رئاسيات السنغال: هل تكون فصلًا جديدًا في تراجع النفوذ الفرنسي بالمنطقة؟

تحاول هذه المقالة قراءة ما قد يترتب على هذه الرئاسيات السنغالية المقبلة من تحول في العلاقة مع القوة الاستعمارية السابقة، فرنسا، ضمن سياق إقليمي اتسم، مؤخرًا، بانحسار مستمر لنفوذ باريس في منطقة إفريقيا الغربية التي كان يوجد بها أكبر تجمع للمستعمرات الفرنسية في العالم.
محتجون على تأجيل انتخابات الرئاسة يغلقون أحد الطرق الرئيسية في العاصمة دكار بالإطارات المشتعلة (الأناضول)

يتوجه الناخبون السنغاليون، يوم الأحد القادم، إلى مكاتب الاقتراع للتصويت في انتخابات رئاسية قد تكون مفصلية في التاريخ السياسي لبلدهم، ليس بسبب الجدل الدستوري الذي أجَّجه قرار تأجيلها إلى نهاية السنة الجارية قبل الرجوع عنه، ولا لعدم مشاركة الرئيس المنصرف، ماكي صال، فيها مع ما يعنيه ذلك من حسم للسجال المزمن بشأن الولايات الرئاسية وتأويل المقتضيات الدستورية المتعلقة بها، بل لما قد يترتب على هذه الانتخابات من تحول في العلاقة مع القوة الاستعمارية السابقة، فرنسا، ضمن سياق إقليمي اتسم، في السنوات الأربع الماضية، بانحسار مستمر لنفوذ باريس في منطقة إفريقيا الغربية التي كان يوجد بها أكبر تجمع للمستعمرات الفرنسية في العالم (إفريقيا الغربية الفرنسية)(1) وكانت داكار عاصمتها، ثم تحولت في الفترة اللاحقة على الاستعمار إلى أهم مناطق نفوذ فرنسا في العالم.

تيار سياسي جديد ومزاج شعبي مناوئ لفرنسا

لا يبدو الرهان السياسي لانتخابات 24 مارس/آذار 2024 في السنغال مقتصرًا على تحقيق التناوب السياسي الانتخابي الثالث في تاريخ البلاد، بل يتجاوزه إلى أن هذه الانتخابات تشهد لأول مرة تعبئة قوية لتيار سياسي مناوئ لفرنسا يقوده حزب "الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل الأخلاق والأخوة" المعروف اختصارًا بـ"باستيف"(2)، وهو حزب أسسه السياسي المعارض، عثمان سونكو(3)، عام 2014، وقامت السلطات بحله صيف عام 2023 بذريعة تهديد الأمن العام والتحريض على العنف. وخلال الحملة الانتخابية، ركز "باستيف" خطابه على تقديم مرشح الأغلبية الرئاسية، أمدو باه، على أنه مرشح معسكر فرنسا في البلاد الذي يمثله الرئيس ماكي صال.

يسعى سونكو، منذ ظهوره في المشهد السياسي السنغالي عام 2014، إلى تقديم نفسه وحزبه على أنهما بديل لنظام سياسي مسلوب الإرادة موروث عن الحقبة الاستعمارية، ويستدل على ذلك بأن الحزبين التاريخيين اللذين تناوبا على حكم البلاد منذ الاستقلال (الحزب الاشتراكي والحزب الديمقراطي) انتهج كلاهما سياسة مهادنة لفرنسا، ليستنتج من ذلك أن هذه السياسة تعكس ارتهان النخب السنغالية لنفوذ القوة الاستعمارية السابقة وارتباطها الحيوي بدوائر صنع القرار فيها، وخدمة مصالحها على حساب المصلحة الوطنية السنغالية.

استلهم عثمان سونكو، وهو مفتش ضرائب سابق، خطابه من ثنائية شائعة في أدبيات التحرر الإفريقية تربط تخلف بلدان القارة بفساد النخب الحاكمة، وارتهان هذه النخب وربما عمالتها للقوى الاستعمارية السابقة. ورغم أن تجارب الحكم التي قادها زعماء التحرر الأفارقة في ستينات وسبعينات القرن الماضي كانت فاشلة في أغلبها على المستوى الاقتصادي والتنموي، وتحولت كلها تقريبًا إلى أنظمة حكم دموية، إلا أنها لا تزال تلهم فئات عريضة من الشباب الإفريقي المحبط من خيبات أنموذج الدولة الوطنية في إفريقيا. ويعود التعلق بهذه النماذج إلى أنها على الأقل حافظت على قدر من السيادة واستقرار القرار الوطني.

بنى حزب "باستيف" خطابه على إدانة العلاقة "المختلة" بين فرنسا والسنغال ودول إفريقيا الغربية والتي يرى أنها ظلت علاقة قائمة على الاستغلال بدءًا بفترة تجارة الرقيق مرورًا بحقبة الاستعمار، واليوم لا تزال تحكمها التبعية المطلقة ولا تخدم بحال من الأحوال مصالح السنغال ولا اندماج ونهضة دول المنطقة. ويعتبر الحزب العملة المشتركة لإفريقيا الغربية (الفرنك) أسطع دليل على سيطرة فرنسا على اقتصادات دول المنطقة وتسخيرها في خدمة مصالحها، وضمان استمرار هيمنتها الإستراتيجية(4).

يدعو حزب "باستيف" إلى إحداث قطيعة مطلقة في العلاقات بين البلدين وإعادة بنائها على قواعد جديدة تقوم على الندية والمصلحة المتبادلة. وفي هذا الصدد، تعهد الحزب وزعيمه، عثمان سكونو، الذي يعتبر زعيم بوركينا فاسو الراحل، توماس سانكاري، زعيمًا ملهمًا له، بمراجعة اتفاقيات استغلال حقوق الغاز بشمال البلاد، دافعًا بأن هذه الصفقات لم تكن شفافة ولم تراع المصالح الاقتصادية للسنغال بقدر ما تضمن الربح للشركات الغربية المعنية.

ثلاثة مرشحين وثلاثة أجيال من السنغاليين

في انتخابات 2019، حل سونكو في المرتبة الثالثة بحصوله على أكثر من 15 بالمئة من الأصوات، وفي ضوء تعذر تقدمه للانتخابات الحالية بسبب متابعته قضائيًّا بتهمة التشهير، أعلن سونكو أن اختياره وقع على صديقه، بصيرو ديوماي فاي (41 عامًا)، ليكون مرشح "باستيف" لرئاسيات 24 مارس/آذار.

ويمكن لمرشح "باستيف"، في حال تأهله للدور الثاني، التعويل على مرشحيْن آخرين، هما: الشيخ تيجان ديي (52 عامًا)، وهو نائب برلماني في عقده الخامس، يخوض الانتخابات الرئاسية بصفته مرشحًا مستقلًّا، وحبيب سي (67 سنة)، وهو وزير سابق، ومدير ديوان الرئيس السابق، عبد الله واد.

تعكس المشارب المختلفة والتفاوت في السن بين هؤلاء المرشحين الثلاثة(5) المنتمين لثلاثة أجيال من السنغاليين اتساع الفئات الشعبية التي تنظر بعين السخط إلى العلاقة مع فرنسا؛ ذلك أن الترشح للرئاسيات في السنغال يحتاج تزكية شعبية تتمثل في مئات التوقيعات من المواطنين العاديين ونصابًا من توقيعات المنتخبين تكون موزعة وفق نسب معينة في كل أقاليم البلاد.

يحظر القانون السنغالي نشر نتائج استطلاعات الرأي خلال الحملات الانتخابية ما يعني غياب أي معطيات تُمكِّن من تقدير الوزن الانتخابي لهذا المرشح أو ذاك، لكن المؤكد أن الأنشطة الدعائية والتجمعات التي يقيمها هؤلاء المرشحون الثلاثة تتصدر نسب المشاهدة على منصات التواصل الاجتماعي وبفارق كبير عن بقية المرشحين التسعة عشر وضمنهم مرشح الأغلبية الرئاسية، أمدو باه.

سياق إقليمي مساعد

تجري انتخابات الرئاسة السنغالية في سياق إقليمي سمته البارزة تعاظم الشعور المناهض لفرنسا لدى فئات مهمة من سكان إفريقيا الغربية والوسطى التي كان أغلب بلدانها مستعمرات فرنسية. وعبَّرت عن هذا الشعور هزات سياسية شهدتها بلدان عديدة في المنطقة اختلطت فيها الانقلابات العسكرية بانتفاضات شعبية مناهضة لأنظمة سياسية كانت كلها موالية لفرنسا أو متسقة مع سياستها ووجودها العسكري والاقتصادي في المنطقة.

بدأ هذا التوجه المناوئ لفرنسا يتبلور في عام 2015 حين عقدت حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى اتفاقيات تعاون عسكري مع روسيا استقدمت بموجبها عناصر من مجموعة "فاغنر" المثيرة للجدل للمساعدة على مواجهة قوات التمرد التي كانت حينها تحاصر العاصمة، بانغي(6).

في السنوات اللاحقة، شهدت ثلاثة بلدان، هي: مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وقبل ذلك غينيا وإن بحدة أقل، تحولات سياسية مشابهة كان من تبعاتها قطيعة دبلوماسية مع فرنسا وخروج القوات الفرنسية من هذه البلدان التي ظلت تحتفظ في بعضها بقواعد دائمة منذ الحقبة الاستعمارية. ومقابل القطيعة مع فرنسا، توجهت هذه الدول إلى توطيد علاقاتها العسكرية مع روسيا عبر مجموعة "فاغنر"، وهو ما ضمن استقرار الأنظمة الجديدة رغم اتهامات للمجموعة الروسية بارتكاب جرائم وانتهاكات فظيعة في حق السكان(7).

السخط على فرنسا قد لا يعني حتمًا التقارب مع روسيا

يختلف الواقع السياسي والأمني السنغالي جذريًّا عن واقع هذه البلدان التي يواجه أغلبها اضطرابات أمنية كبيرة لم تسيطر معها الدولة على كامل أراضيها منذ سنوات طويلة، كما أن التجارب الديمقراطية لهذه البلدان عاثرة في أغلبها عكس التجربة السنغالية الراسخة مؤسسيًّا ومجتمعيًّا.

إن خصوصية وتميز الحالة السنغالية يستدعيان من المتابع أن ينتظر تبلور السخط الشعبي على فرنسا في قالب مدني انتخابي يأتي بتيار سياسي جديد من خارج التشكيلات التقليدية التي دأبت على التعاطي مع فرنسا والسير في ركابها وفق الرؤية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية والتي عكستها ستة عقود من نشاط شبكات فرنسا-إفريقيا.

قد تشكل انتخابات 24 مارس/آذار فرصة سانحة لاتساع نطاق المزاج الشعبي المناوئ لفرنسا في الساحل الإفريقي، لكن السنغال يبدو، عكس مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في منأى عن أي توجه إلى التقارب مع روسيا بحكم أن التحول المحتمل سيكون في شكل تناوب سياسي نابع من إرادة شعبية قادرة على حمايته مثلما استطاعت فرضه وحمايته في السابق.

وفي هذه الحالة، سيكون السنغال أنموذجًا للتعبير عن رفض السياسة الفرنسية في إفريقيا بالسبل الديمقراطية بعد أن ظل التعبير عن هذا الرفض إلى الآن يأتي حصرًا على شكل انقلابات عسكرية.

وبمعنى ما، قد تكسر الحالة السنغالية، في حال تحققها، مسلَّمة حكمت صراع النفوذ في الساحل خلال السنوات الأخيرة، وهي أنَّ تراجع فرنسا إستراتيجيًّا يعني تلقائيًّا اتساع نفوذ روسيا في المنطقة، رغم أن غينيا تشكل استثناء لهذه القاعدة السارية منذ 2015. وستكون الحالة السنغالية محكًّا لاختبار طريق جديد يسلكه الأفارقة للتحرر من الهيمنة الغربية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية دون الحاجة إلى شراكة جديدة مع قوة عالمية أو إقليمية جديدة وفق قواعد مختلة على نحو لا يختلف كثيرًا عن العلاقة مع القوى الاستعمارية السابقة.

ABOUT THE AUTHOR

References

1)- AOF : réalités et héritages, Sociétés ouest-africaines et ordre colonial, 1895 – 1960, Sous la direction de   Charles Becker Saliou Mbaye Ibrahima Thioub, Direction des,Archives du Sénégal, 1997, (Vu le 18 mars 2024):

https://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers15-08/010017231.pdf

2)- Site internet du parti PASTEF, (Vu le 18 mars 2024): https://pastef.org/

3)- Macky Sall et Ousmane Sonko, un combat par procuration, Jeune Afrique 18/03/2024 (Vu le 18 mars 2024):

https://www.jeuneafrique.com/1548657/politique/entre-macky-sall-et-ousmane-sonko-au-senegal-un-combat-final-par-procuration/

4)- Othman Sonko, discours devant ses partsants. Compte  Youtube SETANAL Media, Mars 2022, (Vu le 19 mars 2024):

https://www.youtube.com/watch?v=fyBxYUOXmRE

5)- Qui sont les principaux candidats a l election presidentielle au Senegal, BBC du 17 mars 2024 (Vu le 19 mars 2024):

https://www.bbc.com/afrique/articles/cw9z7jpwelno

6)- Les atrocities commises par le groupe Wagner en Afrique: mensonges et verité, State.gov du 08 février 2024, (Vu le 15 mars 2024): https://shorturl.at/eoqM5

7)- Comment la Russie tente de redorer le blason de Wagner en Afrique, article de la BBC publié le 22 février 2024, (Vu le 15 mars 2024):

https://www.bbc.com/afrique/articles/c161ykgygy4o