الحرب على غزة والمكارثية في الأكاديميا الغربية

سارع الغرب، وهو في حالة من الفزع، إلى نصرة إسرائيل في مواجهة طوفان الأقصى، وسخَّر في سبيل ذلك كل قواه، الخشنة والناعمة. وفضلًا عن ذلك سعى إلى أسلوب الترهيب لإسكات الأصوات المعارضة لإسرائيل وجرائمها في غزة والمناصرة للشعب الفلسطيني وحقه في الحرية والاستقلال وإقامة دولته، وخاصة الأكاديميين.
7 November 2023
طلبة جامعيون يتظاهرون في مدينة تورونتو، كندا احتجاجًا على جرائم إسرائيل في غزة (رويترز)

منذ بدء "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هرع الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، إلى حشد قواته العسكرية لدعم العدوان الإسرائيلي على غزة. وبموازاة ذلك سخَّر كل قوته الناعمة، المؤسسات الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمؤسسات الرياضية والأكاديمية، لتسويغ العدوان الإسرائيلي وإسكات الأصوات التي تندد بالمجازر التي تقترفها إسرائيل ضد المدنيين العزل في غزة والداعمة للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر.

سنركز في هذا التعليق بالأساس على الجواب عن سؤال: لماذا يسخِّر الغرب الأكاديميا للدفاع عن إسرائيل؟ هذا دون إغفال أدوات القوة الناعمة الأخرى لاستجلاء أبعاد الصورة، وهل سينجح الغرب في مسعاه.

تجنَّد معظم وسائل الإعلام في الغرب للترويج للرواية الإسرائيلية وإدانة طوفان الأقصى وتسويغ ما تقوم به إسرائيل من مجازر بحجة دفاعها عن نفسها ضد هجوم "الحيوانات البشرية". وهذا الخطاب العنصري الذي ساد وسائل الإعلام الغربية ما هو إلا استمرار للأفكار العنصرية الاستعمارية عن تفوق الرجل الأبيض و"رسالته الحضارية"، وهي أفكار كانت مدعومة من الفكر الأكاديمي الغربي وكان كل منها يعتمد على الآخر، كما أوضح ذلك المفكر إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق".

وقد بلغ تحيز وسائل الإعلام الغربية أن سطر بعضها في "دليل سلوكها المهني" عدم تسامحه مع "معاداة السامية"، وهذا المصطلح واحد من مصطلحات القاموس الصهيوني المضلل. وهكذا جاء في دليل السلوك المهني لصوت ألمانيا "دويتشه فيله": "نحن جميعًا في DW لدينا رؤية مشتركة: فكرة الحرية، وإعلاء حقوق الإنسان، والديمقراطية وسيادة القانون، والانفتاح، والتسامح، والشفافية تجاه الجمهور. ولهذا السبب نرفض جميع أشكال التمييز بما في ذلك التحيز الجنسي والعنصرية ومعاداة السامية. إن مسؤولية ألمانيا التاريخية عن المحرقة (الهولوكست) هي أيضًا سبب لدعمنا لحق إسرائيل في الوجود. ونحن ملتزمون بهذه القيم". إنها عقدة الذنب التي يشعر بها الألمان: "بسبب تاريخ ألمانيا، لدينا التزام خاص تجاه إسرائيل".

ولقد جعلت الصهيونية من "الهولوكست" أو (المحرقة) تجارة رابحة، وأصبح يوظَّف لأغراض سياسية واقتصادية. ووفقًا لنورمان فنكلشتاين (N. Finkelstein) في كتابه "صناعة الهولوكست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية"، فإن الهولوكست لا يخضع للفهم العقلاني، لأنه تحول إلى شيء لا مثيل له في التاريخ الإنساني و"تفرده المطلق". وقد دفع فنكلشتاين ثمنًا باهظًا بسبب مواقفه المعارضة للصهيونية وطُرد من وظيفته في جامعتين مختلفتين في نيويورك وبعد ذلك من جامعة ديبول.

إن الغرب يدرك وهو يشن هذه الحرب الإعلامية الشرسة على المقاومة الفلسطينية، والتي لا تقل خطورة عن الدعم العسكري المادي؛ أن خسارة المعركة الإعلامية خسارة للحرب وانتصار للمقاومة وللقضية الفلسطينية وسقوط للرواية الإسرائيلية. لذلك يسعى الغرب جاهدًا إلى الحؤول دون تشكُّل رأي غربي يكتشف زيف الرواية الإسرائيلية ويضغط على حكوماته للكف عن الدعم غير المشروط لإسرائيل وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية؛ لأن ما شهدته من مظاهرات خلال حربها على فيتنام ليس منَّا ببعيد.

فضلًا عن هذه الحرب الإعلامية يشن الغرب حربًا من نوع آخر، وهي سعيه إلى حفظ الأساطير التي تأسست عليها إسرائيل والتفكير الذي ساعدها على ترسيخ جذورها، وذلك بإخضاع الأكاديميا للسياسة. وقد كانت الصهيونية المسيحية التي ظهرت قبل الصهيونية اليهودية سبَّاقة في الترويج لتلك الأساطير وبذلت وسعها في إقامة إسرائيل وضمان استمرارها. وهذا الارتباط الوثيق بين الأكاديمي في الغرب والسلطة السياسية هو الذي كشف عنه إدوارد سعيد. فكما تعاون الأكاديمي الغربي في الماضي في التمهيد للمشروع الإمبريالي والدفاع عنه، ها هي المؤسسة السياسية في الغرب تحاول اليوم أن يستمر الخطاب الأكاديمي في خدمة المشروع الإمبريالي-الصهيوني في المنطقة الذي تمثِّله إسرائيل باعتبارها دولة وظيفية؛ لأن الغرب يدرك تمامًا أن سقوط هذه الدولة الوظيفية سقوط لمشروعه، وانبعاث "الحس الإمبراطوري"، وفقًا لتعبير برنارد لويس، لدى العرب والمسلمين.

إن الغرب السياسي يسعى لإخضاع الخطاب الأكاديمي، وفقًا لميشال فوكو، للنظام السياسي؛ لأنه يدرك تمامًا أن النصوص لا تخلق المعرفة فحسب، كما يقول إدوارد سعيد بل يمكنها كذلك أن تخلق الواقع ذاته الذي يبدو أنها تصفه. وبمرور الوقت، تنتج مثل هذه المعرفة والواقع تقليدًا، أو ما يسميه ميشيل فوكو "الخطاب".

إن القوة السياسية الغربية تحاول أن تجعل خطابها الأكاديمي ينتج مفهومًا للقضية الفلسطينية يقوم على الصور النمطية الصارمة وليس على حقائق علمية، على غرار إنتاج الاستشراق مفهومًا يسمى "الشرق" يقوم على تلك الصور وليس على ثقافات الشرق الفعلية، وفقًا لإدوارد سعيد.

لقد عمدت السلطات السياسية، في سبيل جعل الأكاديمي تابعًا للسياسي إلى أسلوب الترهيب وقطع الأرزاق لإسكات كل صوت أكاديمي يرفض الخضوع لإملاءات السياسة وتبني الرواية الغربية الإسرائيلية عن القضية الفلسطينية. فمنذ بداية طوفان الأقصى ووسائل الإعلام تنقل لنا غيضًا من فيض الهجوم الذي يتعرض له الأكاديميون في الغرب وهذا ما وصفه أحد الباحثين في الجامعة الألمانية بـ"المجزرة في الأكاديميا الغربية". في مكالمة هاتفية مع هذا الباحث قال إنه بمجرد ما وصلته رسالة إلكترونية من الجامعة بما ينبغي تدريسه وما لا ينبغي رمى الاستقالة في وجوههم، وكان قبل ذلك قد طلب منه رئيس القسم تجنب كل ما من شأنه أن يُفهم أنه عداء للسامية؛ لأنهم لا يريدون مشاكل. وتحدث هذا الباحث عن أجواء رعب تسود الأكاديميا في ألمانيا، وذكر أن باحثة تدعم نضال الشعب الفلسطيني شاركت إلى جانب السفير الإسرائيلي في ألمانيا في حوار على التليفزيون الألماني فلما عبَّرت عن رأيها شتمها فلم ترد عليه ولم تتدخل المذيعة وبعد ذلك اتصلت بها الأستاذة المشرفة على أطروحتها للدكتوراه فأخبرتها أن مسارها الأكاديمي في ألمانيا قد انتهى. وذكر هذا الباحث، وهو عضو في لجنة الحريات الأكاديمية برابطة دراسات الشرق الأوسط، في اتصال هاتفي معه أن عددًا من الأكاديميين المناصرين للقضية الفلسطينية طُردوا من مناصبهم وأن أعضاء اللجنة تركوا أعمالهم للتفرغ لكتابة خطابات دعم لهؤلاء ودفاعًا عن الحرية الأكاديمية.

وها هي هيئة تمويل الأبحاث البريطانية أصبحت متورطة مع الحكومة في منع حرية التعبير ومبادرات التنوع، فقد أقدمت على طرد أكاديمييْن بسبب دعمهما غزة ونشر آراء "متطرفة" بشأن العدوان الإسرائيلي.

فوفقًا لموقع "inews"، فإن الحكومة البريطانية تعد ملفًّا عن الأكاديميين الذين انتقدوا على منصات التواصل الاجتماعي مجازر إسرائيل في غزة. وقد رأى اتحاد الجامعات والكليات في بريطانيا أن الأمر مزعج إلى الغاية ويثير تساؤلات جدية بشأن حرية التعبير.

وكانت وزيرة العلوم والتكنولوجيا البريطانية، ميشيل دونيلان (Michelle Donelan) ، أعربت عن "اشمئزازها" و"غضبها" من اثنين من الأكاديميين شاركا منشورات على موقع "X"، "تويتر" سابقًا، يدعمان حماس أو ينتقدان القصف الإسرائيلي لغزة.

وها هي المكارثية تعود من جديد إلى الولايات المتحدة؛ فقد نقلت وسائل الإعلام أخبارًا عن التشهير بالطلبة المناصرين للقضية الفلسطينية وتهديهم بالقتل ودعوات إلى عدم توظيفهم بدعوى عدائهم للسامية.

هل ستنجح هذه السياسة الغربية المنحازة لإسرائيل في إسكات الأصوات المؤيدة للحق الفلسطيني والناقمة على الإبادة والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني؟ كل الدلائل والقرائن تشير إلى أن هذه السياسة إلى فشل وأن السحر ينقلب على الساحر، ومن الأدلة التي تؤكد ذلك اتساع نطاق المظاهرات في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة، رغم المنع والترهيب، واتساع دائرة المناصرين للقضية الفلسطينية داخل الأكاديميا الغربية وهذا ما تؤكده الرسالة المفتوحة إلى الوزيرة البريطانية المومأ إليها والتي وقَّعها 2500 أكاديمي بريطاني؛ تدين تعليقها باعتباره هجومًا على الحرية الأكاديمية. ويعتقد الموقِّعون أن تعليقات الوزيرة لا تعد هجومًا على حرية التعبير الفردية والحرية الأكاديمية فحسب، بل تشكِّل تدخلًا سياسيًّا غير مقبول في عملية صنع القرار والحوكمة في "هيئة البحوث والابتكار".

وذكر الموقِّعون، أن استهدف الهيئة كان هدفه إحداث تأثير مخيف على المجتمع الأكاديمي بأكمله على حساب النزاهة الفكرية والمهنية. وعبر الموقعون على الرسالة، ومنهم 88 أكاديميًّا من جامعة كامبريدج و64 من جامعة أكسفورد عن قلقهم من أن هذا التدخل يمثل محاولة لخلق مناخ من الخوف لردع الأكاديميين عن التعبير عن معارضتهم لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل.

إن الغرب وإسرائيل يدركان الخطر الذي يتهدد روايتهم للصراع في حال ظهور خطاب أكاديمي في الغرب ينظر في القضية الفلسطينية نظرة موضوعية تدحض الأساطير التي بُني عليها الكيان و"اختلقت إسرائيل قديمة وأسكتت التاريخ الفلسطيني"، والعبارة تحوير قليل لعنوان كتاب للكاتب الأميركي، كيت وايتلام (Keith Whitelam) ، الذي عانى ما عاناه بسبب نزاهته الأكاديمية، كما عانى أمثاله من المؤرخين الجدد اليهود المناهضين للصهيونية، مثل: شلومو ساند(Shlomo Sand)  وإيلان بابي (Elan Pappe) ، وآفي شلايم (Avi Shlaim)  وغيرهم الذي تحدوا الرواية التاريخية الصهيونية الرسمية.

ABOUT THE AUTHOR