أزمة الكونغو الديمقراطية المنسية: الجذور والمسار المحتمل

في ظل انشغال الرأي العام الدولي بالأزمة الفلسطينية والمجازر التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وقبل ذلك الحرب الروسية-الأوكرانية، بالإضافة إلى الحرب الأهلية السودانية والتي تسببت بوقوع العديد من الضحايا ونزوح الآلاف من أراضيهم. هناك إبادة جماعية وأزمة إنسانية أخرى تحدث في وسط إفريقيا في جمهورية الكونغو الديمقراطية لم تأخذ ذلك الزخم الإعلامي المطلوب لتسليط الضوء عليها ومعرفة أسبابها وجذورها، وبالتالي البحث عن حلول لها ووقف إراقة الدماء فيها.
تطورت القدرات القتالية لحركة "م23" المتمردة بالكونغو وصارت قادرة على العمل على مدار الساعة بفضل ما تمتلكه من معدات تكنولوجية متقدمة (رويترز)

سنتناول في هذه الورقة أبرز أسباب الأزمة الكونغولية منذ بدايتها وأين وصلت، بالإضافة إلى مستجداتها، والاتهامات المتبادلة بتأجيج الصراع بين رواندا والكونغو الديمقراطية، وكذلك تبعات انسحاب قوات مجموعة شرق إفريقيا واستبدال قوات منظمة "سادك" في الكونغو الديمقراطية بها، ونتائج ذلك والسيناريوهات المحتملة.

خلفية للأزمة

شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية أزمة إنسانية طويلة الأمد اتسمت بالحرب والإهمال وعدم المبالاة منذ استقلالها في عام 1960. كان الصراع في الكونغو مدفوعًا بأباطرة الحرب، وجشع كثير من الفاعلين لوضع اليد على المعادن، فضلًا عن التوترات العرقية، والإفلات التام من العقاب. إن الأزمة في الكونغو تشكل حالة كلاسيكية من الإهمال واللامبالاة على المستوى الدولي؛ حيث تتعرض البلاد للدمار المالي وتحتاج إلى المساعدات والوساطات الدولية بشكل عاجل. وللصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية جذور عميقة تمتد إلى قرون مضت، وتشمل الاستعمار، واستغلال الموارد، والسياسة الإقليمية والتي استمرت حتى يومنا هذا وتتشكل صورتها الحالية بالأزمة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا.

كان لاستعمار بلجيكا لجمهورية الكونغو الديمقراطية في الفترة من 1885 إلى 1958 تأثير كبير على المنطقة، لاسيما فيما يتعلق بسياسات العمل وما تلا ذلك من فقر وتخلف في المناطق الريفية. وشهدت هذه الفترة أيضًا تعميق الهيمنة الاستعمارية البلجيكية، والتي فقدت السيطرة في النهاية أمام الحركة القومية. تميزت حقبة ما بعد الاستعمار، التي شهدت "انقلاب موبوتو عام 1965"(1)، بدورة من صعود الدولة وتراجعها؛ حيث كانت الحكومة في المقام الأول بمنزلة وسيلة لإثراء الأفراد ورعايتهم وكان لهذه الديناميكيات التاريخية آثار دائمة على المشهد السياسي والاقتصادي في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

كما أدت الإبادة الجماعية في رواندا، عام 1994، إلى تدفق اللاجئين وتدخل الجيوش المجاورة، وخاصة رواندا، في شؤون جمهورية الكونغو الديمقراطية وأسهم ذلك في تشكيل مجموعات مسلحة متعددة وعسكرة المجتمع، وأدى ذلك إلى تدفق أكثر من 1.2 مليون لاجئ رواندي إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية في أعقاب الإبادة الجماعية مما أسهم في تغيير السياسة الداخلية للبلاد، جنبًا إلى جنب العنف الداخلي والحرب الأهلية، إلى شبكة معقدة من الصراع واستغلال الموارد، حيث لعبت الدول المجاورة للكونغو بالاضافة إلى دول "ورجال أعمال أجانب"(2)، دورًا رئيسيًّا في استغلال موارد البلاد. ولكن حكومة الرئيس الكونغولي الحالي، تشيسيكيدي، تركزت اتهاماتها فقط بتورط الحكومة الرواندية في الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

تمتلك جمهورية الكونغو الديمقراطية موارد طبيعية وفيرة؛ مما يجعلها جذابة للاستغلال الدولي في ظل الوضع الأمني المتدهور، وقد سعت الجهات الفاعلة الأجنبية تاريخيًّا إلى السيطرة على هذه الموارد؛ مما أدى إلى الصراعات على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، ناهيك عن الفساد المستشري في الأروقة الحكومية التي بدورها تمنح التصاريح لمشاريع التعدين وغيرها حسب المحسوبية ولمن يمرر الأموال من تحت الطاولة.

لقد كان استغلال الموارد الطبيعية في جمهورية الكونغو الديمقراطية قضية رئيسية، حيث تتنافس جهات فاعلة مختلفة، بما في ذلك الشركات متعددة الجنسيات الأجنبية، والنخب المحلية، والجماعات المسلحة، من أجل السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي الغنية بالمخزون الوفير للموارد الطبيعية الهائلة، وقد أدى ذلك إلى صراع معقد أدى في كثير من الأحيان إلى أعمال القتل ونزوح وإعادة توطين المجتمعات المحلية، وكانت السيطرة على هذه الموارد محركًا رئيسيًّا للصراع في المنطقة.

كيف بدأ التصعيد بين الكونغو ورواندا

خلال فترته الرئاسية الأولى مطلع العام 2019، تعاون جيش تشيسيكيدي بشكل مكثف مع الجيش الرواندي؛ مما سمح للقوات بتنفيذ عمليات ضد القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وقد "تأسست هذه القوات في الكونغو عام 2000 على يد أعضاء سابقين في نظام الإبادة الجماعية الرواندي، وتهدف إلى هزيمة الحكومة الرواندية الحالية. وتتعامل كيغالي مع الحركة باعتبارها تهديدًا وجوديًّا على الأراضي الكونغولية"(3) في عامي 2019 و2020. ولكن بعد أقل من ثلاث سنوات من فوزه بالسلطة، غيَّر تشيسيكيدي نهجه، فكسر ائتلافه مع سلفه، جوزيف كابيلا، وتحرك لتعزيز موقعه في السلطة، وأعلن حالة الحصار في مقاطعتين شرقيتين، وقام بتغيير الجنرالات في الجيش، كما قام بتهميش كبار المسؤولين الأمنيين. كما غيَّر توجهاته في علاقاته الإقليمية، ودمج "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" المعادية لكاغامي ضمن الجيش الكونغولي.

وبحلول منتصف عام 2021، بدأ تشيسيكيدي في تعزيز العلاقات مع أوغندا، التي كانت آنذاك منافسًا لدودًا لرواندا. والجدير بالذكر أن تشيسيكيدي أعطى الإذن للجيش الأوغندي بنشر ما بين 2000 إلى 4000 جندي لمطاردة متمردي القوات الديمقراطية المتحالفة، وهو تمرد إسلامي أوغندي متمركز في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وبعد ذلك بوقت قصير، فعل الشيء نفسه مع الجيش البوروندي، الذي كان يستهدف مجموعة "ريد تابارا" (RED-Tabara)، المتمردة المتمركزة في جمهورية الكونغو الديمقراطية والذين يسعون إلى الإطاحة بحكومة الرئيس البوروندي الحالي، ندايشيمي.

حينها شعرت رواندا بأنها معزولة، بل ومحاطة بجيران معادين لها، وساد هناك اعتقاد بأن رواندا استأنفت إلقاء ثقلها ودعمها لحركة 23 مارس المعروفة اختصارًا بالرمز "م23" (M23)، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وهذه التوترات الإقليمية، إلى جانب هدفها المتمثل في الحفاظ على نفوذ رواندا في الكونغو، هي التي دفعت بكيغالي إلى التحرك، ومنذ ذلك الحين بدأت اللعب على وتر الدبلوماسية وتعزيز العلاقات مع دول الجوار حيث أصلحت رواندا علاقتها مع أوغندا.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عادت قوات حركة "م23" (M23) إلى الواجهة عندما هاجمت المجموعة العسكرية الجيش الكونغولي في شمال كيفو. وأدى ذلك الهجوم إلى إشعال الأزمة من جديد، بين الجارتين اللدودتين. وفي مارس/آذار 2022، استؤنف القتال بين حركة "م23" (M23) وجيش جمهورية الكونغو الديمقراطية، على الرغم من "وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه أنغولا"(4).

وتقول حركة "م23" (M23) إن هدفها هو حماية اللاجئين الروانديين من قبيلة التوتسي في الكونغو، وهم مواطنون كونغوليون، ويتم تسميتهم هناك البانيارواندا والبانيامولينج، وكانت جنسيتهم ومساواتهم في الحقوق بل وانتمائهم لجمهورية الكونغو الديمقراطية موضع شك دائم. وكثيرًا ما يواجهون التهديدات والاستهدافات المهينة للإنسانية حيث يُنظر إليهم على أنهم أجانب، أو من الروانديين الذين يدعمون تمرد حركة "م23" (M23). وبناءً على هذه التهم وتزايد العداء ضد رواندا، يتم تعذيب وقتل هذه الفئة من الشعب بشكل وحشي من قبل القوات والمجتمعات الكونغولية.

ويغذي هذا الموقف تصورًا مفاده أن التوتسي يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في المنطقة ويتعرضون لدورات عنف مستمرة؛ وهو ما يوفر مبررًا قويًّا لتصرفات حركة "م23" (M23)، كما أن الفظائع التي يرتكبها المتمردون ضد المدنيين تؤدي بدورها إلى تأجيج الغضب المناهض للتوتسي، وبالتالي خلق حلقة مفرغة من العنف.

مدى مصداقية دعم رواندا لحركة 23 مارس

رفضت رواندا مرارًا الاعتراف بأي صلة لها بحركة "م23"، ولم تتمكن أي جهة من الجهات التي تتهمها من تقديم دليل دامغ على تورطها بدعم الجماعة، ولكن هذه الحركة م23 من بين الجماعات المسلحة الفعالة والقوية، فهي على سبيل المثال قد أسقطت طائرة هليكوبتر تابعة لبعثة الأمم المتحدة، والتي تحطمت داخل معقلها في مارس/آذار 2022(5). كما تم استهداف مروحيات عسكرية تابعة لجمهورية الكونغو الديمقراطية في هذه المنطقة في عام 2017. ولمَّحت مصادر عسكرية إلى أن حركة "م23" قادرة حاليًّا على العمل على مدار الساعة، بفضل أجهزة ومعدات الرؤية الليلية وأنها تمتلك أسلحة بعيدة المدى، مثل مدافع الهاون والمدافع الرشاشة. ومن المرجح جدًّا أن هذه القدرات العسكرية تم توفيرها للحركة من قبل جيش منظم بشكل جيد، ولهذا السبب يشتبه في أن أجهزة الأمن الرواندية تدعم حركة "م23". ناهيك عن أن زعماء الحركة هم من قبيلة التوتسي التي ينتمي لها الرئيس الرواندي، بول كاغامي، وتتمركز الحركة في المنطقة الحدودية بين رواندا والكونغو الديمقراطية.

وحسب كريستوف تيتيكا، الباحث في شؤون الصراعات في وسط وشرق إفريقيا بجامعة أنتويرب، فإن حركة "م23" "كانت دائمًا وسيلة لحماية المصالح الرواندية في شرق الكونغو"، وإن رواندا لديها مصالح سياسية وأمنية واقتصادية في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي المقابل، ترى رواندا أن القوات الديمقراطية لتحرير رواندا تمثل تهديدًا كبيرًا لأمنها، وأن الجيش الكونغولي يتعاون مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وهذا يثير غضب كيغالي. ويعتبر الذهب مصدرًا مهمًّا للعملة الأجنبية لكيغالي، ويأتي معظمه من شرق الكونغو(6). في إشارة هذا الباحث إلى استغلال المعادن الكونغولية من قبل رواندا.

بالاضافة إلى ذلك، لا يمكن أن نغفل أن الموارد والمعادن الكونغولية يتم نهبها واستغلالها بعدة طرق، خصوصًا من طرف الشركات الأجنبية التي تستغل المسؤولين الكونغوليين الفاسدين؛ حيث إن المعلومات تؤكد أن ما يتم تسجيله رسميًّا كمعدل للصادرات لا يتساوى مع الكميات الضخمة التي يتم تصديرها عبر تلك الشركات. وأيضًا الجماعات المتمردة المتمركزة في مناطق الصراع الغنية لها نصيب من نهب تلك الموارد. وحتى موظفو الأمم المتحدة ليسوا ببعيدين عن مرمى الاتهام باستغلال تلك الموارد، وقد أثيرت هذه الاتهامات في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عندما تحطمت طائرة بدون طيار تابعة للأمم المتحدة محملة بالذهب والبنادق(7)، وعندما تكون دولة تزخر بموارد طبيعية ضخمة في بيئة غير مستقرة أمنيًّا وسياسيًّا وتنتشر فيها الفوضى ففي الغالب تستغل مختلف الجهات الموجودة في عين المكان الوضع؛ إذ الجميع يتسابق لنهب تلك الثروات.

فشلت الأنظمة المتعاقبة في الكونغو الديمقراطية في الاستفادة من مواردها الطبيعية لتغيير حياة المواطنين. وباستثناء القلة القليلة المقربة من النظام ما زال الشعب الكونغولي يعاني من الفقر المدقع. وتوفر جمهورية الكونغو الديمقراطية حوالي 70% من الكوبالت في العالم، لكن 80% من مناجم الكوبالت الصناعية تملكها أو تمولها شركات صينية.

وفي الحقيقة، يبدأ تهريب الموارد المعدنية لجمهورية الكونغو الديمقراطية من نقل المعادن بين المقاطعات المختلفة، ويتم تنفيذه دائمًا بواسطة طائرات صغيرة تابعة لأجانب، وهم من المفترض معروفون جيدًا من قبل سلطات جمهورية الكونغو الديمقراطية والسكان المحليين، وبعضهم يقيم في المدن تحت إجراءات أمنية مشددة ضمن الحماية التي تقدمها حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية. وبالتالي، فإن الصادرات المعدنية من البلاد المضطربة تتم من مقاطعات مختلفة ويتم نقلها مباشرة إلى بلدان مختلفة من أكبر مستغلي هذه الموارد المعدنية.

الكونغو الديمقراطية ورواندا: اتهامات لا تنتهي

ألقت جمهورية الكونغو الديمقراطية باللوم على رواندا في الكثير من أعمال العنف، بما في ذلك قصف مطار جوما، في 16 فبراير/شباط 2024، في حين واصلت الأمم المتحدة الادعاء بأن رواندا تزود حركة "م23" بأسلحة متقدمة مثل صواريخ أرض جو وطائرات بدون طيار. ويشير هذا الأمر إلى القدرة القتالية المحسنة خاصة عند مقارنتها بمعدات جمهورية الكونغو الديمقراطية القديمة نسبيًّا.

من جانبها، أصدرت رواندا بيانًا صحفيًّا بعد يومين من اتهام الكونغو الديمقراطية لها، أي في 18 فبراير/شباط، ذكرت فيه أنها "تشعر بقلق عميق إزاء تخلي حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية عن عمليتي لواندا ونيروبي، وإزاء عدم مبالاة المجتمع الدولي تجاه جمهورية الكونغو الديمقراطية"(8).

وفي عام 2022، عاد متمردو حركة (م23) إلى الظهور بعد خمس سنوات من عدم النشاط وسيطروا على أجزاء كبيرة من مقاطعة شمال كيفو بحلول يوليو/تموز 2023. واتهمت كينشاسا كيغالي بتمويل ودعم عودة الحركة، وهو اتهام أيده الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة. وفي المقابل اتهمت كيغالي كينشاسا بدعم ميليشيات الهوتو المتطرفة مرة أخرى، وزيادة وجودها العسكري في الكونغو الديمقراطية.

وأمرت كينشاسا القوات الدولية والإقليمية بمغادرة البلاد بعد سنوات من الاحتجاجات واسعة النطاق ضد قوات حفظ السلام، التي اتهمت بإساءة معاملة المدنيين ووصفها المسؤولون بأنها غير فعالة. وفي مايو/أيار 2023، وافقت مجموعة تنمية جنوب إفريقيا (SADC) على نشر قوات في شرق الكونغو لمساعدة قوات الأمم المتحدة قبل انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2023.

ومع ذلك، وبعد شهر، أعلنت الأمم المتحدة عن انسحاب مزمع لبعثة حفظ السلام "مونسكو" (MONSCO) التي لا تحظى بشعبية كبيرة، وأدت السمعة السيئة لهذه البعثة إلى اضطرابات عنيفة وعمليات قتل خارج نطاق القضاء للمتظاهرين المناهضين لبعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية على يد قوات الأمن الكونغولية في غوما.

وقد اعترف مسؤولو الأمم المتحدة بأن سحب قوات بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية والقوات الأخرى يشكِّل خطرًا وأنه منذر بحدوث فراغ أمني وسط تدهور الوضع ​​في مناطق إيتوري وشمال كيفو. وقد تزامن سحب القوات الأجنبية مع الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها بشدة، في 20 ديسمبر/كانون الأول 2023. وبدأت قوات مجموعة شرق إفريقيا (EAC) سحب قواتها في أوائل نفس الشهر.

تداعيات انسحاب القوات الأممية وقوات شرق إفريقيا من الكونغو الديمقراطية

وقَّعت بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (مونسكو) في جمهورية الكونغو الديمقراطية، اتفاقية انسحابها في أواخر عام 2023. وتعد مونسكو واحدة من أكبر وأغلى بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في العالم؛ حيث تبلغ ميزانيتها السنوية حوالي مليار دولار. وقالت المونوسكو، في بيان لها، إنها "شاركت في التوقيع على مذكرة بشأن الانسحاب السريع والتدريجي والمنظم والمسؤول، وتحتوي المذكرة على خطة وجدول زمني للانسحاب، وقد بدأت بالفعل قواتها الانسحاب التدريجي أواخر شهر فبراير/شباط 2024.

وكانت مجموعة شرق إفريقيا، قد أرسلت قواتها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية في العام 2022 بعد تجدد القتال من قبل حركة "م23". وتم الاتفاق على عودة القوة بعد وقت قصير من انضمام جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى النادي الإقليمي ولكن تلك القوة بدأت انسحابها من جمهورية الكونغو الديمقراطية، في ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد أن اعتبرتها كينشاسا غير فعالة ورفضت تجديد تفويضها.

ومع ذلك، فإن أهداف نشر هذه القوة أصبحت موضع شك بعد أن اتهم رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، تشيسيكيدي، تلك القوة بالتعايش مع المتمردين بدلًا من إجبارهم على إلقاء السلاح. كما أن الكونغو تشعر بأن قوات مجموعة شرق إفريقيا، والتي تعد رواندا عضوًا فيها، غير مؤهلة لمحاربة حركة "م23" المتمردة، والتي يُزعم أنها ممولة من رواندا، وهي أحد الأعضاء في مجموعة شرق إفريقيا. وفي أعقاب قمة عُقدت في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلنت مجموعة شرق إفريقيا أن جمهورية الكونغو الديمقراطية لن تجدد تفويض القوة الإقليمية بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2023".

منذ دخولها جمهورية الكونغو الديمقراطية العام الماضي، قالت قوة شرق إفريقيا إنها أشرفت على انسحاب القوات المسلحة من عدة مناطق مثل كاروبا، وموشاكي، وكيلوريوي، وكيتشانج، وبالرغم من ذلك، فقد ثبت أن تحقيق الاستقرار الكامل أمر صعب، وواجهت القوة صعوبات لوجستية وعملياتية.

سادك تحل بديلًا عن القوات الأممية وقوات مجموعة شرق إفريقيا

بعد الاتفاق على انسحاب قوات مجموعة شرق إفريقيا، وقَّعت جمهورية الكونغو الديمقراطية اتفاقًا بشأن نشر قوة مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (سادك)، وهي منظمة تضم 16 دولة من ضمنها الكونغو الديمقراطية، في حين أن رواندا لا تنتمي اليها، وهذا ما كانت تسعى إليه حكومة الكونغو بانخراط قوة تابعة لكتلة لا تنتمي لها رواندا، وقد تقرر نشر القوة في القمة التي عُقدت في ويندهوك بناميبيا، في 7 مايو/أيار 2023.

ونصت الاتفاقية على "التزام (سادك) بنشر قواتها في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية لدعم الجيش الكونغولي في القتال والقضاء على حركة "م23" والجماعات المسلحة الأخرى التي تواصل زعزعة السلام والأمن في جمهورية الكونغو الديمقراطية".

واعتبارًا من أواخر عام 2023، بدأت القوة الجديدة من مجموعة "سادك" في نشر قوات من جنوب إفريقيا وتنزانيا ومالاوي لقتال حركة "م23"، إلى جانب الجيش البوروندي. وفي الوقت نفسه، دخل الجيش الكونغولي في شراكة مع شركات أمنية من القطاع الخاص، فضلًا عن مجموعة من الميليشيات المحلية، التي يطلق عليها مجتمعة اسم "وازاليندو" (الوطنيون)، الذين يفتقرون إلى التدريب والانضباط. وهناك تقارير موثوقة من أواخر عام 2023 تفيد بأنهم يتعاونون أيضًا مع متمردي القوات الديمقراطية لتحرير رواندا المناهضة للرئيس الرواندي.

وللمساعدة في جهود مكافحة التمرد، فإنها تمتلك قوات محدودة تقودها قوات الدفاع الوطني لجنوب إفريقيا (SANDF)، التي لديها طائرة نقل واحدة عاملة وثماني مروحيات تشغيلية. ويشير ذلك إلى وجود مشكلات تمويلية كبيرة من شأنها أن تزيد من عرقلة جهود مكافحة التمرد في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

الكونغو الديمقراطية ورواندا: التصعيد المستمر

ارتفعت حدة التوترات بين البلدين وحرب التصريحات بين الرئيسين، تشيسيكيدي وكاغامي، والتي وصلت ذروتها خلال القمة الإفريقية التي تم انعقادها مؤخرًا في أديس أبابا، منتصف فبراير/شباط 2024، حيث جلس الرئيسان اللدودان على نفس الطاولة على هامش قمة الاتحاد الإفريقي، ولكن بدلًا من مناقشة الحلول، تبودلت الإهانات بينهما.

وانعقدت قمة مصغرة، في 16 فبراير/شباط 2024، حول الوضع الأمني ​​في جمهورية الكونغو الديمقراطية في أديس أبابا على هامش القمة السابعة والثلاثين للاتحاد الإفريقي؛ حيث عقدت خلف أبواب مغلقة، وكانت بمنزلة منصة لرئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، لمعالجة القضايا الملحة التي تواجه بلاده، ولاسيما التركيز على دور رواندا في الصراع الدائر في المناطق الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية. واتهم الرئيس تشيسيكيدي رواندا بإدامة انعدام الأمن واستغلال موارد جمهورية الكونغو الديمقراطية.

وفي الاجتماع الذي أطلق عليه اسم "إسكات الأسلحة في إفريقيا"، لم يتصافح كاغامي وتشيسيكيدي، بينما كان التوتر على أشده أثناء القمة المصغرة.

وقد اتهمت رواندا القوات الديمقراطية لتحرير رواندا المندمجة، حسب كيغالي، في القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية بالقيام بعمليات توغل متكررة في أراضيها واختطاف المواطنين. لكن كينشاسا تؤكد أن هذه ذريعة من قبل كاغامي لمواصلة تعزيز نفوذه على الكونغو.

في 25 فبراير/شباط 2024، اجتمع رؤساء الكونغو، فيليكس تشيسيكيدي، وجنوب إفريقيا، سيريل رامافوزا، وبوروندي، إيفاريست ندايشيمي، ومالاوي، لازاروس شاكويرا، في ويندهوك ناميبيا وناقش هؤلاء الزعماء الأربعة الجهود التي يتعين بذلها لاستعادة السلام في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تشهد أعمال عنف مع متمردي حركة 23 مارس. تمحورت المحادثات حول التدابير الواجب اتخاذها لتعزيز التعاون وضمان أمن السكان المدنيين في هذه المنطقة التي تعاني من العنف(9).

وأصبح تضامن والتزام الرؤساء، تشيسيكيدي ورامافوزا وندايشيمي وشاكويرا، بالسلام والاستقرار في إفريقيا أكثر أهمية وتصميمهم على العمل بشكل مشترك لحل الأزمات وتعزيز التنمية في القارة يشكل إشارة على تحالفهم القوي والذي قد يتسبب بحدوث نزاع دبلوماسي آخر مع رواندا وبالتحديد بوروندي ومالاوي وجنوب إفريقيا، وبشكل أقل تنزانيا؛ حيث إن هذه الدول هي التي وافقت على نشر قواتها في الكونغو الديمقراطية لمحاربة ذراع رواندا M23 وبالتالي تقع هذه الدول في مواجهة مع رواندا.

من الجانب الآخر، خلال شهر واحد فقط (فبراير/شباط 2024) دخلت رواندا في اتفاقيات دفاعية مع عدد من الدول، فيما يبدو أنه استعراض للقوة الدفاعية والدبلوماسية التي تتمتع بها، وهي رسالة واضحة إلى جارتها الكونغولية وتحذير لأي تحالفات تفكر بالمساس بأمنها أو الاعتداء على أراضيها. وجاءت تلك الاتفاقيات على النحو التالي:

  • في 7 فبراير/شباط 2024، وقَّعت رواندا اتفاقية في المجال العسكري مع بولندا، ومن الأمور الأساسية في هذه الاتفاقات توفير التكنولوجيا العسكرية، مع الطائرات العسكرية بدون طيار والأنظمة المضادة للطائرات بدون طيار.
  • في 11 فبراير/شباط 2024، قامت رواندا والهند بتعزيز التعاون الدفاعي وخصوصًا في مجالات التدريبات العسكرية المشتركة والتعاون الصناعي الدفاعي وغيرها.
  • في 20 فبراير/شباط 2024، أعلنت رواندا والجزائر عزمهما على تعزيز العلاقات الدفاعية القائمة على التعامل مع مختلف القضايا الأمنية في إفريقيا.

قراءة لسيناريوهات الأزمة في ظل التوترات المتصاعدة

السيناريو الأول: من المتوقع أن تظل التوترات الحادة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية مرتفعة على المدى القريب، ولكن المعطيات على أرض الواقع تشير إلى أن الصراع المباشر بين القوات الرواندية والكونغولية غير مرجح ويعزى ذلك إلى:

أولًا: إدراك الرئيس، فيليكس تشيسيكيدي، أن القوة العسكرية تميل لصالح رواندا بالرغم من أن جنود الكونغو الديمقراطية أكبر من حيث العدد بحوالي ثلاثة أضعاف، إلا أن العتاد والإمدادات العسكرية الرواندية ترجح كفة الأخيرة، وهي معظمها أسلحة فرنسية وجنوب إفريقية وأيضًا الصين وإسرائيل وروسيا وتركيا. في حين أن العتاد العسكري للكونغو الديمقراطية مزيج من الأسلحة الروسية وأسلحة الحقبة السوفيتية المستعملة التي تم الحصول عليها من دول حلف وارسو السابقة، وتم شراء معظم المعدات بين عامي 1970 و2000.

وفي المقابل، من المتوقع أن رواندا أيضًا لن تجازف بالدخول في حرب تدمر نجاحاتها الاقتصادية؛ حيث يسجل مؤشر النمو الاقتصادي معدلات مذهلة تصنفها ضمن الأعلى في القارة الإفريقية، كما أن الانتخابات الرئاسية الرواندية على الأبواب والتي من المزمع اجراؤها في 15 يوليو/تموز 2024، وبالتأكيد يرغب كاغامي بالتركيز على فوزه بالانتخابات بعيدًا عن مشاكل أخرى إقليمية.

ثانيًا: أن الجهود الدولية والإقليمية التي اكتسبت زخمًا خلال الفترة الأخيرة، لتجنب صراع أوسع ستعمل على الحد من الصراع العسكري واسع النطاق، باستثناء عمليات الكرِّ والفرِّ التي تحدث في الحدود، ولكن من الصعب حدوث قتال عسكري مكثف الذي يشمل آلاف القوات من كلا الجانبين واستخدام الأسلحة الثقيلة، كما أن الولايات المتحدة التي تربطها علاقات قوية بكل من جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا قد مارست ضغوطًا متزايدة على رواندا.

السيناريو الثاني، وهو الأضعف، وهو أن تتزايد عمليات الكر والفر على طول حدود البلدين؛ الأمر الذي سيؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين. ففي حال استمرت رواندا في تشغيل نظام صواريخ أرض-جو في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو إذا استمرت حركة "م23" بزحفها إلى غوما، فسيعرض ذلك الرئيس تشيسيكيدي لضغوط داخلية كبيرة لاتخاذ موقف أقوى، وبالتالي ارتفاع احتمالات التصعيد. ومن جهة ثانية، إذا شعرت رواندا بارتفاع حدة المواجهات بين قوات سادك ومجموعة 23 مارس على حدودها، قد تعلن الحكومة الرواندية أن الوجود المتزايد للجماعات المتمردة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يشكل تهديدًا لأمنها القومي، ودفاعًا عن نفسها ستنشر قوة عمل عسكرية لتأمين المناطق المحيطة بالحدود، وبالتالي حدوث مواجهة مباشرة بين القوات المسلحة من البلدين.

السيناريو الثالث: واحتمال وقوعه ضئيل، فربما يندلع صراع واسع النطاق، في ظل الانقسامات الإقليمية، وتشكل كل من الكونغو الديمقراطية وحلفاؤها، بوروندي ومالاوي وجنوب إفريقيا وبشكل أقل تنزانيا، جبهة أمام رواندا التي قد تنضم إليها كينيا التي استضافت القوى المعارضة الكونغولية، بالاضافة إلى حلفاء رواندا الدوليين بما أنها تتمع بنفوذ دولي كبير. ولو وقع هذا السيناريو فإن دولًا مثل بوروندي وجنوب إفريقيا وتنزانيا ومالاوي قد تنشر جزءًا من قوات منظمة سادك، وتمنحها تفويضًا مباشرًا بالاشتباك مع حركة 23 مارس، ومن الممكن أن يضعها هذا الأمر في مواجهة رواندا في حالة نشوب صراع، وهو ما يمكن أن يتصاعد ويؤدي إلى تورط العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء عسكريًّا لحماية أراضيها من تمدد وانتشار حالة عدم الاستقرار.

خلاصة

بعد فشل محادثاتي السلام الإفريقتين "محادثة نيروبي" و"محادثة لواندا" واللتان أصبحتا مشلولتين فإن حل هذه الأزمة يكمن في تحلي الجهات المانحة الأجنبية بقدر من المصداقية والعمل على الحيلولة دون التدخلات والأطماع الأجنبية سواء من دول الجوار أو الدول الغربية، التي تستغل موارد الكونغو. ومعلوم أن هذه الموارد تتمركز في المنطقة الشرقية من البلاد وتعد السبب الرئيسي للأزمة في الكونغو الديمقراطية، وإلا لما كانت الجماعات المتمردة والصراعات تتمركز في تلك المنطقة بالتحديد. هذا بالإضافة إلى تشكيل حكومة كونغولية أكثر خضوعًا للمساءلة، وبناء نظام مؤسساتي للدولة، ومكافحة الفساد المستشري في الأروقة الحكومية.

لكن الوصول إلى هذا الحل يتطلب جهودًا دولية وإقليمية واسعة لإنهاء أزمة تمتد إلى عقود من الزمن. وبالوضع الحالي فإن فرص السلام في الكونغو تعد بعيدة المنال في الوقت الحالي. وعلى المدى الطويل، ستحتاج حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى إجراء مجموعة من الإصلاحات لقمع دورات الصراع هذه، وتشمل: إصلاح الجيش الكونغولي، وبرنامجًا جديدًا لتسريح الجماعات المسلحة، وبرنامجًا للتنمية الاقتصادية يسمح للكونغوليين بالاستفادة من مواردهم، وخطة للمصالحة المجتمعية، ووضع حد للتمييز ضد المتحدثين باللغة الكينيارواندية.

ABOUT THE AUTHOR

References

1)- A brief history of Joseph Mobutu’s kleptocracy, Blogs London School of Economics and Political Science, 8th June 2023, (access Mars 3, 2024), https://shorturl.at/ptGOR

2) الألماس بالكونغو الديمقراطية.. حقائق عن نهب إسرائيل لثروات إفريقيا، الجزيرة نت، 21 فبراير/شباط 2021 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2024)، https://shorturl.at/hisL6

3)- Is the Third Congo War approaching? Geopolitical Intelligence Services April 12, 2023, (access Mars 3, 2024), https://shorturl.at/bANX5

4)- After Decades of War, Angola Is an Exporter of Peace, Africa Defense Forum (ADF), Dec 5, 2023 (access 3/3/2024), https://shorturl.at/nyOUZ

5)- UN helicopter with 8 on board crashes in DR Congo, army blames M23 rebels, Anadolu Ajansı Mars 29, 2022, (access Mars 3, 2024), https://shorturl.at/bexO9

6)- Why Rwanda supports M23 rebels in DR Congo's conflict, Deutsche Welle, 22 February 2024 (Access 3 Mars, 2024), https://shorturl.at/hkoyX

7)- UN-operated drone’s crash sparks controversy, Caj-News November 10, 2023, (Access 3 Mars, 2024), https://shorturl.at/prHL4

8)- Rwanda Clarifies Security Posture, Ministry of Foreign Affairs and International Cooperation, 18 February 2024, (access 4 Mars, 2024), https://shorturl.at/gmDIN

9)- SADC Leaders Converge in Namibia, BNN Breaking, 27 Feb 2024, (access Mars 3, 2024), https://shorturl.at/aqyAH