الحرب على غزة وتمثلات الذات الغربية في الصحافة العربية

كيف تُقدِّم الصحافة العربية الذات الغربية في علاقتها بالحرب الإسرائيلية على غزة وجرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني؟ وما الأطر التي تستخدمها في تمثُّلاتها لهذه الدول الغربية وبناء المعاني التي تشكِّل أبعاد ومكونات صورتها؟ وما المدركات والمحددات الاجتماعية والسياسية التي تستعين بها الصحافة العربية في بناء "نسق معرفي" للذات الغربية؟ ذلك هو السؤال المركب الذي يحاول التعليق الإجابة عليه.
11 January 2024
نماذج من الصحافة العربية ترى الحرب الإسرائيلية على غزة قضية شخصية للرئيس الأميركي جو بايدن (الأناضول)

في ظل استمرار عملية الإبادة الجماعية بصورها المختلفة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وتواصل الدعم العسكري والمالي والسياسي والإعلامي الأميركي والغربي للحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، برزت في الصحافة العربية صورة للذات الغربية مناقضة للقوة المعيارية التي تُقدِّم بها نفسها للعالم. وتستصحب هذه القوة المسؤولية الأخلاقية والرمزية لحماية سيادة القانون الدولي واحترام قرارات المؤسسات الدولية في تحقيق وحفظ السلم والأمن، وتعزيز حماية حقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة. وتُظهِر النماذج القصدية للصحافة العربية تمثُّلاتها لأبعاد هوية الذات الغربية، ومدركاتها عن الصورة التي تشكَّلت لهذه الذات في سياقات مختلفة؛ إذ تبدو كيانًا مُتَحلِّلًا من أي مسؤولية أخلاقية أو إنسانية تجاه ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك داعمًا لـ"الإرهاب الصهيوني والإبادة الجماعية". وترى الحرب على غزة "استكمالًا للمشروع الإمبريالي الغربي" الذي يروم تصفية القضية الفلسطينية عبر سياسة التطهير العرقي والتجهير القسري.

ليست هذه المرة الأولى التي تبرز فيها صورة مناقضة تمامًا للقوة المعيارية لأميركا، والغرب عمومًا، لاسيما في علاقتهما بالقضية الفلسطينية، أو القضايا التي تهم العالمين العربي والإسلامي؛ إذ لطالما حاولت الدبلوماسية الأميركية أن تُرمِّم هذه الصورة النمطية و"تُعقِّمها" في محطات مختلفة خلال العقود الثلاثة الماضية على الأقل. وقد ظهر ذلك بقوة في عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الذي توَّجَه منذ الأيام الأولى لولايته الرئاسية بما سُمِّي "خطاب المصالحة" مع العالم الإسلامي انطلاقًا من العاصمة التركية، أنقرة، (6 أبريل/نيسان 2009)، ثم العاصمة المصرية، القاهرة، (4 يونيو/حزيران 2009)، وذلك بعد حربين مدمرتين خاضهما سلفه الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، في أفغانستان والعراق. ولا تزال حتى اليوم صور سجن "أبو غريب" في بلاد الرافدين وانتهاكات حقوق السجناء العراقيين، وقتل المدنيين الأفغان، مظهرًا لهشاشة هذه القوة المعيارية ووسمًا لزيف خطاب الدَّمَقْرَطة والحرية والعدالة عبر الدبابة الأميركية.

على الرغم من هذا الجهد الدبلوماسي/التطبيعي لإدارة أوباما من أجل تحسين صورة أميركا في العالم الإسلامي، فلا تزال صورة "المحتل الأميركي" للعراق وأفغانستان في المخيال السياسي والشعبي لهذه الدول، فضلًا عن حروبها في غرب باكستان وقبل ذلك في الصومال. وتزداد هذه الصورة قتامة فيما نطالعه عبر نماذج من الصحافة العربية اليومية خلال الحرب على غزة، وتُحاجِج وسائل الإعلام على هذا النزوع الأميركي للحروب ومشاريعها للهيمنة بطبيعة نشأة الدولة الأميركية نفسها كما سنرى لاحقًا. وهنا، يحاول هذا التعليق الإجابة على السؤال المحوري المركب: كيف تُقدِّم الصحافة العربية الذات الأميركية، والغربية عمومًا، في علاقتها بالحرب الإسرائيلية على غزة وجرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني؟ وما الأطر التي تستخدمها في تَمَثُّل الذات الغربية وبناء المعاني التي تشكِّل أبعاد ومكونات صورتها؟ وما المدركات والمحددات الاجتماعية والسياسية التي تستعين بها الصحافة العربية في بناء "نسق معرفي" (الأطر الإعلامية) للذات الغربية؟   

الفعل الحربي والمسؤولية عن مساراته

تنطلق النماذج الصحفية العربية من محددات وتصورات وقيم تُشكِّل في مجموعها نسقًا معرفيًّا مبنيًّا على الأطر الإعلامية التي تحدد رؤيتها للذات الأميركية وعلاقتها بالحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وكذلك علاقتها بالقضية الفلسطينية. وهنا، تربط بعض النماذج الصحفية الحربَ على غزة -كفعل وعملية عسكرية غير مسبوقة لمواجهة حركات المقاومة من أجل تحقيق أهداف عسكرية وسياسية والتأثير في علاقات وموازين القوة- بالولايات المتحدة الأميركية أساسًا. وتنظر إلى واشنطن باعتبارها "شريكًا في العدوان وليست وسيطًا" محايدًا، فقد "أعطت إسرائيل الضوء الأخضر للمضي قدمًا في الحرب". ولذلك ترى هذه النماذج أن "الحرب تُمثِّل قضية شخصية للرئيس الأميركي، جو بايدن"؛ إذ "منذ اليوم الأول، وضعت الإدارة الأميركية، ومعها الأذرع السياسية والدبلوماسية والإعلامية، كل انشغالاتها على الرف وفرَّغت جهدها ومواردها لبحث سبل المشاركة في الحرب...". كما أن "البريطانيين والألمان والفرنسيين الذين يختلفون على أي شيء اتفقوا في لمح البصر على المشاركة الملموسة في الحرب".

إذن، يُظهر هذا التأطير أن الحرب "فعلٌ أميركي" بقيادة رأس هرم الإدارة الأميركية، وجهد عسكري لمواجهة الفلسطينيين بمشاركة دول غربية كثيرة؛ ما يعني أن "الفعل الحربي" على غزة يخص هذه الدول مباشرة لأهداف مختلفة قبل الاحتلال الإسرائيلي. وتحاول النماذج الصحفية أن تقيم الحجة على ذلك بما تراه مشاركة في ميدان الحرب من قِبَل الدول المذكورة التي سارعت إلى "شحن الصواريخ والقنابل وغيرها من الأسلحة الفتاكة ومعها الخبراء والضباط والجواسيس باتجاه تل أبيب... وأجهزة الرقابة والتجسس الأميركية والأوروبية..."، فضلًا عن "التغطية الإقليمية بالبوارج الحربية في أعالي البحار والمحيطات القريبة بقيادة أميركية".

ولدعم تصورها عن إطار "الفعل الحربي"، الذي تخوضه الولايات المتحدة والدول الغربية في قطاع غزة، وأطروحتها لما تُسمِّيه النماذج الصحفية بـ"العدوان"، تشير إلى "مسؤولية" هذه الدول عن استمرار الحرب (إطار المسؤولية)، وتؤكد أن "أميركا هي المسؤولة عن الجولة الثانية من العدوان، كما الجولة الأولى... إن عودة العدوان بشقيه، العسكري البري والإبادي المدني، ما كان ليتم لولا الموقف الأميركي الذي راح يغطيه، وتشارك بريطانيا أيضًا في هذه الجولة". وتربط هذه النماذج "مسؤولية أميركا" عن استمرار الفعل الحربي أو "العدوان" على غزة بـ"استخدامها حق النقض في مجلس الأمن، يوم السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لمنع مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية، وإطلاق سراح جميع الرهائن من كلا الطرفين وفتح الممرات الإنسانية... وفي الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2023، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض للمرة الثانية في وجه مشروع قرار بشأن هدنة إنسانية في غزة بعدما صوَّتت 12 دولة لمصلحة القرار بما فيها الصين؛ ما يُظهِر اللامبالاة الأميركية تجاه المأساة الإنسانية في غزة". لذلك تتحمل الإدارة الأميركية وزر ما جرى (المسؤولية)؛ لأن دستورها ينص على حماية المدنيين أينما كانوا ولكنها تدعم حكومة الاحتلال.   

ويُؤطِّر النسق المعرفي، الذي تُشيِّده النماذج الصحفية للذات الأميركية، الفعلَ الحربي على غزة في سياق "هجمة استعمارية غربية جديدة تتقدَّم فيها الدولة الصهيونية الصفوف"، لذلك يُمثِّل هذا الفعل استمرارًا لممارسات الماضي، مثل الاستعمار وتقسيم المنطقة، حيث لا يسمح الغرب بهزيمة ولو معنوية لإسرائيل. وقد عَجِلَت الدول الغربية، التي يُسمِّيها هذا النسق بـ"الإمبريالية الغربية"، إلى المنطقة لحماية إسرائيل والاستثمار في الحرب؛ إذ "لا تهمها الأرواح البشرية التي تسقط كل يوم بقدر ما تهمها الأرباح التي تجنيها وقت الحرب والسلم". ولذلك "كانت الإمبريالية الغربية دائمًا منحازة ليس إلى القيم، وإنما إلى مصالحها وحلفائها الذين ينفِّذون سياستها الدولية". وتكشف الحرب -بحسب النسق المعرفي للنماذج الصحفية المختارة- إصرار بريطانيا على مواصلة سياسة وعد بلفور بطرق جديدة؛ إذ لا تزال لحد الآن ومنذ أكثر من قرن من الزمن تعرقل مسار تحرير فلسطين، بل يرى هذا النسق أن "العدوان" على غزة يدخل في نطاق الحرب الحضارية للهيمنة الثقافية والدينية على شعوب المنطقة، والتحالف السياسي-الديني للمسيحية-الصهيونية.

وتعود هذه النماذج إلى مقارنة تداعيات غزو العراق مع ما يجري في قطاع غزة، وتُحذِّر من تحول غضب الشعوب المضطهدة إلى زيادة التطرف. وترى أن غزو العراق الذي أسهم في زيادة التعصب والتخندق الديني في صراع الأديان وصدام الحضارات بين الشرق والغرب، يلقي بظلاله على الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة؛ إذ ستُسهِم في اتساع الهوة بين الشمال والجنوب؛ الأمر الذي يجعل تداعيات هذه الحرب أشبه بتداعيات الحرب على العراق.  

التهجير القسري والإبادة الجماعية

بعد دخول الحرب على غزة شهرها الرابع لا تزال الولايات المتحدة الأميركية تنفي أن يكون جيش الاحتلال الإسرائيلي ارتكب أي عملية يمكن وصفها بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، بينما تشير الأعمال الحربية لإسرائيل إلى سقوط آلاف الضحايا جراء القصف الممنهج الذي يُدمِّر المساكن فوق رؤوس المواطنين. ويستهدف أيضًا المدراس والملاجئ التابعة للأونروا، التي طُلِب من النازحين اللجوء إليها، وهو ما يفسر ارتفاع عدد الضحايا في صفوف النساء والأطفال. كما دمَّرت الآلة العسكرية الإسرائيلية بأسلوب ممنهج البنية التحية وجميع الرموز الدينية والثقافية وكل مصادر ومقومات الحياة الإنسانية من أجل تهجير السكان خارج القطاع؛ لأن قوات الاحتلال لا ترى في الفلسطينيين سوى "حيوانات بشرية" يجب منع الكهرباء والماء والغذاء عنها، بل ومحوها حتى لو تطلب ذلك استخدام السلاح النووي، كما صرح وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو. وعلى الرغم من هذه السياسة الإسرائيلية الممنهجة في التدمير المادي لحياة الفلسطينيين، وإلحاق الأذى الجسدي والروحي بالمدنيين والتحريض المباشر عليه، ومحاولة إخضاعهم عمدًا لظروف تصبح فيها الحياة مستحيلة بقطاع غزة والاشتراك في ذلك، وهي الجرائم التي تنص عليها اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، يصر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على أن "الإبادة الجماعية ليس لها أي أساس"، وهو ما تنقُضه النماذج الصحفية المختارة التي ترى أن إسرائيل تخوض حربًا وحشية ضد الفلسطينيين "تتجاوز فيها جميع المعايير القانونية وتنتهك الشرعية الدولية والأعراف الإنسانية بدعم أميركي للآلة الوحشية بالسلاح والإعلام ومنع إدانتها دبلوماسيًّا؛ إذ شجعتها على استمرار الحرب التي تحصد الأطفال والنساء والشيوخ وتمحو البشر والحجر وكأنها تستدعي تجربة إبادة الهنود الحمر على أيدي المستوطنين الأوروبيين".

ويرى بعض هذه النماذج أن ما يتعامى عنه المسؤولون الإسرائيليون، أمثال نتنياهو، ورئيس دولة الاحتلال، يبدو حقائق ساطعة سبق أن أبصرها العضو في الكنيست الإسرائيلي، عوفر كاسيف، الذي انضم إلى دعوى قدَّمتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، واتهم حكومة بنيامين نتنياهو بانتهاج التطهير العرقي والإبادة الجماعية في قطاع غزة.

ولأن عملية الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني تتم بسلاح أميركي ومستشارين عسكريين يشاركون في الحرب -بحسب النماذج الصحفية- فليس هناك أي خلاف جوهري بين الطرفين اللذين يواصلان "حرب الإبادة الجماعية التي يتولاها جيش القتلة في قطاع غزة". وقد أسهم تأييد الحكومات الغربية للعدوان، وحق إسرائيل المزعوم في الدفاع عن النفس، ورفض وقف إطلاق النار حتى هذا اليوم، في خطورة الإبادة الجماعية. "وهي المرة الأولى التي تُساند فيها هذه الحكومات جهارًا حرب إبادة جماعية". بينما تربط بعض النماذج الصحفية ما يجري بأطراف محددة وتسميها بـ"حرب الإبادة الصهيوأميركية التي تنفذ بوحشية وعنف كبيرين"، وتُعلِّل ذلك بـ"العدوانية الأميركية والكراهية الشديدة التي تبديها واشنطن إزاء الشعب الفلسطيني عبر دعمها احتلال أرضه وتغاضيها منذ أزيد من نصف قرن عن المشروع الصهيوني الاستيطاني العنصري، بل اعترافها بالقدس عاصمة موحدة لليهود". وترى أن هذا القتل المهول الذي يستهدف المدنيين ليس له أي غاية سوى تهجير الفلسطينيين إلى أي مكان خارج حدود القطاع، وإعادة ترتيب الوضع السياسي والأمني للقطاع بما يتضمن تهجيرًا واسعًا يمهد له بمجازر وتطهير وإبادة عشرات الآلاف. وتُبيِّن نماذج أخرى أن ترتيب الوضع يتجاوز غزة إلى رسم خرائط جديدة للمنطقة كما يُخطِّط له "جدول الأعمال الصهيوأميركي/الأوروبي".  

السجل التاريخي

لا تكتفي النماذج الصحفية المختارة -في رؤيتها لعلاقة الذات الأميركية والغرب عمومًا بالإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين- بانتقاد مشاركة واشنطن فيما تراه عملية تدمير ممنهج لمصادر الحياة في قطاع غزة واستخدام الفيتو لمنع وقف إطلاق النار الذي يحصد أرواح آلاف المواطنين -كما ذُكِر آنفًا- وإنما تحاول هذه النماذج أن تجد في صفحات التاريخ المعاصر والحديث حججًا وأدلة تؤكد من خلالها النزوع الأميركي نحو الإبادة الجماعية في التعامل مع الشعوب المستعمَرة أو الدول التي شنت عليها حروبًا. وترى النماذج الصحفية، في سياق بناء النسق المعرفي للذات الأميركية وإبراز هويتها، أن "سجل أميركا الخارجي حافل بدعم أنظمة استبدادية، وتدمير بلدان، وإلقاء قنابل على مدنيين أبرياء، أكثر من أي دولة أخرى وفق نظرية الرجل المجنون الحربية". وتشير إلى الصراعات التي أشعلتها الولايات المتحدة في مناطق مختلفة في التاريخ المعاصر، وتمتد من "أفغانستان إلى العراق واليمن وليبيا، وفي الشرق الأوسط وعنوانها الأبرز فلسطين، وكانت خلالها أميركا طوال عقود تدير الأزمات لصالح إسرائيل، ولم تهتم يومًا لحقوق الشعب الفلسطيني، وبات من الواضح أنها وافقت إسرائيل على حرب الإبادة والتهجير بضوء أخضر، وبدعم مطلق على جميع المستويات".

وتؤكد نماذج أخرى أن الولايات المتحدة لم تتردد في ارتكاب أبشع الجرائم على مر العصور من أجل تحقيق أهدافها في مجال العلاقات الدولية رغم السياسة المليئة بالشعارات الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والأمن الإنساني. فقد قام الأميركيون بدور رئيسي في مذبحة هنود أميركا الشمالية عبر التهجير القسري، وأيضًا الحروب التي أودت بحياة الملايين من الهنود الأميركيين الأصليين. وفي التاريخ المعاصر، قصفت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين نوويتين خلال الحرب العالمية الثانية بأمر من الرئيس هاري ترومان ضد إمبراطورية اليابان، مما أدى إلى دمار واسع النطاق وقتل أعداد كبيرة من سكان هاتين المدينتين.

ولا تختلف صورة الذات الأوروبية وهويتها عن الذات الأميركية، فقد خاض حلفاء الاحتلال الغربيون حروبًا مشابهة خلال تاريخهم الحديث ضد السكان الأصليين، الذين تم القضاء على كثير منهم خلال غزو المستعمرات. كما خاض أغلبهم حروبًا غير متكافئة مع المقاومين للاستعمار في مجمل دول الجنوب أدت إلى مقتل عشرات الملايين. 

زيف خطاب حقوق الإنسان

تُظهِر الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، والدعم العسكري والمالي والسياسي والإعلامي الذي يحظى به لمواصلة تدمير قطاع غزة والقضاء على جميع مصادر الحياة الإنسانية، الأزمةَ الأخلاقية التي تعيشها القوة المعيارية للغرب عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان الفلسطيني وحقه في الحرية والعدالة وإنشاء دولته المستقلة. فقد فضحت الحرب من جديد وبوضوح -كما ترى النماذج الصحفية المختارة- "الكم الهائل من الهراء الذي يتفوه به المسؤولون الغربيون حول حقوق الإنسان وحرية التعبير". وكشفت زيف خطاب حقوق الإنسان باستخدام أميركا حق النقض ضد مشروع قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة لتعطي إسرائيل ضوءًا أخضر لارتكاب مزيد من المجازر.

وتشير هذه النماذج إلى التوظيف السياسي لمنظومة حقوق الإنسان في العلاقات الدولية، وتؤكد أن الحرب على غزة تُبيِّن جدية أطروحة القائلين إن منظومة حقوق الإنسان كما يتبناها الغرب لا تقوم على أي أساس أخلاقي مجرد، وإنما على أساس معايير انتقائية وتمييزية مزدوجة. وهذا ما يجعل من مطالبات الدول الغربية باحترام حقوق الإنسان ورقة ضغط ومساومة ضد الأنظمة المعادية لها. وتدعم هذا الرأي سرعة استجابة هذه المنظومة لما يُعتقَد أنها جرائم حرب ارتكبتها روسيا في حربها على أوكرانيا وتخاذلها أمام الجرائم المروعة التي يرتكبها الاحتلال في غزة.

الفشل في مواجهة المقاومة

على الرغم من القوة العسكرية التي تمتلكها إسرائيل والدعم العسكري الذي تتلقاه من الغرب، فإنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها العسكرية المعلنة بشأن تدمير حركة حماس والقضاء على البنية التحتية العسكرية لحركات المقاومة؛ إذ ترى النماذج الصحفية المختارة أن "الاحتلال الإسرائيلي يغرق في مستنقع غزة" كما غرق قبله الجيش الفرنسي في الجزائر التي انسحب منها، في 5 يوليو/تموز 1662، بعد استحالة القضاء على المجاهدين في مغاراتهم بالجبال، "والأمر ذاته حدث للاحتلال الأميركي في السبعينات مع ثوار فيتنام المتحصنين بالأنفاق، وكذلك مع طالبان في كهوف جبال تورا بورا بأفغانستان بين 2001 و2021. وقد كان يضطر إلى التسليم بالهزيمة في كل مرة والانسحاب مدحورًا رغم امتلاكه لأقوى جيش في العالم". وتقرن هذه النماذج هزيمة الاحتلال (إطار الفشل) بصمود حركات المقاومة الفلسطينية التي تُلحِق خسائر بشرية ومادية كبيرة بالجيش الإسرائيلي، وترى أن ذلك يمثِّل هزيمة كبيرة لداعميه أيضًا، "وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية التي وفرت للاحتلال ترسانة هائلة من الأسلحة المدمرة في هذه الحرب، وكانت شريكًا فعليًّا له في مذابحه بحق آلاف الأطفال والنساء، وستكون هزيمة لبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وباقي دول تحالف الشر والعدوان التي ساندت الاحتلال ودعمت جرائم الإبادة والتطهير العرقي التي يرتكبها".

ومن المنظور الإستراتيجي، تتعرض الولايات المتحدة الأميركية -بحسب النماذج الصحفية المختارة- إلى خسائر إستراتيجية "تفوق خسائر الكيان العسكرية والسياسية أضعافًا مضاعفة، بصرف النظر عما ستؤول إليه الحرب". فقد فضحت الشراكة بينهما أكذوبة القيم الأميركية، وغذَّت كراهية الشعوب العربية والإسلامية والعالم الحر كله للنظام الأميركي الذي يكيل بمكيالين، ويختبئ خلف شعارات القوانين الدولية، والديمقراطية الزائفة، وحقوق الإنسان، والعدالة، "وأصبحت دول العالم المقموعة تترقب لحظة الانهيار الأميركي ليزول ثقله عن صدورها".

وتُعلِّل هذه النماذج فشل الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه في تحقيق أهدافه بعمل ودور المقاومة الفلسطينية في ذلك، ورفض الشعب الفلسطيني للتهجير، وصموده الأسطوري وإصراره على الثبات في أرضه الفلسطينية والتفافه حول المقاومة التي حالت دون سيطرة الاحتلال على القطاع لاستكمال مخططاته على الأرض بهدف التخلص من الفلسطينيين وترحيلهم خارج فلسطين لتكون خالصةً لليهود ولتكون إسرائيل دولة يهودية.

إذن، تُظهِر أبعاد النسق المعرفي للذات الأميركية والغربية عمومًا، في النماذج الصحفية المختارة، الدورَ الذي تقوم به هذه الذات بجانب الاحتلال الإسرائيلي في الحرب على غزة؛ حيث تُقدِّم له جميع أشكال الدعم العسكري والمالي والسياسي والإعلامي لمواصلة جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني. وهو ما يؤثر في صورة هذه الدول التي أصبحت ملوثة بالدمار والخراب في قطاع غزة، لاسيما بعد التحول النوعي في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين في الحرية والانعتاق من الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة. وتكشف أبعاد النسق المعرفي للذات الأميركية والغربية -بحسب النماذج الصحفية- أن خطاب حقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية ليست له أية قيمة معيارية أمام مصالحها الإستراتيجية مع الاحتلال الإسرائيلي. لذلك، فإن السياق الذي تحاول أميركا أن تؤطر فيه الحرب على غزة وتداعياتها يظل حبيس الهجوم الذي شنَّته حركة حماس، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، على مستوطنات غلاف غزة، ومن ثم العمل والتحرك في جميع الاتجاهات للحيلولة دون تكراره حتى لو تطلب الأمر تدمير القطاع، باعتبار الحركة تمثِّل "العدو" للطرفين. وهذا السياق يأخذ بالحسبان الاحتياجات الأمنية لإسرائيل فقط، ويتجاهل السياق العام للصراع وجذور المشكلة التي تتمثَّل في الاحتلال والاستيطان وسرقة الأرض، لكن رغم ذلك تدرك أميركا أن الاحتلال محكوم عليه بالاندحار كما حصل في الجزائر وفيتنام والصومال وأفغانستان... لأن "الأرض تقاوم مع أصحابها".  

ABOUT THE AUTHOR