التيه الإستراتيجي: إسرائيل بين السيء والأسوأ في غزة

نجحت المقاومة الفلسطينية في شن هجوم مباغت داخل الأراضي الإسرائيلية، حقق إنجازات غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فضعضع أركان الإستراتيجية الإسرائيلية القائمة، وأدخلها في مرحلة التيه.
11 October 2023
نجاح تاريخي للمقاومة الفلسطينية (AP).

الهجوم الناجح وغير المسبوق الذي شنَّته حماس على إسرائيل، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضعضع الركائز التي قامت عليها الإستراتيجية الإسرائيلية في التصدي لحماس منذ انسحاب إسرائيل من القطاع في 2005، وقد تكون هدمتها بالكامل. توصف هذه الإستراتيجية عادة بإستراتيجية "جز العشب"، أي جز قدرات المقاومة حتى تظل متواضعة، وتناظرها جملة قالها جنرال إسرائيلي، وهي: "دَقُّ عظام حماس لكن دون إدخالهم المستشفى". وتعني هذه الإستراتيجية جعل حماس أضعف من أن تمثل تهديدًا حقيقيًّا لإسرائيل ولكنها تملك قوة كافية للسيطرة على القطاع حتى تديره وتتحكم في الجماعات المسلحة فيه، وتمنع قوع كارثة إنسانية، أو نشوء جماعات مسلحة تابعة للقاعدة أو تنظيم الدولة.

احتواء القطاع

ترتكز الإستراتيجية الإسرائيلية على مفهوم الاحتواء وإبقاء الصراع مع حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في مستوى التوتر المنخفض. واعتمدت لتطبيق ذلك على عدة تدابير: الهجمات الدورية على المقاومة الفلسطينية في غزة لإنهاك قدراتها، ومنعها من مراكمة التسلح أو تطويره إلى حد لا تستطيع إسرائيل التصدي له، واغتيال قادة المقاومة، لإحداث خلخلة في بنيتها، وفرض حصار خانق على القطاع ببناء جدار، طوله 65 كم، من جهة الحدود الإسرائيلية، وتكفل السلطات المصرية ببناء جدار، طوله 14 كم، من جهة حدودها، والاعتماد على هذا الحصار لمنع دخول الأسلحة إلى القطاع، والإشراف الإسرائيلي المباشر على تدفق الأموال إلى قطاع غزة وتحديد جهات صرفها كي لا تمول تسلح فصائل المقاومة، وتشغيل فئات من سكان القطاع حتى تكون مصلحتهم في بقاء الوضع القائم، وتوفير موارد مالية لحماس قد تغريها بمنافع التعايش مع الحصار.

تعمل هذه الإستراتيجية على إبقاء الصراع مع حماس في مستوى التوتر المنخفض، فإسرائيل اعتادت على رشقات المقاومة الفلسطينية التي تحدث في كل مرة تهاجم فيها إسرائيل قطاع غزة لاستنزاف قدرات المقاومة، وتنتهي جولة القتال كل مرة بالعودة إلى الوضع القائم منذ 2005. وكانت إسرائيل تعتقد أن هذا الإستراتيجية ستجمد الوضع في غزة وتمنعه من الخروج عن السيطرة، وقد تعززت هذه العقيدة الإستراتيجية باعتماد إسرائيل على تقنية الذكاء الاصطناعي في تتبع التغييرات في قطاع غزة بمعالجة الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية كل بضعة دقائق لالتقاط الإشارات عن التحركات التي قد تشكِّل تهديدًا لإسرائيل، علمًا بأن قطاع غزة هو المنطقة الأكثر تصويرًا في العالم.

لم تجمِّد هذه الإستراتيجية الوضع في غزة والمقاومة، بل إنها جعلت المقاومة تبحث عن بدائل لفكِّ قيود الاحتواء الإسرائيلي، فاعتمدت على نفسها في تصنيع الصواريخ والطائرات الصغيرة المتفجرة، والمناطيد الطائرة، والدرونز. لم تحدث هذه التطويرات في لحظة واحدة بل أخذت سنوات، يمكن تتبع مستوياتها بالمقارنة بين مدى صواريخ حماس في السنوات الأولى التي لم يكن يتجاوز مداها 2 كم والصواريخ الحالية التي يصل مداها تل أبيب.

كذلك حمت المقاومة نفسها من الهجمات الإسرائيلية ومن التجسس الإسرائيلي ببناء شبكة أنفاق تحت الأرض، جعلت إسرائيل عاجزة عن استنزاف قدرات المقاومة، وتتبع تحركاتها، وحال هذا التكتيك دون إقدام إسرائيل على اجتياح بري لغزة لأن قواتها تفقد أفضليتها العملياتية، وطالما ظلت هذه الشبكة تحت الأرض مأوى للمقاومة فإن إستراتيجية الاحتواء الإسرائيلية ستكون فاقدة للصلاحية.

العمى الإستراتيجي

المفارقة أن إستراتيجية الاحتواء الإسرائيلية لم تخفق في وقف تحسن قدرات المقاومة فحسب، بل إنها أصابت إسرائيل بالعمى الإستراتيجي لأنها جعلت القيادة الإسرائيلية تعتقد أن إقدام حماس على اجتياح مناطق غلاف غزة أمر مستحيل لافتقادها القدرات اللازمة، وأن الوضع في غزة هادئ لأن الذكاء الاصطناعي لم يرسل تحذيرات عن تهديدات يكون قد استنبطها من البيانات الهائلة التي يعالجها عن القطاع، علاوة على أن سلوك حماس السائد يدل على أنها لم تخرق قواعد الاشتباك التي فرضتها إسرائيل خلال 18 سنة، كدليل موثوق على أن إستراتيجية الاحتواء وضعت حماس تحت السيطرة. لكن كما جرت العادة في تاريخ الإستراتيجية تقع المباغتة الإستراتيجية دائمًا من الاحتمال الذي يعد مستحيلًا. باغت هانيبال القرطاجي روما من جبال الألب التي كانت تحميها وتعد درعًا يستحيل اختراقه. كذلك حماس اخترقت حاجزين كانت إسرائيل تعتقد أن من المستحيل اختراقهما، وهما: الجدار العازل والحاجز النفسي الذي سعت إسرائيل بحروبها المتتالية على القطاع إلى ترسيخه في نفوس الفلسطينيين حتى يتفادوا مهاجمتها خشية من عقابها.

لذلك تواجه إسرائيل معضلة إستراتيجية لا تمتلك تصورًا أو عقيدة للتعامل معها، وهي كيف يمكن القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة دون اجتياح القطاع حتى لا تتكبد خسائر كبيرة في أرواح قواتها، ودون  السيطرة عليه حتى لا تتحمل إدارته والتكفل باحتياجاته وإبقاء قواتها هناك عرضة للاستنزاف، والتوصل إلى تشكيل قيادة شبيهة بالقيادة الفلسطينية بالضفة الغربية، تدير غزة وتنسق أمنيًّا مع إسرائيل لإجهاض كل مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، أو كما وصف محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الوضع بأنه أرخص احتلال في التاريخ؛ لأن إسرائيل تنعم بمكاسبه وتتحمل السلطة الفلسطينية تكاليفه.

خيارات بين السيء والأسوأ

لا توجد أمام إسرائيل إلا خيارات سيئة لا تحقق هدفها الإستراتيجي في قطاع غزة، وهو جعلها ضفة غربية ثانية. ذلك أنها ستضطر إلى اجتياح قطاع غزة بريًّا للإطاحة بحماس، واستنزاف المقاومة، لكن بنية قطاع غزة السكانية، الأكثر كثافة سكانية لكل كيلومتر مربع في العالم، ستجعلها تفقد أفضليتها، لأنها لن تستطيع استعمال السلاح الجوي حتى لا تقصف قواتها الموجودة بالقطاع، ولا تستطيع استعمال الدبابات لأن شوارع غزة ضيقة، ثم إن الدبابات ستكون أسفل البنايات وعرضة للهجمات بالمتفجرات والعبوات الحارقة والمفخخات، ولا تستطيع إسرائيل استعمال المدفعية الثقيلة لأنها قد تقصف أيضًا قواتها، وسيضطر جنودها إلى القتال المباشر بالأسلحة الخفيفة، فيتعادلون مع مقاتلي المقاومة، لكن مع أفضلية للمقاومة التي  تقاتل في حاضنة شعبية مساندة، بينما يقاتل الجنود الإسرائيليون في بيئة معادية، علاوة على أن المقاومة قد تكون جهزت مسرح القتال سواء فوق الأرض بوضع كمائن وتفخيخ مسالك ومواقع، ومن تحت الأرض بتجهيز منافذ للأنفاق الأرضية تنقض منها قوات المقاومة على القوات الإسرائيلية للقضاء عليها أو سحبها إلى الأنفاق لتضاف إلى الأسرى الإسرائيليين. كما أن عامل الوقت لن يكون في صالح الاجتياح؛ لأن بقاء القوات الإسرائيلية الطويل يجعلها مكشوفة في باقي الجبهات، خاصة الجبهة الشمالية، وقد تستغل إيران ذلك لتقوية مواقعها في سوريا، فتدفع بكميات كبيرة من الأسلحة إلى حزب الله، لا تستطيع إسرائيل اعتراضها هذه المرة، حتى لا تتعرض لعقاب حلفاء إيران في الشمال.

مع افتراض أن إسرائيل ستنجح في اجتياح غزة، فلن تستطيع ضمان قيام سلطة مشابهة للسلطة الفلسطينية في الضفة؛ ذلك أن السلطة التي ستقيمها قوات الاحتلال، وهي غالبًا تابعة للسلطة الفلسطينية، ستكون مشروخة الشرعية، وفقدت مقومات وجودها في القطاع منذ هزيمة السلطة الفلسطينية في القطاع في 2007، ولن تكون قادرة على التصدي لبؤر المقاومة التي ستنتقل إلى مستوى العمل السري، وإستراتيجية الكرِّ والفرِّ.

يتضح أن الجانب العملياتي قد يكون من المتعذر نجاحه في تحقيق نتائج عسكرية تكتيكية حاسمة، وأن الجانب الإستراتيجي وهو إقامة نظام يحقق هدف إسرائيل بإنشاء وضع في غزة شبيه بوضع الضفة الغربية، قد يكون أيضًا متعذرًا، فتظل بذلك إسرائيل تواجه معضلة غزة. ومع أن الجانب التكتيكي مهم إلا أنه أقل أهمية من الجانب الإستراتيجي وهو الهدف النهائي من الحرب، وما دامت إسرائيل لم تراجعه ليتوافق مع قدراتها، فإنها ستتوالى إخفاقاتها الإستراتيجية حتى وإن حققت إنجازات تكتيكية.

ABOUT THE AUTHOR