المقاومة الشعبية السودانية المسلحة: الميلاد والتحرك والسيناريوهات

تسعى الورقة لفحص فكرة المقاومة الشعبية السودانية المسلحة: كيف ولدت؟ ومسار حراكها، وهل ينبىء تمددها في معظم التراب السوداني عن ظهور جسم جديد يساند الجيش الوطني ويوقف تقدم قوات الدعم السريع؟ وما السيناريوهات المتوقعة لها حال استمرار الحرب أو توقفها؟
قد يسهم دخول المقاومة الشعبية في المشهد السوداني الحالي في زيادة حدة التوترات بين القوى المختلفة في الداخل السوداني (الفرنسية).

المقاومة الشعبية المسلحة: البداية والتحرك

نبعت فكرة المقاومة الشعبية المسلحة السودانية والتي بدأت بالدعوة من أجل "الاستنفار" الشعبي، من المواطنين السودانيين بعد تواصل مسلسل تعرضهم اليومي لعمليات النهب والسرقة والقتل في القرى والنجوع والأرياف وخاصة في ولاية الجزيرة من قِبل قوات الدعم السريع، وهي المناطق التي لا توجد بها معسكرات للجيش؛ حيث أدى طواف القوات المذكورة في تلك القرى من أجل السرقة والنهب، لاستنفار الجماهير في المناطق التي لم تدخلها الميليشيا بهدف حماية مناطقهم وأنفسهم.

كما أسهم تطاول أمد الحرب وتزايد معاناة المواطنين منها، بعد أن دخلت قراهم وبيوتهم، في بروز المقاومة الشعبية كفكرة تدفع في اتجاه استنفار المواطنين؛ ولتجاوز حالة السكون والجمود السياسي في المجتمع، واتضح أن الجيش ليس له الأعداد الكبيرة التي يستطيع بها حماية منازل المواطنين والقرى النائية؛ فتولدت فكرة المقاومة الشعبية كـ"حل" يحمي المواطن ومنزله وعرضه وسائر ممتلكاته، وأيضًا يحمي المناطق نفسها بعد تدريب مواطنين ومواطنات قادرين على حمل السلاح من أهل المنطقة(1).

بالنسبة لميلاد المقاومة الشعبية المسلحة، هناك رؤية تقول: إن فكرة "المقاومة الشعبية" انطلقت من دارفور بهدف حماية منطقة شمال الإقليم لمنع دخول الدعم السريع، واصطف المواطنون إلى جانب الجيش مع الحركات المسلحة بهدف حماية شمال الإقليم، ومن هناك انتشرت الفكرة في العديد من مناطق السودان.. ونجحت المقاومة في حماية غرب كردفان المتاخمة لدارفور من دخول قوات الدعم السريع، وكذلك في سنار والنيل الأزرق والقضارف وكسلا وشمال السودان وشرقه.

جاءت دعوات الاستنفار والمقاومة الشعبية المسلحة، في جانب منها ردَّ فعل للانتهاكات الواسعة من قوات الدعم السريع تجاه المواطنين، في حياتهم وممتلكاتهم وأعراضهم. وفي جانب آخر، تعكس إدراكًا متزايدًا عند المواطنين لأن الجيش غير قادر بمفرده وإمكاناته الحالية على حسم المعركة التي تتسع رقعتها يومًا بعد يوم، أو أن ثقتهم في قدرة الجيش على حمايتهم تزعزعت وأصابها التصدع بعد تعدد انسحاباته، كما في حالة انسحابه من مدينة ود مدني. لذلك، فإن دعوات تكوين المقاومة الشعبية، هي استجابة موضوعية ومتوقعة، والنظر إليها باعتبارها كلها من صنع فلول النظام البائد ليس صحيحًا ويعكس قصر نظر واضحًا(2).

أسهمت متغيرات الأحداث في الحرب المستمرة في السودان في تغيير كبير في الواقع الاجتماعي، وخلق معادلة جديدة في الساحة السياسية دفعت بقطاعات واسعة من الشباب وغيرهم إلى الانخراط في المقاومة الشعبية والمشاركة الفاعلة في كل أنشطتها وفعالياتها الصلبة والناعمة، وقد بلغ استعداد المقاومة الشعبية ذروته خلال الفترة الماضية بعد سقوط مدينة ود مدني في يد قوات الدعم السريع، بل انتظم معظمها في الصفوف الأمامية جنبًا إلى جنب قوات الجيش، ولم تكتف فقط بموقف المدافع عن القرى والبيوت من تمدد الدعم السريع؛ مما جعل البعض يصف المقاومة الشعبية بأنها "لاعب جديد وثقيل نزل للساحة"(3)، يتميز بالاستقلالية، ويساند القوات المسلحة وينتظم معها، ويختار المواجهة والإقدام ضد العدو المشترك في كل الأحوال، ويمنع الانتهاكات والتهجير.

تشبه المقاومة الشعبية السودانية المسلحة في تكوينها تكوين الجيش باعتباره مؤسسة قومية، من حيث إنها ضمت كل السودانيين باختلاف توجهاتهم، وتقف من وراءها رموز ثقافية وفكرية ونخبوية من مختلف التيارات السياسية، كما أن البندقية التي تحملها المقاومة الشعبية، ليست بندقية سياسية كما كانت الحال في الحركات السياسية المسلحة بدءًا من حركات جنوب السودان وانتهاء بحركات دارفور، والتي ارتبطت بأهداف سياسية جهوية ومناطقية وتحولت أهداف أغلبها إلى سعي لاقتسام السلطة بقوة السلاح(4)

المقاومة الشعبية السودانية المسلحة: محاولة تعريف

تُعرِّف المقاومة الشعبية السودانية المسلحة نفسها بأنها هبَّة شعبية عفوية تلقائية قاعدية انتظمت الأحياء والقرى والمدن والمحليات والولايات، وليس لها منسق عام ولا مشرف ولا أمين عام ولا يوجد جسم مركزي، بل هي أجسام قاعدية لا مركزية تعمل بتنسيق كامل على هدف واحد وهو إسناد القوات المسلحة في حربها ضد (ميليشيا آل دقلو الإرهابية)، وكل المتحدثين الرسميين حتى الآن باسم المقاومة الشعبية هم المتحدثون الذين تم التوافق عليهم في الولايات المختلفة. كما تعمل لجان المقاومة الشعبية في جميع الولايات على التنسيق المستمر والنقاش البنَّاء لتطوير آليات عملها بالقدر الذي يجعلها أكثر كفاءة وفاعلية، ويحصنها من محاولات التجيير والاختطاف(5).

فرضت المقاومة الشعبية التي تعتمد العمل المسلح نفسها على ساحة المشهد السوداني، وباتت متغيرًا مهمًّا ويُحسب له في هذه الساحة، مما حدا بالبعض للدعوة لما أسماه "المقاومة الشعبية السلمية" التي تعتمد على انخراط وإشراك أكبر قاعدة جماهيرية في المقاومة بدون أي مظهر من مظاهر العنف أو حمل السلاح، مستندة إلى إرادتها وعزيمتها وطول نَفَسَها والتعاطف الدولي والإقليمي معها ومع عدالة قضيتها، ومحولة ضعفها والخلل في ميزان القوى تجاه الطرف الآخر المعتدي والمدجج بالسلاح إلى نقطة قوة لها من خلال سلميتها. وبالنسبة للسودان، المقاومة الشعبية مطلوبة وضرورية، ولكنها المقاومة السلمية الرافضة للحرب، والتي في إمكانها ابتداع عشرات التكتيكات السلمية لوقف الاقتتال(6).

خلقت فكرة المقاومة الشعبية المسلحة في السودان جدلًا واسعًا بين مؤيد ورافض، لكن كثرة الداعمين للفكرة جعلت رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، يوافق على أن يمدها بالسلاح على أن تكون تحت رقابة الجيش، وذلك في كلمته في معهد التدريب في جبيت بشرق السودان في يناير/كانون الثاني الماضي، كما خلق اتساع فكرة المقاومة الشعبية هلعًا لقوات الدعم السريع؛ فعندما عقد قائد قوات الدعم السريع مؤتمرًا صحفيًّا مع رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، عبد الله حمدوك، في أديس أبابا قال إن قواته تحتل الخرطوم والجزيرة وولايات دارفور، لكن بعد بروز المقاومة عاملًا جديدًا في المعادلة قال حميدتي: إن الذين دخلوا الجزيرة ومارسوا النهب هؤلاء "فزع وكسيبة" يمكن أن يحاربوا الدعم السريع نفسه(6). وقد وُصفت هذه التصريحات لحميدتي بأنها محاولة لتبرئة قواته من جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد المواطنين؛ مما يدل على أن المقاومة الشعبية أصبحت أهم عامل محوري في اللحظة السودانية الحاضرة.

مؤيدو المقاومة الشعبية المسلحة

أبرز الأحزاب السياسية السودانية التي أيدت المقاومة الشعبية حزب المؤتمر الشعبي -حزب الدكتور حسن الترابي- والذي أعلن انحيازه للمقاومة الشعبية لصون حرية وكرامة الإنسان السوداني والدفاع عن هويته ووحدته وثرواته المطموع فيها، ودعا مجلس شورى المؤتمر الشعبي في بيان له كافة فعاليات المجتمع للانخراط في جبهة موحدة للمقاومة الشعبية دفاعًا عن شرف الأمة السودانية دون تمييز مناطقي أو قبلي لتحرير السودان من الخرطوم حتى الجنينة، وأدان في الوقت نفسه الجلوس مع من يُفسد في البلاد ويسفك الدماء ويهتك الأعراض ويدمر العمران ويتلقى التعليمات من العدو الأجنبي ويخون الوطن وأهله(7).

ضمت المقاومة الشعبية قطاعات واسعة من الشعب السوداني من القبائل والعشائر وغير المنتمين سياسيًّا، بجانب "جماعة غاضبون والتيار الإسلامي ولجان المقاومة المستقلة ومجموعات من شباب حزب الأمة القومي"، كما صرح بذلك عضو مجلس السيادة السوداني ومساعد القائد العام للجيش، الفريق ياسر العطا، أمام مجموعة من أعضاء جهاز المخابرات العامة في أم درمان في يناير/كانون الثاني 2024، كما قال في نفس ذلك التوقيت: إن "الحرب اقتربت من النهاية بانتصار الجيش والمقاومة الشعبية".

أظهر استطلاع للرأي العام السوداني أجراه مركز الخبراء العرب للخدمات الصحفية ودراسات الرأي العام على شبكة الإنترنت على 38.573 مشاركًا، أن 88.9% من جملة المستطلعين تعتقد أن تسليح المقاومة الشعبية يسهم في دعم وتقوية مجهودات القوات المسلحة في الحرب الدائرة بالبلاد، ويمثل حقًّا مشروعًا للدفاع عن النفس، بينما رأت نسبة 68.7% أن قوة ضغط الرأي العام السوداني هي التي جعلت قيادة الجيش تتجاوب مع المقاومة الشعبية وتقوم بتسليحها، في حين رأى 23.3% أن التسليح لم يتم بفعل ضغط الرأي العام، وإنما هو خيار للقوات المسلحة ضمن بدائلها الميدانية في الحرب الدائرة بالبلاد(8).

يرى مؤيدو المقاومة الشعبية المسلحة أن تسليح المجتمع وتمكين المواطنين من الدفاع عن أنفسهم ومجتمعاتهم سيكون له أثر إيجابي على الاستعداد العسكري والقدرة على مواجهة هجمات وتهديدات قوات الدعم السريع على المناطق التي يسيطر عليها الجيش، مثل كردفان وشمال دارفور والقضارف وكسلا ونهر النيل والشمالية وسنار والنيل الأزرق والبحر الأحمر، بل يرى البعض أن المقاومة الشعبية هي شرط النصر على قوات الدعم السريع؛ حيث يقف الجيش وحيدًا في ساحة الحرب الدائرة، والمقاومة الشعبية هي الجهة الوحيدة التي تقدم له السند والمساعدة الضرورية اللازمة؛ فالجيش السوداني له تاريخ طويل في تنظيم السند الشعبي بحيث لا يحدث التفلت وتسرب وانتشار السلاح بغير ضابط.

ظهرت وجوه أخرى للمقاومة الشعبية السودانية غير حمل السلاح والمدافعة بالقوة الصلبة؛ حيث ظهرت أصوات تدعو المقاومة الشعبية لتلعب دورها في كل الجوانب السياسية والدبلوماسية وغيرها في ظل ما جرى من إضعاف وإفراغ متعمد ومدروس لأجهزة الدولة السودانية في سياق التحضير الطويل للمعركة ضد السودان، لتقوم المقاومة الشعبية بدورها في استدعاء كل الخبرات والكفاءات التي بمقدورها الإسهام الوطني كل في مجاله في اللحظة الأكثر مفصلية في تاريخ الأمة السودانية(9).

يمكن القول: إن معظم قطاعات الشعب السوداني بما فيها المرأة قد انخرطت في المقاومة الشعبية -كل في مجاله وما يتقن- وظهر ذلك جليًّا في النواحي المعنوية والتعبوية، والتي برع فيها كثير من المواطنين والشعراء والمبدعين والشخصيات المؤثرة على شبكات التواصل الاجتماعي خاصة فيس بوك وتويتر، وتطبيقات واتساب وتيليغرام، والذين يطلق عليهم في السودان "اللايفاتية"، والذين كان لهم دور كبير في التعريف بالمقاومة الشعبية ومساندتها وتوسيع رقعتها.

معارضو المقاومة الشعبية المسلحة

المقاومة الشعبية المسلحة، رغم الإجماع الطاغي على عدالة قضيتها وسط قطاعات واسعة بين المواطنين السودانيين لم تخل من أصوات تعارضها؛ حيث يرى معارضو المقاومة الشعبية أن عمليات الاستنفار وتسليح المجتمع الجارية لن تكون تحديًا بين الجيش والمتمردين فحسب، بل هي تحدٍّ يتعلق بالاستقرار والأمن الإقليمي، وأن ارتباط المقاومة الشعبية -حسب وجهة نظرهم- بدعوات لتسليح المجتمع، بأفكار جهادية وعنصرية، ستشكل مدخلًا للجماعات المتطرفة والإرهابية في السودان، وتتيح لها فرصة للتسلل والتوغل في البلاد وزرع الفوضى، وقد تكون محاولة لإعادة السودان إلى أيام حكم (الإنقاذ) الأولى مطلع التسعينات من القرن الماضي، خاصة بعد قرارات ولاة ولايات نهر النيل، والشمالية، وشمال كردفان، بمنع "لجان المقاومة" من العمل، وحل "لجان الخدمات" المقربة من "تحالف قوى الحرية والتغيير" سابقًا، وتنسيقية القوى المدنية "تقدم" بقيادة عبد الله حمدوك حاليًّا، فضلًا عن التضييق على الناشطين وكل من رفع لافتة "لا للحرب"(10)

من أبرز رافضي المقاومة الشعبية عضو مجلس السيادة السابق، والقيادي بالحرية والتغيير، محمد الفكي، الذي وصف دعوات المقاومة الشعبية بأنها ‏"دعوة حق أريد بها باطل"، وتتغذى بالأساس من مخاوف المدنيين الذين تركتهم دولتهم دون حماية في مواجهة انتهاكات واسعة. ويرى أن خطاب الاستنفار في جوهره أصل الحرب "لأن العملية بأكملها يديرها فلول النظام السابق"، وطالب الفكي، في منشور على حسابه بمنصة "إكس" https://twitter.com/melfaki_s، القوات المسلحة بإصدار بيان واضح بشأن خطوات التسليح الجارية الآن، ومن يقوم بها، وكيف سيُجمع هذا السلاح مستقبلًا. ويردف: "ما يحدث الآن يؤكد أن إيقاف الحرب واجب لا يقبل التأجيل قبل أن نصل مرحلة الحرب الأهلية الشاملة".

يرى معارضو المقاومة الشعبية كذلك أن إطلاق الدعوة للتسلح الشعبي بهذا "الشكل العشوائي" وغير المنظم يوحي بأنها ليست دعوة مشروعة؛ حيث يتوقع معارضو المقاومة الشعبية أن أحد آثارها الرئيسية ستكون هي تفاقم الصراع واحتمال اندلاع حرب داخلية في البلاد؛ فالمقاومة الشعبية -بحسب رؤيتهم- تَعُوق الجهود الحكومية لإحلال السلام، وتعزز الانقسامات والتوترات بين القوى المسلحة والمدنيين الذين يوجدون في مناطق الصراع، كما أن المقاومة الشعبية تدعو في بياناتها كل كتائبها إلى التنسيق مع القوات النظامية، وهو ما يعني أنها تستخدم المواطنين دروعًا بشرية لتحقيق أهدافها السياسية(11)

يصف معارضو المقاومة الشعبية هذه المقاومة بأنها تكتيك "يائس" و"تقليدي" لن يؤدي إلا إلى حالة من الحرب غير التقليدية طويلة الأمد، ويرى بعض معارضي المقاومة الشعبية وحراكها أن من الخطأ تعليق آمال عريضة على المقاومة الشعبية ومستقبلها في إحداث فوارق جوهرية على الأرض، وذلك لعدة أسباب، أبرزها(12):

1- التنقل: يعد التنقل جزءًا أساسيًّا من الحرب الحديثة، وهو أحد نقاط القوة الأساسية لقوات الدعم السريع، والتي فشل الجيش في التصدي لها. ويفتقر المقاتلون المدنيون إلى المعدات الأساسية والتدريب التكتيكي للمشاركة في حرب التنقل.

2- القوة النارية: تمتلك قوات الدعم السريع العديد من الأسلحة الثقيلة ولا يمكن مواجهتها بسهولة بالأسلحة الصغيرة وحدها. وبدون قذائف الهاون، والدوشكا، والمدافع الرشاشة، وقذائف الآر بي جي، وغيرها من الأسلحة الثقيلة، سيتم التغلب على "المقاومة الشعبية".

3- القيادة والسيطرة: بينما يستطيع المدنيون المشاركة بفعالية في المناوشات والمعارك الصغيرة، فإن العمليات العسكرية الكبيرة تتطلب هياكل قيادة فعالة. ولا يمكن بناء مثل هذه الهياكل بين عشية وضحاها، ولكنها تتطلب سنوات من التدريب والخبرة حتى يتسنى للجنود والقادة على كل مستوى من مستويات التسلسل الهرمي فهم صلاحياتهم ومسؤولياتهم، وهو ما لم يتوافر للمقاومة الشعبية.

4- اللوجستيات: تفتقر فصائل المقاومة الشعبية إلى الإمدادات والغذاء والوقود اللازمة للتحرك خارج مناطق وجودها. وهذا يعني أنهم لا يستطيعون دعم بعضهم البعض بشكل فعال. وعلى النقيض من ذلك، يتمتع الجيش الحديث بالقدرة اللوجستية على نقل القوات من جزء من مسرح الحرب إلى جزء آخر اعتمادًا على المكان الذي تحتاج فيه القوات؛ فالافتقار إلى القدرة اللوجستية يعني إمكانية هزيمة قوى المقاومة الشعبية بشكل فردي، مكانًا بعد مكان، لأنها تفتقر إلى القدرة على دعم بعضها البعض.

يعترف بعض معارضي المقاومة الشعبية أنها من حيث المبدأ فكرة جيدة، لكن لا تتوافر الظروف الملائمة لها في الوقت الحالي مع حالة الاستقطاب الحاد التي تسيطر على المشهد السوداني، مع خطورة تسليح المجتمع السوداني في ظل هذه الظروف في ظل الغموض الذي يحيط بعملية التسليح، والجهة التي تشرف عليه. كما أن المقاومة الشعبية السودانية حاليًّا لم يتسنَّ لها التشكيل وفق الأسس والقواعد المرعية في هذا النوع من المقاومة، مثل التطوع العسكري المنظم، واجتياز اختبارات عسكرية، وتسجيل المؤهلين وتصنيفهم، والحرص على عدم قبول أصحاب السوابق، بل نشأت فقط كرد فعل مضاد لاستهداف قوات الدعم السريع للمواطنين العزل في أنفسهم وأعراضهم وممتلكاتهم.

المقاومة الشعبية السودانية المسلحة: سيناريوهات المستقبل

من تتبع تحرك ونشاط المقاومة الشعبية خلال الفترة الحالية يبدو أن المقاومة الشعبية لن تُطوى صحائفها بمجرد انتهاء الحرب، وإنما ستتواصل حتى لو توقفت الحرب، ولذا برزت حاليًّا أصوات تدعو لتنظيم أكثر إحكامًا للمقاومة الشعبية بكل ولايات السودان، وأن يكون لها جسم قيادي اتحادي يتم اختياره بانتقاء من سودانيين وطنيين مستقلين ومقبولين من الشعب السوداني وقواعده، ويفسح المجال للمقاومة الشعبية للقاء المنظمات الإقليمية والدولية ودول الجوار لتوضيح رؤية المقاومة الشعبية باعتبارها الممثل والمفوض الحقيقي لشعب السودان لأنها أتت من بواديه وفرقانه وقراه ومدنه وحواضره، وتحمل صفة كل السودانيين بلا أي انتماء إلا للوطن(13)

من المستبعد أن تتحول المقاومة الشعبية إلى وقود لإشعال حرب أهلية في السودان بسبب سلاح المقاومة لأن سلاح المقاومة تم توزيعه على المستنفرين فيها بشكل منظم ومدروس وبإحصاء دقيق وتوثيق في السجلات العسكرية الرسمية، وهو في حكم (العُهدة الشخصية) لكل فرد مقاومة، وسيتم استرجاع كل قطعة سلاح تم توزيعها عندما تضع الحرب أوزارها، كما تم تدريب كل المستنفرين في المقاومة الشعبية عسكريًّا وتوزيعهم في كتائب، وترتيب صفوفهم تحت قيادة ضباط يعملون في خدمة الجيش، ولا توجد كتيبة من المقاومة الشعبية تخلو من قدامى المحاربين أو أفراد متقاعدين من الجيش والشرطة والاستخبارات والأمن، ويمكن أن يتحول جنود المقاومة الشعبية بعد الحرب إلى قوة احتياط كما هو موجود في العديد من الدول، وكان للسودان قوات احتياط مختلفة تتبع للجيش مثل قوات الدفاع الشعبي والخدمة الوطنية تجمد العمل بها لأسباب مختلفة، وقد تكون المقاومة الشعبية فرصة لإنعاشها وإعادة تموضعها في الساحة من جديد.

ظهور المقاومة الشعبية السودانية المسلحة في طليعة المشهد السوداني حاليًّا، وتصدرها خلال الفترة الماضية سيفرز عدة سيناريوهات لمستقبل هذه المقاومة، يمكن حصرها في الآتي:

  1. السيناريو الأول: أن تفلح المقاومة في قلب معادلة الحرب في السودان بمساندها وإعانتها للجيش، وأن تمكِّنه من منع تمدد قوات الدعم السريع في مناطق جديدة، والتحول لوضعية الهجوم وهو ما حدث في مناطق عديدة في أم درمان وولاية الجزيرة، ومرشح للحدوث في الخرطوم وبحري ومناطق أخرى.
  2. السيناريو الثاني: أن يسهم دخول المقاومة الشعبية في المشهد الحالي في زيادة حدة التوترات والاشتباكات بين القوى المختلفة في الداخل السوداني، وبالتالي تزيد فرص وقوع حروب واشتباكات داخلية في البلاد؛ مما يؤدي لتراجع وتيرة الاستقرار الأمني وتعزيز حدة العنف والتوتر في السودان، والمساهمة بقوة في تدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
  3. السيناريو الثالث: أن تتحول المقاومة الشعبية إلى وصفة لإشعال حرب أهلية، ووضع بعض المواطنين في مواجهة بعض، وانزلاق البلاد في حالة عنف ونزاع عرقي وجهوي، بسبب الهجمات والهجمات المضادة، وعمليات القتل الانتقامية، واغتيالات المدنيين المتهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع.
  4. السيناريو الرابع: وهو سيناريو تفكك وانهيار الدولة السودانية في ظل استمرار تطورات الصراع في السودان، وعدم قدرة الجيش والمقاومة الشعبية على هزيمة الدعم السريع وإخراجه من المدن والمناطق التي سيطر عليها في الخرطوم وولاية الجزيرة وولايات كردفان ودارفور.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) زين العابدين صالح عبد الرحمن، المقاومة الشعبية تكشف عن أجندتها، سودانايل، 11 يناير/كانون الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 21 فبراير/شباط 2024)، https://shorturl.at/bqruA

(2) الشفيع خضر سعيد، دعاوى الاستنفار وحرب السودان، القدس العربي، 29 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 21 فبراير/شباط 2024)، https://shorturl.at/deEW4

(3) مزدلفة عثمان، تصاعد دعوات المقاومة الشعبية بالسودان، الجزيرة نت، 2 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 20 فبراير/شباط 2024)، https://shorturl.at/iyIK1 

(4) ياسر محجوب الحسين، آخر تطورات السودان الجيش يتقدم، صحيفة الشرق القطرية، 10 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 22 فبراير/شباط 2024)، https://shorturl.at/bCIOS

(5) بيان مهم من المقاومة الشعبية السودانية، منصة نبض السودان، 17 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 22 فبراير/شباط 2024)، https://nabdsudan.net/?p=112965

(6) الشفيع خضر سعيد، دعاوى الاستنفار وحرب السودان، مرجع سابق.

(7) المؤتمر الشعبي يعلن موقفه من المقاومة الشعبية، صحيفة المشهد السوداني، 8 يناير 2024، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2024)، https://almashhadalsudani.com/sudan-news/sudan-now/86383/

(8) استطلاع رأي عام عبر الإنترنت حول فكرة المقاومة الشعبية، موقع سما السودان، 21 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/bdjHI

 (9) زهير عبد الفتاح، السودان .. في وجوب المقاومة الشعبية، موقع النيلين، 22 يونيو/حزيران 2023، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.alnilin.com/13319661.htm .

(10) الاستنفار والمقاومة الشعبية.. أدوات الإسلاميين للسيطرة على السودان، المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية، أبوظبي، 22 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)،  https://shorturl.at/apvL8 

(11) المرجع السابق.

(12) يعقوب عبد الله دينق، المقاومة الشعبية ليست بديلًا عن الجيش التقليدي، 8 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://sudanwarmonitor.com/p/0fd

(13) محجوب حسن سعد، رسالة عاجلة، منصة أشواق السودان، 19 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 22 فبراير/شباط 2024)،  https://sudaplatform.com/88776