مقدمة
في ظل الانتشار الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي، وتحوُّلها إلى وسائط سائدة يستخدمها الأفراد والجماعات والمنظمات وحتى الدول، فَقَدَ النموذجُ التقليدي للاتصال الذي يجعل المتلقي هدفًا للعملية الاتصالية فاعليتَه ونجاعتَه. وبرز أيضًا دور الشبكات في التدفُّق الاتصالي بأشكاله الرمزية المختلفة؛ إذ ظهر مفهوم الإعلام الفردي الذي سمح للمستخدمين بامتلاك وسائل إعلامهم الخاصة (منصات إذاعية وقنوات تليفزيونية رقمية...) عبر النفاذ لشبكات التواصل الاجتماعي، فأصبح المتلقي منتجًا ومرسلًا وموزعًا ومؤثرًا في المجال العام التقليدي والرقمي.
واهتم بعض الدراسات اهتمامًا كبيرًا بتأثير هذه المنصات في ديناميات الأحداث السياسية وتطوراتها كما حدث في فهم وتفسير الحالة السياسية العربية التي نشأت في سياق ما سُميِّ بالربيع العربي أوائل العام 2011. فظهر بعض المصطلحات التي تصف خصوصية هذه الحالة، وتشير إلى أهمية المتغير التكنولوجي/الرقمي في التحولات السياسية، مثل "ثورة تويتر" و"ثورة فيسبوك" وغيرهما؛ إذ مكَّنت الشبكات مستخدميها من امتلاك وسائل للاتصال والتعبئة لطالما ظلت تحتكرها السلطة ورموزها السياسية والاجتماعية والثقافية في نشر الخطاب الرسمي والترويج لأطروحاته ودعايته.
إزاء هذا "الخطاب التقني المتفائل"، كما يُسمِّيه الأكاديمي جون ماري شينو (Jean M. Chenou) -الذي يعكس رؤية حتمية في العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع ويرى في الويب 2 والتطبيقات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي تعزيزًا لديمقراطية الاتصال والمشاركة السياسية وتقدمًا نحو الديمقراطية- برز أيضًا خطاب تقني نقدي يعتبر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي أدوات تُسهِم في ظهور الاستبداد بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، والتضييق على الحريات. ويصف هذا الخطاب النقدي خوارزميات الشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية بـ"أسلحة الدمار الحسابي"، كما ورد في دراسة كاتي أونيل (Cathy O’Neil)، أو "خوارزميات القمع"، مثلما ترى الباحثة صفية نوبل (Safiya Noble). وهكذا انتقلت شبكات التواصل الاجتماعي -بحسب حجج هذا الخطاب وأدلته البرهانية- من أداة للتمكين الفردي ودَمَقْرَطَة الاتصال إلى بيئة يجري فيها توظيف و"تسليح" المعلومات لتحقيق مكاسب جيوسياسية.
يكشف هذان الخطابان، رغم اختلاف منطلقاتهما وأهدافهما، أن شبكات التواصل الاجتماعي لها القَدارَة على تشكيل الاستخدام وتكييفه مع أهدافها وإستراتيجياتها وتأطيره، وهو ما يعني التحكُّم في طرقه ومنافذه كما يحصل في التعليمات البرمجية (الخوارزميات) المرتبطة بهذه الشبكات. وهنا، تفترض الدراسة أن شبكات التواصل الاجتماعي تمارس سلطة خطابية على الأفعال التواصلية؛ ما يجعل نشاط وحركة المستخدمين تخضع لتراتبية وتصنيف في القدرة على النفاذ (نفاذ تفضيلي، ونفاذ مُقَيَّد/مُتَحَكَّم فيه) إلى الخطاب العام والأحداث التواصلية. وينتج عن هذا التفاوت في القدرة على النفاذ التفضيلي تحكُّم تلك المنصات في الخطاب العام، وتحديد الموضوعات والقضايا وأشكال تدفُّقها، وإنتاج الهيمنة الخطابية (استمرار الأيديولوجيات المهيمنة في الخطابات الشائعة كمنظور أحادي شمولي). وبذلك تترسخ "السيطرة" على مؤشرات السياق وإنتاج الخطاب المهيمن؛ إذ يُحدِّد النفاذ التفضيلي مَنْ يستخدم المنصة؟ ومَنْ يشارك في الحدث التواصلي والخطاب العام؟ وما الذي ينبغي أن يقال؟ وكيف يمكن صَوْغ بنية الخطاب وتوزيعه؟ ولمن يُوجَّه الخطاب؟ وفي أي سياق؟
وكلما قَلَّ أو كان النفاذ محدودًا (النفاذ المُقَيَّد) إلى الخطاب والأفعال التواصلية وسياقاتهما انحسرت مشاركة المستخدمين في إنتاج الخطاب العام، بل قد يُسْلَب بعضُهم حرية التدوين والكتابة فيُمْنَع من التعبير عن الرأي، ولا يُفسَح له في المجال للتعليق أو حتى نشر صورة أو كاريكاتير أو إعادة التغريد. ويعني تقييد المشاركة، ومن ثم المنع، انتهاك حق المستخدمين في تلبية احتياجاتهم التواصلية والمعرفية والثقافية والسياسية، وهو ما يؤثر في مواقفهم ومعاييرهم وقيمهم وأيديولوجياتهم ويؤدي إلى التمييز ضدهم وعدم المساواة في الحقوق. وهنا، يصبح النفاذ إلى الأحداث التواصلية والخطاب العام أحد العناصر الرئيسية في استمرار الهيمنة، لأن الخطاب -كما لاحظ توين فان دايك (Teun V. Dijk)- مثل الموارد الاجتماعية القيمة الأخرى التي تمثِّل قاعدة السلطة؛ إذ لا يمكن أن يكون المدخل إليها متكافئًا(1).
وتُبرِز بعض الأحداث التواصلية خلال السنوات الماضية طبيعةَ العلاقة الارتباطية بين متغيرات الفرضية التي تنطلق منها هذه الدراسة؛ إذ يسمح النفاذ التفضيلي في شبكات التواصل الاجتماعي بتحكُّم الذات المتكلمة/المُخَاطِب في مؤشرات السياق وإنتاج الخطاب المهيمن. أما النفاذ المُقَيَّد لنشاط وحركة المستخدمين فيَحْرِم الذوات الأخرى/المُهَيْمَن عليها من حرية التعبير والمنع من الكتابة والتعليق. ففي سياق الحرب الروسية-الأوكرانية، أفسحت شبكة فيسبوك في المجال لخطاب مناهض للجيش الروسي في أوكرانيا، واستثنته من ضوابطها وقواعدها التي تمنع أي محتوى يدعو إلى العنف والكراهية. بينما فرضت إدارة فيسبوك نفسها ومنصات أخرى قيودًا على الحسابات الرسمية لبعض وسائل الإعلام الروسية (قناة زفيزدا المرتبطة بوزارة الدفاع، ووكالة الأنباء نوفوستي...)، ولم تستثن هذه القيود أيضًا بعض الأفراد في استخدامهم لشبكات التواصل الاجتماعي. وفي انتخابات الرئاسة الأميركية، أوائل 2021، قرَّر بعض هذه المنصات (فيسبوك، إنستغرام، تويتر، يوتيوب) إغلاق حسابات الرئيس دونالد ترامب، الذي وجد نفسه ممنوعًا من النفاذ لتلك الشبكات واستخدامها في التواصل مع أنصاره وقاعدته الانتخابية. وقبل ذلك، وفي ذروة الاحتجاجات التي شهدتها إيران فيما سُمِّي بـ"الحركة الخضراء"، عام 2009، طلبت إدارة الرئيس أوباما -عبر مستشار وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون- من شبكة تويتر تأجيل الصيانة من أجل عدم المساس بوسيلة مهمة يستخدمها المحتجون (أنصار زعيم الحركة، مير حسين موسوي) في تغطية الأحداث ونقل صورة الوضع الداخلي إلى العالم الخارجي.
وتبدو الأحداث التواصلية المرتبطة بالقضية الفلسطينية أكثر الأفعال الدالة على العلاقة الارتباطية بين متغيرات الفرضية التي تُؤَسِّس لمنطلقات الدراسة؛ حيث تَبرُز بوضوح القيود التي تفرضها شبكات التواصل الاجتماعي (النفاذ المقيد) في حصار الرواية الفلسطينية بشأن الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الفلسطينيون من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وسياساته. فتمارس أشكالًا مختلفة من السلطة والسيطرة على الخطاب الفلسطيني، سواء الذي ينتجه المستخدمون أو وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، والتحكُّم في سياقات إنتاجه عبر الحذف والحجب والمنع وإلغاء الحسابات الشخصية (مَنْ يُدوِّن أو يكتب؟ وماذا يكتب؟ وكيف يكتب؟ ومتى يكتب؟ وأين يكتب؟ ولمن يكتب؟). في المقابل، تسمح هذه الشبكات للمستخدمين الإسرائيليين بالنفاذ التفضيلي الذي وظَّفه عدد من الصحفيين وكتَّاب الرأي، فضلًا عن مؤسسة الجيش الإسرائيلي، في تحويل المنصات الاجتماعية إلى مجال رقمي عسكري لنشر صور الجنود وقصصهم في ساحة الحرب، ولإنتاج خطاب يتجاوز القواعد والضوابط التي تمنع أي محتوى يُشيد بالعنف والكراهية، بل يحرض هذا الخطاب على قتل الفلسطينيين عبر حملات منظمة و"سحقهم سحقًا"، وهو ما أسماه الأكاديميان المتخصصان في السياسات الرقمية، عدي كونتسمان (Adi Kuntsman) وربيكا ستين (Rebecca Stein)، بـ"العسكرة الرقمية" للمنصات، والتي تُبيِّن إستراتيجيات تلك المنصات في دعم الرواية الإسرائيلية والترويج لها والمساهمة في إنتاج خطاب أيديولوجي عبر شبكات التواصل الاجتماعي(2).
وفي سياق تحليل الخطاب الإسرائيلي وتحديد إستراتيجيات شبكات التواصل الاجتماعي في إنتاج الهيمنة الخطابية، ستركز الدراسة على عينة قصدية لعدد من الحسابات على منصتي تويتر وفيسبوك باللغة العربية لصحفيين وباحثين إسرائيليين، إضافة إلى حسابات لجهات رسمية، يبلغ مجموعها 8 حسابات، وهو ما سيتيح إمكانية المقارنة بينهما(3). ومن خلال الملاحظة وتتبُّع الباحث لآثار السلوك الاتصالي لهذه الحسابات، يبدو النشاط الرقمي لأفرادها مُنَظَّمًا كما لو أن هناك "هيئة تحرير" تشرف على عملها، مثلما سنرى لاحقًا، ويكاد المحتوى (المنشورات والتعليقات والصور والكاريكاتير) يكون هو نفسه، حيث يجري تدويره في المنصتين. لذلك ستركز الدراسة على النماذج المنشورة في تويتر خلال الفترة الممتدة من يناير/كانون الثاني 2022 إلى ديسمبر/كانون الأول 2022.
وتعتمد الدراسة إستراتيجية بحثية مُركَّبة ترتكز على منظورين تحليلين متكاملين يُوجِّهان مسارها البحثي في تحليل إستراتيجيات شبكات التواصل الاجتماعي في إنتاج الأيديولوجيا والهيمنة الخطابية من خلال دراسة بنية الخطاب الإسرائيلي المنشور على فيسبوك وتويتر: أولهما: الإطار النظري والمنهجي للتحليل النقدي للخطاب- كما أسَّسته أعمال نورمان فاركلوف (Norman Fairclough) وروث ووداك (Ruth Wodak)، ولاحقًا دراسات توين فان دايك (Teun Van Dijk). وثانيهما: الإثنوغرافيا الرقمية. ويَبْرُز هذا التكامل في رؤيتهما للخطاب باعتباره جزءًا من الأحداث الاجتماعية التي تُبلوِرها وتُنتِجها قُدرات البنى الاجتماعية، وهو (الخطاب) يُحدد رؤيةَ الفاعلين للعلاقات الاجتماعية والهوية وللعالم. وهنا، يهتم التحليل النقدي للخطاب بدراسة ضُروب الخطاب وطُرقه المختلفة في تَمْثِيل العالم والسيرورات والعلاقات الاجتماعية والبنى في العالم المحسوس، و"العالم العقلي"، الذي يحوي الأفكار والمشاعر والمعتقدات، والعالم الاجتماعي. وتُشكِّل ضروب الخطاب منظورات مختلفة موضوعها العالم ومرتبطة بالعلاقات المختلفة بين الناس والعالم، علمًا بأن هذه العلاقات تستند إلى مواقع الناس في العالم وهوياتهم الاجتماعية والشخصية والعلاقات الاجتماعية التي تربطهم بالآخرين(4). لذلك يُمثِّل الخطاب المجتمعَ والثقافةَ؛ إذ يُعد نمطًا من أنماط الفعل الاجتماعي ويَنْتُج في إطار التفاعل مع البيئة الاجتماعية، وتكون العلاقة بين النص والمجتمع علاقة توسطية، بل يُجسِّد الخطاب عملًا أيديولوجيًّا(5).
ويظهر الخطاب بثلاثة أشكال في الممارسة الاجتماعية، كأصناف (طُرق الفعل) وهي طرق مختلفة في الفعل والتفاعل الخطابي، وكضروب (طُرق تمثيل) وتعكس العالم المحسوس والممارسات الاجتماعية الأخرى، وكأساليب (طرق كينونة). ولذلك عندما يقوم التحليل النقدي للخطاب بتحليل نصوص معينة كجزء من أحداث معينة يقوم بشيئين مترابطين: أولًا: يعالجها من منطلق جوانب المعنى الثلاثة (الفعل، والتمثيل، وتحديد الهوية) وكيفية تحققها في سمات النص المختلفة. وثانيًا: يقيم التحليل رابطًا بين الحدث الاجتماعي المحسوس والممارسات الاجتماعية الأكثر تجريدًا بالتساؤل حول كيفية استناد النصوص المدروسة إلى الأصناف وضروب الخطاب والأساليب، وكيفية تمفصل هذه العناصر الثلاثة مع بعضها بعضًا في النص(6).
ويتعزَّز هذا المنظور التحليلي للخطاب باعتماد الدراسة أيضًا المنهج الإثنوغرافي الرقمي في تحليل إستراتيجيات شبكات التواصل الاجتماعي في إنتاج الأيديولوجيا والهيمنة الخطابية عبر تتبُّع الآثار الرقمية للمستخدمين وجمع المشاركات التي يُنتِجها أفراد العينة والحسابات المختلفة، وتحديد الآليات والقواعد التي تحكم سياسة شبكات التواصل الاجتماعي في هذه المشاركات، والتعرف على أهدافها وخلفياتها. لذلك تبرز أهمية الإثنوغرافيا الرقمية باعتبارها إستراتيجية بحثية لدراسة استخدامات الإنترنت، والممارسات الاجتماعية عبر الخط، والكيفية التي يشترك بها الناس في علاقات شبكية، وتفسير النظام الأخلاقي لأنشطتهم. كما تركز هذه الإستراتيجية البحثية على تحليل ظروف إنتاج المحتوى واستقباله واستهلاكه، وتطوير فهم للجمهور النشط من خلال استكشاف قراءات النوع، وقضايا العرق والجنس، والحياة العائلية والهوية من أجل فهم الإعلام باعتباره شكلًا ثقافيًّا(7). وفي سياق هذا المنظور الثقافي، تهتم الإثنوغرافيا الرقمية بأقوال الناس وأفعالهم، بما في ذلك الشروط المادية لوجودهم، ورؤيتهم للعالم، أي كيف يُشيِّد الناس المعنى فيما يتعلق بتجاربهم وأفعالهم(8). ويستعين الباحث في النفاذ إلى رؤية العالم التي يُكوِّنها أفراد العينة (الذات الإسرائيلية) عن القضايا والموضوعات وصيرورة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بأداة الملاحظة عبر الخط التي تسمح له بتتبُّع مشاركاتهم ومراقبة آثار سلوكهم الاتصالي في المنصات الاجتماعية. وإجمالًا، تتقاطع مجالات اهتمام الإثنوغرافيا الرقمية وتتكامل مع مرتكزات التحليل النقدي للخطاب في النظر إلى الفعل الاجتماعي باعتباره خطابًا ينتج في إطار التفاعل الاجتماعي يمكن دراسته عبر ثلاثة مستويات: طرق (الفعل) و(التمثيل) و(الكينونة).
1. شبكة مفاهيمية (مدخل نظري)
أولًا: السلطة الاجتماعية للخوارزميات
تستعين الدراسة في فهم وتحليل إستراتيجيات شبكات التواصل الاجتماعي في إنتاج الأيديولوجيا والهيمنة الخطابية بما بات يُعرَف في دراسات وتحليل الشبكات الاجتماعية بـ"السلطة الاجتماعية للخوارزميات"، وهو المفهوم الذي أصَّله عدد من البحوث والأعمال الفكرية التي اهتمت بآليات اشتغاله وعمليات ترميزه وأهدافه وعلاقته بالأيديولوجيا والهيمنة، خاصة العمل البحثي الذي أشرف عليه وأعدَّه الأكاديمي والمتخصص في علم الاجتماع ودراسة التقاطعات بين التكنولوجيا والإعلام والثقافة والمجتمع، ديفيد بير (David Beer)، بمشاركة مجموعة من الباحثين الآخرين وحمل نفس العنوان: "السلطة الاجتماعية للخوارزميات"(9). وظهر أيضًا عمل بحثي آخر في الفترة ذاتها للأكاديمية المتخصصة في دراسات المعلومات، صفية نوبل، بعنوان "خوارزميات القمع"، التي تعتبرها معطى أساسيًّا في تشغيل نظام الإنترنت وليست خللًا في بنية أو نسق شبكة الإنترنت؛ إذ إن لها تأثيرًا مباشرًا على المستخدمين وحياتهم وقيمهم المجتمعية؛ إذ يخضع الوصول إلى المعلومات لآلة الخوارزميات المعقدة التي تقوم باختيار وتحديد أولويات المستخدمين(10). وقبل ذلك بيَّنت عالمة البيانات، كاتي أونيل، في كتاب بعنوان "أسلحة الدمار الحسابي"، أن شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وعلماء الاجتماع الذين يعملون في هذه المنصات، يتلاعبون بالنظام السياسي من خلال السلطة التي تملكها الشبكات للتأثير فيما يمكن أن يعرفه المستخدمون، وفي مشاعرهم، وفيما إذا كانوا سيصوتون(11). والسؤال هنا: ما الذي تقوم به الأنظمة الخوارزمية لتصبح سلطة اجتماعية؟ أو كيف تتشكَّل السلطة الاجتماعية للخوارزميات؟ سيكون المدخل لذلك التعريف أولًا بمفهوم الخوارزميات.
تُعرِّف الأكاديمية وعالمة الرياضيات، هانا فراي (Hannah Fry)، الخوارزم بسلسلة من التعليمات المنطقية والمكتفية ذاتيًّا التي توضح كيفية تنفيذ مهمة أو تحقيق هدف معين من البداية إلى النهاية. وتكون الخوارزميات في الغالب أدوات رياضية؛ إذ تستخدم مجموعة من العمليات الرياضية -مثل المعادلات والحسابات والجبر والتفاضل والتكامل والمنطق والاحتمالات- وتترجمها إلى كود كمبيوتر. وتُغَذَّى ببيانات من العالم الحقيقي ويُعطى لها هدف، ثم تمضي مجرية حساباتها لتحقيق غاياتها(12). ويمثِّل هذا الهدف الوظيفةَ التي من أجلها تم تصميم الخوارزمية/البرنامج، وتشمل تنفيذ كافة المهام الحسابية والمنطقية البسيطة والمعقدة التي يمكن للحاسب القيام بها عبر توفير آلية الجمع والطرح وفَلْتَرَة الكلمات التي يُدخِلها المستخدمون في محركات البحث وربطها بنوعيات محددة من المحتوى. وكأي برنامج يقوم بوظيفة محددة، تخضع الخوارزميات لعمليات تحديث مستمرة من جانب المُطوِّرين لتحسين آلية عملها في تحقيق الأهداف المطلوبة(13). ويربط الأكاديمي ديفيد بير دور الخوارزميات بـ"صنع القرار" عبر سلسلة من التعليمات البرمجية التي تخضع للتحليل وتتميز بالفعالية، وهو ما يعني أن دراسة الخوارزميات باعتبارها أداة تقنية وكائنًا قائمًا بذاته مفصولًا عن النظام الاجتماعي ليست صائبة، لأن تصميمها يتم بشكل حتمي على أساس رؤى للعالم الاجتماعي تأخذ بعين الاعتبار النتائج التي تتأثر بالمصالح التجارية وغيرها من المصالح والأجندة. وانطلاقًا من هذا المنظور، يجري بناء نظام الخوارزميات في الهياكل والبنيات التنظيمية، والتفكير في كيفية تشكيل القرارات، أو دمجها في الخيارات التي يتم اتخاذها، وكيف تصبح هذه الخيارات جزءًا من حياة الناس(14).
تقود هذه التعريفات لدور الخوارزميات ووظيفتها -باعتبارها أنظمة برامجية مرتبطة برؤى للعالم الاجتماعي وبالمصالح التجارية وغيرها من الأجندة لتشكيل وصناعة اتخاذ القرارات- إلى البحث في ميكانيزمات وآليات عملها واشتغالها، ومن ثم الكيفية التي تتجسد عبرها السلطة الاجتماعية للخوارزميات.
تستعين الدراسة في تحديد السلطة الاجتماعية التي تحكم أنظمة الخوارزميات بأطروحة الباحثة فلورا فانسان (Flora Vincent) التي ترى أن "تشفير الخوارزمية هو أشبه ما يكون بكتابة نص؛ إذ يحتوي على نصيب من الذاتية التي تتجلى في اختيار الكلمات، وصياغة الجمل، حتى وإن كان لدينا انطباع بأننا نكتب نصًّا لا يتجاوز سرد الوقائع...". وتعتبر الخوارزمية ثمرة سلسلة من الأسباب التي تتداخل في المراحل المختلفة من بنائها... "وغالبًا ما نقوم فقط بإعادة إنتاج الأنماط اللاواعية التي نستبطنها طيلة حياتنا وبحكم تربيتنا"(15). يحيل هذا الربط بين تشفير (الخوارزمية) و(النص) إلى الجانب الخطابي، أو "الممارسة الخطابية"، في الأنظمة والأنساق الخوارزمية، وهو الأمر الذي انتبه إليه أيضًا ديفيد بير عندما اعتبر الخوارزميات جزءًا من النسق المعرفي الذي يتم من خلاله تفعيل السلطة؛ إذ إن هناك رابطًا بين الخطاب والمفاهيم والمؤسسات، لأن الخوارزميات لا توجد من خلال الترميز فقط، وإنما أيضًا عبر الوعي الاجتماعي كمفهوم أو مصطلح يستخدم بشكل متكرر للدلالة على شيء معين. لذلك أصبحت تمثِّل اليوم حضورًا ثقافيًّا أيقونيًّا ليس بسبب ما يمكن أن تقوم به، ولكن كذلك بسبب إسقاطات استخدام مقولة الخوارزميات(16).
إذن، ندرك من خلال هذا الحضور المعرفي/الثقافي للخوارزميات -باعتبارها "ممارسة خطابية" و"تأطيرًا" للمفاهيم والقضايا- قَدَارَة (قوة تنبع من توظيف واستخدام) أنظمتها البرامجية على إنتاج ما تراه مُمَثِّلًا لـ"الحقيقة" أو "الحقائق" حول الأحداث والموضوعات والأشياء (الأخطار، المذاق، الصحة، وغير ذلك)، وهو ما يجعل "الخوارزميات جزءًا من ديناميات السلطة، ويمكن التفكير في ذلك عبر طريقتين؛ إذ تعمل على إنتاج الحقائق عبر أنساق المدخلات أو المخرجات، وتعمل أيضًا كجزء خطابي لتعزيز معايير خاصة، ومقاربات وأنماط الاستدلال"(17). كما تعكس الخوارزميات مقولات معينة حول النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، أو تستخدم للتأثير والإقناع بشأن قضايا معينة.
وقد دَرَس الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (Michel Foucault) هذه العلاقة الارتباطية بين الحقيقة والخطاب في سياق اهتمامه بنظام الخطاب وتعبيراته عن أنساق السلطة، فهو يرى أن الحقيقة متمركزة على شكل الخطاب، وتُعد موضوع نشر واستهلاك ويتم إنتاجها ونقلها تحت المراقبة المُهَيْمِنَة لبعض الأجهزة السياسية أو الاقتصادية الكبرى. كما تمثِّل مدار النقاش السياسي وكل صراع اجتماعي... ويعتقد فوكو أن هناك صراعًا من أجل الحقيقة أو على الأقل حول الحقيقة ومكانتها وقيمتها والدور السياسي والاقتصادي الذي تلعبه. ولذلك ترتبط دائريًّا بأنساق السلطة التي تنتجها وبالآثار التي تولدها وتسوسها، وهو ما يدعى نظام الحقيقة(18). ومن الطبيعي هنا أن يكون الخطاب الذي يحمل حقيقة أو حقائق معينة هو جوهر الصراع (الرمزي والمادي) والسلطة معًا، وهو ما يفسر أشكال المنع أو الحذف أو التضييق...إلخ التي يمكن أن يتعرض لها الخطاب أو حتى منع "الذات المتكلمة" -بتعبير فوكو- من الكلام وإنتاج الخطاب.
ومن هذا المنطلق، تَبرُز سلطة الخوازرميات باعتبارها ممارسة خطابية وتأطيرًا للمفاهيم والقضايا والأشياء؛ إذ يصبح الخطاب موضوعًا للرغبة، كما أشار فوكو، بل "ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها"؛ إذ يملك القدرة على الإثبات وتشكيل مجالات من الموضوعات (الوضعيات) يمكن أن تثبت أو تنفي قضايا صحيحة أو خاطئة. كما أن مناطق الخطاب ليست مفتوحة كلها بنفس الدرجة وقابلة للاختراق بنفس الدرجة. فبعضها محروس وممنوع علانية (مناطق مميَّزة ومميِّزة)، في حين أن البعض الآخر يبدو مفتوحًا تقريبًا أمام كل الرياح وموضوعًا رهن إشارة كل ذات متكلمة بدون حصر مسبق(19).
وقد أجمل ديفيد بير سلطة الخوارزميات في قدرتها على وضع الاختيارات، والتصنيف، والفرز، والترتيب، وتحديد القضايا، وما الذي يمكن أن يكون أكثر مشاهدة، وتُعد نتيجة البحث مثالًا واحدًا عن ذلك، وكذلك موجز أخبار شبكات التواصل الاجتماعي، أو قائمة التغريدات التي تظهر ضمن تبويب "بينما كُنتَ بعيدًا" (While you were away)(20)، وهو ما يمكِّن المستخدم من متابعة أهم التغريدات التي قد يفوته الاطلاع عليها خلال فترة ابتعاده عن منصة تويتر استنادًا إلى خوارزمية مبنية على آثار سلوكه الاتصالي. ويشير ذلك مرة أخرى إلى أن الأنظمة الخوارزمية لا تنشأ من الفراغ، وإنما تمثِّل قيمًا وأفكارًا ومقولات معينة لها أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية منتظمة في بنية الخطاب/الخوارزميات.
وتحدد الباحثة، هانا فراي، بصفة عامة أربع وظائف أو مهام رئيسية تقوم بها الخوارزميات في العالم الواقعي لكل واحد منهما هدفه المختلف وخواصه المتفردة(21):
- تحديد الأولويات: تَستخدِم هذه التقنيات معالجات حسابية من أجل ترتيب كل الخيارات الممكنة من حيث الأولوية، وعمل قوائم مرتبة؛ إذ يتنبَّأ مثلًا محرك البحث "غوغل" بالصفحات التي يبحث عنها المستخدِم من خلال ترتيب نتائج البحث بعضها فوق بعض. وتقترح منصة "نتفليكس" أيضًا أي فيلم يشاهده المتلقي بعد الفيلم الأول.
- التصنيف: تُصنف هذه الخوارزمية المستخدِمين وفقًا لاهتماماتهم وخصائصهم وآثار سلوكهم الاتصالي، ويفضلها المُعْلِنون، لأنها تعمل على تصنيف الإعلانات بحسب تفضيلات الفئات العمرية لاختيار أحد الأنواع. وثمة خوارزميات بوسعها مثلًا تصنيف المحتويات غير اللائقة وإزالتها تلقائيًّا من على منصة يوتيوب.
وتعرف هذه الخوارزمية أيضًا بـ"نمذجة شخصيات المستخدِمين" التي تُصنِّف المستخدِمين وفقًا لنماذج نفسية معينة، وتسترشد بسلوكهم التفاعلي عبر شبكات التواصل الاجتماعي للقيام بعمليات التصنيف. ويشمل هذا السلوك النقر والإعجاب والمشاركة والتعليق والتدوين الإلكتروني والمدة الزمنية التي تُسْتغرَق يوميًّا في عمليات التصفح والتفاعل الشبكي. وتستخدم الخوازرميات هذه المعلومات لبناء نموذج شخصي مفهوم الاهتمامات وواضح المعالم لكل مستخدم يمكن الوصول إليه بدقة من قِبَل المعلنين والمسوقين(22).
- الربط: تُعنَى هذه الخوارزمية بإيجاد وتحديد العلاقات بين الأشياء، مثل محركات الاقتراحات في أمازون التي تربط بين ما يهتم به المستخدم مع اهتمامات زبائن سابقين.
- الفرز: تحتاج الخوارزميات لحذف بعض المعلومات للتركيز على ما هو مهم، مثلما يفعل فيسبوك وتويتر اللذان يفرزان القصص المتعلقة بالاهتمامات المعروفة للمستخدم وتصميم حائط منشورات خاص به.
وتشير دراسات مختلفة إلى وظائف أخرى للخوارزميات، منها وظيفة التوجيه؛ إذ تواجه مواقع التواصل الاجتماعي اتهامات قوية باستخدام خوارزميات تؤدي إلى فرض وصاية توجيهية على المستخدمين بغرض التأثير على قراراتهم، وبخاصة تلك المتعلقة بالشأن السياسي. ثم هناك وظيفة المراقبة، والتي تعني أن خوارزميات الإنترنت المنتشرة في منصات التواصل الاجتماعي، وعددًا كبيرًا من محركات البحث، تراقب سلوك المستخدمين وتعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنسفهم. وثمة أيضًا وظيفة التنبؤ والتوقع التي تعني أن الخوارزميات تستهدف تكوين إستراتيجية سلوكية لكل مستخدم يمكن من خلالها التنبؤ بالمحتوى الذي له قدرة على جذب الانتباه إلى الدرجة التي أدت لظهور علم جديد يسمى "اقتصاد الانتباه"(23).
إذن، يبدو واضحًا من خلال مصفوفة الأهداف السابقة أن السلطة الاجتماعية للخوارزميات وممارسة هذه السلطة تتم عن طريق السيطرة على الخطاب وإنتاج الخطاب نفسه، كما لاحظ توين فان دايك، أي عبر التحكُّم في سياقاته، مَنِ الذي يستطيع أن يقول أو يكتب عن شيء ما في موقف ما؟ ومَنِ الذي لديه منفذ إلى أنواع الخطاب وأنماطه المختلفة أو إلى وسائل إنتاجه؟(24). من هذا المنطلق، فإن مسألة تصميم أنظمة الخوارزميات -باعتبارها ممارسة خطابية وتأطيرًا- ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة السلطة والتحكُّم، خاصة في حالة المؤسسات والشركات الكبرى عبر الإنترنت، مثلما يرى الأكاديمي وأستاذ دراسات الإنترنت في جامعة كيرتن الأسترالية، ميشيل ويلسون (Michele Willson)؛ إذ تشكِّل مخرجات الخوارزميات مصدرًا مُوجِّهًا لسلوك المستهلك، وتدعم اختيارات معينة، "وتُغيِّر أسلوب حياتنا والنظر إليها، فهي تحمل أفعالًا في بيئات مختلفة وتؤطرها، وتقول لنا ما الذي يمكن مشاهدته، وتُفَلْتِر وتعالج ما نشاهده عبر الإنترنت"، لأنها مندمجة في مجموعة معقدة من التفاعلات السياسية والتقنية والثقافية والاجتماعية(25). وهو ما جعل ويلسون يعتبر الخوارزميات و"كالة" وسلطة تقوم بمَفْهَمَة (من المفهوم) القضايا(26) عبر إنتاج الحقائق والأفكار والمقولات كما لها الإمكانيات والقدارة على تغيير البنيات الثقافية والاجتماعية والتأثير المباشر في حياة الأفراد.
ثانيًا: الأيديولوجيا والهيمنة الخطابية
شكَّل موضوع الأيديولوجيا، والخطاب الأيديولوجي وأنماطه وإستراتيجيات هيمنته، مجالًا لاهتمام حقول معرفية مختلفة، لاسيما السياسية والفلسفية والاجتماعية والإثنوغرافية والدراسات السيمائية والثقافية والنقدية (كالتحليل النقدي للخطاب). وهو ما يفسر التنوع والتعدد في مقاربة مفهوم الأيديولوجيا والدلالات التي يشير إليها، وعلاقته بمفهوم الهيمنة، في معظم البحوث التي تناولت الفكر الأيديولوجي وأطروحاته وممارساته الخطابية كما هي الحال في دراسات هربرت شيلر (Herbert Schiller)(27)، وجون تومبسون (John Thompson)(28)، ونورمان فاركلوف(29)، وتوين فان دايك(30)...وباحثين آخرين.
في سياق هذا التنوع والتعدد المفاهيمي للأيديولوجيا، يميز بعض الباحثين بين فئتين أساسيتين أو "نمطين عامين لمفهوم الأيديولوجيا"، هما: المفاهيم المحايدة للأيديولوجيا، والمفاهيم النقدية للأيديولوجيا(31)، ويشترك كل نمط منهما في صفات أو أبعاد معينة رغم اختلاف منطلقات تلك المفاهيم ومرتكزاتها. فالمفاهيم المحايدة تصف الظاهرة بالأيديولوجيا دون الإيحاء بالضرورة بأنها مُضَلِّلَة أو خادعة أو تتوافق مع مصالح مجموعة محددة. وهي تمثِّل أحد مظاهر الحياة الاجتماعية، أو شكل من أشكال الاستقصاء الاجتماعي، ضمن جوانب أخرى، وليست أيضًا أكثر ولا أقل جاذبية أو إشكالية من أي أمر آخر. وقد تكون الأيديولوجيا حاضرة على سبيل المثال في أي برنامج سياسي، بغض النظر عما إذا كانت مُوَجَّهة نحو الثورة أو التجديد أو الإصلاح أو تطمح إلى التغيير أو الحفاظ على النظام الاجتماعي. وقد تكون الأيديولوجيا ضرورية لإخضاع الجماعات في كفاحها ضد النظام الاجتماعي كما هي ضرورية للجماعات المهيمنة في دفاعها عن الوضع الراهن(32). ومن النماذج البارزة التي قدمت منظورًا مجردًا من القدح والرؤية السلبية للأيديولوجيا وازدراء أفكارها وأطروحاتها أو الدعوة إلى مكافحتها أو التخلص منها، نجد المفكر الفرنسي ديستوت دو تراسي (Destut de Tracy)، وفلاديمير لينين (Vladimir Lenin)، وجورج لوكاش (György Lukács)؛ إذ انتقلت الأيديولوجيا من "فكر الآخر، فكر الخصم، وأصبحت فكرنا نحن أيضًا، وهذا ما سيخرج بها من إطار الصراع السياسي إلى مستوى التحليل السوسيولوجي"(33). كما اعتمد مفكرون آخرون، مثل مارتن سليغر (Martin Seliger)، وكليفورد غيرتز (Clifford Geertz)، وألفن جولدنر (Alvin Gouldner)، ولويس ألتسير (Louis Althusser)، مفهومًا للأيديولوجيا قريبًا مما سماه تومبسون المفاهيم المحايدة، أي نسقًا من المعتقدات أو أشكالًا وممارسات رمزية.
أما المفاهيم النقدية للأيديولوجيا فتحمل معنى سلبيًّا أو نقديًّا أو ازدرائيًّا لأطروحات الفكر الأيديولوجي، وتعتبر الظواهر الأيديولوجية مُضَلِّلَة أو خادعة أو أحادية الجانب، كما تحمل هذه المفاهيم في طياتها إدانة للأيديولوجيا. وهنا يبرز نموذج نابليون بونابرت (Napoléon Bonaparte)، وكارل ماركس (Karl Marx)، وكارل مانهايم (Karl Mannheim)، الذين قدَّموا معنى سلبيًّا ونقديًّا للأيديولوجيا باعتبارها أفكارًا خاطئة وغير عملية ومُضَلِّلَة ومنفصلة عن الحقائق والممارسات الواقعية (بونابرت). وظلت هذه الرؤية السلبية موجودة حتى في الأعمال الفكرية لماركس وإن كان يرى في الأيديولوجيا أفكارًا تُعبِّر عن مصالح الطبقة المهيمنة(34).
وخلافًا لهذين المنظورين، اهتمت دراسات أخرى بالأيديولوجيا كظاهرة رمزية/خطابية تمثِّل إطارًا إدراكيًّا يتجاوز المعتقدات والاتجاهات، وتتشكَّل في سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية معينة، وهو الطرح الذي نجده في أعمال نورمان فاركلوف، وتوين فان دايك، وجون تومبسون وغيرهم. فالخطاب الذي يتضمن مسلَّمات موضوعها الموجود وحالته، والممكن والضروري، وما سيكون، وضروب الخطاب التي ترتبط بها، والمعاني المسلَّم بها، يمكن اعتباره خطابًا أيديولوجيًّا. كما أن النصوص تقوم بعمل أيديولوجي عندما تسلم بوجود شيء معين وتعتبره واقعًا لا شك فيه ولا يمكن تحاشيه (كالتسليم بوجود سوق عالمية)(35). لذلك فإن النتائج الأيديولوجية هي أحد أنواع النتائج التي تُسبِّبها النصوص، وتُعد الأيديولوجيات ممثليات (تمثيلات) لجوانب من العالم تتحقق في طرق الممارسة الاجتماعية، وتترسخ في هويات الفاعلين الاجتماعيين. ويمكن أن تمتلك الأيديولوجيات استمرارية وثباتًا يتخطيان النصوص الفردية أو مجموعات النصوص؛ إذ إن لها علاقة بضروب الخطاب وأصنافه وأساليبه(36).
وفي هذا السياق يُبيِّن تومبسون أن دراسة الأيديولوجيا لا تهتم بالمقولات وتحليل نسق الأفكار أو المعتقدات فقط، كما لا تهتم بتحليل الشكل أو النسق الرمزي لذاته، بل تُعنى هذه الدراسة بما يُسمِّيه "الاستخدامات الاجتماعية للأشكال الرمزية" وذلك لتحديد إلى أي مدى وكيف تعمل هذه الأشكال على إقامة علاقات الهيمنة والحفاظ عليها في السياقات الاجتماعية التي تُنْتَج فيها ويتم نقلها وتلقيها(37). وهو ما يعني أن الظواهر الأيديولوجية تكون رمزية وذات مغزى بقدر ما تعمل، في سياقات اجتماعية تاريخية معينة، على تأسيس علاقات الهيمنة والحفاظ عليها، ولن تكون كذلك إلا إذا توافر فيها هذا الشرط، وهو الحفاظ على علاقات الهيمنة. ويتضمن هذا التعريف ثلاثة أبعاد للأيديولوجيا، أولًا: مقولة المعاني (وهي معاني الأشكال الرمزية والمتضمنة في السياقات الاجتماعية وتروج في العالم الاجتماعي)، وثانيًا: مفهوم الهيمنة، وثالثًا: الطرق التي تعمل بها المعاني لتأسيس علاقات الهيمنة والحفاظ عليها(38).
ونجد هذا الربط بين الأيديولوجيا والهيمنة لدى فاركلوف أيضًا، وذلك عندما يقوم الخطاب بتحويل منظور واحد من مجمل المنظورات إلى مزاعم أو منزلة عالمية، كما أن "السعي وراء الهيمنة يهدف إلى جعل معان خاصة عالمية في سبيل تحقيق السيطرة وصيانتها (حمايتها)، وما هذا سوى عمل أيديولوجي"(39). ومن هذا المنظور، تكون الهيمنة والسيطرة كذلك خطابية (الهيمنة الخطابية) عبر التحكُّم في سياقات إنتاج الخطاب وتوزيعه والنفاذ إليه، والسيطرة على نمط التواصل وأسلوبه. وهو ما أشار إليه توين فان دايك أيضًا؛ إذ تؤثر المؤسسات المُهَيْمِنَة -عن طريق النفاذ إلى الخطاب أو السيطرة على وسائل التواصل العام- في بنية النص والحديث بأسلوب يؤثر في معرفة المتلقين ومواقفهم ومعاييرهم وقيمهم وأيديولوجياتهم بحيث تصب في مصلحة المجموعة المُهَيْمِنَة. لذلك فإن النفاذ إلى الخطاب والأحداث التواصلية عنصر أساسي في استمرار خطاب السلطة والهيمنة(40). ويتحقق ذلك أيضًا عبر السيطرة على اللغة المستعملة (اللغة السائدة، أو الفصحى أو العامية)، والسيطرة على أنواع الخطاب المسموح بها، والسيطرة على أنواع أفعال الكلام المسموح بها، أو السيطرة على تنظيم مجرى الحديث(41).
يساعدنا هذا المفهوم (الهيمنة الخطابية) في دراسة أشكال التحكُّم والسيطرة التي تمارسها شبكات التواصل الاجتماعي في الترويج لأحداث تواصلية معينة، ودعم بعض الخطابات وتعزيز حضورها وتدفُّقها عبر المنصات الرقمية ومن خلال النفاذ التفضيلي، وتقييد حركة أو نشاط إنتاج خطابات أخرى والنفاذ إليها (النفاذ المُقَيَّد).
وتستعين الدراسة أيضًا بالنموذج المعرفي لعالم الاجتماع جون تومبسون، كما ورد في دراسته للأيديولوجيا والثقافة المعاصرة، في إبراز الأنماط العامة لاشتغال الأيديولوجيا في شبكات التواصل الاجتماعي، والبحث في الطرق التي تعمل بها المعاني لتأسيس علاقات الهيمنة والحفاظ عليها. فقد حدد خمسة أنماط رئيسية للأيديولوجيا تتمثَّل في: أيديولوجيا الشرعنة، وأيديولوجيا الحجب، وأيديولوجيا التوحيد، وأيديولوجيا التفتيت، وأيديولوجيا التشيؤ(42). وهي أنماط يمكن الإضافة إليها بحسب سياقات الخطاب وهوية المنتجين له، وهو ما ستفصِّله الدراسة أثناء تحليلها لأنماط الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي.
2. تمثلات الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي وأنماطه
تركز الدراسة في هذا القسم التطبيقي على تحليل الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي الذي تُنتِجه بعض الصفحات الرسمية وحسابات بعض الصحفيين والباحثين الإسرائيليين على شبكات التواصل الاجتماعي، وتحديدًا تويتر وفيسبوك، كما ورد في وحدات العينة بالمقدمة، وتُبْرِز أيضًا الممارسات الخطابية أو إستراتيجيات هذا الخطاب في إنتاج الأيديولوجيا. وستنطلق الدراسة في ذلك من المستويات الثلاثة للخطاب، أولًا كأصناف (طُرق الفعل) وهي طرق مختلفة في الفعل والتفاعل الخطابي، وثانيًا كضروب (طُرق تمثيل) وتعكس العالم المحسوس والممارسات الاجتماعية الأخرى، وثالثًا كأساليب (طرق كينونة).
أولًا: طرق الفعل في بنية الخطاب
يهتم هذا المحور بتحليل بنية الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي ومحدداته وآليات صوغه، باعتباره خطابًا رمزيًّا (نصوصًا وصورًا) حاملًا لمسلَّمات عن حالة الوضع الإسرائيلي والفلسطيني الراهن كما تراه الذات الإسرائيلية المنتجة للخطاب، ولما تعتبره ممكنًا وضروريًّا، والمعاني المسلم بها التي لا يمكن تجاوزها أو نقضها في إطار الصراع بين الطرفين، وأيضًا خطابًا حاملًا لرؤى وأطروحات بشأن جوهر القضية الفلسطينية وكينونة الدولة الإسرائيلية ومستقبل حل الدولتين. وهنا تَبرُز أهمية البحث في أشكال التلفظ وأساليبه، وخصوصية البناء الرمزي للخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي، الذي لا يتحقق فقط من خلال هذا البعد (الرمزي) وإنما يسعى منتجو هذا الخطاب أن تمثِّل مسلماته المنظور السائد والمهيمن في فهم الصراع، والحفاظ على علاقات الهيمنة في السياقات الاجتماعية والسياسية التي ينتج فيها الخطاب، أي الهيمنة الخطابية، كما سنبيِّن لاحقًا.
ولذلك فإن أهم ما يُثير الاهتمام في عينة الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي على مستوى التلفظ والتركيب المعجمي هو إستراتيجية التسمية أو إستراتيجية العلامة التي يُوسَم بها الأشخاص وتُدْمَغ بواسطتها التنظيميات والهيئات والمؤسسات الفلسطينية؛ إذ تصبح هذه العلامة -كما أوضح مؤسسا نظرية الاعتماد ملفين ديفلير (Melvin Defleur) وساندرا بول-روكيتش (Sandra Ball-Rokeach)- "صفة كبرى" أو "معنى عامًّا" لمن يُوصف بها، وتُحدد كيف يتصرف الآخرون تجاهه. ويظل هذا المعنى أو التصنيف مرشدًا لسلوكهم نحو الشخص الذي يحمل هذه الصفات أو العلامات(43). ومن أكثر التسميات أو العلامات التي وردت في هذا الخطاب تسمية "الإرهاب" التي تُطلق على الذات الفلسطينية/الآخر، في أي موقع أو فئة اجتماعية، سواء كان مسلحًا أو مدنيًّا أو مسؤولًا سياسيًّا أو إعلاميًّا أو مؤسسة اجتماعية أو حركة سياسية. ولا يستثني هذا التصنيف (المعنى) أيضًا الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، الذين يعتبرهم منتج الخطاب الإسرائيلي "إرهابيين". وقد يستخدم هذا الخطاب بديلًا عن علامة "الإرهاب" تسمية "المخربون، والتخريب الفلسطيني". ولذلك يستغرق هذا الوَسْم (العلامة) جميع مكونات المجتمع الفلسطيني في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي، الذي يصفهم بـ"الإرهاب والإرهابيين"، ولذلك تكاد هذه التسمية تكون محمولًا أو حدًّا يضاف إلى الموضوع أو مسندًا إليه في أي خطاب يتناول الشأن الفلسطيني (انظر الجدول رقم 1).
ولا تخلو الصور والكاريكاتير أيضًا من هذا المحمول (المحكوم به) الذي يُظهر الفلسطيني "مخربًا ومجرمًا وقاتلًا (إرهابيًّا)"، فيَنْسُب إليه منتج الخطاب كل هذه الصفات والنعوت التي تلازمه في جميع أنشطته العسكرية والمدنية/الاجتماعية والسياسية والإعلامية. ولترسيخ هذا المحمول، وحتى يصبح حكمًا ناجزًا (لا رجعة فيه)، يحاول الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي ربط نشاط الذات الفلسطينية بأعمال تنظيم "الدولة الإسلامية" لتكون نظيرًا ومماثلًا له في الحكم والتصور، وأيضًا لإثارة انتباه الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بوجوب محاربتها (الذات الفلسطينية) كما يُحارَب هذا التنظيم في جميع بؤر التوتر ومناطق الصراع والحروب. وهو محمول يحرض -بحسب المنطوق والمسكوت عنه في الخطاب- على مواجهة الذات الفلسطينية لاجتثاثها واقتلاع جذورها. وهذا يعني أن الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي يحدد، أولًا، فهمه ورؤيته للقضية الفلسطينية وهوية المجتمع الفلسطيني (شيء يجب اجتثاثه/تشييء القضية)، وثانيًا: يحدد نوع العلاقة التي تربط بين الذات المتكلمة/منتج الخطاب، والذات المُتَكَلَّم عنها أو المُسمَّى، وثالثًا: يحدد الخطاب أيضًا نوع العلاقة التي يجب أن تربط المجتمع الدولي بالفلسطينيين، باعتبارهم مخربين خارجين عن القانون والشرعية الدولية.
جدول (1): علامة "الإرهاب" في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي لوسم الذات الفلسطينية
م |
منتجو الخطاب الإسرائيلي |
علامات الخطاب الإسرائيلي لِدَمْغ الذات الفلسطينية |
1 |
إسرائيل بالعربية |
منظمة حماس الإرهابية، مغامرات حماس الإرهابية، خمسة وثلاثون عامًا من الدمار، إرهابيو الجهاد الإسلامي، الجهاد الإسلامي تروج للإرهاب، الشباب الفلسطيني يرضع الإرهاب من حماس، إرهابي فلسطيني. |
2 |
أفيخاي أدرعي |
# حماس35 عامًا_ في خدمة الإرهاب والقتل والإجرام، المخرب الإرهابي المدعو رعد حازم، مهمتنا إحباط الإرهاب، تنظيم الجهاد الإسلامي الإرهابي، ناطق باسم الجماعات الإرهابية في القطاع. |
3 |
روني شالوم
|
محاربة العائلات الإجرامية والإرهاب، جنازة داعشي فلسطيني، جيش الدفاع قاهر الإرهابيين، الإرهابيون الفلسطينيون، المنظمات الفلسطينية الإرهابية، إرهابيو إيران، ميليشيات ونشطاء إرهابيون، ميليشيات إيران الإرهابية، تبرير جرائم الإرهابيين. |
4 |
إيدي كوهين |
هؤلاء الإرهابيون (الفلسطينيون)، الإرهابيون داخل السجون. |
5 |
ميرلان أوهاد |
المجرم الإرهابي الخنزير، المخربون الفلسطينيون، إرهابيو إيران يقتلون أهالي غزة. |
6 |
جاي معيان |
إرهابيون فلسطينيون يقتلون صحفية داعمة للإرهاب. |
وفي سياق إستراتيجية التسمية أو العلامة يستخدم منتجو الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي إحالات مرجعية كثيرة تحمل معاني وإيحاءات سلبية لمن يوسمون بها، وتشمل أيضًا جميع مكونات المجتمع الفلسطيني ولا تستثني أحدًا. فالرئيس الراحل ياسر عرفات يوصف بـ"السفاح المجرم"، و"العميل الصهيوني" لنزع الشرعية عن تاريخه ونضاله السياسيين في قيادة الثورة الفلسطينية، باعتباره "خادمًا للاحتلال الصهيوني". ويصبح بعض الصحفيين في قنوات إخبارية عربية "أقلامًا مأجورة ومرتزقة"، وهو ما يجعلهم -بحسب منطوق الخطاب الإسرائيلي- "بوق البروباغندا" للدول المالكة لهذه القنوات، ويجردهم -بحسب المسكوت عنه في هذا الخطاب- من أخلاقيات العمل الإعلامي وقواعد الممارسة المهنية ليتحوَّلوا إلى صحافيين يتاجرون بالقضية الفلسطينية. كما يحيل منتجو الخطاب الإسرائيلي في نعتهم للسلوك الفلسطيني ("بلطجية فلسطينيون"، "الهمجية الفلسطينية"،) على معاني الفوضى والتخريب. ويلجأ هذ الخطاب إلى لغة التعريض في وصف الفلسطينيين وحركات المقاومة؛ إذ لا يرى الجهاد الإسلامي حركةً فلسطينيةً وإنما "حركة الجهاد الإيراني"، ولا تمثِّل حماس وحركات أخرى سوى "أذرع لأخطبوط الملالي". وهي إحالات تنزع عن هذه الحركات الفلسطينية البعد الوطني ما يجعلها كيانات تخضع لقوى أجنبية (إيران) خدمة لأجندتها السياسية والإستراتيجية. ولذلك يصبح رجال المقاومة جنودًا تحركهم هذه القوى ويأتمرون بأوامرها "جندي برتبة عبد الخامنئي"، مثلما ورد في منشور لميرلان أوهاد (5 أغسطس/آب 2022). كما أن رجال المقاومة في حركة حماس ليسوا سوى "صعاليك" (إيدي كوهين، 3 يناير/كانون الثاني 2023) وقُطَّاع طرق لا يهتمون بأحوال سكان قطاع غزة ولا يأبهون بمصيرهم، لذلك يعرِّضونهم لمخاطر الحرب. ويصف هذا الخطاب أيضًا القضية الفلسطينية بـ"المزيفة"، التي لا وجود لها في الأصل بل اختلقها الفلسطينيون، وهم يمثلون "أحفاد الصليبيين الذين احتلوا الأرض من اليهود" (روني شالوم، 26 مايو/أيار 2022).
ويبدو المسكوت عنه في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي هو التشريع لاستعمال كل الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية لمواجهة الشعب الفلسطيني وحركات المقاومة، وتشويه وشَيْطَنَة رموزه السياسية والتاريخية، من أجل إبراز وإعلاء الرواية الإسرائيلية التي يُراد لها أن تهيمن على الخطاب العام (الهيمنة الخطابية) عبر شبكات التواصل الاجتماعي والعمل على اندثار الرواية الفلسطينية. ويستعين منتجو الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي لتحقيق هذا الهدف بمعجم أخلاقي يصف الفلسطينيين بـ"الكذب والنفاق والدجل والنصب والاحتيال..." لدحض الرواية الفلسطينية، وإضفاء المصداقية على الأحداث التواصلية التي ترتبط بالشأن الإسرائيلي. وهنا، يحاول الخطاب أن يميز بين الذات الفلسطينية التي يَنْسُب إليها تزويرَ التاريخ وتزييفَ وقائعه و"سرقتَه"، وطمسَ الحقائق بشأن ما تعتبره الذات الإسرائيلية "أرض إسرائيل" و"عودة الشعب اليهودي إلى دياره وأرض أجداده الموروثة له من عند الله"، كما ورد في تغريدات "إسرائيل بالعربية"، و"إيدي كوهين"، و"جاي معيان"؛ حيث تبدو الذات الإسرائيلية مالكة للحقائق والرواية التاريخية الأصيلة.
وهنا، نلاحظ أن بنية التلفظ في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي تقوم على البنى الاستقطابية المعتادة لتقديم الذات الإسرائيلية (نحن) إيجابيًّا، وتقديم الذات الفلسطينية (هم/الآخرون) سلبيًّا للتعبير عن الصراع الأيديولوجي بين هذه الذوات. ويهدف هذا الاستقطاب -كما لاحظ فان دايك- إلى تعزيز سلطة المُتَكَلِّم والتعالي الأخلاقي ومصداقية المُتَحَدِّث من جهة، والتقليل من شأن الذات المعارضة وإضعاف الثقة بها عن طريق التشكيك في مواقفها وتصنيفها مع العدو من جهة أخرى(45)، وهو ما يُفْقِدُها شرعية الوجود/الكينونة، في حالة الذات الفلسطينية، وتترتب على ذلك خطوات وإجراءات تُشَرِّع لمواجهتها بكل السبل.
ولذلك يعتبر الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي الذات الفلسطينية كيانًا "يجب سحقه سحقًا"، كما ورد في منشور للباحث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، روني شالوم: "اسحقوهم سحقًا، شكرًا لجيش الدفاع على أكثر من عملية ناجحة. وإن شاء الله للمزيد من الانتصارات على ميليشيات إيران الإرهابية في كل مكان وزمان. نحن هنا لنبقى صامدين في أرض أجدادنا غصبًا عن كل إرهابي وحاقد. نحن الإسرائيليون"(46). فهذا التقابل أو الاستقطاب الأيديولوجي والصراع بين (نحن) و(هم) يؤسِّس لبنية التلفظ في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي كما ذكرنا، وهو ما يوضحه الجدول رقم (2).
جدول (2): البنى الاستقطابية بين الـ"نحن" والـ"هم" في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي
نحن |
هــم |
ما يفرق بين الـ"نحن" والـ"هم" |
مهمتنا إحباط الإرهاب |
إرهابيو الجهاد |
إقامة الدولة الفلسطينية |
قواتنا المسلحة الباسلة |
الجهاد الإيراني، صعاليك حماس |
تحرير الأرض من الاحتلال |
صامدون في أرض أجدادنا |
الفلسطينيون أحفاد الصليبيين والروم الذين احتلوا الأرض من اليهود |
استعادة الحقوق |
الشعب اليهودي ليس محتلًّا لأرض إسرائيل |
القضية المزيفة، احتلال فلسطين أكذوبة |
تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه وتهويد مقدساته |
إسرائيل تحارب الإرهاب |
الفلسطينيون يمجدون الإرهاب، ويرضعونه لأطفالهم |
الدفاع عن الوجود الفلسطيني ومقاومة الاحتلال |
شعبنا في أمان |
حركة الجهاد الإيراني تقتل سكان غزة بالصواريخ الفاشلة، حماس تعزز طوفان نهب الأموال والقتل والإجرام |
الدفاع عن مقدسات الفلسطينيين بمشاركة جميع الفئات المجتمعية |
إسرائيل دولة قوية زاهرة وشامخة وديمقراطية ومتطورة |
العرب غارقون في مستنقع النار والدماء والدموع |
أولوية الفلسطينيين العمل على جلاء الاحتلال وتحرير فلسطين |
ويشمل الاستقطاب بين الـ"نحن" والـ"هم" قضايا مختلفة تتصل أيضًا بالعقائد الدينية والمسائل الغيبية "الإرهابيون الفلسطينيون في جهنم، أما أنبياؤنا عليهم السلام وعلى رأسهم أبونا إبراهيم عليه السلام في الجنة" (روني شالوم، 11 أغسطس/آب 2022). وتتسع دائرة هذا الاستقطاب لتتجاوز الصراع بين الذات الإسرائيلية والفلسطينية إلى أطراف أو ذوات أخرى، مثل إيران وبعض الدول العربية التي تساعد الفلسطينيين في الصمود داخل أراضيهم، وذلك بنقل المعركة إليها. ويسعى هذا الخطاب إلى تبرير السلوك السياسي والعسكري الإسرائيلي ضد ما يعتبره خطرًا وجوديًّا على كيانه، وشرعنة إجراءاته التي تستمد قوتها مما يراه حقًّا تاريخيًّا ومسلَّمات عقدية/إيمانية.
ثانيًا: طرق التمثيل والكينونة (الهوية)
تركز الدراسة في هذا المحور على تحليل الطرق التي يُقدِّم بها الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي الذاتَ الإسرائيلية والذات الفلسطينية، وأيضًا تمثُّلاته ورؤيته للقضايا الكبرى التي تشكِّل مجالًا للصراع بين الطرفين، وترصد الهويات المُنْشَأَة لهما، وإن كان الفصل بين الأشكال الثلاثة من التحليل (طرق الفعل، طرق التمثيل، طرق الكينونة) يبدو أحيانًا غير إجرائي نظرًا لتداخل هذه المسارات في كل مرحلة من مراحل التحليل. فقد اشتمل المسار الأول (بنية التلفظ في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي) -كما نلاحظ- على جزء من التحليل الذي يخص "طرق التمثيل" (تمثيلات الذات الإسرائيلية والفلسطينية والرؤى التي تُقدَّم بها الأحداث والقضايا). لذلك سنحاول إبراز الهويات التي يُنْشِئُها هذا الخطاب -وتُمثِّل في بعض الحالات تصورات منتج الخطاب عن الـ"نحن" والـ"هم" والقضايا الكبرى- ولعل أول ما يلفت الانتباه في الهويات التي يشكِّلها الخطاب الإسرائيلي عن الذات الإسرائيلية هو الكينونة أو الوجود الإسرائيلي في "أرض إسرائيل" الذي يمتد عبر التاريخ "شعب يعود إلى أرضه بعد حوالي ألف عام من الشتات"، ويستمد شرعيته من البعد الديني/العقدي، وفي المقابل يُظهِر هذا الخطاب هوية الذات الفلسطينية بلا أرض وبلا تاريخ، بل مجموعة بشرية احتلت "أرض إسرائيل".
ولذلك ينظر الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي إلى الفلسطينيين نظرة سلبية؛ إذ لا يمثِّل هؤلاء سوى "عصابات وبلطجية"، و"عائلات إجرامية"، وهو ما ينفي عن الفلسطينيين هوية (الشعب) الذي يسعى إلى التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، والاستقلال وإقامة دولته الفلسطينية.
أما الذات الإسرائيلية فتبدو شعبًا وجيشًا يواجهان الإرهاب والحركات الإرهابية المرتبطة بمحاور أجنبية (إيران ودول عربية أخرى)، حيث تسعى إسرائيل إلى الدفاع عن مواطنيها والحفاظ على أمنهم واستقرارهم من التهديدات والهجمات الصاروخية الفاشلة التي تقتل الفلسطينيين. وهنا، تبرز الهوية الإسرائيلية في موقع الضحية التي لا تملك سوى الرد على "الإرهاب" و"المخربين"، بينما تبدو الذاتُ الفلسطينية الطرفَ المعتدي على الوجود الإسرائيلي، لذلك يمجِّد الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي دور الجيش في الدفاع عن هذا الوجود.
ويُشيِّد هذا الخطاب أيضًا هوية للذات الفلسطينية باعتبارها مجموعات تتهافت على المصالح المادية والشخصية، و"قيادات" تبحث عن رغد الحياة في المهاجر وتخدم أجندات ومصالح أجنبية، ولا تربطها أي علاقة بالجهاد أو تحرير الأرض والدفاع عن الفلسطينيين، بل إن بعضها كان يخدم لأجل المصالح الإسرائيلية (العمالة)، بينما تبدو الذات الإسرائيلية دولة تسعى إلى رفاه مواطنيها والحفاظ على أطفالها من الإرهاب، وتنعم بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو خطاب يحاول تجميل هوية هذه الذات، وإظهار القيم التي تؤمن بها ومظاهر الحياة العامة الإسرائيلية وسياساتها في صورة مناقضة للوضع الداخلي الفلسطيني الغارق في قتل الفلسطينيين والاقتتال الفصائلي.
ثالثًا: أنماط الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي
في التعريف الذي قدَّمه تومبسون للأيديولوجيا حدد ثلاثة أبعاد للمفهوم (مقولة المعاني، والهيمنة، والطرق التي تعمل بها المعاني لتأسيس علاقات الهيمنة والحفاظ عليها)، كما ذُكِر آنفًا، ويعتبر البعد الثالث متغيرًا أساسيًّا محددًا للظاهرة الأيديولوجية التي تؤسِّس لعلاقات الهيمنة والحفاظ عليها. وهو ما يمكن رصده وتحليله في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي، ويساعدنا في ذلك النمذجة التي حدَّدها تومبسون نفسه حول الأنماط العامة لاشتغال الأيديولوجيا. ومن خلال الملاحظة لعيِّنة الدراسة وتتبُّع آثار السلوك الاتصالي لمنتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي، يتبيَّن أن أنماط هذا الخطاب تشمل:
- أيديولوجيا الشرعنة: يسعى الخطاب لتأسيس علاقات الهيمنة (الخطابية والسياسية والعسكرية أيضًا) والحفاظ عليها من خلال إبراز شرعية القضايا التي يتناولها، باعتبارها قضايا عادلة وجديرة بالدعم والدفاع عنها، وهو ما يعكسه المعنى الذي يُقدِّمه هذا الخطاب لـ"الوجود الإسرائيلي" في فلسطين؛ إذ إن ما يعتبره الفلسطيني "احتلالًا" لأرضه يراه الإسرائيلي ومعه العالم -بحسب منطوق الخطاب "نحن والعالم"- "عودة شعب إلى أرضه". وتتم شرعنة هذا الوجود (الحق التاريخي في الأرض) أيضًا من خلال الرجوع إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة قرار التقسيم 181؛ إذ "كانت أول مرة بعد ألفي سنة تمكَّن فيها الشعب اليهودي من إعادة سيادته على وطنه التاريخي"(47).
وهنا، يحاول الخطاب أن يؤسس هذه الشرعنة (شرعنة الوجود) على ثلاثة أسس: أولًا: الأسس القانونية/العقلانية عبر استدعاء شرعية المواثيق والقرارات الدولية التي تمثِّل إطارًا حاكمًا للعلاقات الدولية. وثانيًا: الأسس التقليدية التي تتمثَّل في استدعاء قدسية المعتقدات الدينية التي تشرعن للذات الإسرائيلية تصوراتها ومواقفها بخصوص الوجود الإسرائيلي في أرض أجداده الموروثة. وثالثًا: الأسس الكاريزمية التي تستدعي الصفات الاستثنائية للذات الإسرائيلية في محيط تعتبره معاديًا لها؛ حيث تسعى للحفاظ على أمنها واستقرارها وديمقراطيتها.
وفي سياق أيديولوجيا الشرعنة، نلاحظ تنويعًا في إستراتيجيات الترويج لها عبر استخدام تقنية السرد أو الرواية كما يبدو في التغريدة التي أعاد الإعلامي، جاي معيان، نشرها، وتنتشر هذه الإستراتيجية (الرواية) كثيرًا في الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي، لاسيما خلال الحديث عن التاريخ اليهودي في المنطقة والرجوع إلى "المعتقدات الدينية" لتعزيز رؤى الذات الإسرائيلية عن وجودها، وخلق شعور بالانتماء إلى المجتمع والتاريخ الذي يتجاوز تجربة الصراع والاختلاف والانقسام لإقرار ما يراه حقيقة. وبذلك يحاول منتجو الخطاب عبر إستراتيجية التعميم إقناع المتلقي بأن الوجود الإسرائيلي سيكون لصالح شعوب المنطقة.
- أيديولوجيا الحجب (التعتيم): يبرز هذا النمط من الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي عبر محاولات الذات المُتَكَلِّمَة حجب الحقائق وإنكار الوقائع المعلومة لدى الرأي العام الدولي، والتعتيم على الأخبار والأحداث التي تناقلتها وسائل الإعلام والشبكات الدولية، كما هي الحال في العملية العسكرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، وكانت أطلقت عليها اسم "الفجر الصادق"، في أغسطس/آب 2022. وقد تسببت هذه العملية الإسرائيلية في مقتل 44 فلسطينيًّا، بينهم 15 طفلًا و4 سيدات، فيما وصل عدد الإصابات جراء الغارات 360 شخصًا بجروح مختلف(48)، بينما تُظهر أيديولوجيا التعتيم مسؤولية حركة الجهاد الإسلامي في قتل هؤلاء الأطفال -كما يشير منشور الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، عبر ما يسميه "الإطلاق الصواريخ الفاشل" (انظر الصورة رقم 3)، حيث لم تتجاوز تلك الصواريخ غلاف القطاع، ولم تصل إلى أهدافها بل كانت ترتد إلى سكان غزة.
وتهدف هذه الأيديولوجيا إلى حرف الأنظار عن الآلة العسكرية الإسرائيلية ونتائجها المدمرة في قتل المدنيين، وصرف الانتباه عن العمليات التي تقوم بها هذه القوات في تدمير البنية التحتية المدنية الفلسطينية، وهدم المنازل على رؤوس سكانيها. وهنا، يستخدم الخطاب الأيديولوجي إستراتيجية التشويه أو تلطيخ سمعة حركة الجهاد الإسلامي، التي تسببت صواريخها في مأساة إنسانية بالقطاع، وأيضًا إبراز فشل مشروعها الجهادي الذي أدى إلى حصد أرواح السكان المحليين. وفي المقابل، يلجأ هذا الخطاب -بحسب منطوق التلفظ- إلى إستراتيجية التلطيف أو التهوين من الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تواجه "الإرهاب" فقط وليس المدنيين العزل.
وفي سياق هذه الأيديولوجيا (الحجب) يُوظِّف منتجو الخطاب الكاريكاتير بصوة مكثفة إلى حد إلغاء المنطق والتاريخ وكل شروط الفهم المنهجي والإنساني، بحسب تعبير الأكاديمي عبد الله الغذامي، وهو ما أسماه بـ"جبروت الصورة"(52)؛ إذ يستدعي منتجو هذا الخطاب الحمولة الدلالية للإرهاب وربطه بحركات المقاومة الفلسطينية لدى الرأي العام الدولي. ومن ثم فالجهاد لا يعني سوى قتل المدنيين الفلسطينيين أولًا قبل أن يستهدف المواطنين الإسرائيليين، ما يثير أسئلة كثيرة بشأن الاستمرار في هذا النهج، والجدوى من الجهاد الذي يقتل الأطفال الفلسطينيين، وتعبئة المجتمع الدولي لمواجهة هذا النهج/الاختيار.
- أيديولوجيا التوحيد: يبرز هذا النمط بوضوح من خلال حرص منتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي على إظهار وحدة "الشعب اليهودي" ومساندته للجيش الإسرائيلي في مواجهة "الإرهاب"، وأن "يد جيش الدفاع تصل إلى كل من يهدد أمن مواطنينا وسيادتنا"، مشيدًا بإنجازاته: "إنجازات عظيمة لقواتنا المسلحة الباسلة ونتمنى المزيد منها". ويهدف منتجو الخطاب إلى إقامة علاقات الهيمنة والحفاظ عليها داخل المجتمع الإسرائيلي عبر هذا الشكل الرمزي الذي يُظهِر وحدة الهوية الإسرائيلية في مواجهة الأخطار التي تهددها من الخارج، أي حركات المقاومة الفلسطينية والجهات التي تدعمها بالمال والسلاح. لذلك سارعت أحزاب المعارضة إلى دعم الحكومة الإسرائيلية في هذه العملية، وهو ما يقود المجتمع الإسرائيلي باتجاه التنميط في التصورات والرؤى؛ ما يجعله كيانًا موحدًا خلف قيادته السياسية، وبذلك يحقق هذا الخطاب أهدافه في التوحيد عبر هذه الهيمنة الخطابية.
- أيديولوجية التفتيت: في مقابل أيديولوجية توحيد المجتمع/الذات الإسرائيلية، يبذل منتجو الخطاب الإسرائيلي جهدًا كبيرًا في العمل على إبراز انقسام الذات الفلسطينية، كما لاحظنا في تمثيلات هذا الخطاب وأبعاد الصورة التي يرسمها لقيادات حركات المقاومة ولأفراد المجتمع الفلسطيني عمومًا؛ حيث تعمل ضد مصالح الفلسطينيين بل تخدم أجندات أجنبية. ولا تتمتع هذه الحركات بحاضنة اجتماعية، حيث كانت سببًا في المأساة الإنسانية والاجتماعية التي يعيشها الفلسطينيون. وفي الوقت الذي تخدم فيه هذه القيادات مصالحها المالية والعائلية، تقدم باقي الفلسطينيين وقودًا لـ"الإرهاب" والمواجهات مع إسرائيل. ولأن منتج الخطاب يدرك القدرات العسكرية وإمكانات الصمود التي تمتلكها حركات المقاومة في تحدي الآلة العسكرية الإسرائيلية، فهو يحاول عبر إستراتيجية التمايز والاختلاف أن يظهر التباين بين مصالح هذه القيادات وعموم الفلسطينيين، فيبرز انغماس هؤلاء القادة وأبنائهم في متع الحياة ورغد العيش، وذلك من أجل إضعاف فاعلية هذه القدرات والتحدي الذي تشكله حركات المقاومة. وهنا، تظهر في هذا الخطاب أيضًا إستراتيجية تطهير الساحة الإسرائيلية من "الإرهاب"/الشر"/"العدو"، الذي تمثِّله حركات المقاومة من خلال توحيد جميع القوى والأحزاب الإسرائيلية وجهود الآلة العسكرية التي تمثِّل "الخير". ويحاول هذا النمط من الأيديولوجيا الحفاظ على علاقات الهيمنة الإسرائيلية في الساحة الفلسطينية من خلال بث الفرقة في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، كما تُظهِر الصورة التي نشرها الصحافي والأكاديمي، إيدي كوهين (الصورة رقم 6).
- أيديولوجيا التشيؤ: يحاول هذا النمط من الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي أن يجرِّد الذات الفلسطينية من هويتها الفلسطينية وكينونتها التاريخية سعيًا لطمس الجوهر الأساسي لقضيتها التي تتمثَّل في الاحتلال. لذلك يستبعد الخطاب هذا الموضوع (الاحتلال)، بل يعتبره أكذوبة ويرى أن "إسرائيل ولأول مرة في تاريخها الوجيز ساعدت الفلسطينيين في إقامة السلطة الفلسطينية"، ومن ثم فإن الوضع الراهن للقضية الفلسطينية لا يمكن تغييره بل يمثِّل الحالة الدائمة في صيرورة الصراع بين الطرفين كما لو كان "شيئًا" خارج الزمن وليس له أي دور أو تأثير في إثبات الذات الفلسطينية واستعادة حقوقها.
- أيديولوجيا العسكرة: تستغرق هذه الأيديولوجيا عموم الخطاب الإسرائيلي بصور وأشكال مختلفة تجعله مدغمًا مع خطاب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ومنصهرًا مع بياناتها الإعلامية الحربية في كل الأوضاع والحالات. ويكاد منتجو هذا الخطاب يتحوَّلون إلى ناطقين باسم الجيش الإسرائيلي في أوقات الحرب والهدن، ويمثِّلون آلة دعائية لأنشطته وعملياته العسكرية قبل وأثناء وبعد أي عملية عسكرية. ومن أبرز الإستراتيجيات الخطابية التي تميز أيديولوجيا العسكرة هو الإشادة بما تسميه "التفوق والهيبة العسكرية الإسرائيلية" وبالمهام الحربية والعمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية، أو قطاع غزة كما هي الحال خلال عملية "الفجر الصادق"، في صيف العام 2022. ويتوجه منتج الخطاب بـ"الشكر" للجيش الإسرائيلي معتبرًا الأعمال الحربية ضد الفلسطينيين "إنجازات عظيمة للقوات المسلحة الباسلة"، وتمثِّل مصدرًا للاعتزاز والفخر.
وهناك إستراتيجية أخرى تعتمدها أيديولوجيا العسكرة في محاولة لإقامة علاقات الهيمنة الخطابية والسياسية والحفاظ عليها، وتتجلى في تحريض المؤسسة العسكرية على الإمعان في قتل الفلسطينيين "وسحقهم سحقًا"، وهو ما يمثِّل دعوة صريحة لإبادة الذات الفلسطينية، كما ورد في منشور لروني شالوم (6 أغسطس/آب 2022)، وأيضًا مطالبة المؤسسة العسكرية بـ"المزيد" من القتل في صفوف قيادات حركة المقاومة "والمزيد قادم إن شاء الله"، كما جاء في منشور لميرلان أوهاد (5 أغسطس/آب 2022).
وتشير تقارير مختلفة إلى تصاعد خطاب الكراهية في إسرائيل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كما بيَّنت نتائج مؤشر العنصرية والتحريض في شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية خلال العام 2021(57)، والتي أوضحت ازديادًا في خطاب الكراهية تجاه العرب بنسبة 8% عن العام 2020؛ حيث أشارت النتائج إلى انتشار حوالي 620 ألف محادثة شملت خطابًا عنيفًا وتحريضًا تجاه العرب. كما تضاعفت نسبة الخطاب التحريضي على العنف 3 أضعاف خلال العام 2020، إضافة إلى ازدياد حدة الخطاب العنيف ضد العرب والفلسطينيين؛ حيث وصلت نسبة الخطاب العنيف من مجمل الخطاب حول العرب في الشبكة 11%، وذلك للمرة الأولى منذ عام 2017. وتصدرت منصة تويتر الشبكات المستخدمة في نشر العنصرية والتحريض؛ حيث نُشر عبرها 58% من الخطاب العنيف، فيما شكلت منصة فيسبوك ما نسبته 19%.
ويتقاطع خطاب أيديولوجيا العسكرة مع أيديولوجيا التوحيد التي تجعل فئات المجتمع الإسرائيلي ذاتًا إسرائيلية واحدة لا يمكن الفصل بين مكوناتها المدنية والعسكرية، وينعكس ذلك على تصورات ورؤية منتجي الخطاب في تبني أطروحات المؤسسة العسكرية، ومن ثم تتحول حسابات هذه الذوات المُتَكَلِّمَة إلى منصات رقمية عسكرية. وقد اهتم الأكاديميان، عدي كونتسمان وربيكا ستين، بهذا الموضوع في عدد من الأبحاث، لاسيما في دراستهما المشتركة عن "العسكرة الرقمية: الاحتلال الإسرائيلي في عصر الإعلام الاجتماعي"؛ إذ لاحظ الباحثان أن شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت أدوات مهمة في أيدي المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، لاسيما في زمن الحرب، وعززت هذه العسكرة الرقمية الإسرائيلية حالة العنف ضد الفلسطينيين(58). ففي العام 2014، انتقل الحلم الإسرائيلي في القتل خارج شبكات التواصل الاجتماعي، وبات هناك نوع من التطبيع مع العسكرة الرقمية. وتشير الدراسة إلى عدد من الوسوم (الهاشتاجات) التي انتشرت عبر منصات التواصل من قِبَل المستخدمين الإسرائيليين المتطرفين، والتي تدعو إلى الانتقام من الفلسطينيين مثلما ورد في هذا الهاشتاج الذي انتشر في فيسبوك عام 2014: "الشعب الإسرائيلي يطالب بالانتقام" (The People of Israel Demand Revenge)، وهي دعوة صريحة -كما أشار الباحثان- إلى القتل: "الموت للعرب"، وهو الشعار الذي كان يتردد في المظاهرات أيضًا والمحطات الإذاعية. كما تداول المستخدمون الإسرائيليون وسمًا آخر: "#كراهية العرب ليست عنصرية بل قيما" (Hating Arabs isn't racism, it's Values#) وقد خلَّفت هذه الحملة من الهاشتجات ضحايا في صفوف الفلسطينيين(59).
وتداول المستخدمون الإسرائيليون أيضًا وسمًا آخر بعد عملية القنص التي استهدفت أحد الجنود الإسرائيليين عند حدود قطاع غزة، في صيف العام 2021، ويدعو هذا الهاشتاج إلى "#أطلقوا أيدينا" (#Untie Our Hands)، ويمثِّل أيضًا دعوة صريحة إلى إطلاق أيدي الجمهور الإسرائيلي وتمكينه من قتل الفلسطينيين. وهو ما جعل الأكاديمية ربيكا ستين، تشير في دراسة أخرى، بعنوان "لقطات شاشة: عنف الدولة أمام الكاميرا في إسرائيل وفلسطين"، إلى تحول شبكات التواصل الاجتماعي -خلال الحرب على قطاع غزة (2008-2009) التي أسمتها إسرائيل بـ"الرصاص المصبوب"- إلى "منطقة أخرى للحرب". فقد كان الجنود الإسرائيليون يبثون عبر منصة يوتيوب لقطات عن القصف الذي يستهدف سكان قطاع غزة(60)، فضلًا عن صور السيلفي التي ينشرها هؤلاء الجنود مع الفلسطينيين أثناء اعتقالهم.
ويبدو أن أنماط الأيديولوجيا الإسرائيلية السابقة (الشرعنة، الحجب، والتوحيد، والتفتيت، والتشيؤ، والعسكرة)، تنصهر جميعها في بوتقة العمل الذي يقوم به جهاز الدعاية الإسرائيلي (هاسبارا) لتجميل هوية الذات الإسرائيلية، وتبرير انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين خلال العمليات العسكرية والحروب التي شنتها على قطاع غزة، وحجب الأضرار التي ألحقتها بالسكان المدنيين الذين هُدِّمت البيوت فوق رؤوسهم، كما هُدِّمت مقرات وسائل الإعلام والشبكات الدولية، ناهيك عن عمليات قتل الصحفيين. لذلك تحولت منصات الشبكات الاجتماعية كما ذكرت ربيكا ستين إلى ساحة للحرب من أجل السيطرة والهيمنة الخطابية على المجال العام الرقمي.
3. إستراتيجيات الشبكات الاجتماعية في تعزيز الهيمنة الخطابية للأيديولوجيا الإسرائيلية
ساعدنا التحليل النقدي للخطاب في دراسة أنماط الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي وتمثيلاته للذات الإسرائيلية والذات الفلسطينية، وتأثيره في إقامة علاقات الهيمنة الخطابية والسياسية والحفاظ عليها، ويُعد ذلك مدخلًا أساسيًّا لفهم إستراتيجيات شبكات التواصل الاجتماعي نفسها في تعزيز هذه الهيمنة. وهو ما ستبحثه الدراسة في هذا المحور عبر رصد القَدَارة التي تتمتع بها هذه المنصات في تمكين منتجي هذا الخطاب من السيطرة على السياقات العامة لإنتاج الأنماط الأيديولوجية المختلفة رغم الإشكالات الأخلاقية التي يثيرها الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي.
سنحتاج هنا إلى استحضار مفهوم الخوازرميات باعتبارها نصًّا أو خطابًا، أو جزءًا من النسق المعرفي الذي يتم من خلاله تفعيل السلطة كما أشار ديفيد بير؛ إذ إن هناك علاقة بين الخطاب والمفاهيم والمؤسسات، لأن الخوارزميات لا توجد من خلال الترميز فقط، وإنما أيضًا عبر الوعي الاجتماعي كمفهوم أو مصطلح يستخدم بشكل متكرر للدلالة على شيء معين. وهو ما يظهر في حالة الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي؛ إذ تعمل شبكات التواصل الاجتماعي (تويتر، فيسبوك) بحسب نسق معرفي ومنظومة خطابية-كما سنرى- يسمحان لمنتج هذا الخطاب بالنفاذ التفضيلي إلى هذه المنصات، حيث المسالك ممهدة للهيمنة الأيديولوجية عبر إستراتيجيات متعددة.
- إستراتيجية الغمر النصي: في اللغة غَمَر الماء الشيء غَمْرًا واغْتَمَره: علاه وغطَّاه، وجيش يَغْتَمِر كل شيء: يُغطِّيه ويستغرقه، وضارب في غَمْرَة أي سابح في ماء كثير، ودخلت في غُمارِ الناس وغَمارِهم أي في زحمتهم وكثرتهم(62). وتشير هذه المعاني إلى التدفُّق والانسياب في حركة الشيء من كل جانب، ويحصل ذلك من دون شك لأسباب وعوامل مختلفة، سواء لقوة حركة الشيء (عوامل ذاتية) أو للظروف المساعدة على ذلك التدفُّق والانسياب (عوامل خارجية). ويجسد هذا الوضع قوة حركة النفاذ التفضيلي لمنتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي عبر شبكات التواصل الاجتماعي (تويتر، فيسبوك)، وزخم انسياب النصوص وتدفُّق المنشورات التي يبثها أفراد العينة في سياق أحداث تواصلية معينة ترتبط بهوية الذات الإسرائيلية مثلًا أو مستقبلها، أو نصوص لها علاقة بتطورات الوضع الداخلي الفلسطيني والإسرائيلي أو العمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، أو فصول الحروب على قطاع غزة. فنلاحظ ما يشبه "التعبئة العامة" في صفوف منتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي الذين يتحوَّلون إلى كتلة أو وحدة مترابطة ومنظمة (كتيبة)، ويظهر بشكل واضح استعداداها وجاهزيتها وتأهبها لمواجهة موقف معين، كما لو أن هناك هيئة تحرير موحدة تشرف على نشاطها. فتتدفق النصوص والمنشورات والصور والفيديوهات والتعليقات التي تفيض بها حسابات أفراد العينة، ومن ثم تغمر شبكات التواصل الاجتماعي. وتتميز بوحدة نمط الخطاب الأيديولوجي الذي ينتجه أفراد هذه الكتلة، وبالتوارد أيضًا في بنية التلفظ لهذا الخطاب، وبالتجاوز في صوغ الأطروحات والرؤى والتعليقات والردود، فضلًا عن وحدة السياق الزمني للحدث التواصلي.
وهناك أمثلة كثيرة لما أسماه الباحث بالغمر النصي الذي ينتج عن النفاذ التفضيلي للخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ففي الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في صيف العام 2022 (الفجر الصادق)، يمكن أن نلاحظ الاتجاه العام لنمط الخطاب الذي تميز بالعسكرة؛ إذ تحوَّل جميع أفراد العينة إلى ما يشبه وحدة/كتيبة مكلفة بمهام التعبئة والدعم والمساندة لقوى الجيش الإسرائيلي وتعزيز صموده في الجبهة. فينتجون نصوصًا متشابهة المضمون تتدفَّق عبر الحسابات المختلفة (تويتر وفيسبوك) لأفراد العينة. ويُحرِّض هذا الخطاب أفراد الجيش على قتل الفلسطينيين، بل "وسحقهم سحقًا"، وهي دعوة لإبادة الفلسطينيين، كما يفخر بالإنجازات التي حققتها الآلة العسكرية الإسرائيلية في التدمير وقتل الأبرياء من الفلسطينيين. ولا تزال هذه النصوص (دعوات الإبادة) منشورة على شبكات التواصل الاجتماعي حتى بعد تحرير هذه الدراسة، ولم تحاول منصتا تويتر وفيسبوك النظر فيها أو تقييمها واتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها باعتبارها نصوصًا تحريضية تتجاوز كل الأعراف والقيم الأخلاقية في الأحداث التواصلية.
ويشير نمط هذا الخطاب وبنيته التلفظية (الممارسة الخطابية) إلى اقتران الذات المُتَكَلِّمَة بنوع مخصوص من الخطابات، وهو نمط أيديولوجيا العسكرة كما تُظهِر إستراتيجية الغمر النصي في عينة الدراسة، ثم تمليك هذا النمط من الخطاب لبعض أصناف الذوات، وهي الذات الإسرائيلية، وهو ما أسماه ميشيل فوكو بـ"التملك الاجتماعي للخطاب"(63). بينما لا تستطيع ذوات أخرى (الذات الفلسطينية) أن تنتج خطابًا مماثلًا له في البعد الرمزي ومناظرًا له في الطرح الأيديولوجي، ويسهم هذا التملك الاجتماعي في إخضاع الخطاب لمجموعة من الطقوس وتأطيره بعدد من المحددات انطلاقًا من النفاذ التفضيلي الذي تتمتع به الذات الإسرائيلية عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وهنا، تكرس هذه المنصات (تويتر وفيسبوك) السيطرة والهيمنة الخطابية للذات الإسرائيلية عبر تحكُّمها في مداخل الخطاب ومنافذه، ونمط التواصل (مكتوبًا أو مصورًا) وتمليك الذات الإسرائيلية لنمط مخصوص من الخطاب، أي التحكُّم في أفعال الكلام المسموح بها، واختيار المفردات والمصطلحات (القاموس اللغوي)، ومَنْ يتكلم؟ وكيف يتكلم؟ ومتى يتكلم؟ ويشير ذلك إلى قدرة الخوارزميات -باعتبارها خطابًا مُفَكَّرًا فيه- على إنتاج "الحقائق" كما تتصورها الذات الإسرائيلية، وتدخلها المادي في الترويج لخطابات معينة وتعزيز الرواية التي تدافع عنها؛ حيث تصبح شبكات التواصل الاجتماعي بمنزلة الحراس الجدد المراقبين لمنافذ المجال الرقمي.
وتثير حالة الهيمنة الخطابية للذات الإسرائيلية عبر النفاذ التفضيلي إشكالية أخرى أكثر تعقيدًا وترتبط بالنفاذ المُقَيَّد والمُتَحَكَّم فيه للخطاب الذي تنتجه الذات الفلسطينية، وهو ما يحول دون امتلاكها للخطاب والرواية أيضًا؛ الأمر الذي يعتبره البعض "تمييزًا رقميًّا" ضد المحتوى الفلسطيني. وقد عالجت هذه الإشكالية دراسات وتقارير أعدتها مراكز متخصصة، مثل مركز "صدى سوشال" الذي يرصد ويوثق الانتهاكات الرقمية ضد المحتوى الفلسطيني (تأسس في سبتمبر/أيلول 2017). فخلال الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة (الفجر الصادق)، في صيف 2022، وثَّق المركز أكثر من 360 حالة انتهاك للمحتوى الفلسطيني في شهر أغسطس/آب من العام نفسه، وجاءت المنصات التي تديرها شركة "ميتا" في أعلى المنصات ارتكابًا للانتهاكات بواقع 232 انتهاكًا على منصة فيسبوك توزعت ما بين حذف للمنشورات، ثم تقييد الوصول ومنع النشر واستخدام بعض الخصائص مثل البث المباشر والإعلانات والمشاركات في المجموعات لفترة زمنية معينة، وحذف الحساب بشكل كلي، إضافة إلى 53 انتهاكًا على إنستغرام وكانت في معظمها قصصًا رفعها أصحابها على المنصة، وتتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية في مدينة نابلس والهجمات العسكرية على القطاع. كما رصد المركز 40 انتهاكًا على منصة تويتر، تبعه 12 انتهاكًا على واتساب تمثَّلت في حظر أرقام الصحفيين، ومجموعات إخبارية، و9 انتهاكات على منصة تيك توك(64).
ويشمل التمييز ضد المحتوى الفلسطيني أيضًا الصحفيين، والمؤسسات الإعلامية التي تُعد أكثر الجهات عرضة للانتهاكات الموثقة؛ إذ بلغت 260 انتهاكًا في حق صفحات المؤسسات الإعلامية وحسابات الصحفيين، منهم من حذفت حساباتهم بشكل كامل وذلك بسبب تغطيتهم أخبارًا تتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية، ونقلهم قصصًا إنسانية فلسطينية(65).
تؤكد هذه النتائج، لاسيما على مستوى التمييز الرقمي ضد المحتوى الفلسطيني، ما أشارت إليه الدراسة بخصوص تأثير النفاذ المُقَيَّد للذات الفلسطينية عبر شبكات التواصل الاجتماعي في محاصرة الرواية الفلسطينية والتحكُّم في سياقات الخطاب وإنتاجه من خلال تحديد: مَنْ يستخدم المنصة؟ ومَنْ يشارك في الخطاب والحدث التواصلي؟ وما الذي ينبغي أن يقال؟ ومَنْ يتكلم؟ وماذا يقول؟ ما القاموس الذي يستخدمه في الخطاب؟ ومع مَنْ يتكلم ولمن توجه الذات المُتَكَلِّمَة خطابها؟ وهنا تبدو سلطة خطاب الخوارزميات في التحكُّم والضبط الاجتماعي من أجل الحيلولة دون تمكن الذات الفلسطينية من التملك الاجتماعي للخطاب، لذلك أطلقت عليها الباحثة، صفية نوبل "خوارزميات القمع"؛ إذ تعد العنصرية والتمييز من الطرق البنيوية الأساسية في عملها، وبروتوكولًا معياريًّا لبعض المنظمات على شبكة الويب(66)، لاسيما الشركات الكبرى المحتكرة للمعلومات، والتي تضع مصالحها التجارية والمالية فوق أي اعتبارات أخرى.
- إستراتيجية التلاعب الخطابي: تُعد هذه الإستراتيجية من مرتكزات مداخل التحليل النقدي للخطاب، وقد اهتم بها كثيرًا دارسو هذا الحقل، خاصة توين فان دايك، وقد عنى بها نشر المعلومات التي تصب في مصلحة الجهات والمؤسسات المهيمنة، أو محاولة عرقلة فهم هذه المعلومات التي لا تخدم مصالحها والعمل على تشويهها. ويقترن التلاعب الخطابي بنمط من التواصل والتفاعل أو الممارسات الاجتماعية التي تصب في مصلحة طرف واحد فحسب وتكون ضد المصلحة المفضلة لدى المتلقي، ويقدم أيضًا معلومات منحازة أو غير كاملة أو تدعم أحد الأطراف دون غيرها أو يحذف معلومات مهمة جدًّا أو يعمل على تزييف الحقائق أو الكذب، وغيرها من الأساليب بهدف التلاعب بعقول الناس ومعتقداتهم وآرائهم ومعارفهم والأيديولوجيات التي تسيطر على أفعالهم(67).
تستلهم الدراسة هذا المعنى الشامل لإستراتيجية التلاعب الخطابي التي تُقدِّم خلالها الذات المُتَكَلِّمَة معلومات مزيفة وكاذبة لتشويه الحقائق، ثم تقوم الوسائط الرقمية، وتحديدًا شبكات التواصل الاجتماعي، بالترويج لهذا الخطاب التلاعبي حتى لو انكشف زيف تلك المعلومات. وهو ما يجعل هذه المنصات تنخرط في الدعاية لأنماط أيديولوجية معينة، مثلما لاحظنا في دراسة خطاب أفراد العينة. فقد كانت منشورات كثيرة -بما في ذلك الصور والكاريكاتير- لمنتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي تقلب الحقائق وتُزَيِّف المعلومات حول تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في صيف 2022، وتحاول تشويه الذات الفلسطينية (حركة المقاومة)، وتفتيت مكوناتها عبر خلق حالة الانقسام في صفوفها وفي النسيج الاجتماعي الفلسطيني. لذلك كان هذا الخطاب يُحمِّل مسؤولية الضحايا الذين يسقطون في هذه الحرب إلى حركة الجهاد الإسلامي، أو ما يسميه "حركة الجهاد الإيراني"؛ حيث كان "الإطلاق الصاروخي الفاشل للجهاد الإسلامي سببًا في مقتل 16 بريئًا"، كما ورد في منشور لأفيخاي أدرعي (16 أغسطس/آب 2022)، أو أن "الجهاد ارتكبت مجزرة ضد أبناء شعبها نتيجة إطلاق صاروخ فاشل، ولم يقم الجيش الإسرائيلي بأي قصف في منطقة جباليا. فالإرهاب الفلسطيني يضحي بحياة المدنيين بينما إسرائيل تحافظ عليهم"، بحسب ما ذكر يوفال كينغ في تغريدة على تويتر، (7 أغسطس/آب 2022)، أو أن "حركة الجهاد الإيراني تذبح أطفال غزة"، مثلما ورد في منشور لميرلان أوهاد (7 أغسطس/آب 2022).
يبدو من خلال هذه المنشورات أن إستراتيجية التلاعب الخطابي مُؤَسِّسَة لأكثر من نمط أيديولوجي إسرائيلي، لاسيما أيديولوجيا العسكرة؛ حيث تقوم هذه الإستراتيجية بتجميل هوية الجيش الإسرائيلي والدفاع عن صورته وتشويه الذات الفلسطينية التي تمثِّل في نظر هذا الخطاب "العدو". كما تعمل بفاعلية في إطار أيديولوجيا تفتيت المجتمع الفلسطيني عبر توسيع حالة الانقسام بين فصائله والحاضنة الاجتماعية لحركات المقاومة. وتجد هذه الإستراتيجية صدى لها في الشبكات الاجتماعية (فيسبوك وتويتر) التي تتفاعل مع الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي فتعمل على نشره وترويجه، ولا تعرقله أو تحذفه أو تمنعه للحيلولة دون تشويه الجهات المتضررة منه.
وعلى الرغم من زيف الخطاب الإسرائيلي في تناوله لقضايا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أو بعض الأحداث المرتبطة بالاعتداءات الإسرائيلية التي تستهدف الصحفيين ووسائل الإعلام الفلسطينية، مثل تبني منتجي الخطاب الإسرائيلي للرواية الإسرائيلية الرسمية بشأن مقتل مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة؛ إذ حمَّل هؤلاء مسؤولية مقتلها إلى "المسلحين الفلسطينيين". فقد لقيت المراسلة حتفها -بحسب منشور لروني شالوم- خلال "إطلاق نار بين ميليشيات فلسطينية في مدينة جنين" (11 مايو/أيار 2022)، واعتبر ميرلان أوهاد أن "الأسلحة الأوتوماتيكية للمخربين الفلسطينيين"، كانت السبب المباشر في مقتل شيرين أبو عاقلة (11 مايو/أيار 2022)، أما أفيخاي أدرعي فذهب إلى أن "إطلاق النار العشوائي من قبل مسلحين فلسطينيين" أدى إلى مقتلها، واعتبر جاي معيان أن "إرهابيين فلسطينيين قتلوا" الصحفية شيرين أبو عاقلة (11 مايو/أيار 2022).
إذن، هذا التزييف في الوقائع والأحداث التي تهم الشأن الفلسطيني والكذب تَشْرَع له شبكات التواصل الاجتماعي منافذها، حتى يصبح خطاب مُهَيْمِنًا على أي خطاب آخر أو رواية مختلفة، ويمثِّل ذلك إستراتيجية في التلاعب الخطابي بالرأي العام لتزييف الوعي وخلق "حقائق بديلة" عما تؤكده شهادات الشهود والوثائق. وبذلك تكون شبكات التواصل الاجتماعي جزءًا من هذا الخطاب الذي ينحاز لسردية تحاول تجميل صورة الاحتلال الإسرائيلي.
- إستراتيجية التدوير: ويقصد بهذه الإستراتيجية إعادة تدوير أنماط الخطابات الأيديولوجية التي أنتجتها الذات المتكلمة/الإسرائيلية وذلك عبر حسابات أفراد العينة الذين يشكِّلون شبكة أو مجموعة متراصة تتقاسم نفس الأفكار وتشترك في ذات المنطلقات الأيديولوجية. ويهدف تدوير تلك الخطابات إلى توسيع نطاق ومساحة الغمر النصي لاستقطاب أكبر عدد من المستخدمين وتشكيل مجموعات مناصرة وداعمة للخطاب من غير الذات الإسرائيلية. وقد يكون للتلاعب الخطابي دور أكبر في هذا الهدف؛ حيث تسمح شبكات التواصل الاجتماعي لمنتجي الخطاب ليس فقط بالغمر النصي أو التلاعب الخطابي وإنما تمكنهم من إعادة نشر المعلومات المزيفة والأخبار الكاذبة والمفبركة. ولاحظ الباحث في دراسته لأنماط الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي نشاطًا كبيرًا لعملية التدوير بين حسابات أفراد العينة، خاصة فيما يتعلق بالمعلومات الزائفة والأخبار الكاذبة، مثل "إطلاق حركة الجهاد الإسلامي للصواريخ على أطفال قطاع غزة"، أو "قتل المسلحين الفلسطينيين لمراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة"، وغيرها من الوقائع، التي تبيِّن دور شبكات التواصل الاجتماعي في الترويج لهذه الخطابات المُضَلِّلة التي تُشوِّه صورة الذات الفلسطينية وتحمِّلها المسؤولية عما يحدث في الأراضي الفلسطينية، بينما تبدو صورة الاحتلال "نظيفة" و"طاهرة" تتبرَّأ من القتل والتدمير والتخريب.
خلاصة
تُظهِر أنماط الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي، وإستراتيجيات شبكات التواصل الاجتماعي في إنتاج الهيمنة الخطابية، دور أنظمة الخوارزميات في التملك الاجتماعي للخطاب والسيطرة على سياقاته، وهو ما يجعل الذات المتكلمة/الإسرائيلية تقترن بأنماط مخصوصة من الخطابات الأيديولوجية (الشرعنة، التعتيم، التوحيد، التفتيت، التشيؤ، العسكرة)، بينما لا تستطيع الذات الفلسطينية أن تنتج خطابًا مماثلًا له في البعد الرمزي، ومناظرًا له في الطرح الأيديولوجي. ويسهم هذا التملك الاجتماعي في إخضاع الخطاب لمجموعة من البنى الفكرية وتشكيل عدد من المجالات والموضوعات، وتأطيره بعدد من المحددات انطلاقًا من النفاذ التفضيلي الذي تتمتع به الذات الإسرائيلية عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
ويُبيِّن التملك الخطابي أن الأنظمة الخوارزمية لشبكات التواصل الاجتماعي ليست برامج وعمليات حسابية وتشفيرًا وترميزًا فقط، ولا أنظمة تنشأ من الفراغ، وإنما تمثِّل ممارسة خطابية وتأطيرًا لقيم وأفكار ومقولات معينة لها أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، أي أنظمة برامجية مرتبطة برؤى للعالم الاجتماعي وبالمصالح السياسية والتجارية وغيرها من الأجندة لتشكيل وصناعة اتخاذ القرارات. ومن خلال هذا الحضور المعرفي للخوارزميات يمكن ملاحظة القَدَارَة التي تتميز بها أنظمتها البرامجية على إنتاج ما تراه مُمَثِّلًا لـ"الحقيقة" أو "الحقائق" حول الأحداث والموضوعات والأشياء، وهو ما يجعل الخوارزميات جزءًا من آليات وديناميات السيطرة والسلطة والهيمنة الخطابية/الثقافية.
ويرتبط التملك الاجتماعي للخطاب أيضًا بالنفاذ التفضيلي لشبكات التواصل الاجتماعي؛ الأمر الذي فسح المجال واسعًا للذات الإسرائيلية لإنتاج أنماط أيديولوجية تعكس تصورًا معينًا للقضية الفلسطينية، ورؤية لعلاقتها بالذات الفلسطينية وللعالم أيضًا. وكانت هذه الأنماط الخطابية الستة المذكورة آنفًا تنصهر مع رؤى المؤسسات الإسرائيلية الرسمية في جميع المواقف والأحداث، خاصة العمليات العسكرية والحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة. كما أن قوة حركة النفاذ التفضيلي لمنتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي من خلال إستراتيجية الغمر النصي وتدفق المنشورات التي يبثها أفراد العينة، كان لها دور في "التعبئة العامة" في صفوف منتجي الخطاب الأيديولوجي الإسرائيلي الذين تحوَّلوا إلى كتلة/كتيبة مترابطة تتميز بوحدة نمط الخطاب الأيديولوجي الذي يُنتِجه أفرادها، وبالتوارد في بنية التلفظ لهذا الخطاب، وبالتجاوز في صوغ الأطروحات والرؤى والتعليقات والردود، فضلًا عن وحدة السياق الزمني للحدث التواصلي.
ويبدو أيضًا تأثير قوة حركة النفاذ التفضيلي في إستراتيجية التلاعب الخطابي التي تُقدِّم خلالها الذات المتكلمة/الإسرائيلية معلومات مزيفة تقلب الحقائق حول تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في صيف 2022، وتحاول تشويه الذات الفلسطينية (حركة المقاومة)، وتفتيت مكوناتها عبر خلق حالة الانقسام في صفوفها وفي النسيج الاجتماعي الفلسطيني. لذلك كان هذا الخطاب مثلًا يُحمِّل مسؤولية الضحايا الذين يسقطون في هذه الحرب إلى حركة الجهاد الإسلامي، ويقوم بتجميل هوية الجيش الإسرائيلي والدفاع عن صورته أمام الذات الفلسطينية التي تمثِّل في نظر هذا الخطاب "العدو". وتكرس هذه المنصات (تويتر وفيسبوك) السيطرة والهيمنة الخطابية للذات الإسرائيلية عبر تحكُّمها في مداخل الخطاب ومنافذه، ونمط التواصل (مكتوبًا أو مصورًا) وتمليك الذات الإسرائيلية لنمط مخصوص من الخطاب، أي التحكُّم في سياقاته. ويشير ذلك إلى قدرة الخوارزميات على إنتاج "الحقائق" كما تتصورها الذات الإسرائيلية، وتدخلها المادي في الترويج لخطابات معينة وتعزيز الرواية التي تدافع عنها؛ حيث تصبح شبكات التواصل الاجتماعي بمنزلة الحراس الجدد المراقبين للمجال الرقمي. ومن ثم تقاطع المصالح بين شبكات التواصل الاجتماعي والقوى المهيمنة على الخطاب.
نُشِرت الدراسة في العدد الثاني من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)
(1) توين فان دايك، الخطاب والسلطة، ترجمة غيداء العلي، ط 1 (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014)، ص 150.
(2) Adi Kuntsman, Rebecca Stein, Digital Militarism: Israel's Occupation in the Social Media Age, (Stanford, California: Stanford University Press, 2015), 95.
(3) جاي معيان (إعلامي في التليفزيون الإسرائيلي)، إيدي كوهين (صحفي إسرائيلي)، ميرلان أوهاد (محلل إسرائيلي)، يوفال كينغ (إعلامي وصحفي سابق)، روني شالوم (باحث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية)، مردخاي كيدار (باحث في جامعة بار إيلان)، إسرائيل بالعربية (حساب تويتر الرسمي لدولة إسرائيل)، أفيخاي أدرعي (المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي).
(4) نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبة، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009)، ص 233- 234.
(5) فان دايك، الخطاب والسلطة، مرجع سابق، ص 192.
(6) المرجع السابق، ص 64- 68.
(7) Elisenda Ardévol, Edgar Gómez-Cruz, "Digital Ethnography and Media Practices, The International Encyclopedia of Media Studies," December 2, 2013, "accessed December 10, 2022". https://bit.ly/3V1s45P.
(8) Ibid.
(9) David Beer et al., The Social Power of Algorithms, eds. David Beer et al., (New York: Routledge, 2018).
(10) Safiya U. Noble, Algorithms of Oppression: How Search Engines Reinforce Racism, (New York: New York University Press, 2018), 10-25.
(11) Cathy O'Neil, Weapons of Math Destruction, (New York: Penguin Books, 2016), 184.
(12) هانا فراي، أهلًا بالعالم: أن تكون إنسانًا في عصر الخوارزميات، ترجمة محمد جمال، ط 1 (دار كلمات للنشر والتوزيع، 2021)، ص 17-18.
(13) فاطمة الزهراء السيد، "الخوازرميات وهندسة تفضيلات مستخدمي الإعلام الاجتماعي"، مجلة لباب، (الدوحة، العدد 5، فبراير/شباط 2020)، ص 95.
(14) Beer, "The Social Power of Algorithms, in The Social Power of Algorithms, eds. David Beer et al., (New York: Routledge, 2018), 4.
(15) فلورا فانسان، "لابد من تثقيف الخوارزميات"، اليونسكو، أبريل/نيسان 2004، (تاريخ الدخول: 9 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3Zef142.
(16) Beer, "The Social Power of Algorithms," 10-11.
(17) Ibid, 11.
(18) ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، (بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، 2007)، ص 70-72.
(19) المرجع السابق، ص 20-37.
(20) Beer, "The Social Power of Algorithms," 6.
(21) فراي، أهلًا بالعالم، مرجع سابق، ص 18-20.
(22) السيد، "الخوارزميات وهندسة تفضيلات مستخدمي الإعلام الاجتماعي"، مرجع سابق، ص 100.
(23) المرجع السابق، ص 101-103.
(24) فان دايك، الخطاب والسلطة، مرجع سابق، ص 84.
(25) Michele Willson, "Algorithms (and the) Every Day," in The Social Power of Algorithms, eds. David Beer et al., (New York: Routledge, 2018), 141-146.
(26) Ibid, 148.
(27) هربرت شيلر، الاتصال والهيمنة الثقافية، ترجمة وجيه سمعان عبد المسيح، ط 1 (القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 2007).
(28) John B. Thompson, Ideology and Modern Culture, (Cambridge: Polity Press, 2007).
(29) فاركلوف، تحليل الخطاب، مرجع سابق.
(30) فان دايك، الخطاب والسلطة، مرجع سابق.
(31) Thompson, Ideology and Modern Culture, 53.
(32) Ibid, 53.
(33) محمد عجلان، "مفهوم الأيديولوجيا بين ماركس ولينين"، منوعات، 17 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3QGBHWQ.
(34) Thompson, Ideology and Modern Culture, 55.
(35) فاركلوف، تحليل الخطاب، مرجع سابق، ص 125.
(36) المرجع السابق، ص 35-36.
(37) Thompson, Ideology and Modern Culture, 8.
(38) Ibid, 58.
(39) فان دايك، السلطة والخطاب، مرجع سابق، ص 157.
(40) فاركلوف، تحليل الخطاب، مرجع سابق، ص 151-152.
(41) المرجع السابق، ص 157.
(42) Thompson, Ideology and Modern Culture, 60.
(43) ملفين ديفلير، ساندرا بول-روكيتش، نظريات وسائل الإعلام، ترجمة كمال عبد الرؤوف، ط 4 (القاهرة، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، 2002)، ص 353.
(44) "تاريخ إسرائيل أكثر من 3000 سنة"، إسرائيل تتكلم بالعربية، @IsraelArabic، 24 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3nroDdd.
(45) فان دايك، السلطة والخطاب، مرجع سابق، ص 476.
(46) روني شالوم، "اسحقوهم سحقًا!"، @Ronnyshalom، 6 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 24 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3we9aOT.
(47) "في مثل هذا اليوم"، إسرائيل تتكلم بالعربية، @IsraelArabic، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 24 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3IV9v0x.
(48) "على الذين ينتحلون اسمًا رومانيًّا دخيلًا على المنطقة..."، ليفي، @lyfy59906109، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 24 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3klONN2.
(49) "بالأرقام.. حصيلة 66 ساعة من العدوان الإسرائيلي على غزة"، الخليج الجديد، 8 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3JaBXf2.
(50) "خلال عملية الفجر الصادق"، @AvichayAdraee، 16 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3ksj7FJ.
(51) "الجهاد الإسلامي ضد أطفال غزة، هل هذا جهاد؟"، kedar_mordechai@، 7 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3ZTuCqf.
(52) عبد الله الغذامي، ثقافة تويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير، ط 1 (المغرب، المركز الثقافي العربي، 2016)، ص 105.
(53) "إنجازات عظيمة لقواتنا المسلحة الباسلة"، Ronnyshalom@، 7 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3QRcRna.
(54) "أبناء إسماعيل هنية"، @dredycohen، 12 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3QLmHHl.
(55) Hananya Naftali, "The Palestinian propaganda…," @HananyaNaftali, June 8, 2022, "accessed January 25, 2023". https://bit.ly/3kuepYc.
(56) "نحن شعب لا يعرف الانكسار"، أفيخاي أدرعي، @AvichayAdraee، 8 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3IWG0vf.
(57) "مؤشر العنصرية والتحريض 2021: تضاعف العنصرية والتحريض ضد الفلسطينيين والعرب خلال العام 2021"، المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 17 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3WEVZRS.
(58) Adi Kuntsman, Rebecca Stein, Digital Militarism: Israel's Occupation in the Social Media Age, (Stanford, California: Stanford University Press, 2015), 95.
(59) Ibid, 92-95.
(60) Rebecca Stein, Screen Shots: State Violence on Camera in Israel and Palestine, (Stanford, California: Stanford University Press, 2021), 136.
(61) "اسحقوهم سحقًا!"، روني شالوم، @Ronnyshalom، 6 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3we9aOT.
(62) ابن منظور، لسان العرب، (بيروت، دار صادر، د.ت)، ج 11، ص 81-82.
(63) فوكو، نظام الخطاب، مرجع سابق، ص 23.
(64) "صدى سوشال: انتهاكات ميتا الأعلى منذ بداية العام...فيسبوك وإنستغرام تسكت الفلسطينيين"، 28 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2023)، https://bit.ly/3WMfzfd.
(65) المرجع السابق.
(66) Noble, Algorithms of Oppression, 4.
(67) فان دايك، الخطاب والسلطة، مرجع سابق، ص 437-444.