قضت محكمة العدل الدولية، في 26 يناير/كانون الثاني 2024، في دعوى جنوب إفريقيا المطالبة بفرض إجراءات تحفظية عاجلة لمنع ارتكاب إسرائيل إبادة لسكان غزة، بالأحكام التالية:
1- صلاحيتها في النظر في الدعوى المرفوعة، ومتابعة التحقق من تهمة ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية.
2- إلزام إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة كل من يحرض عليها.
3- إلزام إسرائيل باتخاذ إجراءات عاجلة وفعالة لتأمين سكان غزة.
4- إلزام إسرائيل بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية لسكان غزة.
5- إلزام إسرائيل بحفظ أدلة الإبادة حتى تتمكن المحكمة من النظر فيها.
6- إلزام إسرائيل بتقديم تقرير شهري، يعرض حصيلة تنفيذ إسرائيل لهذه القرارات، ثم ترسل المحكمة نسخة منه لجنوب إفريقيا كي تعلق عليه.
قراءات متباينة
ردَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الحكم بأن بلاده تحترم القانون الدولي وأن حكومته لا تشن حربًا على الفلسطينيين وإنما على حماس، وبأنها ستواصل تسهيل المساعدات الإنسانية لسكان غزة، لكنه ظل يؤكد أيضًا بأن إسرائيل ملتزمة بحماية شعبها من الهجمات المعادية.
في المقابل، أشادت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، ناليدي باندور، بالقرار، واعتبرته نصرًا حاسمًا لحكم القانون الدولي، وحجر أساس في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. ودعت إلى ضرورة وقف إطلاق النار لتنفيذ القرار لأن استمرار الحرب يمنع تنفيذه.
وقد تراوحت المواقف الدولية بين هذين الاتجاهين: اتجاه يندد بالمحكمة أو يعتبر قرارها لم يأت بجديد؛ لأن إسرائيل تلتزم في حربها بالقانون الدولي، وليست محتاجة لمن يذكِّرها به أو يلزمها بتنفيذه، واتجاه يرى أن القرار يشير في ثناياه إلى أن المحكمة وجدت أدلة كافية على احتمال ارتكاب إسرائيل إبادة لسكان غزة، وأنها ألزمت إسرائيل باتخاذ تدابير تمنع الإبادة، وحفظ أدلة تحتاجها المحكمة لإصدار الحكم النهائي في تهمة ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في سكان غزة.
أبعاد الحكم
لم يتضمن الحكم أمرًا لإسرائيل بوقف إطلاق النار، وقد نوهت بذلك القيادة الإسرائيلية، لكن بقية قرارات المحكمة تكتسي أهمية بالغة سواء في المدى القريب أو المتوسط والبعيد.
في المدى القريب، قبول المحكمة اتهام إسرائيل بالشروع في الإبادة الجماعية، ينزع عن إسرائيل صفة الضحية التي حصَّنتها من كل نقد أو مساءلة، وجعلت كل من يتجرأ على اعتبارها دولة عادية تخضع للمساءلة القانونية مثل بقية الدول معاديًا للسامية، يرتكب ما ارتكبه النظام النازي في حق اليهود، وتنبغي مساءلته ومعاقبته. لن تستطيع إسرائيل وأعوانها الاحتماء مستقبلًا بذلك؛ لأنها باتت حاليًّا متهمة بنفس الجريمة التي ارتكبها النازيون في حق اليهود. بدلًا من ذلك ستكون مشغولة بدفع تهمة الإبادة عنها، وتبيين أنها ملتزمة بالقانون الدولي، وتكون تحت المتابعة شهريًّا؛ لأنها ملزمة بتقديم تقرير شهري لمحكمة العدل يسرد الإجراءات التي قامت بها لتنفيذ لقرار المحكمة.
تلزم المحكمة إسرائيل أيضًا بالتكفل بتوفير معاش سكان غزة وضمان أمنهم وصحتهم، ليس تفضلًا إنسانيًّا كما كانت إسرائيل تصور الأمر، بل وتفاوض عليه؛ بل لأن الحصار الذي فرضته يخالف القانون الدولي ويعد جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي.
ألزمت المحكمة إسرائيل بمنع التحريض على الإبادة ومعاقبة دعاتها، ويترتب على ذلك تداعيات مهمة في الآماد المختلفة، فعلى المدى القريب، ستضطر الحكومة الإسرائيلية إلى معاقبة قيادات كبيرة في الدولة، تشمل رئيس الدولة، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ونائب رئيس الكنيست، ووزراء يمينيين متطرفين في الحكومة. إجمالًا، يؤثر الحكم في ركائز السلطة الإسرائيلية القائمة. من المرجح أن تمتنع الحكومة الإسرائيلية عن تنفيذ هذا القرار؛ لأنه يقضي عليها، لكنها تكون خالفت بذلك قرار المحكمة، وقد يترتب على ذلك إجراءات من عدة دول ملتزمة بتنفيذ قرار المحكمة، فتعلن عن إجراءات عقابية، تفرض عزلة متزايدة على إسرائيل.
على المدى المتوسط، قد تمتنع القيادات الإسرائيلية من السفر إلى الخارج لأنها قد تواجه دعاوى جنائية بناء على قرار محكمة العدل الدولية. أما على المدى البعيد، فإن امتناع إسرائيل المتوقع عن تنفيذ القرار، يضعها في عزلة دولية متزايدة، يقضي على الإنجازات الدبلوماسية التي حققتها في سبيل الاندماج الدولي والإقليمي، وهو الهدف الدبلوماسي الرئيسي الذي تطلعت إليه منذ نشأتها.
فرصة القرار
لن يتحقق ما سبق من تلقاء نفسه، لكنه مشروط بانتهاز الدول المناهضة للاحتلال، مثل جنوب إفريقيا، الفرص التي وفرها قرار المحكمة، للاعتماد عليها في تشكيل توافقات دولية ضاغطة، تلزم إسرائيل بتنفيذ قرارات المحكمة الدولية، ويمنح القرار فرصة أيضا للدول العربية والإسلامية لكسر الحصار، فتستطيع مصر خاصة، ودول أخرى، أن تدفع بقوافل المساعدات من معبر رفح إلى غزة، وتطالب برقابة أممية عليها، فيضيق الخناق على إسرائيل التي ستتفادى اعتراض القوافل خوفا من محكمة العدل الدولية. سيسعى حلفاء الولايات المتحدة بالطبع إلى إفراغ القرار من مضامينه، لكن موقفهم ضعيف؛ لأنها لا يستطيعون مناهضة قرار المحكمة علنًا، بل إن الدول الغربية أعلنت احترامها للقرار، ولم تتجرأ الولايات المتحدة على الطعن فيه وإن حاولت تجاهله أو التقليل من مضامينه، لكنهم جميعًا لا يستطيعون رفض تنفيذه إذا تعرضوا لضغوط علنية ودائمة.
إن صدور القرار والضغوط المرتقبة لتنفيذه يجعلان إسرائيل عبئًا على حلفائها وعلى النظام الدولي، وقد يضطر عدد متزايد من المرتبطين بها إلى مراجعة علاقاتهم معها، حتى لا يتقاسموا معها أوزار مروقها عن القانون الدولي.