الأزمة التشادية: مظهر من الصراع المعقد بين دوائر النفوذ

عكست الأزمة الراهنة في تشاد عمق الصراع بين أجنحة أسرة ديبي الحاكمة وقد انفجرت قبل تنظيم الرئاسيات المتوقعة في بدايات مايو/أيار 2024، وفي وقت يجد الرئيس التشادي نفسه أمام انقسامات داخلية عميقة ومحيط إقليمي متوتر فضلًا عن تنافس محموم بين روسيا وفرنسا على منطقة الساحل.
3 March 2024
يحيى ديلو كان المنافس الرئيسي لابن عمه الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي كاكا (الفرنسية)

عرف شهر فبراير/شباط 2024 تطورات خطيرة في المشهد السياسي والأمني في تشاد؛ حين وقع هجوم عنيف يوم 19 من هذا الشهر لأنصار أهم حزب معارض هو "الحزب الاشتراكي بلا حدود" على مقر المحكمة العليا بنجامينا بحجة سجن أبكر الترابي مسؤول المالية بهذا الحزب، وادعى رئيس هذه المحكمة، سمير آدم النور، أنه نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال مؤكدة على أيدي مناصري هذا الحزب.

اتهمت الحكومةُ الانتقالية برئاسة محمد ديبي كاكا، زعيمَ هذا الحزب السياسي، المهندس "يحيى ديلو دييرو بيتشي"، بالوقوف وراء ما حصل، وقد طلب القضاء من يحيى المثول أمامه فرفض ذلك.

وقد ذهب العديد من المراقبين إلى أن اتهام يحيى ديلو في هذا الظرف الزمني الذي لا يفصله عن تنظيم الانتخابات الرئاسية بالتشاد سوى شهرين إنما هو محاولة كيدية للإيقاع بأبرز المعارضين للنظام التشادي.

ومع تفاقم التصعيد بين النظام وبين أنصار "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، هاجم أنصار الحزب مقر الوكالة القومية للأمن، وسقط قتلى عديدون حسب الرواية الرسمية، كما اتهمت أجهزة الدولة الأمنية والسياسية رئيس الحزب، يحيى ديلو، بأنه وراء ما حدث.

وكان أول رد فعل لما حصل هو تكذيب صالح ديبي، وهو عم الرئيس التشادي الحالي، للرواية الرسمية، وقد انضم شهر فبراير/شباط الماضي لـ"الحزب الاشتراكي بلا حدود"، واصفًا ما حدث بالمسرحية المدبرة من قبل النظام.

بلغ التصعيد ذروته حين حاصرت كتيبة الحرس الرئاسي مقر "الحزب الاشتراكي بلا حدود" وتم قتل يحيى ديلو برصاصة أصابت رأسه حين كان موجودًا في المقر يوم 28 فبراير/شباط 2024، كما أُعلن عن اعتقال عم الرئيس، صالح ديبي، وظهرت له صورة في التليفزيون الرسمي وهو مكبل، وهو ما يعني المبالغة في إيذائه. ومن الملاحظ أن فرنسا لم تُدِن عملية الهجوم على مقر "الحزب الاشتراكي بلا حدود" ولا تصفية رئيسه، يحيى ديلو.

الصراع داخل أسرة ديبي وتعالقه مع أزمات تشاد المزمنة

كان يحيى ديلو ابن عمة الرئيس الراحل، إدريس ديبي، ومن قبيلة الزغاوة قبيلة آل ديبي، عنصرًا أساسيًّا في هذا الصراع الأسري، وكان قد عارض نظام إدريس ديبي قبل ثلاثين سنة، ثم صالحه وأصبح وزير المعادن والطاقة من 2008 إلى 2009 ثم مستشارًا برئاسة الجمهورية، ثم ولَّى وجهه شطر المعارضة الشرسة وانتُخب نائبًا في البرلمان سنة 2018 إلى 2021، كما تقدم لرئاسيات 2021 التي نجح فيها الراحل، إدريس ديبي.

وكان يحيى ديلو شديد الانتقاد للسيدة المتنفذة، هندا ديبي، زوجة إدريس ديبي، التي كانت لمنظمتها غير الحكومية "القلب الكبير" صلاحيات تتجاوز صلاحيات الوزراء، كما يقول يحيى ديلو.

وبشكوى من السيدة هندا ديبي، وفي ظروف تصعيدية، تمت محاصرة منزل يحيى ديلو في هجوم كاسح، في 28 فبراير/شباط 2021، (وهو نفس التاريخ الذي لقي فيه مصرعه بعد ثلاث سنوات)، وراحت ضحية المحاصرة والدته، عمة الرئيس إدريس ديبي، وإحدى بناته وجُرحت أخته. وقد غاب يحيى عن الأنظار مدة كان خلالها يعطي تصريحات عبر وسائط التواصل الاجتماعي ولوسائل إعلامية من بينها شبكة الجزيرة. ومنذ سنة 2021، بات يحيى ديلو أبرز معارض للنظام في تشاد وصار حزبه أهم تشكيلة سياسية ترى فيها نجامينا تهديدًا سياسيًّا حقيقيًّا.

وكثيرًا ما عبَّر الإعلام المقرب من الرئيس الانتقالي، محمد كاكا، عن أن لديه سردية تقوم على ضرورة التفريق بين الدولة والأسرة، وأنه ينبغي الابتعاد عن تخندقات العشيرة في تسيير الدولة، وهي سردية يرى فيها معارضوه أنه يريد التخلص من بعض الوجوه واستبدال وجوه أخرى موالية له بها.

ويعتبر صراع أجنحة أسرة ديبي الحاكمة العنوان البارز لما حدث في تشاد، وهو صراع مزمن، وقد استفحل مع مجيء الرئيس الحالي. وكثيرًا ما تحدثت التقارير الإعلامية عن رغبة عمه المسجون حاليًّا، صالح ديبي، في أن يكون عرَّاب عائلة ديبي، وهو أمر لم يكن محل إجماع عائلي. وجاء مصرع يحيى ديلو الأخير ليجسد حلقة من حلقات هذا الصراع الأسري الحاد.

الرئيس الانتقالي محمد كاكا: هل هناك نهج سياسي جديد؟

بمصرع يحيى ديلو يخلو الجو للرئيس الحالي، محمد كاكا، بل سيكون الطريق ممهدًا أمامه -سياسيًّا على الأقل- لفوز سلس في رئاسيات 6 مايو/أيار 2024. ومن الملاحظ أن الرئيس محمد كاكا استعمل مع معارضيه الأسلوبين: الترغيب الذي يصل حدَّ التقريب، والترهيب الذي يصل حدَّ التصفية، فزعيم المعارضة الأسبق، سوكسيه ماسرا، وهو السياسي المسيحي الجنوبي، صار من أقرب المقربين من النظام الحالي، وصار حزبه "حزب المتحولين" من أحزاب الموالاة، وقد عُيِّن ماسرا رئيسًا للوزراء منذ أول يناير/كانون الثاني 2024. وكان رجوع ماسرا للنظام بوساطة من رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، وبرعاية فرنسية، وتم توقيع اتفاقية كينشاسا معه نهاية سنة 2023.

ومع وصول محمد كاكا للحكم، في أبريل/نيسان 2021، زاد يحيى ديلو من حضوره في المشهد العام التشادي، واصطدم مباشرة مع النظام، وصار حزبه "الحزب الاشتراكي بلا حدود" مع الوقت رأس الحربة في معارضة النظام التشادي، وهو ما أعطاه مصداقية أكثر لدى شريحة عريضة من الشعب.

ومع انضمام مسارا للنظام أصبح يحيى ديلو الرجل الذي يرى فيه الشباب التشادي الطامح للتغيير أملهم، ولم يبق ما يخشاه النظام الحاكم سوى "الحزب الاشتراكي بلا حدود" وزعيمه يحيى الذي ظل يواصل انتقاده اللاذع لحكومة محمد كاكا.

وقد أصبح "الحزب الاشتراكي بلا حدود" ملاذًا لكل من يريد معارضة النظام التشادي، وهو ما يفسر انضمام صالح ديبي، عم الرئيس الحالي، لهذا الحزب، يوم 10 فبراير/شباط 2024، بعد أن لم يجد له موطئ قدم مع نظام ابن أخيه. ويعتبر صالح ديبي، الذي شغل منصب قائد الجمارك التشادية عشر سنوات أحد أثرياء تشاد، ويوصف داخل الأوساط التشادية بالفساد إلا أن انضمامه لحزب يحيى ديلو زاد الشرخ داخل الأسرة الحاكمة، بل وداخل قبيلة الزغاوة التي تهيمن على الجيش وقياداته، والتي ينتمي إليها الرئيس الحالي والقتيل يحيى ديلو.

ومن الملاحظ أن الرئيس محمد كاكا، ومنذ وصوله للحكم والبعض في تشاد ينظر إليه بنوع من الاستخفاف، فأخواله قبيلة القرعان عكس أخوته الذين أخوالهم قبيلة الزغاوة المتنفذة، كما يتهم بعدم الخبرة وأن مستشاريه المقربين يتلاعبون به وأن لديه منافسة قوية داخل أسرة ديبي يتزعمها عمه صالح.

غير أن فترته في الحكم التي تناهز الثلاث سنوات أثبتت أنه كان قادرًا على تدبير الشأن التشادي، فقد استطاع أن يُسكت جميع معارضيه ترغيبًا أو ترهيبًا، بدءًا بأخيه غير الشقيق، كريم إدريس ديبي، وبقية أخوته غير الأشقاء. غير أن ابن عمة أبيه، يحيى ديلو، بات العنصر العصي على الاحتواء، فلم يكن أمامه فيما يبدو إلا أن يتخلص منه عن طريق التصفية الجسدية.

وخارج دائرة الأسرة استطاع الرئيس محمد كاكا احتواء المعارِض الشرس، توم إرديمي، وشقيقه وتوءمه المعارض، تيمان إرديمي، رئيس اتحاد قوى المقاومة، والذي قاد عمليات تمرد مسلح، ثم انخرط الأخوان في اتفاق الدوحة للسلام بين الحكومة والمتمردين، وبعد ذلك تقلد تيمان وزارة التعليم العالي بالحكومة التشادية.

وعلى المستوى الخارجي، زار الرئيس محمد كاكا موسكو، يوم 24 يناير/كانون الثاني 2024، وقد استاءت باريس من تلك الزيارة نظرًا لقوة علاقة الرئيس محمد كاكا بفرنسا، ونظرًا أيضًا لتزايد النفوذ الروسي على حساب النفوذ الفرنسي بوسط وغرب إفريقيا. وذكر موقع "pougala.net" في تقرير مفصل بتاريخ 4 فبراير/ شباط 2024 أنه في اليوم التالي لتلك الزيارة قامت كتيبة طارق بن زياد بقيادة صدام نجل اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، حليف موسكو، بهجوم على قواعد للمتمردين التشاديين من قبيلة التبو بجنوب ليبيا، وقد ذهب ذلك التقرير إلى أنه ربما كان في ذلك التحرك السريع استجابة من موسكو لبعض هموم الرئيس التشادي الأمنية وذلك بالتنسيق مع حليفها، خليفة حفتر، لضرب معارضة مسلحة طالما شكَّلت خطرًا على نجامينا.

يضاف إلى هذا أن تحالف دول الساحل (AES)، المعلن عن إنشائه في سبتمبر/أيلول 2023، والذي يضم النيجر ومالي وبوركينا فاسو، بحث مع بعض الجهات الليبية ضرورة إيجاد طريق تجاري يصل النيجر بميناء طبرق بشرق ليبيا لتسهيل الإمدادات. وسيمر هذا الطريق التجاري، لو تم الاتفاق عليه بين ليبيا وتحالف دول الساحل، بمناطق تحت سيطرة قوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر.

ولا شك أن هذه التطورات والتعقيدات، سواء تعلق الأمر بمتمردي التبو التشاديين بجنوب ليبيا، أو تعلق بمستقبل علاقات تحالف دول الساحل مع ليبيا، تفرض على النظام التشادي إمساك العصا من الوسط في علاقاته مع فرنسا وروسيا، بحيث لا يكون هناك ولاء مطلق لباريس المتنفذة جدًّا بتشاد، ولا تفريط مضر بموسكو ذات النفوذ المتزايد بمنطقة الساحل.

وقد يكون في تقرب الرئيس محمد كاكا من موسكو محاولة لضمان بقائه في السلطة، فيما إذا حاولت باريس تغيير نظامه بالقوة، كما أن محاولة محمد كاكا فتح قناة اتصال مع موسكو، توحي بمحاولته تحسين العلاقات مع روسيا التي صار نفوذها ملحوظًا في الجارتين، ليبيا والسودان.

خاتمة

يبدو أن الطريق نحو الفوز في رئاسيات مايو/أيار 2024 صار معبدًا أمام الرئيس التشادي، محمد ديبي كاكا، الذي استطاع تحييد إخوته من الأب وتقليص نفوذهم داخل الأسرة، واحتواء وجوه المعارضة السياسية والعسكرية كالأخوين التوءمين، توم وتيمان إرديمي، فضلًا عن السياسي الجنوبي، سوكسيه مسارا، واغتيال زعيم "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، يحيى ديلو، وسجن عمه، صالح ديبي. وقد تم له ذلك الهدف باللعب على التناقضات داخل الأسرة والسيطرة على المشهد السياسي والعسكري، فضلًا عن تطلعه للتناغم مع تداعيات التنافس المحموم بين فرنسا وروسيا في منطقة الساحل الإفريقي.

ABOUT THE AUTHOR