تأثيرات الإعلام الرقمي

تقدِّم الورقة قراءة نقدية لكتاب "تأثيرات الإعلام الرقمي" للأكاديمي والباحث الأميركي، وليام جيمس بوتر. ويتناول الكتاب أهمية دراسة تأثير الإعلام الرقمي في الأفراد والمجتمعات، وتحديد ما إذا كانت تأثيراته مختلفة عن تأثيرات وسائل الإعلام التناظرية/التقليدية التي جرت دراستها سابقًا. واعتمد المُؤلِّف على مجموعة كبيرة من الدراسات المعمقة التي تبحث في تأثير الإعلام الرقمي، والتي تُظهر أن وسائل الإعلام الجماهيرية تؤثر بشكل مستمر ومتراكم في الأفكار والمعتقدات والعواطف والسلوك وفي كيفية تفاعل الناس مع بعضها البعض. وتحاول الورقة تحليل أهم الأطروحات التي استند إليها الأكاديمي بوتر حول تأثير الإعلام الرقمي وإظهار نقاط القوة والضعف فيها، والأدوات التي استخدمها في الفهم والتفسير والتحليل، لمساعدة القارئ على فهم الأطروحات المختلفة للكتاب.
(الجزيرة)

مقدمة

في عالم يتسم بالتغير المستمر والسريع، باتت وسائل الإعلام جزءًا أصيلًا من تشكيل المجتمعات المعاصرة لما لها من تأثير بالغ الأهمية في معظم أوجه النشاط الإنساني. لذلك فإن دراسة تأثير وسائل الإعلام لا تُعد مجرد موضوع ذي طابع أكاديمي فحسب، بل هي مهمة حيوية لفهم كيفية تأثير الإعلام في حياة الناس والمجتمعات. منذ بدايات القرن العشرين، شهدت دراسات تأثير وسائل الإعلام تطورًا واضحًا، وأدت إلى ظهور العديد من الأطروحات والنظريات التي تشرح تأثير وسائل الإعلام. تبدأ هذه النظريات بالتأثير القوي والمباشر، الذي يُعتقد أن وسائل الإعلام لديها قدرة قوية على تشكيل آراء ومواقف الجمهور، ثم تحورت هذه النظريات لتشمل التأثير المحدود والمعتدل، الذي يرى أن قوة وسائل الإعلام محدودة بسبب عوامل مختلفة، مثل العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية للجمهور. وقد تطورت هذه النظريات على مرِّ الزمن لتشمل مفاهيم، مثل التوجيه الاستدلالي والتأثير الضمني. وتَعاظَم هذا التأثير مع تحول العالم إلى العصر الرقمي، حيث أصبح الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي أساسيًّا في حياة الناس اليومية.

إن الخصائص الفريدة التي يتميز بها الإعلام الرقمي، بأشكاله المختلفة، تجعله أكثر تأثيرًا في الأفراد والجماعات والكيانات المختلفة، وتمس التأثيرات جوانب بالغة الأهمية كالعلاقات الاجتماعية، والمعرفة والصحة النفسية، والهوية، والقيم والعادات والتقاليد، والسياسة والعلاقات الدولية مع تحديات أخلاقية وقانونية تستوجب دراسة متأنية لهذا الموضوع. وفي هذا السياق، تأتي قراءة كتاب الأكاديمي وليام جيمس بوتر (William James Potter): "تأثيرات الإعلام الرقمي".

يتناول الكتاب أهمية دراسة تأثير الإعلام الرقمي في الأفراد والمجتمعات، وتحديد ما إذا كانت تأثيراته مختلفة عن تأثيرات وسائل الإعلام التناظرية التي جرت دراستها سابقًا. يحتوي الكتاب على اثني عشر فصلًا، تدرجت موضوعاتها من شرح البيئة الحالية لوسائل الإعلام الرقمية ومقارنتها بالإعلام التماثلي (التقليدي) إلى تعريف مفهوم "تأثير وسائل الإعلام" ووصولًا إلى صلب الموضوع وهو "تأثيرات الإعلام الرقمي". بالإضافة إلى الفصول يحتوي الكتاب على ثبت بالمصطلحات وقائمة المراجع، فضلًا عن مقدمة الكتاب وتعريف بالكاتب. اعتمد وليام جيمس بوتر في كتابه على مجموعة كبيرة من الدراسات المعمقة التي تتناول تأثير الإعلام الرقمي، والتي تُظهر أن وسائل الإعلام الجماهيرية تؤثر بشكل مستمر ومتراكم في الأفكار والمعتقدات والعواطف والسلوك وفي كيفية تفاعل الناس مع بعضها البعض.

تزداد أهمية هذا الإنتاج المعرفي النوعي من كون كاتبه، البروفيسور وليام جيمس بوتر، الذي تتنوع خبرته الأكاديمية والبحثية، يجمع في تخصصه بين التكنولوجيا والعلوم الإنسانية والعلاقة بينهما؛ حيث يتمتع بفهم عميق لآليات عمل التكنولوجيا وكيفية إحداث الأثر في الجمهور من خلال عمله الأكاديمي في دراسات الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا سانتا باربرا. يعتبر بوتر عالمًا رائدًا في مجال دراسة تأثيرات وسائل الإعلام، فقد ألَّف وشارك في تأليف العشرات من الكتب والمقالات حول هذا الموضوع، بما في ذلك تأثير وسائل الإعلام في الأفراد والمجتمعات، والإعلام والعنف، والإعلام والصحة/الصحة النفسية، والتربية الإعلامية، والإعلام الجديد. ويُعد من أوائل الباحثين الذين بدؤوا في دراسة تأثير العنف الإعلامي في الصحة النفسية والسلوك الإنساني. وقاد وشارك في العديد من المشاريع البحثية في هذا المجال في تسعينات القرن الماضي وما بعدها، مثل دراسة تأثير العنف في الإعلام على الأطفال والمراهقين، ودراسة تأثير مشاهد العنف في الإعلام على المجتمعات العربية، وغيرها من الدراسات الأخرى. وكانت أبرز مساهماته في هذا المجال بحثه المعنون بـ"النظر في سياسات حماية الأطفال من العنف التليفزيوني"(1)، و"العنف الإعلامي والأطفال: دليل كامل للآباء والمهنيين"(2).

في الوقت الحالي، يحرر بوتر موسوعة "العنف الإعلامي" التي ستكون الأولى من نوعها في أدبيات تأثيرات وسائل الإعلام، كما يعكف على تطوير نظرية عامة لوسائل الإعلام، يتم من خلالها دمج النظريات ونتائج الأبحاث المتعلقة بصناعة الإعلام وتأثيرها في الجمهور بغية التوصل إلى إطار موحد وشامل لفهم وتحليل أدوار وسائل الإعلام وتأثيرها في المجتمعات بشكل أفضل(3).

في هذه الورقة يحاول الباحث تقديم قراءة نقدية في أطروحات وليام جيمس بوتر ومقاربتها مع أطروحات أخرى لاستكشاف مختلف التأثيرات الممكنة للإعلام الرقمي في المجتمعات.

1. بيئة وسائل الإعلام: الحتمية الرقمية وحتمية التأثير

يشرح المؤلِّف تطور وسائل الإعلام من الوسائط التقليدية "التناظرية" إلى الوسائط الرقمية من خلال تعريفها ومقارنتها وتبيان التشابهات والاختلافات بما يوفر إطارًا شاملًا لفهم تطور وسائل الإعلام وتأثيرها في حياة الناس. وفي هذا السياق، يناقش الفرق الجوهري بين خصائص الإعلام التناظري والإعلام الرقمي بالنسبة لقرار النشر (الأجندة). فالإعلام التناظري يتميز بتفاعل محدود مع الجمهور بسبب الاعتماد على قنوات اتصال مركزية ومحددة؛ مما يجعل رسائله ثابتة وموحدة. أما الإعلام الرقمي فيتميز بسهولة الانتقال بين القنوات؛ مما يوفر تفاعلات أكثر مرونة وشخصية للمستخدمين، ومن ثم تأثيرًا أكبر عليهم. مع زيادة استخدام الأجهزة الرقمية بين مصنِّعي المحتوى والجمهور، ازداد تأثير هذه الوسائط في حياة الناس بشكل أوسع وأعمق على المستويين المعرفي والسلوكي.

تشير الإحصائيات إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم بلغ 4.4 مليارات مستخدم، غير أن هذا العدد سيكون في ازدياد مع ارتباط الإنترنت في حياة الناس بشكل أكبر فيما يعرف بـ"إنترنت الأشياء"، وهو مصطلح يشير إلى ارتباط الإنترنت بالأجهزة الرقمية، والسيارات، والأجهزة المنزلية والمتاجر...إلخ. وهو ما يزيد الاعتماد على الإنترنت بشكل مطرد؛ إذ يُتوقع أن "الأشياء" المرتبطة بالإنترنت قد وصلت إلى 25 مليار شيء(4).

يترتب على ذلك زيادة تأثير الإعلام تلقائيًّا في الحياة اليومية للأفراد. ويرى بوتر أن التأثير الذي يمارسه الإعلام الرقمي في جمهوره يتم دون إدراك واضح من جانب المستهلكين، ويعزو هذه الظاهرة إلى العادات اليومية للأفراد التي تمنح الإعلام الفرصة للتأثير المستمر في الجمهور من خلال ما أطلق عليه تعبير "البرمجة الذاتية لأنماط السلوك". ويشير بوتر إلى أن الإعلام الرقمي يتداخل مع الأفكار والمشاعر بصورة متواصلة؛ حيث إن بعض هذه التأثيرات يمكن تمييزها وفهمها بسهولة، بينما يتم التأثير الأكبر بطريقة غير ملموسة ولا شعورية مكونة بذلك أنماطًا وسلوكيات لا شعورية وتلقائية.

يعمل الإعلام باستمرار على برمجة وإعادة برمجة أنماط التفكير والتصرفات بشكل تلقائي، ومثال ذلك هو التسوق عبر تطبيقات توصيل الطعام؛ حيث تُستخدم تقنيات التسويق الرقمي لتوجيه الإعلانات والعروض الترويجية للمستخدمين. وتُجمع البيانات عن المستخدمين وتُوظف لتحديد العروض التي يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام بالنسبة لهم وتحفيزهم على الشراء. ووفقًا لدراسة أجريت عام 2018، أفاد 56% من المستخدمين بأنهم قاموا بشراء طعام عن طريق تطبيقات التوصيل بسبب الإعلانات التي تم توجيهها لهم(5).

ويتفق ما قدَّمه بوتر مع أطروحة نيكولاس كار (Nicholas Carr)(6) في كتابه: "الأعماق: ما تفعله الإنترنت بأدمغتنا" الذي يتوسع في شرح تأثير استخدام الإنترنت والإعلام الرقمي؛ حيث تؤكد الأطروحة أن استخدام الإنترنت والإعلام الرقمي يؤثر بشكل كبير في تطور الدماغ والقدرة على التفكير العميق والتركيز. ويقدم كار في الكتاب أدلة على أن الإنترنت والإعلام الرقمي يؤثران في صحة العقل والنفس، ويؤديان إلى فقدان التركيز وتقليل القدرة على التفكير العميق والإبداع"(7).

وتناقش الأكاديمية شيري توركل (Sherry Turkle)، أستاذة الدراسات الاجتماعية للعلوم والتكنولوجيا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤلفة بارزة في الآثار الاجتماعية والنفسية لوسائل الإعلام الرقمية، في كتابها "وحيدون معًا" (Alone Together)، تأثير التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي في البشرية والعلاقات الإنسانية. وترى أن التكنولوجيا الرقمية تؤثر سلبًا في قدرة الناس على التواصل والتفاعل الاجتماعي في العالم الحقيقي، وكيف أن هذه التكنولوجيا تشجع على الانعزال والابتعاد عن الآخرين. ويُقدِّم الكتاب نظرة شاملة على مدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية في الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية. ويستعرض أمثلة عديدة على كيفية استخدام التكنولوجيا الرقمية في الحياة اليومية، وكيف أن هذا الاستخدام يؤثر في الناس. وتتركز أطروحة توركل في أن الناس يمكن أن يجدوا أنفسهم "وحيدين معًا"، أي إنهم معًا في الفضاء الافتراضي ولكنهم في الوقت نفسه منعزلون عن بعضهم البعض في العالم الحقيقي(8).

هناك أطروحات بارزة تؤكد ما سبق، وتتوسع في شرح تأثيرات الإعلام الرقمي، ومنها كتاب دانا بويد (Danah Boyd)، والتي تركز فيها على الآثار الاجتماعية والثقافية للوسائط الرقمية(9)، وأطروحة أستاذة علم النفس في جامعة ولاية سان دييغو، جين ماري توينج (Jean Marie Twenge)(10)، التي تناولت التأثيرات النفسية والاجتماعية للوسائط الرقمية في الأطفال والمراهقين المتصلين بالإنترنت. ويُعد كتابها عن مشكلات الأطفال الذين يتمتعون بالاتصال الفائق من أهم ما كُتب في هذا المجال؛ إذ تشرح توينج الآثار المترتبة على استخدام الأطفال والمراهقين للتكنولوجيا والإعلام الرقمي بشكل مكثف. وتخلص الباحثة إلى أن الجيل الجديد، والذي أسمته بـ(iGen)، يعاني من مستويات أدنى من السعادة، وزيادة أكبر في مشكلات الصحة العقلية، مثل القلق والاكتئاب. وبحسب توينج، يُعزى ذلك جزئيًّا إلى قضاء الوقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتفاعل الرقمي على حساب التفاعلات الاجتماعية الواقعية. إضافة إلى ذلك وجدت الباحثة أن هذا الجيل يجد صعوبات في التأقلم مع البلوغ وتحقيق الاستقلال، بسبب قضائهم الوقت الطويل على الإنترنت والتكنولوجيا بدلًا من تطوير المهارات الحياتية والاجتماعية، فضلًا عن تأثيرات معرفية وسلوكية أخرى أسهبت الباحثة في تفصيلها وتحليلها.

هذا كله يعيدنا إلى عنوان هذا الجزء من الورقة حول "حتمية" التغيير الذي لا مفر منه، والحتمية هنا تشمل:

- أولًا: الحتمية الرقمية التي تُعد جزءًا من التحول الرقمي الهائل الذي تشهده البشرية في كل المجالات تقريبًا، ومنها حتمية التحول الرقمي في الإعلام؛ فالتحول الرقمي أصبح حقيقة واقعة يلمسها الناس في كل تفاصيل حياتهم.

- ثانيًا: حتمية التأثير التي ترى أن التكنولوجيا الرقمية والإنترنت والوسائط الاجتماعية تمتلك قدرة لا مفر منها على إحداث تحولات حتمية في الحياة البشرية بطرق متعددة ومتداخلة على صعد مختلفة، منها التواصل والعلاقات الاجتماعية، والصحة النفسية والعقلية، والوصول إلى المعرفة والمعلومات، والاقتصاد وسوق العمل، والسياسة والعلاقات الدولية...إلخ.

ترتبط هذه الفكرة بشكل وثيق بفلسفة مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan)، الذي اعتبر أن الوسائط الإعلامية تؤثر في الأفراد والمجتمعات بشكل حتمي ولا مفر منه، وأن الثقافة والتكنولوجيا تتفاعلان مع بعضهما البعض بشكل متبادل ومتشابك(11)؛ فقد اعتبر ماكلوهان أن "الوسيلة هي الرسالة" بمعنى أن وسيلة الاتصال تؤثر في المعنى المنقول فيها أكثر من المحتوى نفسه(12).

2. صناعة الأخبار والإعلانات والترفيه في البيئة الرقمية

يشرح وليام جميس بوتر التحولات التي طرأت على مفهوم الأخبار والإعلانات والترفيه في ثلاثة فصول منفصلة من كتابه. ويستعرض أهم التطورات التاريخية في تطور صناعة الأخبار والإعلانات والترفيه وكيف أثرت بيئة الإعلام الرقمي بشكل جذري وجوهري في هذه المجالات. إن أهم ما يمكن الإشارة إليه ليس فقط ما يتعلق بتطور محتوى الرسائل الإعلامية، بل تأثيرها العميق في الجمهور. وتحاول الورقة هنا استكشاف هذه التطورات وتأثيراتها المختلفة.

أولًا: الأخبار في العصر الرقمي

حصلت تحولات هائلة في طريقة صناعة الأخبار وتصنيفها واستهلاكها، فقد أضافت الخصائص الرقمية مميزات استثنائية؛ إذ تميز الإعلام الرقمي بالأخبار الفورية والمحلية والأكثر قصرًا، بالإضافة إلى تقديم ميزات الوسائط المتعددة؛ وهو ما يتيح للناس الوصول السريع إلى الأخبار وعدم انتظار نشرة الأخبار أو انتظار الصحيفة الورقية في اليوم التالي.

تُعد مؤسسات صناعة الأخبار، في نهاية المطاف، مؤسسات تجارية تخضع لمبدأ "مجتمع السوق" القائم على المنافسة المفتوحة بين أصحاب هذه المؤسسات لكسب فئات الجمهور المختلفة، ومن ثم الميل إلى الربح المادي، لذلك نجد أن بعض المؤسسات باتت تنتج الأخبار الترفيهية والمناسباتية والخفيفة بدلًا من تقديم المحتوى الصحفي الرسمي والجدي.

ومن المهم الإشارة إلى أن هذا التحول في بيئة الإعلام الرقمي أدى إلى تحول في مفهوم الحقيقة والمصداقية في الأخبار. فعلى الرغم من وجود العديد من المنصات الإخبارية ذات المصداقية العالية، فإنه أيضًا من الممكن لأي شخص إنشاء موقع أو حساب على وسائل التواصل الاجتماعي ونشر محتوى مُضلِّل أو غير صحيح.

ثانيًا: الإعلانات الرقمية

أدت الثورة الرقمية إلى تغيير جذري في طريقة تفكير المعلنين، وكيفية تصميم حملات الإعلان، والأدوات الجديدة للإقناع التي توفرها الوسائط الرقمية. فقد شرح بوتر الأدوات التي يستخدمها الإعلان الرقمي للتعرف على الجمهور المستهدف وإقناعه بشراء منتجاته، ومنها البحث الإلكتروني، والتخصيص الإلكتروني، والمؤثرون، والتوصيات، وغيرها. ويتفق الكاتب مع الكثير من الأطروحات التي تؤكد قوة وفعالية الإعلانات التجارية عبر المنصات الرقمية، والتي يمكن القول إنها غيَّرت وجه الإعلان التجاري بشكل جذري وجوهري.

غير أن ما لم يشر إليه الكاتب بشكل واضح، هو توظيف شركات التكنولوجيا، ولاسيما شبكات التواصل الاجتماعي بالاعتماد على استخدام الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، في عمليات التسويق الرقمي، وخصوصًا في التوصية بالإعلانات. وعلى الرغم من أن استخدام هذه الخوارزميات يمكن أن يكون فعَّالًا في الوصول إلى الجماهير المستهدفة وزيادة نسبة النجاح في الإعلان، فإنه يثير القلق بشأن مسألة الخصوصية. فمثل هذه القضية لها أبعاد أخلاقية وتطرح أسئلة مهمة للغاية لابد من الإجابة عنها وضمان سلامة بيانات المستخدمين وعدم اختراق القوانين.

تطرَّق إلى هذه المسألة باحثون آخرون، كما جاء في كتاب شوشانا زوبوف (Shoshana Zuboff): "العصر الرأسمالي للمراقبة: النضال من أجل مستقبل إنساني على الحدود الجديدة للسلطة"(13) الذي يتناول استخدام منصات التواصل الاجتماعي للبيانات الشخصية وتأثير ذلك في الخصوصية والديمقراطية. وهذه المخاوف أثيرت بشكل أكبر بعد ما عُرف بفضيحة "كامبريدج أناليتيكا" التي كشفت استخدام بيانات المستخدمين في الشبكات الاجتماعية، مثل فيسبوك، لتصميم إعلانات سياسية تستهدف توجيه الناخبين بشكل محدد والتأثير في الانتخابات الأميركية عام 2016.

ثالثًا: التعرض للمحتوى الترفيهي في الإعلام الرقمي

يجادل الأكاديمي بوتر بأن التعرض للمحتوى الترفيهي يمثِّل نمطًا مماثلًا للتأثير الناتج عن التعرض للمحتوى الترفيهي في وسائل الإعلام التناظرية، معتبرًا أن الوسائط الرقمية لم تغير جوهريًّا طريقة سرد القصص لكن الوسائط الرقمية تتمتع بخصائص أكثر مرونة بالنسبة للمستخدمين والمنتجين؛ فقد تميزت الوسائل الرقمية بتقديم خيارات أوسع للمستخدم من حيث التنوع في المحتوى وفي اختيار الأوقات التي تناسبه، فضلًا عن توفير تصنيفات للمحتوى ومعلومات تفصيلية عن كل محتوى مما يساعد المستخدم في تحديد خياراته. أما المنتجون وصانعو المحتوى فبإمكانهم تقديم قصصهم بمرونة أكبر وبدون الحاجة للوصول إلى معايير جودة معينة مفروضة من قبل وسائل الإعلام التقليدية.

يشرح بوتر كيف استفادت شركات، مثل "نتفليكس" (Netflix) و"أمازون برايم" (Amazon Prime) و"هولو" (Hulu)، من الوسائط الرقمية لتوفير تجارب ترفيهية جديدة ومتنوعة للمستخدمين في صناعة المحتوى الترفيهي، مع إمكانيات كبيرة أتاحت مشاركة الفيديوهات والموسيقى بسهولة بين المستخدمين.

ويُستنتج من دراسة بوتر أنه لا توجد أدلة قاطعة تُظهر أن تأثيرات التعرض للترفيه في الوسائط الرقمية تختلف عن تلك الناشئة عن التعرض للترفيه في الوسائط التقليدية. ويبدو أن الاختلافات تكمن في تأثيرات المحتوى الترفيهي نفسه، وليس في طبيعة الوسيط الذي يُقدم هذا المحتوى. ويعزى سبب عدم التأكد من هذه النتائج إلى نقص الدراسات الأكاديمية حول تأثير الإعلام الرقمي الترفيهي؛ حيث إنه موضوع جديد نسبيًّا.

لكن هذه الخلاصة تبدو غير متفقة مع ما جاء في العديد من الأطروحات التي تناولت تأثير الإعلام الرقمي الترفيهي، كما ورد في أطروحة سيدنيف ماتريكس (Sidneyeve Matrix) عن تأثير منصة نتفليكس على المراهقين. فقد أشارت إلى أن جزءًا من التأثير يتعلق بطبيعة استخدام الوسيلة الرقمية وخصائصها، مثل سرعة الوصول إلى المحتوى، وسهولة اختيار المحتوى، وغيرها(14).

لذا، قد تتغير الاستنتاجات التي خلص إليها بوتر في المستقبل مع توجه المزيد من الباحثين للنظر في كيفية تعزيز أو تقليل قوة رسائل الترفيه للتأثير في أنماط التفكير والسلوك والمعتقدات. ويتطلب هذا الاتجاه المزيد من الأبحاث الأكاديمية والدراسات المستقبلية لفهم كيفية تفاعل المستهلكين مع المحتوى الترفيهي على الوسائط الرقمية والتأثيرات الناجمة عن ذلك على مستويات متنوعة.

من جهة أخرى، تجاهل بوتر تأثير العولمة في صناعة الترفيه، وهو التأثير العابر للحدود الذي يصل إلى شعوب لها خصوصيتها الثقافية والاجتماعية والدينية، وقد أدى ذلك إلى زيادة الاهتمام بالأفلام والبرامج التليفزيونية الأجنبية، وزيادة النفوذ العالمي للإنتاجات باللغات غير الإنجليزية. ويعتبر هذا التحول جزءًا من عولمة المحتوى الإعلامي بما يحدثه من تأثير، لكن لم يتطرق إليه بوتر في كتابه. بينما يظل تأثير الإعلام الرقمي الترفيهي واقعًا لا يمكن تفاديه كما جاء في عدد من الدراسات حديثة النشر.

3. تأثير شبكات التواصل الاجتماعي والعيش في العالم الافتراضي

يشرح الأكاديمي بوتر أهم القضايا الناجمة عن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي، مثل تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في سلوك الأفراد، والتنمر الإلكتروني والآثار السلبية المرتبطة به، والإدمان على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية غير الحقيقية المبنية على مواقع التواصل الاجتماعي، والتأثير المرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي في سلوك الأفراد في مجال العلاقات العاطفية، والتعرض للكذب على مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضًا التأثير المرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي على سلوك الأفراد في المجال السياسي وغيرها. وقدَّم بوتر أدلة على تأثيرات متنوعة لشبكات التواصل الاجتماعي، في العنوانين المذكورة آنفًا، غير أن الكاتب لم يتطرق إلى دراسات ذات أهمية كبرى عن تأثيرات شبكات التواصل الاجتماعي في الصحة النفسية لمستخدميها.

صحيح أن المؤلِّف تناول مسائل مهمة كالإدمان والتنمر الإلكتروني، لكن ثمة عناوين لا يمكن تجاهلها في هذا السياق. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى دراستين نُشرتا حديثًا، الأولى بعنوان: "شبكات التواصل الاجتماعي والصحة العقلية"، وتستعرض تأثير استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في الصحة النفسية، وتخلص إلى أن الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق والوحدة(15). والدراسة الثانية بعنوان "الترابط بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب لدى الشباب في الولايات المتحدة"، وتبحث العلاقة بين استخدام شبكات التواصل الاجتماعي والاكتئاب لدى الشباب في الولايات المتحدة. وتشير إلى أن الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى زيادة مخاطر الاكتئاب لدى الشباب في الولايات المتحدة. واستخدمت الدراسة عينة عشوائية تتألَّف من 2.037 شابًّا في الولايات المتحدة، وتم قياس استخدامهم لشبكات التواصل الاجتماعي ومستويات الاكتئاب بالاستعانة بأداة الاستبيان. ووجدت الدراسة أن الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي يزيد من خطر الاكتئاب لدى الشباب(16)؛ وهذا يبرز أهمية دراسة تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في الصحة النفسية لدى الشباب، وهو من أهم الموضوعات المرتبطة بتأثيرات الإعلام الرقمي.

هذا يقودنا إلى ما أورده الكاتب عما يعرف بـ"العوالم الافتراضية" وتأثيرها. والعوالم الافتراضية بيئات رقمية تعمل على خوادم متصلة بالإنترنت، وتوفر للمستخدمين الوسيلة لينغمسوا في تجارب بديلة عما يمكنهم أو يرغبون في تجربته في حياتهم الحقيقية. كما توفر هذه العوالم ما يسمى بـ"البيئات المستدامة"؛ مما يعني أنها تستمر في الوجود بأشكال مستقرة حتى عندما لا يكون الشخص في تلك العوالم. ومع ذلك، فإن العوالم الافتراضية ليست ثابتة ولا تتغير، بمعنى أن الزوار يمكن أن يؤثروا في الأحداث داخل هذه العوالم، ويمكنهم حتى "بناء حياة". استعرض الكاتب العديد من النماذج للعوالم الافتراضية التي تتراوح بين الألعاب والمنصات التعليمية والاجتماعية، مثل "سكند لايف" (Second Life) وهي منصة اجتماعية افتراضية تم إطلاقها عام 2003 وتتيح للمستخدمين إنشاء شخصيات افتراضية والتفاعل مع الآخرين وبناء وتكوين بيئاتهم الخاصة، ومثلها منصات "فارمفيل"  (FarmVille) و"ذا سيمز" (The Sims)، وغيرها من الأمثلة التي لم ترد في الكتاب مثل "ماينكرافت" (Minecraft)، و"في آر تشات" (VRChat) ومنصات تنتمي إلى هذا النوع.

استعرض الكاتب سلسلة من العناوين الفرعية حول تأثيرات العوالم الافتراضية، وخلص إلى أن تجربة الوجود في عالم افتراضي مختلفة جدًّا عن تجربة التعرض للوسائط التناظرية، إلا أن تلك التجارب الرقمية أحيانًا تؤدي إلى تأثيرات تم توثيقها بالفعل مع الوسائط التناظرية (مثل التكييف السلوكي، وبناء المعتقدات، وبناء المعنى).

خاتمة

ليس هناك شك في أن الأكاديمي وليام جيمس بوتر قدَّم أطروحة مميزة ومهمة في تأثيرات الإعلام الرقمي، في جوانب متعددة ومنها تأثير التحول الرقمي ذاته، والتحول في صناعة الأخبار والإعلانات والترفيه، وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي، وتداعيات ذلك اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، واستند في ذلك على أدلة علمية موثقة. وتناول الكاتب هذا الموضوع من خلال منظوره الخاص وعرض الأطروحات المتعددة لتفسير وفهم التأثيرات المختلفة للإعلام الرقمي مستخدمًا مجموعة واسعة من الأدوات والمفاهيم التي ساعدته على فهم وتفسير مسألة التأثيرات، كما قدَّم أمثلة حية ودراسات حالة للتوضيح والتأكيد على تعزيز ذلك. وبينما كانت بعض هذه الأدوات قوية ومقنعة، فإن بعضها الآخر استند إلى معلومات محدودة أو تفسيرات غير مكتملة. لذلك فإن هذا الكتاب بأطروحاته المختلفة يطرح المزيد من الأسئلة أكثر مما يقدم إجابات. وقد لا يكون الأمر متعلقًا بالكاتب الذي اجتهد وأنتج هذا العمل المميز، بالقدر الذي يتعلق بسياق تطور وسائط الإعلام الرقمية الذي يشهد سرعة هائلة، لا أحد يستطيع أن يتنبَّأ إلى أين يمكن أن يصل، وكيف يمكن أن يكون شكلها وأدواتها بعد سنوات من الآن.

تناول المؤَلِّف بوتر التحديات والإشكالات المستقبلية المرتبطة بالإعلام الرقمي، لكن لا يمكن الجزم بأن التحديات والإشكاليات التي ناقشها يمكن أن تمثِّل خلاصات حاسمة، فلربما يخلص الباحث إلى أطروحة معينة وسرعان ما تتغير بسبب التطور غير المتوقع في وسائل وأدوات الإعلام الرقمي كظهور منصات وتطبيقات جديدة تكتسح المشهد الرقمي كما هي الحال مع تطبيق "تيك توك"، أو تطبيقات الذكاء الصناعي الجديدة.

ما زالت هناك أسئلة كثيرة حول تحديات أساسية في تأثيرات الإعلام الرقمي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر التلاعب بالمعلومات والأخبار الزائفة وما يمكن أن يحدثه ذلك من انقسامات اجتماعية وسياسية، ومواجهة التمييز والتحيز في الإعلام الرقمي وضمان تمثيل متوازن لجميع الأصوات والآراء، والإدمان على الإعلام الرقمي وتأثير ذلك نفسيًّا واجتماعيًّا، والجوانب الأخلاقية والقانونية، والتطور التكنولوجي المستمر المتعلق بالذكاء الصناعي والواقع الافتراضي والواقع المعزز وغيرها، والأمن السيبراني، وتوجيه الشباب والأطفال، والفجوة الرقمية وضمان توفير فرص الوصول إلى الإنترنت والتكنولوجيا لجميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية.

إن تطور الإعلام الرقمي يتطلب استكشاف ودراسة مثل هذه التحديات وغيرها بشكل مستمر لضمان التكيف مع هذا التطور، وتحسين الفهم العام لتأثيرات الإعلام الرقمي على الأفراد والمجتمعات والكيانات المختلفة.

معلومات عن الكتاب

عنوان الكتاب: تأثيرات الإعلام الرقمي

المُؤلِّف: وليام جيمس بوتر  (William James Potter)

دار النشر: رومان وليتلفيلد  (Rowman & Littlefield)

تاريخ النشر: 2021

اللغة: الإنجليزية

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 252

نُشرت هذه الورقة في العدد الثاني من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) William James Potter, Ron Warren, "Considering Policies to Protect Children from TV Violence." Journal of Communication, Vol. 46, No. 4, (1996): 116-138.

(2) William James Potter, "The Frontiers of Media Research," in Media Violence and Children: A Complete Guide for Parents and Professionals, ed. Douglas A. Gentile, (Westport, CT: Praeger, 2003), 247-262.

(3) للمزيد من المعلومات حول الأكاديمي وليام جميس بوتر، انظر صفحة المؤلف الرسمية على موقع "جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا"، قسم الاتصال، (الدخول: 6 أبريل/نيسان 2023)، https://bit.ly/3Vfc3ed.

(4) William James Potter, Digital Media Effects, (Rowman & Littlefield, 2021), 9.

(5) Riley Panko, "How Customers Use Food Delivery and Restaurant Loyalty Apps?," The Manifest, May 15, 2018. “accessed March 24, 2023”. https://bit.ly/40R51gE.

(6) نيكولاس كار كاتب وناقد تقني، وهو معروف بكتاباته الكثيرة عن تأثير الوسائط الرقمية في الإدراك والمجتمع. يعد كتابه "الأعماق: ما تفعله الإنترنت بأدمغتنا" عملًا بارزًا في هذا المجال. عمل كار محررًا تنفيذيًّا في مجلة "ذي أتلانتيك" (The Atlantic)، وكبير محرري مجلة "تكنولوجي ريفيو" (Technology Review) التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. نشر أيضًا مقالات في العديد من الصحف، مثل "نيويورك تايمز"، و"وول ستريت جورنال"، ويعتبر من الأصوات الرائدة في دراسة التقنية والثقافة والاقتصاد والأخلاقيات والأدب، ويهتم بأسئلة حول مدى تأثير التكنولوجيا في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات.

(7) Nicholas Carr, The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains, (New York, NY: W. W. Norton & Company, 2010).

(8) Sherry Turkle, Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other, (Basic Books, 2011).

(9) Danah Boyd, It's Complicated: The Social Lives of Networked Teens, (Yale University Press, 2014).

(10) Jean Marie Twenge, iGen: Why Today's Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy-and Completely Unprepared for Adulthood, (Atria Books, 2017).

(11) Marshall McLuhan, Understanding Media: The Extensions of Man, (Routledge, 1964).

(12) Marshall McLuhan, Quentin Fiore, The Medium Is the Massage: An Inventory of Effects, (Random House, 1967).

(13) Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power, (Public Affairs 2019), 8-12.

(14) Sidney Matrix, The Netflix Effect: Teens, Binge-watching, and On-Demand Digital Media Trends. Jeunesse: Young People, Texts, Cultures, Vol. 6, No. 1, (2014): 119-138.

(15) Osman Ulvi et al., "Social Media Use and Mental Health: A Global Analysis," Epidemiologia, Vol. 3, No. 1, (2022): 11-25.

(16) Ariel Shensa et al., "Association between Social Media use and Depression among U.S. Young Adults," Depression Anxiety, Vol. 33, No. 4, (April 2016): 323-331.