يكشف تتالي العمليات المسلحة في تونس وتصاعدها النوعي منذ سنة أن تحولات متسارعة تحدث في العقل المنظِّم لهذه الهجمات. فبعد استهداف قوات الأمن والجيش انطلاقًا من المرتفعات الغربية في البلاد، تتجه الهجمات منذ سنة إلى قلب المدن في إطار عمليات تدل على جرأة الجماعات المسلحة وشدة تنظيمها ودقة مخططاتها وقوة تصميمها. في المقابل، ورغم تحسُّن قدرة السلطات على مواجهة المجموعات وملاحقتها، إلا أن قصورًا استعلاميًّا كبيرًا لا يزال يمنع الحكومة من استباق الهجمات والحدِّ من الخسائر التي تتسبب فيها. وقد جاء هجوم بن قردان ليكون منعرجًا آخر في نشاط المجموعات المسلحة التي خططت، فيما يبدو، من خلال هذه العملية لإنشاء كيان مستقر بهذه المدينة الحدودية كمقدمة للتوسع نحو مناطق أخرى، تحت اسم إمارة بن قردان. لكن سرعة ردِّ فعل القوات على الميدان والتلاحم الكبير بينها وبين سكان المدينة جعل الهجوم هزيمةً لتنظيم الدولة في أول محاولة جدية له للاستقرار بتونس؛ ما قد يعد بأنشطة انتقامية في قادم الأيام ويضع أمام السلطات تحديات كبيرة إضافية.
مقدمة
وقعت "غزوة بن قردان" يوم الاثنين، 7 مارس/آذار 2016، ضمن سياق سياسي وعسكري تميز بتطورات وضع تنظيم الدولة في ليبيا وارتباك الأداء الحكومي في تونس؛ حيث عرفت ليبيا عملية عسكرية كبيرة لصد هجوم تنظيم الدولة في مدينة صبراتة، وتزايد الجدل حول موقف تونس من التدخل العسكري الغربي في ليبيا. وداخليًّا، استمرار هشاشة الوضع السياسي، وتداعيات الانقسام في حزب نداء تونس الحاكم. بالإضافة إلى التحديات التي تواجه المنظومة الأمنية التي عرفت تطورًا خاصًّا، بعد قيام منتسبين للنقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي باقتحام مقر رئاسة الحكومة بالقصبة.
تتميز بن قردان باعتبارات خاصة ترشحها لأن تكون هدفًا لتنظيم الدولة بليبيا، فهي إحدى نقاط الإمداد المهمة له بالمقاتلين والتواصل مع شبكاته داخل تونس للاستعانة بهم في ضمان تواصله مع العالم الخارجي، وهي مدينة حدودية تعيش على التهريب مما يعني أن ارتباطها بمنظومة الدولة التونسية ضعيف وأن قبضة السلطة عليها مرتخية، وقد تضررت اقتصاديًّا من الساتر الترابي الذي أقامته السلطات التونسية مع ليبيا.
انتهت "غزوة بن قردان" بهزيمة ساحقة للمجموعة المسلحة، وأحدث انتصار القوات التونسية المسلحة في هذه المعركة شعورًا كبيرًا بالفخر لدى التونسيين في خضمِّ انقسام سياسي لا يزال جزء مهم من الإعلام يقوم بتغذيته. لقد جاء هجوم تنظيم الدولة على مدينة بن قردان ليكشف التطور النوعي في عمل المجموعات المسلحة منذ التفجيرات التي شهدتها تونس في السنة الماضية، خلال الهجمات المحدودة على متحف باردو وفندق أمبريال بسوسة، وهو ما يعني أن الفترة القادمة قد تشهد تصاعدًا في نشاط هذه المجموعات التي ستستفيد من الثغرات في أداء الأجهزة الرسمية التي كشفتها عملية بن قردان.
تطور عمل المجموعات المسلحة
إن المتتبع لنشاط الجماعات المسلحة خلال السنوات الأخيرة يلاحظ التصاعد النوعي للعمليات وانتشارها الجغرافي؛ فمنذ العمليات الأولى التي استهدفت قوات الجيش، والتي انطلقت من جبل الشعانبي غربي البلاد (محافظة القصرين) وتركُّز هذه العمليات لأكثر من سنتين على تخوم السلاسل الجبلية غرب البلاد صعودًا إلى محافظة الكاف، كانت بعض المجموعات الصغيرة تقوم من حين لآخر بمهاجمة بعض المراكز العمرانية أو تفجير ألغام على الطرقات التي يستعملها العسكريون في ملاحقتهم لها.
ومنذ إعلان "أنصار الشريعة" تنظيمًا محظورًا في عهد حكومة الترويكا الثانية، بدأ يحصل تحوُّلٌ في هيكلة الجماعات المسلحة وارتباطاتها العابرة للحدود؛ حيث شهدت المجموعات المنتمية للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عملية رحيل حقيقي إلى تنظيم الدولة. فبات تنظيم الدولة قادرًا على أن يحظى بانتشار أوسع من المجموعات الصغيرة الموالية لتنظيم القاعدة، خاصة في المدن، فتطورت العمليات التي تستهدف السلطة ومرافق الدولة بشكل نوعي.
وكان من أهم العوائق أمام تحقيق تنظيم القاعدة اختراقات كبيرة هو انفصاله عن الكثافة الديمغرافية وانعزاله في المناطق الجبلية؛ حيث كان تطور عمليات القوات الأمنية والعسكرية يضيق عليه الخناق بشكل ملحوظ. وفي شهر مارس/آذار من السنة الماضية تعرَّض متحف باردو لهجوم من خلية صغيرة من المسلحين المقيمين بضواحي العاصمة، فسقط ضحايا من السياح الأجانب، في منطقة ملاصقة لمجلس نواب الشعب وبين ثلاث ثكنات للجيش والشرطة، بل أمام مركز أمني كبير.
وأدَّى المسار الخاطئ الذي اتخذته التحقيقات إلى تمكُّن نفس الخلية من تنفيذ هجوم على فندق أمبريال بمدينة سوسة الساحلية في صيف السنة الماضية، ونتيجة الأداء الضعيف لقوات الأمن أثناء العملية والبطء الشديد في التعامل مع المهاجمين حدثت خسائر كبيرة في صفوف السياح الأجانب. لكن انعكاسات عملية فندق أمبريال كانت أكبر مما وقع في ساحة الفندق؛ حيث فرضت بعض الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا التي استهدف الهجوم العشرات من مواطنيها، تعاونًا أمنيًّا على السلطات التونسية وعملية تقييم لهياكل عمل الوزارة، وأجبرت السلطة على القيام بتحقيق داخلي لضبط الاختلالات فأدَّى إلى تغييرات واسعة في صفوف القيادات الأمنية العليا. ولم يمنع ذلك وقوع هجوم شارع محمد الخامس الذي استهدف حافلة أعوان الأمن الرئاسي على بُعد بضع عشرات الأمتار من وزارة الداخلية نفسها؛ مما أكَّد الاختلالات الكبرى على مستوى جهاز الاستعلام، فَجَرَتْ تغييرات أخرى في القيادات الأمنية، ثم تغيير وزير الداخلية تحت غطاء تحوير حكومي.
إن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من خلال العمليات التي شهدتها البلاد في السنة الماضية، وقبل هجوم بن قردان هي حالة الارتخاء الاستعلامي للأجهزة الأمنية وبطء الرد على المهاجمين؛ ما أوحى بعجز الأجهزة الرسمية عن استباق الهجمات أو حتى التقليل من الخسائر الناجمة عنها. كما أن التنافس بين الأجهزة الذي ظهر على سبيل المثال في الصراع المكتوم بين فرقة مقاومة الإرهاب بالقرجاني (التابعة للشرطة) والفرقة الأولى لمقاومة الإرهاب بالعوينة (التابعة للحرس الوطني) أدَّى إلى إضاعة الكثير من الوقت الثمين على الحكومة في مواجهة ظاهرة العنف المسلح.
ويبقى هنالك جزء سياسي داخل هذا الصراع؛ حيث تتدخل النقابات الأمنية والإعلاميون والأجهزة الأخرى من أجل إحراز نتائج بغضِّ النظر عن مطابقتها للواقع؛ ما يزيد مشكل الاستعلام حدَّة ويشوِّش الأداء العام للدولة. ويُذكَر في هذا السياق أن استعمال فرقة القرجاني أساليب استنطاق غير فعالة للمتهمين في هجوم باردو قد أدَّى إلى اعترافات غير صحيحة دفعت بالتحقيقات في اتجاه خاطئ تمامًا؛ مما جعل نفس الخلية المسلحة تنفذ عملية فندق أمبريال لاحقًا.
التغييرات المتسارعة في القيادات الأمنية العليا، والتي لا تخلو أحيانًا من الاعتبارات السياسية ولا تتم بمعزل عن نشاط النقابات الأمنية، لا تؤتي نتائج إيجابية بالضرورة؛ حيث تتعرض القيادات الأمنية لضغط كبير ينتقد أداءها حتى في وسائل الإعلام فيترسخ انطباع عدم الاستمرار في عمل الأجهزة، وهو ما يتعارض تمامًا مع طبيعة العمل الأمني الناجح. علاوة على أن مسار التفكك في الأجهزة الأمنية لا يبدو أنه سيتوقف قريبًا، رغم أنه يمنع تحقيق نتائج كبيرة على مستوى الاستعلام واستباق الهجمات، ويجعل القوات العاملة على الأرض مفتقدة للمعطيات التي لا تصلها دقيقة أو في الوقت المناسب.
سياق الهجوم وتداعياته
حدث هجوم بن قردان في هذا السياق العام لأداء الأجهزة الأمنية، واستطاع المهاجمون مباغتة المدينة والقوات العسكرية والأمنية المتمركزة فيها، رغم توقع الرأي العام، وليس الأجهزة الأمنية العليا فقط، هجومًا على إحدى المدن الحدودية منذ أشهر طويلة، وخاصة بعد الهجوم الذي تعرضت له صبراتة الليبية فأوقع عشرات القتلى في صفوف التونسيين الملتحقين بتنظيم الدولة في ليبيا.
وبعيدًا عن تفاصيل الأحداث التي هزَّت المدينة منذ الساعة الخامسة من فجر يوم الاثنين، 7 مارس/آذار، والعمليات التي تواصلت، اشتباكًا وملاحقةً وتمشيطًا، طيلة الأسبوع الموالي، فإن كل الروايات تؤكد القصور الاستعلامي الكبير من ناحية، وسرعة ردِّ فعل العسكريين والأمنيين ميدانيًّا في الوقت نفسه. ولم يختر تنظيم الدولة مدينة بن قردان لمجرد قربها من الحدود الليبية، بل لاعتبارات أكثر تعقيدًا؛ حيث تتميز بكثافة نشاطها الاقتصادي القائم أساسًا على المبادلات مع ليبيا، وهي في معظمها من التهريب الذي يتم أمام أعين السلطة أو وراءها. ومنذ سنوات طويلة يقصد التونسيون هذه المدينة الجنوبية للتسوق؛ ما يعني أن عدد الغرباء عن المدينة مرتفع طيلة أيام الأسبوع، مما يعوق التعرف على الأفراد المندسين من خارج المنطقة للقيام بأعمال خارجة عن القانون. ومما عقَّد التعرف على المجموعة أن عددًا معتبرًا من المهاجمين كانوا من أبناء المدينة نفسها، حيث خططوا للهجوم بتكتم شديد منع حتى أفراد عائلاتهم من ملاحظة سلوك مستغرب يمكن أن يكشف المخطط.
توضِّح مجريات العملية دقة المعطيات التي كانت بيد المهاجمين؛ حيث نفَّذوا اغتيالات دقيقة ضد بعض المسؤولين الأمنيين منذ بدء العملية، وكان هجومهم متزامنًا على مراكز القيادة والتحكم الأمنية والعسكرية، وسيطروا على وسط المدينة لبضع ساعات دون أي تدخل أمني. وقبل ذلك استطاعوا إدخال عناصر أخرى من ليبيا المجاورة ومن بقية جهات البلاد، وقاموا بإيوائهم لأيام بتكتم شديد في انتظار لحظة الهجوم. وقد حدث كل ذلك وأجهزة الاستعلام غائبة تمامًا رغم التحذيرات المتتالية، وتوقع الرأي العام نشاطًا انتقاميًّا لهجوم صبراتة وللعملية التي أودت، قبل 7 مارس/آذار، بخلية مسلحة في نفس المدينة، قُتل كل أفرادها. وقد اضطر الهجوم المفاجئ القوات العسكرية والأمنية المتوفرة (عطلة نهاية الأسبوع) إلى مواجهة مسلحين فاق عددهم المئة، على أدنى تقدير، بمفردها لساعات، قبل أن يصل التعزيز الأمني والعسكري من المحافظات القريبة وبخاصة قوات النخبة. ولعل من أهم الأدلة على عدم استعداد الأجهزة أن الثكنة العسكرية على تخوم المدينة لم يكن فيها، ساعة الهجوم، قيادات ميدانية عليا قادرة على تنظيم التصدي وأخذ المبادرة مجددًا.
كل الثغرات الاستعلامية تم تجاوزها بفضل سرعة ردِّ الفعل لدى صغار الضباط والجنود؛ حيث أفشلت استماتتهم الهجمات على مراكز السيادة حتى قبل أن تصل التعزيزات وقوات النخبة. ومن جهة المواطنين، فإن عدم تعاونهم مع المسلحين قد أسقط مبدأ الحاضنة الشعبية، ليشرَع بعد ذلك الأهالي في إسناد القوى العسكرية والأمنية في ملاحقة المسلحين وتمشيط المدينة بحثًا عن الفارِّين منهم، طيلة أسبوع كامل.
من منطلق عسكري بحت، استطاعت السلطة بسرعة قلب الهجوم المباغت إلى انتصار ساحق على المسلحين؛ حيث قتلت أكثر من خمسين منهم، واعتقلت ما لا يقل عن عشرة من قيادات الهجوم والعناصر المشاركة فيه. ومكَّن تعاون بعض المعتقلين من كشف عدَّة مخازن أسلحة بالمدينة وعلى تخومها، أظهرت حجم الخطر الذي كان يهدد المدينة، ولكنها أظهرت أيضًا حجم الثغرات في منظومة الاستعلام؛ ذلك أنه في ما عدا مخازن صغيرة تحت الأرض، فإن معظم الأسلحة والذخائر اكتُشفت في منازل مهجورة.
وأظهرت التحقيقات الأولية مع المعتقلين أن الهجوم كان مقدمة لإعلان إمارة بن قردان كأول موطئ قدم لتنظيم الدولة في تونس، وكشفت أيضًا مستوى التكتم بين عناصر المجموعة وسهولة تنقلهم من وإلى خارج المدينة، وعلى جانبي الحدود. ولم تكن للساتر الترابي، الذي أنجزته الحكومة وبلغت تكلفته مليارات، فاعلية تُذكر لصدِّ المهاجمين، مثلما أنه لم يكن له أي جدوى لمكافحة عمليات التهريب. لكن العملية أظهرت أيضًا ما هو أهم على المستوى العام، وهو حالة الوحدة بين المواطنين والأجهزة الأمنية والعسكرية التي لولاها لَمَا أمكن دحْر الهجوم وإيقاع كل تلك الخسائر في صفوف المسلحين.
على المستوى العام، وقعت كل من الأجهزة الأمنية وتنظيم الدولة في خطأ كان قاتلًا للطرف الثاني، وكاد أن يكون قاتلًا للطرف الأول، وهو الخطأ المتعلق بموقع الأهالي في تلك المواجهة. فقد اعتُبرت منطقة بن قردان، والمدن والقرى الحدودية، طيلة سنوات، مناطق خارجة عن الدولة بمقتضى نشاطها الاقتصادي القائم على تهريب السلع من ليبيا المجاورة فسادت لذلك علاقات متوترة بين سكانها والسلطات الأمنية. وزادت الانتخابات الأخيرة، منذ سنة، من التوتر بين الطرفين حيث درج عدد من كبار مسؤولي حزب نداء تونس، ورئيسه، الذين فازوا بالانتخابات التشريعية والرئاسية على وصم الجنوب وأهله بكونهم حاضنة للإرهاب، واعتبار التهريب والإرهاب نشاطين متلازمين ومتكاتفين، فصرَّح وزراء في الحكومة الحالية أثناء نفس الحملة الانتخابية بأن الجنوب منطقة خارجة عن الدولة لأن "الحداثة لم تصل إليها"، بل وجرت دعوة الأهالي إلى "العودة للسياق الوطني" كتأكيد على أنهم خارجه.
وقد ارتكب تنظيم الدولة الخطأ نفسه، حين اعتبر أن اقتصاد التهريب والتوتر بين الأهالي والسلطة، وعمليات التشكيك المتواترة في وطنية سكان المناطق الحدودية من طرف قسم من الطبقة السياسية والإعلامية، يمكن أن يوفر الظروف لنشأة حاضنة لتنظيم الدولة. وذلك ما يفسِّر أن قسمًا من المجموعة المسلحة التي هاجمت بن قردان اتجهت إلى وسط المدينة ودعت المواطنين إلى "مواصلة أعمالهم بشكل طبيعي"، وأن تنظيم الدولة جاء ليحمي أنشطتهم وأن المستهدف هو "الطاغوت" فحسب. وبالنظر إلى كثافة عدد أبناء المدينة من بين المشاركين في الهجوم، فربما اعتقد المهاجمون أن لهم ما يكفيهم من السند الاجتماعي ليحظوا بالقبول في المدينة؛ حيث نقلت بعض التحقيقات مع المقبوض عليهم حالة الإحباط من ردِّ فعل السكان الذي كان معاديًا لهم.
وبغضِّ النظر عن قصص البطولة الحقيقية التي تنقلها الروايات عن الأحداث، والتي بدأ البعض منها في التحول إلى سردية وطنية، فإن الأهالي هم مَنْ مكَّن السلطة من تحقيق الانتصار في المواجهة. على الرغم من أن الأحداث وقعت في وسط تقليدي يقوم على التضامن العائلي والقَبَلي المترسخ؛ حيث لم يكن من السهل أن يلاحق الآباء أبناءهم والشبان أبناء عمومتهم للقبض عليهم أو قتلهم في تعاون كبير مع السلطات.
إجراءات متوقعة
سقط في هجوم بن قردان عدد من المدنيين من بين الأهالي الذين خرجوا لمطاردة المسلحين، نتيجة للحماس الشديد الذي أبداه سكان المدينة في التعاون مع قوات الأمن والحرس والجيش. بل رفض الأهالي الاستجابة لطلب السلطة بالابتعاد عن مناطق الاشتباك إصرارًا منهم على المساعدة، إلا أنهم احترموا في الوقت نفسه حظر التجول المفروض ليلًا على المدينة لتمكين القوات من تفتيش الأماكن المشبوهة. بالموازاة مع ذلك، لعبت شبكات التهريب دورًا بارزًا في الحدِّ من الخسائر عبر اقتفاء الأثر وتوجيه السلطات إلى أماكن التغلغل المحتملة للمسلحين، ملاحقة ومنعًا لأي إسناد خارجي لهم. وتشير الروايات إلى حالة الجوع والإنهاك الشديد التي كانت عليها العناصر المقبوض عليها؛ ما يعني أنهم حُرموا من أي تعاطف من قبل الأهالي، وأنَّ يأسهم من أقاربهم منعهم من طلب أية مساعدة منهم.
توضح كل المعطيات أن العلاقة الجيدة بين السلطات والأهالي يمكن أن تعوِّض الثغرات في منظومة الاستعلام، وأن مجهودًا أكبر لاحتضان الدولة للسكان في المناطق المهددة بالعمليات المسلحة هو الضمان الأول في مواجهة هذه المجموعات. وقد أحدث هجوم بن قردان والانتصار على المجموعة المسلحة حالة من الإجماع الوطني بين التونسيين، وأكَّد ضعف حظوظ تنظيم الدولة في الاستقرار بتونس وإقامة إمارة بأية جهة من جهاتها. لكن حالة من الندم المكتوم تسيطر على جزء من الطبقة السياسية والإعلامية بسبب طعنها في وطنية سكان المناطق الحدودية، خاصة بعد الاستقبال الشعبي الكبير الذي حظي به رئيس الحكومة أثناء زيارته المدينة أسبوعًا بعد الهجوم، أعقبها إعلان الحكومة حزمة من الإجراءات التنموية العاجلة لفائدة المنطقة، وهو دليل واضح على استيعاب الحكومة الدرس من الأحداث.
من جهة أخرى، ورغم توقع أن تقوم المجموعات المسلحة بردود انتقامية ضد المدنيين في المستقبل، وبعمليات نوعية للرفع من معنوياتها بعد هزيمة بن قردان، فإن الأكيد أن أمل تنظيم الدولة في توفير حاضنة شعبية تعرض لنكسة كبيرة.
وعلى المستوى التقني، يمكن أن تأخذ الهجمات المتوقعة شكل تفجيرات في صفوف المدنيين، كما يمكن أن تستهدف بعض مراكز السيادة من مبان رسمية أو سجون، وهو ما ينذر بمنعرجات أخرى في النشاط المسلح قد تُوقِع خسائر جسيمة إذا لم يقع سدُّ الثغرات في منظومة الاستعلام ووضع خطط استعجالية للتعامل مع التهديدات المحتملة.
قد تدفع معركة بن قردان الحكومة إلى التوقف عن الربط الكامل في ذهن المسؤولين بين التهريب والإرهاب، وتقنين بعض الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية من أجل تقوية ولاء المواطنين وتعاونهم.
وقد تدفع المصالح المشتركة بين السلطات التونسية والفصائل الثورية الليبية المسلحة التي تسيطر على الجانب الآخر من الحدود في ليبيا إلى التعاون لمواجهة تنظيم الدولة في البلدين؛ حيث اتضح أن قوات تابعة "لفجر ليبيا" تتعاون مع الأجهزة الأمنية التونسية في ملاحقة المسلحين التونسيين على جانبي الحدود؛ وهو ما يؤدي إلى القول بأن التصريحات الرسمية التونسية المتسرعة والمتشنجة ضدَّ بعض الفصائل الليبية المسلحة بعد كل هجوم مسلح في تونس يعيق فرصة التعاون المتاحة بين الجهتين.
آفاق الأمن
إذا كان هجوم تنظيم الدولة على بن قردان قد فشل على المستوى الميداني، فإن أكبر فشل لهذا الهجوم هو في دفع السكان إلى التعاون الوثيق مع السلطات؛ فقد استطاع أهالي بن قردان تجاوز روابط الانتماء القبلي والعائلي، ورفضوا غياب الدولة رغم أنه يضر بنشاط التهريب، أحد المصادر الهامة للاقتصاد بالمنطقة. في المقابل، بيَّنت مجريات الأحداث من الجانب التونسي أن الأجهزة الرسمية في حاجة إلى تمتين علاقاتها بالأهالي وتلبية حاجاتهم الاقتصادية والاجتماعية.