حرب إسرائيل على غزة: الأهداف المستحيلة والتداعيات في المنطقة

الحرب الإسرائيلية مهما كانت مساراتها وكيفما انتهت، فإن عملية "طوفان الأقصى" خلقت واقعًا جديدًا يستحيل معه العودة إلى المعادلات السابقة في المنطقة، ولن يسعف إسرائيل أي انتصار في غزة هذا إن تحقق، لأن قوة الردع الإسرائيلية تهشمت في المنطقة عمومًا.
11 October 2023
يطفو على وجه الحرب التي أعلنتها إسرائيل الطابع الانتقامي نتيجة الصدمة، ورفع مستوى العنف ضد غزة هدف بحد ذاته في هذه الحرب (الأناضول).

مقدمة

أعلنت إسرائيل الحرب على غزة، في أعقاب عملية حماس في مستوطنات غلاف غزة، "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، والتي سقط نتيجتها مئات القتلى من الإسرائيليين فضلًا عن مئات الجرحى، وأسرت الفصائل في غزة، على الأقل عشرات الجنود والمستوطنين، في حدث استثنائي على صعيد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وكذلك العربي-الإسرائيلي. لا شك أن الضربة التي تلقتها إسرائيل كانت صادمًة للأمن الإسرائيلي وأضعفت ثقة جمهورها بالجيش والاستخبارات، وهو أصلًا كان فقد ثقته قبل بسياسيِّيه، مما عكسته الأزمة السياسية والانقسامات التي تعاني منها إسرائيل. كما أن هذه العملية وضعت الحكومة الإسرائيلية واليمين الصهيوني والديني المتشدد من ورائها، في دائرة الاتهام بالتسبب بذلك، وهما اللذان طالما كانا يؤججان التوترات خاصة في الضفة، مستخفِّين بالفلسطينيين وقدرتهم على الرد.

يتناول التعليق الحرب المعلنة من إسرائيل ضد غزة وأهم أهدافها، وكذلك التداعيات على الوضع الإقليمي، لاسيما احتمالات توسعها لتشمل لبنان وسوريا أو أبعد من ذلك.

غزة والأهداف المستحيلة

بالنظر إلى ما أعلنته إسرائيل، فإن أهداف الحرب تتراوح بين الانتقام واستعادة قوة الردع واستعادة الرهائن، إلا أن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أضاف إليها أبعادًا أخرى، بقوله: إنها "حرب مصيرية" و"طويلة وصعبة" وإنها "ستغيِّر وجه الشرق الأوسط".

ولهذه الحرب وجوه ومسارات عدة يمكن ملاحظة بعضها:

أولًا: يطفو على وجه الحرب التي أعلنتها إسرائيل الطابع الانتقامي نتيجة الصدمة؛ وهو ما تجلى في تصريحات قادتها، كقول نتنياهو: "ما سنفعله بأعدائنا سيتردد صداه لأجيال"، وكذلك ما أعلنه زير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، عن حصار كامل ضد غزة، "لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق"، واعتبر أن إسرائيل تحارب ضد "حيوانات بشرية". يوضح هذا السياق، أن رفع مستوى العنف هو هدف بحد ذاته في هذه الحرب، وهو ما تبدَّى منذ الأيام الأولى لها، فغزة تُقصف بعنف غير مسبوق، حتى فاق ما استهدفها في الأيام الأولى، ما تعرضت له الضاحية الجنوبية لبيروت في حرب عام 2006.

ثانيًا: إن مساحة غزة لا تحتمل تحقيق أهداف إسرائيلية كبيرة هناك، وأي عملية عسكرية في غزة في حدها الأدنى ستكون "جولة سادسة" ولكن أشد عنفًا من الخمس التي سبقتها، وأكثر إصرارًا في استهدافها للقتل والإبادة للفلسطينيين، والبحث عن صورة اقتحام لغزة باحتلال أجزاء منها وتشديد الحصار عليها. أما في حدها الأعلى فتستهدف إحداث تغيير جذري في قطاع غزة، سواء بتجزئته أو بقضم أجزاء منه وفرض وقائع جغرافية جديدة، لتثبط قدرات الفصائل. والحرب في هاتين الحالين تريد الوصول بنهاية المطاف إلى استعادة الأسرى والمحتجزين لدى غزة بتبادل بين الطرفين بغض النظر عن الظروف التي ستنتهي إليها الحرب، وأن تفرض واقعًا جديدًا تكون لإسرائيل اليد العليا فيه.

إلا أن ما أصاب قوة الردع الإسرائيلية من تآكل، سيبقى من المشكوك أن تسترده إسرائيل بأي عملية عسكرية في غزة فحسب، وحتى لو قررت غزوه بالكامل، مع التأكيد على صعوبة هذا الخيار وكلفته العالية والتشكيك بجدواه، فهي تحتاج إلى أمد أطول وسياسات أوسع لتحقيق ذلك، بغض النظر عما تحققه في غزة.

تدرك إسرائيل أنها بحاجة إلى أن تغير من وضعيتها في الإقليم، وهو ما يحاول نتنياهو أن يحشد له في اتصالاته مع الغرب والعالم. لأن إسرائيل، وفق سرديتها، لم تستهدفها حماس فقط، بل محور إيران بأكمله؛ فهي تعلن دائمًا أنها مهددة من التمدد الإيراني ومن حلفاء طهران في المنطقة. فقد تغيرت الأوضاع في جنوب لبنان إذ عاد حزب الله للانتشار على الحدود، فهو بالذريعة الإسرائيلية "يخرق القرار 1701" الذي ينص على "إيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، خالية من أي مسلحين ومعدات حربية وأسلحة عدا تلك التابعة للقوات المسلحة اللبنانية وقوات يونيفيل". وحزب الله بالمقابل يتهم إسرائيل بخرق القرار مرارًا في البر والبحر والجو، ويتمسك بحق لبنان بالمقاومة. وحاولت إسرائيل مرارًا إيجاد مساحة عازلة على حدودها مع سوريا، خشية استقرار الجماعات المؤيدة لإيران بجوارها، فضلًا عن استهدافها الدائم لحزب الله وبقية حلفائه في دمشق وبقية الأراضي السورية، تحت عنوان الحؤول دون وصول الصواريخ الدقيقة للحزب إضافة إلى بقية الدعم العسكري.

تدحرج الحرب وتحولها

في أفق الحدث تحولات عدة محتملة، تقترب أو تبتعد بحسب ظروف الميدان ونتائجه، وما يمكن أن تنجزه الحرب الإسرائيلية أو ما يصيبها من انتكاسات. إن إعادة احتلال غزة أو إعادة احتلال أجزاء منها أو تجزئتها لخنقها بما يخنق "فصائل المقاومة" فيها، ستدفع بالحرب نحو التوسع لتكون شاملة، خاصة إذا ما أُخذ في الاعتبار التزام حزب الله فضلًا عن "المحور" بالتدخل لصالح غزة من لبنان وسواه إن تطلب الأمر. ذلك أن حزب الله والفصائل الفلسطينية أعلنت مرارًا التزامها بما سمته "وحدة الساحات"، وقد دعا الضيف في كلمته "المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين"، وكذلك أكد الناطق العسكري باسم سرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) على أن "وحدة الساحات في المنطقة كلها حاضرة في مواجهة العدو".

من الناحية الواقعية، إن التزام حزب الله بوحدة الساحات لن يتجاوز لا الواقع اللبناني ولا ارتباطه بعمقه الإستراتيجي بطهران، فأي تدخل عسكري له في المواجهات إلى جانب غزة لن يتجاوز حقائق هاتين الساحتين ومتطلباتهما. لبنانيًّا، يلتزم حزب الله بالمعادلة التقليدية على الحدود (أي حق المقاومة بمنطقة مزارع شبعا) مع بعض التعديلات التي فرضتها الحرب على غزة؛ حيث أخذت تتعدد خروقات إطلاق الصواريخ من لبنان، فضلًا عن التسلل واختراق الحدود "الإسرائيلية" من مقاتلين فلسطينيين من الأراضي اللبنانية، ومن ثم حزب الله يرد على الرد الإسرائيلي على كامل الشريط الحدودي، بما يتجاوز منطقة مزارع شبعا المحتلة. وراهنًا، يبدو مسرح الأحداث وتطورها مفتوحًا على تصعيد المواجهة لبنانيًّا، لأن الباعث عليه ليس فقط ما يجري في غزة، بل في لبنان نفسه بسقوط قتلى لحزب الله، وقد أعلن عن سقوط ثلاثة مقاتلين له في حين أعلنت إسرائيل عن مقتل ثلاثة من جنودها في المواجهات الأولى أيضًا.

إن حزب الله لا يزال يحافظ على عسكرية المعركة أي اقتصارها على استهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية على الحدود دون التوسع في استهداف العمق الإسرائيلي، في حين أن صواريخ متفرقة لقوى فلسطينية تنطلق من لبنان وغالبها يصيب مساحات مفتوحة أو لا تؤثر في مجرى الصراع الحالي. بالمقابل، تبدي إسرائيل استعدادها لأي تصعيد يتجاوز المستوى الحالي، لكنها بنفس الوقت تلتزم به، خاصة أنها لم تستعد زمام المبادرة على الحدود مع غزة.

ولا يمكن لحزب الله أن يخوض حربًا شاملة دون أن يلقى دعمًا كبيرًا من عمقه الإستراتيجي في طهران، وهو ما حصل عام 2006، واليوم هناك تواصل بري مفتوح إلى حدٍّ بعيد، من طهران حتى بيروت، وللحزب مقاتلون في سوريا يعملون من ضمن إستراتيجية أكبر لمحور تقوده طهران؛ ما يجعل قرار الحرب قرار محور أكثر مما هو قرار حزب. وبالمبدأ، فإن طهران التي تعرضت مرارًا لتهديدات إسرائيلية باستهدافها كما خاضت معها "حروب ظل"، من مصلحتها أن تُغرق إسرائيل في لبنان إن لم تغرق في وحول غزة.

ولإسرائيل أيضًا أسباب كثيرة تدعوها إلى التحول في حربها المتدحرجة نحو حزب الله إن استطاعت، فالخسائر الكبيرة التي كانت تخشاها قد وقعت نتيجة "طوفان الأقصى"، والخشية من توسع الحرب بما يفوق قدرتها على عدة جبهات خاصة على الجبهة اللبنانية، قد تراجعت بتوافر الدعم الأميركي غير المحدود وفق المعلن على الأقل من إدارة بايدن وهو محل إجماع في واشنطن. وهناك جسر جوي أميركي يمد تل أبيب بالأسلحة والذخائر، وحاملة طائرات في المنطقة (جيرالد فورد)، فضلًا عن أخرى (دوايت أيزنهاور) ستنضم إليها في دورتها الروتينية، لمنع توسيع الحرب من قبل طهران، ولتعزيز قوة الردع في المنطقة، وفق المعلن أميركيًّا.

إن ظلال الحرب الإقليمية قد خيمت على المنطقة بمجرد استدعاء إسرائيل لأميركا إلى المنطقة في الوقت الذي تعلن إيران أنها تسعى لإخراجها، وسيبقى القرار بشأن توسعة الحرب الشاملة قرارًا إقليميًّا وليس محليًّا لبنانيًّا يتعلق بحزب الله فقط، وكذلك سيكون دوليًّا من الجهة الأخرى ولن يقتصر على إسرائيل لأنه سينقل الأولوية الأميركية من أوكرانيا وروسيا، إلى منطقة الشرق الأوسط.

خاتمة

الحرب الإسرائيلية مهما كانت مساراتها وكيفما انتهت، فإن عملية "طوفان الأقصى" خلقت واقعًا جديدًا يستحيل معه العودة إلى المعادلات السابقة في المنطقة، ولن يسعف إسرائيل أي انتصار في غزة هذا إن تحقق، لأن قوة الردع الإسرائيلية تهشمت في المنطقة عمومًا. إن "تداعيات" حرب إسرائيل على غزة لن تمحو تلك التداعيات التي ستنشأ نتيجة "طوفان الأقصى"، سواء في فلسطين وعودة الحديث عن حل الدولتين وعدم جدوى إلغاء الطرف الفلسطيني بكل مكوناته، أو في إسرائيل إذ يدرك نتنياهو أنه واليمين المتشدد سيدفعان ثمن السياسات الإسرائيلية "العدمية" التي أودت بإسرائيل إلى هذا المأزق، أو في الإقليم الذي عاد ليفرض نفسه أولوية وأن استقراره لن يكون بتجاوز الفلسطينيين أو قضيتهم.

ABOUT THE AUTHOR