلي وتحسبًا من إعطاء فرصة للطرف الآخر ليتراجع عن التزاماته. من ناحيتها، تتصرف صربيا كما لو أن الاتفاقية ليست ملزمة بعد، كما أنها لا تعترف ببعض بنود هذا الاتفاق. أما عن التزام كوسوفو الرئيسي، فيتمثل في تسهيل إنشاء رابطة البلديات الصربية، وهو ما لم تتخذ خطوات جدية لتنفيذه بعد، رغم موافقة رئيسة كوسوفو، ورئيس وزرائها، المُعلنة على المضي في إعادة الانتخابات في البلديات الأربع ذات الأغلبية الصربية. وقد وقَّعت الأطراف المعنية على "مرفق التنفيذ"، في 18 مارس/آذار 2023، ولكن بعد تجريده من معظم مشاريع أحكامه والجدول الزمني المقابل لها. وتعتبر الإنجازات الملموسة الوحيدة التي تحققت، منذ توقيع الاتفاق في فبراير/شباط حتى يوليو/تموز، إنشاء "لجنة رصد مشتركة"، في 18 أبريل/نيسان، والموافقة، في 2 مايو/أيار، على إعلان يلزم الطرفين بمجموعة من الخطوات بشأن الأشخاص المفقودين، مثل السماح بالوصول المتبادل إلى الوثائق السرية والتعاون للعثور على مواقع الدفن.
الحل الممكن والعصي
يرى عديد المراقبين للوضع في منطقة غرب البلقان أنه حتى في حال تمكن مشروع الاتفاق الأوروبي الحالي بين بلغراد وبريشتينا من أن يصبح "وثيقة ملزمة قانونًا"، فإنه من غير الوارد أن يحل قضية كوسوفو بالكامل. فهي واحدة من أهم القضايا في المشهد السياسي في البلقان وأكثرها تعقيدًا. وسيستغرق الأمر سنوات لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه إذا ما صدقت نوايا الجانبين، خاصة وأن ذلك يتطلب وجوبًا تعديل النظامين القانونيين لكل من صربيا وكوسوفو وفقًا للحلول الجديدة. وسوف يستغرق الأمر وقتًا حتى يتكيف المجتمعان الصربي والألباني في كوسوفو مع الواقع الجديد الذي سيجلبه الاتفاق.
قد يُحدث القبول الكامل بالاتفاق تغييرًا هائلًا في الحياة السياسية في صربيا وكوسوفو على حدٍّ سواء؛ ففي نهاية المطاف، يجب أن تجد بريشتينا وبلغراد سبيلًا للمضي قدمًا إلى الأمام، ليس فقط فيما يتعلق بشمال كوسوفو، ولكن أيضًا بشأن قضايا التطبيع الأوسع نطاقًا مثل تقرير الوضع السياسي لكوسوفو. لكن في الوقت الحالي، فإن المدخل الأول لأي حل نهائي، في المستقبل المنظور هو إحراز بعض التقدم في تنفيذ اتفاق 27 فبراير/شباط والالتزامات السابقة، مهما كانت متوقفة، ومواصلة المحادثات. أما انهيار المفاوضات فسيؤدي حتمًا إلى أزمات جديدة لن تقبل بها واشنطن ولا الاتحاد الأوروبي، خاصة أن روسيا ستحاول استثمار أي توتر لزيادة منسوب عدم الاستقرار في المنطقة.
وحتى مع استمرار المفاوضات، فإنه من المرجح أن تظل الحالة في شمال كوسوفو محفوفة بالمخاطر. لذلك سيكون استمرار وجود قوة كوسوفو لحفظ السلام "كفور" بمنزلة دعم حاسم؛ فهي تتمتع بالاحترام في المناطق الصربية بسبب حيادها الرسمي فيما يتعلق باستقلال كوسوفو من جهة، وبين سكان كوسوفو لأنها تمثل الناتو، التحالف الذي أنقذهم من القمع الصربي، من جهة أخرى. تلعب قوة كوسوفو دورًا دبلوماسيًّا مهمًّا، أكثر من كونها مهمة تقليدية لحفظ السلام، وتحذر الجانبين بهدوء عندما تعتقد أن أفعالهما قد تؤدي إلى إراقة الدماء، وقد ساعد وجودها في ردع الجهات الفاعلة المحلية عن الذهاب بعيدًا في المواجهات بينهما، وعادة ما كان تدخل قوات "كفور" مساعدًا على منع خروج الاحتجاجات عن السيطرة. يرى المبعوث الأوروبي، ميروسلاف لايتشاك، أنه ينبغي لوفد الاتحاد الأوروبي، وبعثة سيادة القانون التابعة لبعثة الاتحاد المعنية بسيادة القانون، ووحدة الشرطة المسلحة التابعة لها في ميتروفيتسا، مواصلة تقديم الدعم العلني للدور القيادي الذي تضطلع به قوة كوسوفو في ضمان بيئة آمنة ومواصلة أداء مهامها الحيوية. في هذا السياق، حذَّر لايتشاك، والمبعوث الأميركي إلى المنطقة، غابرييل إسكوبار، ومسؤولون آخرون في الاتحاد الأوروبي، من أن انسحاب قوات "كفور" أو التباطؤ في دعمها وإغفال تعزيز دورها يمكن أن يؤدي إلى حدوث فراغ أمني لن تتردد جهات أخرى، مثل روسيا، في ملئه.
علاقات روسيا وصربيا الوطيدة تثير قلقًا أوروبيًّا بالغًا
لم يتزعزع دعم روسيا لموقف صربيا من كوسوفو منذ حرب كوسوفو في تسعينات القرن الماضي. وبصرف النظر عن علاقاتهما التاريخية والثقافية والدينية الوطيدة، تشترك موسكو وبلغراد أيضًا في كراهية حلف الناتو. فصربيا، كما تراها موسكو، جزيرة داخل أوروبا، وهي تمثل نوعًا من حصان طروادة الذي لا يتحرك على أساس الإرادة الحرة، بل على وقع سياسات موسكو ومصالحها، خاصة في هذه المرحلة التي تخوض فيها روسيا حربًا في أوكرانيا، وتواجه جيشًا مدعومًا من حلف الناتو سياسيًّا وعسكريًّا(11).
لا جدال في أن العلاقات الوثيقة بين موسكو وبلغراد تمثل مصدر ذعر في أوروبا وأميركا. ففي الوقت الذي يعمل فيه الاتحاد الأوروبي وواشنطن على تفكيك العلاقات التجارية مع روسيا، أثارت "خطة المشاورات" التي صاغها وزير الخارجية الصربي ونظيره الروسي نهاية العام الماضي دهشة في بروكسل. وعلى الرغم من أن الوثيقة، التي دعت إلى تعزيز الأنشطة الثنائية، لم تتضمن سياسات أمنية، إلا أنها قوبلت بانتقادات، بالنظر إلى أن صربيا دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. وما زاد من قلق بروكسل، وواشنطن على وجه الخصوص، من موقف صربيا غير الواضح من روسيا، تحذير الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، في 19 يوليو/تموز الجاري، من اندلاع نزاع عسكري عالمي في الأشهر المقبلة يمكن مقارنته بالحرب العالمية الثانية. وأكد فوتشيتش أنه "في ظل هذه الظروف، يتعين على بلغراد الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف من أجل الدفاع عن مصالحها الخاصة".
(1) تركز الخطة الفرنسية-الألمانية، بدلًا من اعتراف بلغراد باستقلال كوسوفو، ووضع مواعيد نهائية ثابتة لانضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي، على تطبيع العلاقات بين البلدين الجارين من منظور مستقبل مشترك للاتحاد الأوروبي، مع إعطاء الأولوية إلى تبادل البعثات الدائمة بينهما، على غرار تمثيل دبلوماسي على مستوى أدنى من السفارات. انظر:
(4) International IDEA: Constitutional History of Kosovo: https://constitutionnet.org/country/europe-kosovo/ (تاريخ الدخول: 20 يوليو/تموز 2023)