الضفة الغربية وغزة في مواجهة "سياسة التحكم" الاقتصادية الإسرائيلية

تهدف الورقة إلى دراسة وتحليل سياسة الضبط والتحكم الاقتصادي الاستعماري التي تنتهجها إسرائيل إزاء الضفة وغزة، خاصة في سياق الحرب على قطاع غزة. تقوم هذه السياسة على إبقاء الفلسطينيين عمليا تحت الحصار، وأمنهم الاقتصادي قيد التهديد، للتحكم بهم سياسيا بأدوات اقتصادية.
30 January 2024
مآل سياسة التحكم والضبط الاقتصادية الإسرائيلية على غزة، مرهون بقدرة المقاومة على فرض شروطها (الإعلام العسكري للقسام).

تصاعدت المواجهة الشعبية في الضفة الغربية في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فقد سعت إسرائيل بحكم احتلالها المباشر للضفة لخفض وتيرة الفعاليات الشعبية عبر القمع والاعتقال والترهيب والعقاب الجماعي، وفعَّلت أدوات الضبط السياسي الاقتصادية الاستعمارية، لتتحكم من خلالها معيشيًّا بالفلسطينيين، أبرزها ملفَّا العمال الفلسطينيين في إسرائيل والمقاصة اللذان يشكلان عصب الاقتصاد الفلسطيني.

أما في غزة، فتعمل إسرائيل على تعميق الأزمات المعيشية والإنسانية والاقتصادية للسكان وجعلها غير آهلة للحياة، وتسعى إلى تفعيل أدوات الضبط والتحكم مستقبلًا من مدخل مشاريع "إعادة الإعمار". حاولت إسرائيل بإعلانها الحرب على القطاع، تحويل الأنظار عن احتلالها "غير المباشر" له قبل عملية "طوفان الأقصى"؛ فقطاع غزة كان يخضع لإسرائيل حتى بعد انسحابها منه عام 2005، وفرضت عليه حصارًا عسكريًّا واقتصاديًّا منذ عام 2007، وجاء قرار اعلان فرض الحصار عليه مجددًا، في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لخنق القطاع فعليًّا، وللإيحاء بأن إسرائيل لم تكن تفرض عليه حصارًا من قبل. وأحد أهم أهداف إسرائيل من الحصار فرض قواعد ضبط وتحكم اقتصادي بالفلسطينيين(1)، فهي تربط مستوى "الحفاظ على أمنها" بالملفات المعيشية والإنسانية للفلسطينيين لثنيهم عن فكرة مواجهة إسرائيل ومشروعها أو تأييد المقاومة، إضافة إلى زيادة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

تهدف الورقة إلى دراسة وتحليل سياسات الضبط والتحكم الاقتصادي الاستعماري التي تنتهجها إسرائيل إزاء الضفة وغزة: توقيتها وآليات تفعيلها وما يتصل بها من قضايا، خاصة في سياق الحرب على قطاع غزة. وتتطرق الورقة إلى النقاش الإسرائيلي الراهن حول التعامل مع الفلسطينيين في الملفات الاقتصادية التي تمسكها إسرائيل اليوم وستحتفظ بها مستقبلًا، منها إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب وملف العمال الفلسطينيين وأموال عائدات الضرائب. كما تتناول تداعيات هذه السياسة على الفلسطينيين وأهم سيناريوهاتها. 

سياسة الضبط والتحكم قبل "الطوفان"

بدأت إسرائيل عملية الهندسة الاقتصادية الاستعمارية للمجتمع الفلسطيني بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، عبر تفكيك البنية الاقتصادية القائمة وإعادة تركييها بنيويًّا بما يتلاءم مع أهداف إسرائيل ويعزز من قدرتها على ضبط الفلسطينيين والهيمنة على مقدَّراتهم. فقد سيطرت إسرائيل على الموارد الطبيعية والاقتصادية واستغلتها لصالح المستعمرات، وهيمنت على مفاصل الإنتاج وتحكمت بالتجارة وبعمليتي التصدير والاستيراد، وعملت على استغلال القوى العاملة الفلسطينية للعمل في المستعمرات والمناطق المحتلة عام 1948.

كما أثَّرت إسرائيل على الثقافة الاقتصادية للفلسطينيين عبر تشجيع أنماط الإنتاج والعمل التي تخدم مصالحها، لضرب القطاعات الإنتاجية الفلسطينية والحد من تطورها، وعلى رأسها الزراعة والصناعة. وسيطرت إسرائيل على السوق الفلسطينية وحولت المجتمع الفلسطيني إلى سوق استهلاكية لبضائعها؛ إذ شهد المجتمع الفلسطيني تحولًا تدريجيًّا نحو العمل في القطاعات الخدمية والعمل في إسرائيل، وقد تضاعف عدد العمال الفلسطينيين بنحو 6 مرات منذ عام 1967 وبداية التسعينات، منهم 40% من إجمالي عمال قطاع غزة و30% من إجمالي عمال الضفة الغربية(2). ووجهت إسرائيل الفلسطينيين تدريجيًّا للاعتماد عليها للبقاء أو الانتعاش، وفرضت الحصار على قطاع غزة وفصلته عن الضفة الغربية جغرافيًّا واقتصاديًّا وخدميًّا. 

ظلت بنية الاقتصاد الفلسطيني مشوهة وتابعة لإسرائيل بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، ولم يعزز اتفاق أوسلو -المنشئ للعلاقة مع إسرائيل- فكرة التحلل من هذه التبعية، بل ترسخت بفعله هيمنة إسرائيل على مفاصل الاقتصاد عبر بروتوكول باريس الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو، الذي حدد أسس العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية (1993-1999)(3)، على اعتبار أنه بروتوكول مؤقت إلا أن إسرائيل اختارت لاحقًا من بنوده ما يعزز مصالحها، منها هيمنتها على جباية الضرائب والجمارك والملفات المعيشية للفلسطينيين، وترسيخ أساسات تشغيل العمال الفلسطينيين في إسرائيل دون تفعيل ما ورد في البروتوكول من دور ومهام تمارسها السلطة الفلسطينية بهذا الجانب.  

ومن جهتها، اتبعت السلطة الفلسطينية سياسة اقتصادية أفضت إلى ربط أوضاع الفلسطينيين المعيشية بعلاقتها مع إسرائيل، فقد عملت على تعزيز قطاع الخدمات والمساعدات الاجتماعية والوظائف الحكومية على حساب القطاعات الإنتاجية في موازنتها العامة، وربطت عائدات الضرائب "المقاصة" المشتركة مع إسرائيل بفاتورة رواتب الموظفين العموميين في السلطة.

على صعيد العمل، وضعت الإدارة المدنية الإسرائيلية قواعد عامة لضبط الفلسطينيين عبر مكاتبها المنتشرة في الضفة الغربية وعلى الفلسطينيين في قطاع غزة، تمثلت في إصدار "بطاقات ممغنطة" وتصاريح دخول لإسرائيل والعمل فيها، وفق معايير وموافقات أمنية أهمها خلو ملف المتقدم من "المنع الأمني" لدى المخابرات الإسرائيلية. أي تمنحها إسرائيل بالأولوية للذين لم يسبق لهم أن شاركوا في أي أعمال أو فعاليات ضدها، أما من يقوم بأي تصرف تراه إسرائيل أنه ضدها، فإنه يُمنع من العمل ويُحرم من مصدر للدخل. وقد نظم "منسق الإدارة المدنية" الإسرائيلي حملات لإزالة "المنع الأمني" عن الفلسطينيين الراغبين بالعمل في إسرائيل، طالبًا منهم التوجه إلى مقرات الإدارة المدنية لمقابلة ضابط المخابرات "لتسوية ملفاتهم"، وخصصت إسرائيل منصات الكترونية وتطبيقات على الهواتف الذكية للتواصل مباشرة مع الفلسطينيين وتقديم الطلبات دون التوجه إلى مكاتب الارتباط الفلسطينية. أدت سياسات الإدارة المدنية المتعلقة بتصاريح العمل وتشديدها، وسياسات العقاب بسحب التصاريح أو تأخير تجديدها، إلى تعزيز الرقابة الذاتية والعائلية لحملة هذه التصاريح من الفلسطينيين. بهذه السياسة تحول التصريح إلى سلطة هيمنة ورقيب اجتماعي وسياسي على العامل وعائلته(4).

نجحت إسرائيل في إرساء أساسات سياسة التحكم الاقتصادية واستخدمتها ورقة ضغط في تعاملها مع الفلسطينيين في جولات المواجهة السابقة بعد أوسلو، على رأسها الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2004)، والتي فرضت فيها إسرائيل حصارًا اقتصاديًّا على الفلسطينيين عبر الإغلاقات وتقييد الحركة. وفي إطار العقاب الجماعي، أوقفت إسرائيل تصاريح العمال لزيادة الضغط الداخلي؛ ما خلَّف أوضاعًا اقتصادية صعبة أسهمت برفع معدلات الفقر والبطالة في صفوف الفلسطينيين، وبالتالي سبَّبت ارتفاعًا في معدلات انكماش الاقتصاد الفلسطيني. وكذلك قامت بحجز أموال عائدات الضرائب الفلسطينية (المقاصة) من ديسمبر/كانون الأول 2000 لغاية ديسمبر/كانون الأول 2002 كعقاب للسلطة الفلسطينية(5)، فتضرر بذلك الموظفون العاملون في القطاع الحكومي الفلسطيني الذين واجهوا مع غيرهم ظروفًا معيشية قاسية. عرضت إسرائيل حزم "تسهيلات اقتصادية وتجارية" لاحقًا مع القيادة الجديدة للسلطة الفلسطينية في مرحلة إعادة ترميم ما دمرته إسرائيل خلال الانتفاضة الثانية من بنية تحتية ومؤسسية، وربطت أموال المقاصة بمدى التزام السلطة بدورها وحدودها الوظيفية.

فرضت إسرائيل ذات الحصار خلال مراحل أخرى من المواجهة مع الفلسطينيين، كما حدث بعد فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، حيث أوقفت عائدات الضرائب الفلسطينية لثني الحكومة التي شكَّلتها عن دفع رواتب الموظفين، وشكلت بذلك ضغطًا داخليًّا تمثَّل بإضراب كبير للموظفين. وكذلك أوقفت تصاريح العمال من القطاع عام 2007 بعد سيطرة حماس عليه، بعد أن فرضت حصارًا اقتصاديًّا مستمرًّا على قطاع غزة منذ 17 عامًا أدى إلى تفاقم الأزمات المعيشية وتضاعفت بفعله نسب الفقر والبطالة. وأخذت إسرائيل تتحكم في دخول البضائع وخروجها وفي حركة الاستيراد والتصدير عبر المعابر، وفي نوع وكمِّ المواد الخام اللازمة للصناعات والبناء، لتتفاقم الأزمة وتؤدي إلى إغلاق عشرات المصانع والورش. هذه السياسات أسهمت في تعميق الأزمات المعيشية للسكان في منطقة تشهد أعلى كثافة سكانية في العالم.

وبعد شنِّ الحروب الأربع الكبيرة على قطاع غزة التي دمرت فيها إسرائيل المباني والبنى التحتية والاقتصادية، استخدمت إسرائيل إعادة الإعمار والملفات الاقتصادية والمعيشية ورقة ضغط على الفصائل الفلسطينية وربطتها بالأمن، عبر تضمينها في اتفاقيات الهدنة، أو في مبادرات الوسطاء التي شملت إدخال الأموال وإعادة الإعمار وإدخال الوقود وتشغيل محطات توليد الكهرباء. وربطت بين وقف الهجمات على إسرائيل باستمرار السماح بإدخال المواد الغذائية والطبية، وفتح معبر رفح. هذه الأوراق تضاف إلى ما سبَّبه الحصار الإسرائيلي من ارتفاع لمعدلات الفقر والبطالة وأزمة الكهرباء، وقد أعادت إسرائيل خلال العامين الأخيرين ملف العمال بمنح التصاريح لحوالي 20 ألف فلسطيني، وكانت قد وعدت برفع هذا العدد بشرط الحفاظ على أمنها، ورغم ذلك ظل القطاع يعاني من قبضة إسرائيل الاقتصادية ونتائج حروبها وحصارها، ولكن لم تفلح سياساتها في القضاء على المقاومة في القطاع، بل زادت من مستوى الاحتقان والضغط.  

ويلاحَظ ضمن سياسات إسرائيل بعد كل مرحلة من مراحل المواجهة والحروب أنها كانت تسعى إلى الضغط وإرساء الأمن عبر المساومة على الحقوق والاحتياجات المعيشية بمقابل فك الحصار الناجم عن إغلاق الحواجز والمناطق الفلسطينية، وفتح المجال أمام الوسطاء والممولين لعلاج الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها إسرائيل نفسها بفعل سياسات العقاب الجماعي والحصار الاقتصادي.

سياسة الضبط والتحكم بعد "طوفان الأقصى"

شرعت إسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى" بجملة من الإجراءات في الضفة الغربية وغزة لضبط الفلسطينيين بوسائل اقتصادية والتحكم بهم مستقبلًا، أبرزها:

  1. حصار الضفة اقتصاديًّا: فرضت إسرائيل حصارًا اقتصاديًّا على الضفة الغربية، وأوقفت أكثر من 160 ألف عامل فلسطيني كانوا يعملون في إسرائيل(6) (أظهرت إحصائيات أخرى أن عددهم تجاوز 200 ألف)(7)، وأعلنت إغلاق المعابر. تسببت هذه الإجراءات بتقييد حركة البضائع وإعاقة وصول الموظفين إلى أعمالهم، وانعكست بالجملة أزمة في الاقتصاد الفلسطيني؛ حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة في الضفة الغربية بعد فقدان 276 ألف فرصة عمل(8)، وأسهمت في تضرر القطاعات التجارية والصناعية.
  2. اقتطاع حصة قطاع غزة من عائدات الضرائب الفلسطينية: اقتطعت إسرائيل ما تصل قيمته إلى 600 مليون شيكل (نحو 162 مليون دولار)، كانت مخصصة لرواتب موظفي السلطة ولتغطية جزء من فاتورة الكهرباء في القطاع. فأعلنت السلطة الفلسطينية بالمقابل أنها رفضت استلام هذه الأموال منقوصة ما أدى إلى عجز مالي في فاتورة الرواتب للموظفين في القطاع الحكومي(9).
  3. توقيف عمال قطاع غزة في إسرائيل: أوقفت إسرائيل حوالي 18 ألفًا و500 عامل وتعرض حوالي 17 ألف منهم للتنكيل حيث كانوا على رأس عملهم في إسرائيل، واعتقلت أكثر من 4000 ورحَّلت أغلبهم قسريًّا إلى القطاع عقابًا لهم ولعائلاتهم(10).
  4. خنق القطاع: فرضت إسرائيل الحصار الاقتصادي على القطاع بعد إعلان الحرب وإغلاق المعابر، ومنعت إدخال الغذاء والمساعدات الإنسانية، في ظل استهداف جميع المنشآت والمصانع والمصالح التجارية للفلسطينيين، ونتج عن ذلك القضاء على 66% من التشغيل في قطاع غزة ولم تتوقف الحرب بعد(11).
  5. تدمير البنية التحتية: عملت إسرائيل على تدمير البنية التحتية والاقتصادية والخدماتية والمنازل في قطاع غزة، جاء ذلك في تصريحات صدرت عن قيادات إسرائيلية، منها وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال: "سنقضي على كل شيء"، ومنهم من طالب بـ "تسوية غزة بالأرض"(12)، بهدف أولًا: رفع فاتورة إعادة إعمار القطاع وجعلها مهمة صعبة ومعقدة ومشروطة. ثانيًا: استعمال ورقة إعادة إعمار قطاع غزة للضغط على الفصائل الفلسطينية في غزة، وفرض ما أسمته بـ"إعادة ترتيب القطاع" ما بعد "إنهاء حكم حماس"، بذريعة أنها حرب إسرائيلية على حماس وحدها.
  6. شن حرب إعلامية: استخدمت إسرائيل الحرب الإعلامية في إطار التضييق على الفلسطينيين وإحباطهم، فأصدرت حكومة الحرب الإسرائيلية تصريحات وتهديدات تظهر قدرات إسرائيل على التحكم بالفلسطينيين ومعاقبتهم. فضلًا عن مناقشتها لمستقبل الفلسطينيين الاقتصادي بعد أن عملت على مفاقمة سوء أوضاعهم الاقتصادية. وعمدت إسرائيل في إطار حربها النفسية والسياسية إلى إلقاء مسؤولية الحرب وتدمير القطاع على الفصائل الفلسطينية التي نفذت عملية "طوفان الأقصى"، وأعطت نفسها حق تحديد ملامح الحكم القادم والخيارات الممكنة لذلك، رغم أن المواجهة العسكرية لا تزال مستمرة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، ولم تظهر نتائجها النهائية بعد. 

النقاش الإسرائيلي حول سياسة الضبط الاقتصادي

ساد نقاش إسرائيلي حول سياسات الضبط الاقتصادية بعد عملية "طوفان الأقصى"، تركز حول العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وعائدات الضرائب الفلسطينية، وإعادة إعمار قطاع غزة ما بعد الحرب. ويدور نقاش آخر حول جدوى هذه الأدوات وتبعاتها فلسطينيًّا وإسرائيليًّا.

أولًا: ملف العمال الفلسطينيين: انقسمت آراء الإسرائيليين في التعامل مع ملف العمال الفلسطينيين بين مؤيد ومعارض بعد قرار "الكابينت الإسرائيلي" وقف استقدام عمال فلسطينيين واستبدال عمال أجانب بهم. أغلب المعارضين للقرار يتبعون لشركات الإنشاءات واتحاد المقاولين الإسرائيليين وخبراء اقتصاديين. جاءت اعتراضاتهم من ناحية الأمن والاقتصاد؛ إذ شكَّك "راؤول سارغو"، الأمين العام لاتحاد المقاولين الإسرائيليين، في قرار الحكومة حول العمال الفلسطينيين، واعتبره "مجرد تهديد كاذب" سبق وأن صدر من قبل ولم يتم تنفيذه، داعيًا الحكومة إلى إيجاد صيغة لجلب العمال من الضفة الغربية بعيدًا عن استخدام هذا الموضوع لغايات "التجارة الحزبية"(13).

أما بعض الاقتصاديين فقد رأوا أن هذا القرار سيترتب عليه تداعيات على الاقتصاد الإسرائيلي في قطاعات الزراعة والبناء التي تحتاج عددًا كبيرًا من العمال، والعمال الفلسطينيون بنظرهم أفضل كفاءة من الأجانب. وأثاروا موضوع الفساد في الشركات التي تستقدم العمالة الأجنبية، ويتمثل بتلقي رشى وتحصيل رسوم محظورة، وأنه نوع من أنواع الاتجار بالبشر(14).

ويرى معارضون آخرون للقرار -أي استبدال عمال أجانب بالفلسطينيين- بأن التأخر في إعادة استقدام العمال الفلسطينيين سيكون له ثمن باهظ في قطاع البناء؛ حيث تستغرق إجراءات جلب العمالة الأسيوية مدة أشهر ما يعني أن أزمة ارتفاع أسعار الشقق السكنية ستتفاقم، كون البناء يعتمد على حوالي 80 ألف عامل فلسطيني يغطون ما يحققه القطاع الذي يسهم بـ 7% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل. لذلك طالبوا الحكومة بالبحث عن حلول أمنية وأنظمة مراقبة لإدخال العمال بدل الاكتفاء بالنظر في جلب العمالة الأجنبية غير الممكن على المدى القصير، والذي سيؤدي إلى تبعات سلبية على المدى الطويل، كما أن بعض العمال من جنسيات المتخصصين في البناء مثل الصين يطلبون أجرًا مضاعفًا يصل إلى 500 دولار في اليوم. في ذات السياق، يخشى بعض الإسرائيليين أن يشكل جلب أكثر من 50 ألف عامل أجنبي لقطاع البناء ضغطًا على البنية التحتية والإسكان والنقل والصحة والتعليم، وسيدفع الاستغناء الرسمي عن العمال الفلسطينيين بعض المقاولين والشركات إلى اللجوء إلى إجراءات غير قانونية لتشغيل العمال الفلسطينيين، وما يرافق ذلك من مخاطر أمنية على إسرائيل، لذلك يطالب هؤلاء الحكومة بتنظيم إعادتهم للعمل والإشراف على الإجراءات الأمنية اللازمة(15). قال جانب من المعارضين بأن وقف إدخال العمال يضر بالاقتصاد الفلسطيني على وجه الخصوص في ظل ارتباط السوقين، الفلسطيني والإسرائيلي، وينذر بتعاظم المخاطر الأمنية ضد إسرائيل ويؤثر على استقرار السلطة الفلسطينية وفيه إخلال بالالتزامات معها. على سبيل المثال، حذرت صحيفة هآرتس من "تحويل الضفة الغربية إلى طنجرة من الضغط والإحباط"(16).

أما الفريق المؤيد لقرار "الكابينت" وأغلبه مرتبط بالحكومة الإسرائيلية، فهم يرجحون كفة الأمن وضرورة توجيه عقاب جماعي للفلسطينيين. منها وزارة الإسكان التي تعمل على تنفيذ قرار الكابينت الإسرائيلي عبر خطة زمنية، بدأت فيها بإجراء مقابلات مع عمال من دول شرق آسيا، لاستقدام 10 آلاف منهم كل شهر، منذ يناير/كانون الثاني 2024. لكن وزارة الإسكان ترى أيضًا أنه ستكون هناك حاجة للعمال الفلسطينيين في بعض المناطق المسموح العمل بها(17).

يبدو أن إسرائيل تستخدم ملف العمال أداة ضبط خلال المواجهة الأخيرة، فهي لا تستغني عنهم بشكل دائم، كما أنها لم تستقدم عمالة جديدة رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء الحرب، في ظل حاجتها المهنية والاقتصادية للعمال، خصوصًا في قطاع البناء يليه الزراعة. فالعمالة الفلسطينية غير مكلفة ولا تتطلب إجراءات ولا التزامات إقامة تثقل كاهل إسرائيل إداريًّا وديمغرافيًّا، وأجورها المالية وحقوقها غير متساوية مع العمالة الإسرائيلية والعمالة الأجنبية. وقد أثبتت أوقات المواجهة السابقة أن إسرائيل لا تستطيع أن تتخلى عن العمال الفلسطينيين طوال الوقت، وإلا فيمكنها إحلال العمال الأجنبية محل العمالة الفلسطينية بشكل دائم، وهذا يعني حينها إسقاط هذه الورقة التي تستخدمها إسرائيل في محاولة ضبط الفلسطينيين.

ثانيًا: ملف أموال "المقاصة": هناك أصوات إسرائيلية رسمية تعارض كليًّا تسليم السلطة الفلسطينية "نصيبها" من عائدات المقاصة، منها وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، اللذان اتهما السلطة بأنها تدعم "الإرهاب" وتشجعه عبر هذه المساعدات. ويقصدون بذلك المخصصات المالية الشهرية التي تقدمها الحكومة الفلسطينية لأسر الشهداء والجرحى الفلسطينيين(18)، والمخصصات المالية التي تقدمها السلطة في قطاع غزة. في حين حذرت جهات أمنية إسرائيلية، منها وزير الدفاع "يوآف غالانت"، من التأخر في تحويل هذه الأموال خشية تفجر الأوضاع الميدانية في الضفة الغربية، وتوافقت هذه الأصوات مع الآراء الإسرائيلية بضرورة تعزيز قوة السلطة الفلسطينية ومنع انهيارها، حتى لا تجد السلطة نفسها غير قادرة على دفع رواتب موظفيها، خاصة عناصر الأجهزة الأمنية. وقد رفض وزير المالية الإسرائيلي، سموتريش، تحويل الأموال بحجة دعم الإرهاب، وأن السلطة الفلسطينية "جزء من المشكلة". ولم يتوقف النقاش بخصوص المقاصة وقرار تحويلها بين الإسرائيليين، بل شاركت في إبداء الرأي جهات خارجية منها الولايات المتحدة الأميركية التي طالبت بعدم المساس بأموال السلطة منعًا من انهيارها(19)، وساندها في هذا التوجه عدد من الدول الأوروبية والعربية التي طالبت بإعادة الأموال للسلطة الفلسطينية.

ثالثًا: آراء الإسرائيليين حول فرض الحصار على قطاع غزة ومنع إعادة الإعمار: تتضارب الآراء الإسرائيلية حول ما بعد الحرب وخصوصًا المتعلقة بحكم حركة حماس وإعادة إعمار القطاع، كون الحرب التي شنَّتها إسرائيل لا تزال مجهولة النتائج، ولم تحقق تقدمًا يرتبط بأهداف العملية العسكرية المعلنة وعلى رأسها "القضاء على حماس". لا يزال الإعلام الإسرائيلي والحكومة يثيران نقاشًا مستمرًّا حول وضع غزة ما بعد الحرب، فقد أعلن نتنياهو رفضه لسيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع بعد انتهاء الحرب، وتتفق معه أطراف أمنية إسرائيلية، ويعيد ذلك "لفشل السلطة في السيطرة على الأمن في الضفة الغربية". ورغم الرغبة الإسرائيلية المفترضة بالسيطرة على غزة، إلا أنها لم تُبدِ أي استعداد لترميم ما دمرته آلتها العسكرية في القطاع، ولا أن تتحمل مسؤوليتها كسلطة احتلال، بل عوَّل الإسرائيليون على "اتفاقيات أبراهام" التي طبَّعت فيها إسرائيل مع دول عربية منها دولة الامارات. وهناك تعويل إسرائيلي/أميركي أيضًا على توقيع اتفاق تطبيع إسرائيلي/سعودي يمكن أن يسهم في إعادة إعمار غزة، وجاء ذلك في مبادرة طرحها مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط "بريت ماكغورك"، والتي تحتوي على جدول زمني لمدة 90 يومًا بعد انتهاء الحرب على قطاع غزة، ويتم من خلال هذا الاتفاق ممارسة الضغط على الفلسطينيين(20).

وقد زعم نتنياهو بأن السعودية والإمارات سيمولان إعادة إعمار القطاع بعد انتهاء الحرب(21)، فيما يبدو أنه يرتجل تصريحاته؛ إذ صرحت سفيرة الامارات العربية في الأمم المتحدة، "لانا نسيبة"، أن مساهمة الإمارات بإعادة إعمار غزة، مشروطة "بوجود التزام قوي" بحل الدولتين وباتفاق فلسطيني-إسرائيلي يحظى بدعم دولي(22). كما صرح سفير السعودية في لندن، "خالد بن بندر"، بأن بلاده لا تزال معنية بالتطبيع مع إسرائيل بعد الحرب لكن ليس على حساب الفلسطينيين، وأن الاتفاق مع إسرائيل يجب أن يقود إلى تأسيس دولة فلسطينية(231)، وتلاه تصريح لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، قال فيه: إن السعودية منفتحة على توقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل بشرط الدخول في مسار لا رجعة فيه لإقامة دولة فلسطينية(24).

يظهر من نقاشات الإسرائيليين حول أدوات الضبط الاقتصادي أنها تتمحور حول الدواعي الأمنية والأسباب الاقتصادية؛ ففي حين ترجح الحكومة كفة الأمن على القضايا الاقتصادية، فإن شركات المقاولات والمستثمرين وأصحاب المصالح من الأطراف الإسرائيلية، يريدون لمصالحهم أن تكون ضمن أولويات الحكومة ما أمكن ذلك، وألا تتعارض مع توجهات الحكومة وأولوياتها، مع أنهم لم يذهبوا بعيدًا في معارضتها.

سيناريوهات وتداعيات سياسات التحكم والضبط الإسرائيلية

يترتب على سياسة التحكم والضبط الاقتصادي الإسرائيلي، باعتبار مدى ترسخها وتعاظمها أو تراجعها وانحسارها، تداعيات على الفلسطينيين والقضية الفلسطينية ومستقبلها:

سيناريو ترسخ سياسة التحكم في الضفة الغربية وامتدادها إلى غزة: ترتبط إمكانيات تحقق هذا السيناريو في الضفة الغربية بواقع السلطة الفلسطينية السياسي والاقتصادي. توقفت المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ عام 2014 ولم تصل إلى نتيجة، ووصل المشروع السياسي الذي انبثقت عنه السلطة الفلسطينية إلى طريق مسدود، والقائم على "حل الدولتين" عبر المفاوضات والوسائل الدبلوماسية و"المقاومة الشعبية". استمرت مشاريع إسرائيل الاستعمارية واستيطانها على الأرض في الضفة الغربية، وترسخت تبعية الاقتصاد الفلسطيني بشكل تام لإسرائيل التي باتت تتحكم بالمعابر والتجارة وتسيطر على جباية الضرائب والجمارك وتستغل الأيدي العاملة الفلسطينية. ولا تبدو السلطة الفلسطينية راغبة بمواجهة إسرائيل عبر ما تملكه من أوراق، كالتوجه إلى القضاء الدولي ردًّا على تلويح إسرائيل وتهديداتها بفرض حصار اقتصادي عليها. فهي تسعى للحفاظ على دورها الحالي سلطة حكم ذاتي، تمارس أدورًا إدارية وتتمتع بصلاحيات محدودة في ظل الاحتلال، وتتجنب الوقوع في أزمات اقتصادية تعوق دورها. لذلك، فإن هذا السيناريو يرجح أن تبقى السلطة الفلسطينية رهينة للضبط الاقتصادي الإسرائيلي بشكله الحالي.

أما قطاع غزة الذي يعاني من الحصار قبل عملية "طوفان الأقصى" بسبعة عشر عامًا، فإن ما ستسفر عنه الحرب الإسرائيلية الحالية سيكون أحد أهم محددات مستقبل سياسة الضبط الاقتصادي فيه. وقد تعرض قطاع غزة، ولا يزال، لعملية تدمير شاملة وممنهجة، قد تفوق قدرة المقاومة على فرض شروط بخصوص عملية إعادة الإعمار، لاسيما أن الورقة الأساسية التي تملكها المقاومة وتعتمد عليها بشكل أساسي لغاية الآن، هي ملف الأسرى. تربط حماس إطلاق سراح الأسرى بصفقة تبادل بعد وقف تام للعملية العسكرية الإسرائيلية، ووقف شامل ومتبادل لإطلاق النار، وتطالب بإدخال المساعدات وفتح المعابر وإعادة الإعمار من منطلق تحميل إسرائيل مسؤولية الدمار الذي أحدثته في حربها على القطاع. بالمحصلة، إن لم تستطع المقاومة فرض شروطها أو أهم شروطها، ستبقى فرص إعادة سياسة الضبط والتحكم الاقتصادية الإسرائيلية بالقطاع بعد الحرب قائمة.

يحمل هذا السيناريو تداعيات سلبية على حركة حماس؛ حيث تلقي أدوات التحكم الاقتصادية ووقع الأزمات المعيشية وتدمير قطاع غزة، بظلالها على الساحة كعامل ضاغط على أولويات حركة حماس التي تجمع بين نهج المقاومة والحكم. بالنسبة للإسرائيلي، يشجعه هذا السيناريو على طرح تسويات مؤقتة للملفات المعيشية مقابل الحفاظ على "الأمن" من خلال هدنة طويلة الأمد. ويفتح المجال أمام تدخل المطالبين بربط غزة وواقعها الجديد بالسلطة الفلسطينية، لتصبح مهمة إعادة الإعمار جزءًا من اتفاق دولي برعاية أميركية، وهذا يوفر لإسرائيل هامشًا لتعزز من فرض سياسة التحكم والضبط الاقتصادية، وهذه الأخيرة ستكون حدتها ومداها مرتبطين بمدى قبول حماس للشروط التي تفرض أو تعرض عليها في أي تسوية مقبلة، وبمدى قدرة الجهات الوسيطة على الضغط على حكومة نتنياهو للقبول بتسوية سياسية.

وهذا السيناريو ستكون له انعكاساته على طبيعة دور وأداء السلطة الفلسطينية، فمن ذلك أنه يفتح المجال أمام تثبيت الحكم الذاتي للفلسطينيين تحت سلطة إسرائيل على حساب أي مشاريع تحمل نهج المقاومة كليًّا أو تلك التي تدمج المقاومة بالحكم، وذلك بفعل زيادة هامش تحكم إسرائيل بالفلسطينيين وزيادة الأعباء المعيشية عليهم. ويفتح المجال أمام مشاريع السلام الاقتصادي في ظل الحديث الأميركي عن "السلطة الفلسطينية المتجددة" والمناهض لفكرة تحول هذه السلطة إلى دولة، أي بقائها في فلك الحكم الذاتي، وأن تبقى غارقة بالالتزامات المعيشية مقابل أدوار أمنية. وستبقى في هذا السيناريو حاجات الفلسطينيين ورقة ضغط بيد إسرائيل وحلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ودول أوروبية، الذين يقدمون بالعادة حزمًا من المساعدات لدعم الفلسطينيين بأثمان سياسية. ويشكل ذلك غطاء لاستمرار مشاريع إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية ويعزز من إجراءاتها الاستعمارية وتهويدها لمدينة القدس. كل ذلك سيكون على حساب القضية الفلسطينية المرتبطة بالشعب الفلسطيني في جميع مناطق وجوده، وعلى حساب حقه في تقرير مصيره واستعادة حقوقه.

ومن التداعيات على النضال الفلسطيني في هذا السيناريو، تراجع وتيرة النضال وتقليص المواجهة الشعبية بفعل إمساك إسرائيل بالملفات المعيشية وخنق الفلسطينيين على المدى القصير، وسعيهم إلى إيجاد متنفس لهم لمواصلة صمودهم. وهذا لا يمنع أن تترك سياسة التحكم والضبط الاقتصادية على الفلسطينيين تأثيرًا مغايرًا لما تريده إسرائيل، أي أن تتفجر فيه الأوضاع على المدى البعيد بفعل التضييق المستمر وانغلاق الأفق المتعلق بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وإصرار إسرائيل على مواصلة سياساتها الاستعمارية على الأرض، وقد أثبتت جولات المواجهة والانتفاضات السابقة أن زيادة ممارسات إسرائيل في فرض العقاب الاقتصادي والحصار على الفلسطينيين يؤدي إلى تصعيد الأوضاع الميدانية. وفي كلتا الحالتين تؤثر إسرائيل على وجهة النضال الفلسطيني عبر تحكمها بالملفات المعيشية للفلسطينيين.

سيناريو عدم ترسيخ سياسات التحكم الإسرائيلية في غزة والتحلل منها في الضفة الغربية: يتعلق هذا السيناريو بمدى قدرة حركة حماس وفصائل المقاومة على فرض شروطها في نهاية الحرب الإسرائيلية الحالية، وتدخل جهات يمكنها تمويل إعادة إعمار القطاع دون الرضوخ التام للمعادلة الإسرائيلية. وبمدى تحقق شرط إنهاء حصار قطاع غزة والتزام إسرائيل به مستقبلًا، كشرط لوقف إطلاق النار، مما يقلِّل من تحكم إسرائيل بدخول مواد إعادة الإعمار. ويتعلق أيضًا بقدرة الفلسطينيين في قطاع غزة على الصمود بعد انتهاء الحرب.

ويرجَّح حدوث هذا السيناريو إن استطاعت حماس فرض وقف إطلاق نار والخروج من المواجهة متماسكة وقادرة على إدارة القطاع بعد الحرب، وتحقيق توافق داخلي بشأن إعادة الإعمار بقرار مستقل دون الرضوخ للإملاءات الإسرائيلية، والسعي لمواجهة تفعيل سياسات الضبط والعقاب الإسرائيلية للقطاع، خصوصًا في ظل فشل حربها في القضاء على "المقاومة" أو تحقيق أي من أهدافها العسكرية.

وتعتمد إمكانية تراجع سياسات الضبط والتحكم الاقتصادية الإسرائيلية في الضفة الغربية على فرص تغيير المعادلة القائمة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عبر تجديد السلطة، أو محاولة استخدام أوراق القوة التي تملكها أو تمتلكها لتفريغ الضبط أو التحلل منه، مثل ورقة وقف التنسيق الأمني أو التوجه للقضاء الدولي، أو إحداث تغيير على صعيد البرنامج بتبني نهج يقوم على إعادة "المقاومة المسلحة" أو السماح بها لاستخدامها ورقة ضاغطة ضد إسرائيل.

وبالنظر إلى فرص تحقق هذا السيناريو، يظهر أن الفصائل الفلسطينية في غزة، ومنها حماس، استطاعت سابقًا تجاوز الحصار الذي فرضته إسرائيل لسنوات طويلة قبل "طوفان الأقصى" عبر جولات المواجهة والتهديد المستمر لأمن إسرائيل. وقد وصلت الفصائل الفلسطينية إلى معادلة استطاعت من خلالها الوصول إلى تفاهمات تتعلق بإعادة الإعمار، وتقليص قبضة إسرائيل وإضعاف حصارها عبر التلويح بالأمن وإعادة المواجهة دون تقديم تنازلات جذرية متعلقة بنهجها، ودون إعلان دخولها في المسار الآخر الذي تقوده السلطة الفلسطينية، على قاعدة أنَّ تحللَ إسرائيل من التزاماتها تجاه إعادة إعمار القطاع وفك الحصار، ينقلب عليها بإبقاء الباب مفتوحًا أمام عودة المواجهة. كما أن حماس لا تزال ترفض كل المبادرات الدولية والمشاريع الإسرائيلية التي ستحدد مستقبل قطاع غزة بعد الحرب بما يتناسب مع معايير إسرائيل.

ويسهم تحقيق هذا السيناريو بتداعيات، أهمها: القدرة على الاستمرار في مقاومة إسرائيل بجميع أشكالها، وإيجاد هامش للعمل السياسي من زاوية عدم الخضوع التام لإسرائيل، إضافة إلى غلق الباب أمام مشاريع "السلام الاقتصادي" والتوجه أكثر نحو البحث في الحلول الجذرية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. ويسهم التحلل من سياسة التحكم والضبط الاقتصادية الإسرائيلية في تصويب مسارات النضال الفلسطيني والحفاظ على استمراريته وعدم خضوعه، وطمس محاولات إسرائيل لفرض هذه السياسات كأمر واقع يرتبط بالأعباء المعيشية والاقتصادية، ويعزز من إمكانية ترسيخ معادلة ردع وقوة واستخدامها في مواجهة سياسة التحكم والضبط الإسرائيلية.

خاتمة

بالنظر إلى النقاش الإسرائيلي حول سياسات الضبط والتحكم وتأثيرها على الفلسطينيين، يظهر أن هناك توجهًا عامًّا ومصلحة إسرائيلية مشتركة للحفاظ على أمنها من مدخل سيطرتها وتحكمها بالفلسطينيين اقتصاديًّا بالدرجة الأولى على حساب القضايا الأخرى، بما في ذلك المرتبطة بالاقتصاد الإسرائيلي والعلاقة مع السلطة الفلسطينية. ومع إرساء أسس تبعية الاقتصاد الفلسطيني لإسرائيل وتحويله إلى أحد أهم الأولويات الفلسطينية، تسعى إسرائيل إلى الاحتفاظ بما لديها من أدوات عميقة وراسخة لضبط الفلسطينيين في الضفة الغربية بهدف "حفظ أمنها" كأولوية، وتتجه إلى إحداث تغيير يفضي إلى خلق واقع جديد في قطاع غزة بعد الحرب من مدخل إعادة الإعمار. تبقى فاعلية سياسات الضبط الإسرائيلية مرهونة بمدى قدرة إسرائيل على فرض السيطرة والتحكم عبر احتلالها المباشر وغير المباشر للتجمعات الفلسطينية، وعلى مقدار صمود الفلسطينيين وقدرتهم على التحلل من السيطرة الإسرائيلية ومواجهتها، كما ترتهن في بعضها إلى مواقف الأطراف العربية والدولية وقدرتها على إحداث فارق لصالح الفلسطينيين.

ABOUT THE AUTHOR

References
  1. محمود الحنفي، "فرض الحصار على غزة.. هل هو إقرار رسمي بانتهاك القانون الدولي الإنساني؟"، موقع الجزيرة نت، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 19 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3tRkPpw
  2. معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) العمل الفلسطيني في إسرائيل 67- 1997 مراجعة ليلي فرسخ، مايو/أيار 1998 ص 55، نقلًا عن وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية-وفا، https://bit.ly/3O6Bjkj
  3. "اتفاقية باريس الاقتصادية، مركز المعلومات الفلسطيني، 29 أبريل/نيسان 1994"، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3288
  4. أحمد عز الدين أسعد، "العمال وكورونا.. مختبرًا للاستعمار الاستيطاني الاستغلالي الإسرائيلي"، مجلة شؤون فلسطينية (القدس: مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، ع 280، صيف 2020). 
  5. نعمان كنفاني وسلام صلاح، تجميد أموال المقاصة أزمة متكررة وآثار اقتصادية طويلة الأمد، المرقب الاجتماعي والاقتصادي، رقم 40، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية- ماس، مايو/أيار 2015.
  6. " الإحصاء الفلسطيني يعلن النتائج الأساسية لمسح القوى العاملة للربع الثاني دورة (أبريل/نيسان-يونيو/حزيران 2023)"، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 8 أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 20 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/491WSKO
  7. "حقائق وأرقام.. العمال الفلسطينيون في إسرائيل (تقرير)"، وكالة الأناضول للأنباء، 12 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 20 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/4916R37
  8. " معدل البطالة الفلسطينية إلى الارتفاع السنوي بنسبة الضعف نتيجة تصعيد الأعمال العدائية في غزة"، منظمة العمل الدولية، 20 ديسمبر/كانون الأول، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2024)،  https://bit.ly/47BTLs6
  9. "السلطة تدفع نسبة من رواتب موظفيها مع استمرار إسرائيل باقتطاع "المقاصة""، 27 ديسمبر/كانون الأول 2023، موقع الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3tFpNpg.
  10. "تقرير: انتهاكات جسيمة تعرض لها عمال قطاع غزة داخل أراضي الـ48"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية- وفا، 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 20 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.wafa.ps/Pages/Details/84765.
  11. منظمة العمل الدولية، مرجع سبق ذكره.
  12. "الأبعاد الاقتصادية للحرب على قطاع غزة وفقًا للقانون الدولي والإنساني: جعل غزة غير آهلة"، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية "ماس"، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://mas.ps/publications/9362.html
  13. "انتقادات في إسرائيل لخطة الاستغناء عن العمال الفلسطينيين: مقاولو قطاع البناء يصرون على إعادة عمال الضفة الغربية"، صحيفة الشرق الأوسط، 1 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/48OXrYq.
  14. محمد وتد، "تحذير من تداعيات اقتصادية وأمنية لحظر إسرائيل العمال الفلسطينيين"، الجزيرة نت، 12 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3Sjgm8v
  15. شلومو تيتلبوم، "فالحكومة تعتمد على العمال الأجانب بدلًا من الفلسطينيين، ولا تؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة"، موقع calcalist، 1 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3tRTtzl
  16. محمد وتد، مرجع سبق ذكره.
  17. المرجع السابق.
  18. موريس هيرش، "ويجب على إسرائيل أن تتوقف عن تمويل الإرهابيين"، موقع calcalist، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 1 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3O23EIE.
  19. ليال كايزر، "رغم تحذيرات المؤسسة الأمنية: سموتريتش لم يحول أموال الضريبة إلى السلطة"، صحيفة كان، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 2 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/48NRBqa
  20. "إعادة تأهيل غزة مقابل التطبيع مع السعودية: الاقتراح الجديد المقدم لبايدن"، صحيفة معاريف الإسرائيلية، 14 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3OyOtqL
  21. "نتنياهو: السعودية والإمارات ستمولان إعادة إعمار غزة عقب انتهاء الحرب"، موقع عربي 21، 11 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3HpDrA7
  22. لانا نسيبة تؤكد التزام دولة الإمارات بدعم الشعب الفلسطيني، موقع وزارة الخارجية الإماراتية، 13 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/47JziSd
  23. ديفيد غريتين، "السعودية مهتمة بالتطبيع مع إسرائيل بعد الحرب، ولكن ما هي شروطها؟"، BBC عربي، 10 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3RZ1ZEE
  24. "وزير الخارجية السعودي لـCNN حول التطبيع مع إسرائيل: لا رجعة عن إقامة دولة فلسطينية"، CNN عربية، 20 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/48WSigW