المنظومة الإعلامية المصرية وتطبيقات النظرية الليبرالية في التشريع والتحكم في الممارسة المهنية

تتقصَّى الدراسة التطور التاريخي للعوامل التي أثرت في تشكيل المنظومة الإعلامية المصرية خلال الفترة التي تمتد من 2011 إلى 2023. وتبحث في انعكاس التحولات السياسية والتشريعية والإعلامية التي شهدتها مصر خلال هذه المرحلة، لاسيما لحظة 3 يوليو/تموز 2013، على المنظومة الإعلامية بمصر. وتُحلِّل الدراسة الأسس والمنطلقات النظرية لهذه المنظومة وترصد سماتها وخصائصها، ومدى اتفاقها واختلافها مع النظم الإعلامية في العالم. وتستخدم الدراسة مبدأ تكامل المناهج لتوصيف المنظومة الإعلامية المصرية، مثل المقاربة التاريخية والتحليل الوثائقي.
تراجع الدور المجتمعي للإعلام المصري بعد فقدانه القدرة على إدارة النقاش بين الاتجاهات السياسية (الجزيرة)

مقدمة

توشك تجربة الصحافة المصرية أن تكمل قرنين من الزمان، شهدت خلالهما تحولات مهمة، وقدَّمت نماذج أسهمت في تطوير الصحافة العربية بشكل عام. ومن أهم تلك التجارب نموذج صحافة الكفاح الوطني الذي بدأ بإصدار الحركة الوطنية صحيفة "المؤيد" عام 1889، ثم "اللواء" عام 1900. وقد أَلْهَم هذا النموذج الحركات الوطنية في بعض الدول العربية، مثل الجزائر. وكانت نهاية ذلك النموذج عبر سيطرة السلطة في مصر بعد عام 1952 على الصحافة المصرية، لتبدأ مرحلة جديدة. وتُسهِم دراسة تاريخ الإعلام في مصر، وما شهده من تحولات، في التوصل إلى حلول جديدة للأزمة التي أصبحت الصحافة ووسائل الإعلام تواجهها. ولأن هذه الدراسة تركز أساسًا على الفترة من 2011 حتى 2023، فإن الباحث سيتتبَّع التطور التاريخي للعوامل التي أثرت في تشكيل البيئة الإعلامية خلال هذه الفترة، وما شهدته من تحولات وانعطافات، والتي يمكن أن تُسهِم في تحديد سمات وخصائص المنظومة الإعلامية في مصر.

تُشكِّل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بداية مرحلة جديدة عرفت أحداثًا سياسية أثرت في النظام السياسي المصري الذي تحوَّل من نظام سلطوي -توجد به بعض سمات الديمقراطية المحدودة قبل الثورة- إلى نظام ديمقراطي؛ إذ شهد انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة، وجرى إطلاق حرية الإعلام (2011- يونيو/حزيران 2013). وتحوَّل بعد ذلك إلى نظام سلطوي شمولي مغلق عقب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. وقد أثرت تلك التحولات في المنظومة الإعلامية بمصر، وفي التعددية والتنوع بهذه المنظومة، وفي دور وسائل الإعلام المصرية ووظائفها. لذلك تهدف الدراسة إلى توصيف المنظومة الإعلامية المصرية خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2023، وتحديد سماتها وخصائصها، ومدى اتفاقها واختلافها مع النظم الإعلامية في العالم.   

1. اعتبارات منهجية ونظرية

مشكلة الدراسة وتساؤلاتها

تشير الدراسات الإمبريقية إلى وجود علاقة بين النظام السياسي والمنظومة الإعلامية، وهو ما نلاحظه في سياق التحولات التي عرفها النظام السياسي بمصر خلال الفترة الممتدة من عام 2011 إلى عام 2023. لذلك، تبحث الدراسة تأثير هذه التحولات في المنظومة الإعلامية المصرية، انطلاقًا من هذا الحقل الاستفهامي:

1. ما أهم ملامح العلاقة بين الإعلام والسلطة في مصر؟

2. ما الوسائل التي استخدمتها السلطة للسيطرة على وسائل الإعلام المختلفة التقليدية والرقمية؟

3. كيف استخدمت السلطة النصوص القانونية والإجراءات الإدارية للتحكُّم في وسائل الإعلام؟

4. ما دور مصادر تمويل الصحف والإعلان في التأثير على سياستها التحريرية؟

5. ما دور وسائل الإعلام في العملية الديمقراطية ونشر الثقافة السياسية؟

6. ما ملامح التجربة المصرية في التنظيم الذاتي لمهنة الإعلام وتطوير أخلاقيات المهنة؟

7. كيف تفاعلت وسائل الإعلام المصرية مع الأحداث منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني حتى 2023؟

8. ما ملامح نموذج الإعلام المصري خلال هذه الفترة؟

منهجية الدراسة

استخدمت الدراسة مبدأ تكامل المناهج لتحديد سمات وخصائص المنظومة الإعلامية بمصر. فاعتمدت المنظور التاريخي لرصد جذور العوامل التي تؤثر في هذه المنظومة، مثل سيطرة السلطة على المؤسسات الصحفية (القومية)، ومحطات الإذاعة، والقنوات التليفزيونية التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون. كما استعانت الدراسة بالتحليل الوثائقي في تفسير النصوص الدستورية والقانونية والمواثيق الأخلاقية التي تُشكِّل أساس المنظومة الإعلامية المصرية. كما استخدمت تحليل الخطاب لمعرفة اتجاهات السلطة نحو الإعلام وتصورها لدوره. ولأن الفترة الممتدة من 2011 إلى 2023 تُشكِّل حالة للدراسة فقد تمَّ التركيز على سمات وخصائص المنظومة الإعلامية خلال هذه الفترة من أجل بناء صورة عامة وشاملة لأبعادها مع مراعاة الاختصار والتركيز نظرًا لطبيعة الدراسة التي جعلت من الصعب عرض الكثير من المعلومات والوصف التفصيلي. لذلك اقتصرت على المعلومات التي تُسهِم في بناء الصورة العامة للمنظومة الإعلامية المصرية، وتحديد خصائصها.

مدخل نظري

المنظومة الإعلامية المصرية وإشكالية التصنيف

ظل التوصيف الذي حدَّده الأكاديميون الثلاثة في جامعة إلينوي، فريدريك سيبرت (Fredrick Siebert)، وتيودور بيترسون (Theodore Peterson)، وويلبور شرام (Wilbur Schramm)، للنظريات التي يتم استخدامها في تعيين النظم الصحفية يتحكَّم في الدراسات الإعلامية(1)، وفي نظرة الباحثين لأوضاع الصحافة في العالم. لذلك بقي التراث العلمي في هذا المجال يدور في إطار الفكر الغربي، ويعكس رؤية هذا الفكر للعالم(2). وقام تصنيف هؤلاء الباحثين على أربع نظريات تشمل: النظرية السلطوية، والنظرية الليبرالية، ونظرية المسؤولية الاجتماعية، والنظرية الشيوعية. وأضاف دينيس ماكويل (Denis McQuail) إلى هذا التصنيف نظرية المشاركة الديمقراطية(3)، لكن تلك النظريات كانت نتيجة لدراسة التجربة الأميركية والأوروبية، ومن الصعب استخدامها في توصيف النظم الإعلامية العربية؛ إذ لا يمكن أن تستوعب الاختلافات بين الدول. كما أن ثورة الاتصال جعلت هذه التصنيفات غير قادرة على استيعاب استخدامات الجمهور لوسائل الإعلام الجديد خارج سيطرة السلطات.

ويبدو واضحًا أن الواقع تجاوز تلك النظريات، وأن العالم يحتاج إلى نظريات ونماذج معرفية جديدة تكون منطلقًا أساسيًّا لبناء نظم إعلامية جديدة، وتطوير مفاهيم تُشكِّل مرحلة كفاح جديدة للتحرر من التبعية للغرب.

تصنيف "وليم روو" للنظم الصحفية العربية    

واجه الباحث الأميركي، وليم روو (William Rough)، مشكلة في تصنيف النظم الصحفية العربية باستخدام النظريات الأربع السابقة؛ إذ يرى أن الإعلام العربي لا يأخذ مكانه في أي من هذه التصنيفات بشكل محدد، فهناك بعض العناصر من كل التصنيفات الأربعة في العالم العربي(4). وبالرغم من اعتراف روو بذلك فهو يرى أن الإعلام في معظم البلاد العربية يُصنَّف ضمن أشكال مختلفة من النظرية السلطوية، ويُبرِّر ذلك بأن وسائل الإعلام تقوم بدعم سياسات الحكومة التي تسيطر على الإعلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال التراخيص والإجراءات القانونية والوسائل المالية. لكنه رغم توصيفه لوسائل الإعلام العربية بأنها "سلطوية" قدَّم تصنيفًا جديدًا لأنماط الصحافة العربية ينقسم إلى ثلاثة أنواع، وهي:

- أولًا: الصحافة التعبوية.

- ثانيًا: صحافة الموالاة.

- ثالثًا: الصحافة التعددية.   

- رابعًا: الصحافة الانتقالية، وهو النمط الذي أضافه إلى نموذج الثلاثي في العام 2004.

ويرى روو أنه عندما يتغيَّر النظام السياسي يتغير النظام الإعلامي، ومن الصعب التنبُّؤ بتطور النظام الإعلامي؛ لأن النظام السياسي غير مستقر، وأن هذا النظام معقد حيث يضم عناصر من السيطرة، ومعالم سلطوية في العديد من أجهزة الإعلام العربي حتى في المناطق التي لا تخضع فيها الصحافة لملكية الحكومة(5). ويضيف روو أن من أهم التحديات التي تواجه النظم الإعلامية العربية أن هناك الكثير من قنوات المعلومات المتاحة للعرب أكثر مما كان موجودًا في الفترة الماضية. 

وتُشكِّل تلك النقطة بداية مهمة لهذه الدراسة: فهل استجابت المنظومة الإعلامية المصرية لهذه التحديات؟ وهل تمكنت من تطوير نفسها؟ وما تأثير ثورة 25 يناير في هذه المنظومة؟ وكيف أثَّر التحول في النظام السياسي المصري على أوضاع المنظومة الإعلامية بين 2011 و2023؟  

2. أنماط العلاقة بين السلطة والمنظومة الإعلامية المصرية

أدركت السلطة في مصر بعد عام 1952 كيف استخدمت الحركة الوطنية المصرية الصحافة في كفاحها لتحقيق الجلاء، وتهيئة الشعب المصري للثورة. لذلك بدأت السلطة الجديدة، بعد عام 1954 وسيطرة جمال عبد الناصر على الحكم، التخطيطَ لامتلاك صحف تُعبِّر عن النظام وتقوم السلطة بإدارتها، فأنشأت "دار التحرير للطبع والنشر" التي استُخدِمت في إصدار صحيفتي "الجمهورية" و"المساء"(6). لكن السلطة استهدفت السيطرة بشكل كامل على الصحافة، لذلك قام الرئيس جمال عبد الناصر بإصدار القانون رقم (56) لسنة 1960 الذي نقل ملكية المؤسسات الصحفية الرئيسية إلى حزب الاتحاد الاشتراكي العربي (التنظيم السياسي الوحيد آنذاك). 

فهل يعتبر ذلك تأميمًا للصحافة ويتشابه بذلك مع النظام السوفيتي (الشيوعي)؟ يرفض محمد حسنين هيكل وصف "التأميم"، ويصر على أن الصحافة تمَّ نقلها للشعب مُمَثَّلًا في تنظيمه السياسي الوحيد(7). لكن ذلك لا يُغيِّر الحقائق الواقعية؛ إذ أصبحت السلطة تتحكَّم بشكل كامل في الصحافة، وتفرض عليها الرقابة العسكرية المباشرة، ويُعيِّن رئيس الجمهورية رؤساء تحرير الصحف، ويقوم بفصل الصحفيين، وتحويلهم إلى وظائف في شركات القطاع العام، مثل شركة "باتا" لصناعة الأحذية بهدف إهانتهم. وبذلك جمع النظام المصري ملامح من النظريتين، السلطوية والشيوعية، وقامت الصحافة بدور التعبئة لتأييد قرارات السلطة وتبريرها، وأصبحت تابعة لها. وظلت تلك المؤسسات التي قامت السلطة بتأميمها عام 1960، تُشكِّل مركز الصحافة المصرية، وأساسها حتى الآن.

في المجال الإذاعي، أدركت السلطة في مصر أهمية الإذاعة فسيطرت عليها منذ البداية، واستخدمتها في التأثير على الجمهور لصالح النظام، وتبرير قراراته، وبناء صورته في أذهان الشعب، ونقل خطابات الرئيس جمال عبد الناصر بشكل مباشر. كما استخدمت السلطة الإذاعة لكسب التأييد للنظام الناصري على المستوى العربي، ولذلك احتلت إذاعة "صوت العرب" مكانة مهمة في المنظومة الإعلامية المصرية. وبشكل عام، يمكن وصف المنظومة الإذاعية بالنموذج الذي يقوم على التعبئة لتحقيق أهداف السلطة. 

وسيطرت السلطة أيضًا على التليفزيون الذي بدأ إرساله عام 1960، لكن تأثيره كان أقل من الإذاعة بسبب قلة أجهزة الاستقبال، واستخدمته في نقل خطاب السلطة، والسيطرة على الجمهور وتوجيهه لصالح تحقيق أهداف النظام. 

تطور المنظومة الإعلامية المصرية (1971-1981)

بعد عام 1975، بدأ الرئيس محمد أنور السادات يُفكر في تحويل النظام السياسي ليتم إلغاء الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي العربي)، والتحوُّل إلى نظام تعدد الأحزاب، لكن واجهته مشكلة: لمن يتم تمليك هذه المؤسسات الصحفية؟ وطُرِح الكثير من الأفكار، واستقر رأي السادات على أن تكون هذه المؤسسات الصحفية مملوكة ملكية خاصة للدولة، ويمارس حقوق الملكية عليها مجلس الشورى (المادة 22 من القانون (148) لسنة 1980 بشأن سلطة الصحافة)(8). وقد ظل مجلس الشورى يسيطر عليه الحزب الحاكم (الحزب الوطني) طوال الفترة من 1980 حتى 2001. وهذا يعني من الناحية الواقعية استمرارية تبعية هذه المؤسسات الصحفية للسلطة، وقيامها بالترويج لخطابها، وتبرير قراراتها.

وطبقًا لاستقراء تشكيل مجالس إدارات المؤسسات الصحفية، التي وصفها القانون بأنها قومية، واختيار رؤساء تحرير الصحف الصادرة عنها، يتضح أن رئيس الجمهورية هو الذي يقوم بتعيين قيادات هذه المؤسسات، بينما تتولى الأجهزة الأمنية ترشيحهم.

ووفقًا لقانون الأحزاب السياسية رقم (40) لسنة 1977، سُمِح للأحزاب السياسية بإصدار صحف تُعبِّر عنها، لذلك صدرت صحف حزبية منها: "الأحرار"، و"الأهالي"، و"الشعب". وأدَّت هذه الصحف دورًا مهمًّا في الحياة السياسية المصرية، وعارضت سياسات السادات، خاصة اتفاقية "كامب ديفيد"، والتطبيع مع إسرائيل، مما عرضها لمصادرة أعداد من "الأهالي" و"الشعب"، ثم إغلاقها في سبتمبر/أيلول 1981. ووفرت هذه الصحف الحزبية قدرًا محدودًا من التعددية الصحفية في مصر، لكن ذلك لا يُغيِّر من الطبيعة السلطوية للمنظومة الإعلامية في مصر خلال تلك الفترة. 

أما الإذاعة والتليفزيون، فتم تنظيمها طبقًا للقوانين المتعاقبة، ومن أهمها القانون رقم (13) لسنة 1979 كهيئة عامة باسم اتحاد الإذاعة والتليفزيون. ويوضح استقراء هذه القوانين حرص السلطة على فرض سيطرتها الكاملة على هذا الاتحاد، واستخدام الإذاعة والتليفزيون في توجيه الجمهور وتدفق الأنباء والمعرفة في المجتمع.

الحفاظ على البيئة الإعلامية الموروثة (1981-2011)

حافظ نظام الرئيس حسني مبارك على مجمل البيئة الإعلامية التي ورثها؛ حيث ظلت الصحف القومية مملوكة للدولة، لكنه بدأ عهده بالسماح بعودة "الشعب" و"الأهالي" للصدور. كما سمح بإصدار صحيفة "الوفد"، ثم بعد ذلك إصدار صحف خاصة أهمها "المصري اليوم"، و"الشروق". رغم ذلك ظلت التبعية للسلطة أهم سمات الصحافة المصرية في تلك الفترة، لكن أصبح النظام المصري، يضم عناصر من السيطرة الحكومية والحرية والتنوع. فالصحف الكبرى ذات التوزيع الواسع تميل إلى تأييد الحكومة، بينما الصحف الخاصة والحزبية ذات التوزيع المحدود تميل إلى نقد الحكومة. وكانت هناك قاعدة أساسية يلتزم بها الجميع تتمثَّل في عدم المساس برئيس الجمهورية. كما استمرت السلطة في السيطرة على الإذاعة والتليفزيون واستخدامهما للتأثير في الجمهور، والتحكُّم في اتجاهاته، وتعبئته لتحقيق أهداف السلطة.

التوظيف السياسي للإعلام بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011

أوضحت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 أن الإعلام المصري لم يستجب للتطورات العالمية في مجال الاتصال، ولم يتمكن من التعبير عن الرأي العام الكامن، ولم يُشبِع احتياجات الجمهور للمعرفة. لذلك كان هناك قدر من الاتفاق على دور وسائل التواصل الاجتماعي في التمهيد للثورة، ونقل أحداثها للجمهور، ولوسائل الإعلام الأجنبية(9). وهكذا حوَّلت وسائل التواصل الاجتماعي القوة من النظم العربية السلطوية إلى الأفراد الذين يطالبون بالحرية والعدالة الاجتماعية، فتمكنوا من استخدام هذه الوسائل لتنظيم انتفاضات اجتماعية لتحقيق أهداف سياسية أهمها الديمقراطية(10).

كما أوضحت ثورة 25 يناير خطورة سيطرة السلطة على وسائل الإعلام، مما أدى إلى فتح المجال لزيادة دور وسائل الإعلام الرقمية في تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي(11). وبيَّنت الثورة موقف الشعب المصري من وسائل إعلامه؛ حيث حمل المتظاهرون لافتات تصف هذه الوسائل بـ"الكذب"، وأنها "من كوكب آخر"؛ إذ لم تتمكَّن هذه الوسائل من تغطية أحداث الثورة؛ حيث اعتبرت المظاهرات ضد الرئيس حسني مبارك -بحسب صحيفة "واشنطن بوست"- حدثًا لا يستحق التغطية، واتهمت المتظاهرين بتنفيذ مؤامرة ضد الحكومة(12). ووجهت القنوات التليفزيونية المصرية الكاميرات نحو النيل الهادئ لتصوير الواقع في مصر بأنه مستقر، ونفي وجود ثورة ضد حسني مبارك، وإنكار وجود المظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير الذي يقع بجوار مبنى "ماسبيرو" الذي تبث منه معظم القنوات التليفزيونية التابعة للسلطة والمملوكة للدولة.

لذلك تعرضت مصداقية الصحافة والقنوات التليفزيونية المصرية لاختبار صعب، حيث كشفت الثورة أن هذه الوسائل الإعلامية لا تقوم بوظائفها، ومن أهمها الوفاء بحق الجمهور في المعرفة. فلا تقوم بتغطية الأحداث، وتوفير المعلومات عنها للمواطنين. لكن الثورة فسحت المجال أمام الصحافة المصرية لتجديد نفسها، وتطوير علاقتها بالشعب، فوفرت الفرص لصدور صحف جديدة؛ حيث تزايد عدد الصحف من 14 صحيفة يومية عام 2003 إلى 19 صحيفة عام 2009، ثم 35 صحيفة عام 2013، كما تزايد توزيع الصحف من 3.627 ملايين نسخة عام 2007، إلى 4.177 عام 2010 ثم 4.686 ملايين نسخة عام 2013(13).

كما بدأت تيارات فكرية وسياسية تُعبِّر عن نفسها باستخدام الصحافة، مثل التيار الإسلامي الذي حرمته السلطة من حقه في إصدار الصحف منذ عام 1954 حتى عام 2011. كما أن الصحف القومية بدأت تفتح المجال أمام كتَّاب جدد، وجذبت اهتمام الجمهور فتزايد توزيع هذه الصحف، وهذا يُبيِّن أن الحرية أهم أسس تطور الصحافة. ومن الواضح أن الحرية التي تمتعت بها الصحافة المصرية (2011- يونيو/حزيران 2013) لم تشهدها من قبل، حتى خلال الفترة الليبرالية (1923- 1952). 

جدول (1): خريطة توزيع الصحف المصرية (2011- 2023)

حالة المشهد الصحفي

2011- يونيو/حزيران 2013

يوليو/تموز 2013- 2023

إصدار الصحف

تمَّ فسح المجال لإصدار صحف جديدة؛ إذ بلغ عدد الصحف المصرية من كل الإصدارات 142 صحيفة

انخفض عدد الصحف إلى 76 صحيفة فقط

الصحف اليومية

35  صحيفة يومية  

انخفض العدد إلى22  صحيفة  

إغلاق الصحف

-

- 66 صحيفة منها 13 صحيفة يومية

- إغلاق الصحف المسائية

نسبة الصحف التي تمَّ إغلاقها

-

تمَّ إغلاق 40% من الصحف المصرية

توزيع الصحف

لا تتوافر إحصاءات دقيقة

تراجع توزيع الصحف إلى 300 ألف نسخة عام 2020 بنسبة 90% مقارنة بمعدلات التوزيع عام2010  

 

لقد ارتبطت حرية الصحافة بعملية تحوُّل النظام السياسي إلى نظام ديمقراطي؛ حيث شهدت مصر انتخابات حرة نيابية ورئاسية، واستفتاء على دستور 2012. لذلك يمكن أن يوصف النظام الصحفي في مصر بـ"نظام انتقالي"، لكن ليس من الواضح إلى أين يذهب(14). لقد كان الطابع الليبرالي خلال هذه الفترة أكثر وضوحًا من كل الفترات السابقة، وشهدت مصر تعددية صحفية، وتنوعًا كبيرًا في الصحف، وفي المضمون الذي تُقدِّمه.

وتوضح دراسة الإعلام المصري خلال تلك الفترة أن تطور الإنترنت، ووسائل الإعلام الجديد، لم يكن العامل الرئيس في تشكيل أزمة الصحافة المطبوعة، بل إن تحكُّم السلطة في الصحافة هو الذي يقلِّل قدرات الصحافة على التعبير عن اهتمامات الجمهور، مما يدفع الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها المصدر الذي يمكنه القيام بذلك، وأن الدور الذي لعبته هذه الوسائل في الدعوة لثورة 25 يناير وتغطية أحداثها كان بسبب غياب حرية الصحافة، وعدم قدرتها على التعبير عن الشعب. 

بعد عام 2011، أُنشِئ الكثير من القنوات التليفزيونية الخاصة التي بلغ عددها 25 قناة جديدة أدت إلى فسح المجال العام للنقاش حول جميع القضايا في مصر. واستُخدِمت البرامج الحوارية في الهجوم على الرئيس محمد مرسي وحكومته وعلى الدستور، وبدا واضحًا أن الكثير من هذه القنوات كان متحيزًا ضد الرئيس والحكومة. وفُسِح المجال لرجال الأعمال لإنشاء القنوات التليفزيونية الخاصة، وكان من أهمهم محمد الأمين الذي أنشأ شبكة "سي بي سي" (CBC)، وعلاء الكحكي الذي أنشأ قناة "النهار"، ونجيب ساويرس الذي أنشأ قناة "أون تي في" (On TV) وقناة "أون لايف". كما أنشأ الصحفي إبراهيم عيسى قناة "التحرير" التي انتهت إلى قناة "تن" (TEN) المملوكة لمحمد دحلان.

في الوقت نفسه لم تكن الحكومة تسيطر على القنوات المملوكة للدولة (التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون)، ولم تكن قادرة على استخدامها للدفاع عن قرارات الحكومة وتبريرها، وقدَّمت هذه القنوات الكثير من البرامج التي استهدفت تشويه صورة الرئيس محمد مرسي وحكومته. وتوضح تلك التجربة أن هناك إمكانيات لتطور الإعلام في مصر عندما يتم إطلاق الحق في إنشاء وسائل إعلامية متعددة ومتنوعة تتمتع بالحرية والاستقلال عن السلطة، وعندما يصبح النظام السياسي ديمقراطيًّا، ويتم فتح المجال للمشاركة السياسية؛ فيتزايد اهتمام الناس بالحصول على المعرفة والمعلومات والآراء المختلفة.

3. سمات وخصائص المنظومة الإعلامية المصرية (2011- يونيو/حزيران 2013)  

شهدت هذه الفترة (2011- يونيو/حزيران 2013) عملية انتقال النظام السياسي إلى نظام ديمقراطي، كما عرفت المنظومة الإعلامية المصرية حرية غير مسبوقة قامت على التعددية والتنوع في الصحف والقنوات التليفزيونية التي انتقدت الحكومة وقراراتها. لذلك يمكن توصيف المنظومة الإعلامية في تلك الفترة بالمنظومة "شبه الليبرالية"، شهدت خصومة بين وسائل الإعلام والحكومة، وهي من سمات النظام الليبرالي. لكن مشكلة هذا النموذج أنه كان يحمل الكثير من المضمون المتحيز ضد الحكومة، ولا يُقدِّم الحقائق للجمهور، ولا يلتزم بأخلاقيات الإعلام.

وقد ظهر ذلك في عدم التزام الكثير من القنوات التليفزيونية بأخلاقيات الإعلام؛ إذ بُثَّ الكثير من المضمون الزائف، ونُشِر الكثير من المعلومات غير الصحيحة، مثل بيع الهرم وقناة السويس وحلايب وشلاتين وسيناء بهدف إثارة الجماهير ضد الرئيس محمد مرسي، وأدى ذلك إلى تزايد الحاجة لميثاق أخلاقي يلتزم به الإعلاميون.

فقد تمتع الإعلاميون في هذه الفترة بدرجة غير مسبوقة من الحرية، لكن التجربة كانت تفتقد الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية، وقيام وسائل الإعلام بتوفير المعرفة للجمهور، كما أن علاقة الخصومة مع السلطة -وهي من سمات النظام الليبرالي- طغت على الدور المجتمعي لوسائل الإعلام، والتزامها بمسؤوليتها الاجتماعية.

4. العلاقة بين الصحافة والسلطة (يوليو/تموز 2013- 2023)  

بعد الانقلاب، في 3 يوليو/تموز 2013، سيطرت السلطة على الإعلام في مصر، وفقدت الصحافة المصرية الحرية التي تمتعت بها خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى يونيو/حزيران 2013، ومارس الجيش قيودًا مختلفة على الصحافة، واستُخدِمت وسائل الإعلام لتمجيده، وأصبحت كل وسائل الإعلام صوتًا للسلطة تنشر خطابها، كما استُخدِمت للقيام بحملات دعائية لتصوير المؤيدين للرئيس محمد مرسي بأنهم أشرار، وغير وطنيين وضد الدولة، وتوجيه الاتهامات لهم بمهاجمة مبان حكومية وكنائس، في الوقت الذي تم فيه تمجيد دور الأمن في محاربة الإرهاب، وبالغت وسائل الإعلام في نشر الكثير من المعلومات الزائفة حول حرق الكنائس، وأدى ذلك إلى انتشار الكراهية وتزايد شهوة الانتقام من الإسلاميين، وبذلك لم تقم وسائل الإعلام بوظيفة مهمة هي المحافظة على تماسك المجتمع وتوحده.  

وكانت معظم المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام مستقاة من مصادر رسمية، لذلك أصبحت وسائل الإعلام تُقدِّم للجمهور البيانات التي تذيعها الأجهزة السيادية، خاصة أجهزة الأمن، وتم تجاهل أية رواية أخرى، سواء في ذلك وسائل الإعلام المملوكة للدولة أو الخاصة(15). ولاحظت منظمة "مراسلون بلا حدود"، بعد 2013، أن "التهليل للاستقرار والأمن أصبح هو المشهد الطاغي في وسائل الإعلام المصرية التي باتت تعمل جاهدة للتعتيم على الانتقادات الموجَّهة إلى الرئيس الحالي، وتهاجم الرئيس السابق، محمد مرسي، الذي كان التعتيم على وفاته الغامضة انعكاسًا للسيطرة الاستبدادية على الصحافة(16).

غياب الحرية وأزمة الصحافة الورقية

أدى غياب الحرية إلى تزايد حدة أزمة الصحافة الورقية المصرية التي كان من أهم مظاهرها:

- تراجع التوزيع: بالرغم من التعتيم على أرقام التوزيع، إلا أن هناك مؤشرات متعددة على تراجع توزيع الصحف بنسب كبيرة، مثل صحيفة "الأهرام" التي تراجع توزيعها إلى 140 ألف نسخة يوميًّا تقريبًا بعد أن كانت توزع مليون نسخة يوميًّا عام 1980. أما صحيفة "الأخبار" فأصبحت توزع 110 آلاف نسخة، وكذلك تطبع "المصري اليوم" 110 آلاف نسخة يوميًّا، يباع منها نحو الثلثين تقريبًا، بحسب إحصاءات غير رسمية صادرة عن المؤسسة. أما صحيفة "الشروق"، فتطبع 25 ألف نسخة يوميًّا، يباع منها 10 آلاف فقط(17).

وتراجع أيضًا توزيع الصحف الحزبية؛ إذ بلغ توزيع صحيفة "الوفد" اليومية 1500 نسخة، وهي الصحيفة التي تُعبِّر عن حزب الوفد الذي كان يمثِّل الأغلبية خلال الفترة (1923-1952)، أما صحيفة "الأهالي"، التي تُعد لسان حزب التجمع الوحدوي الذي يمثِّل اليسار المصري، فبلغ توزيعها 12 ألف نسخة. ووفقًا للتقرير السنوي عن الإحصاءات الثقافية الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عام 2021، فإن عدد النسخ الموزعة من الصحف التسع الصباحية اليومية الصادرة باللغة العربية يبلغ 351 ألف نسخة(18).

وذكر وزير الإعلام السابق، أسامة هيكل، في تصريحات صحفية أن توزيع الصحف المصرية مجتمعة (بكل إصداراتها) يبلغ 300 ألف نسخة عام 2020. ويتفق ذلك مع تقدير نقيب الصحفيين، ضياء رشوان، الذي بيَّن أن توزيع الصحف المصرية تراجع بنسبة 90% مقارنة بتوزيعها عام 2010(19). ويُقدِّر قطب العربي، مدير المرصد العربي لحرية الإعلام، إجمالي التوزيع اليومي لكل الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية بـ200 ألف نسخة(20).

وتشير هذه التقديرات إلى تعاظم حدة أزمة الصحافة المصرية، والمخاطر التي تهدد مستقبلها. فهناك مؤشرات على استمرار تراجع معدل توزيع الصحف بشكل كبير خلال عام 2023، وإغلاق منافذ توزيع الصحف، التي تُعد من أركان البنية الأساسية لمهنة الصحافة، بعد أن أصبح باعة الصحف يتكبدون الخسائر إثر زيادة المرتجعات بنسب كبيرة.

- أعباء الديون المتراكمة على المؤسسات الصحفية القومية: بلغت ديون المؤسسات الصحفية القومية 13.9 مليار جنيه حتى أغسطس/آب 2020، بينما قدَّر وزير الإعلام السابق، أسامة هيكل، هذه الديون بأكثر من 20 مليار جنيه (الدولار = 31 جنيهًا بالسعر الرسمي)؛ مما أدى إلى التفكير في بيع هذه المؤسسات(21).

جدول (2): الديون المتراكمة على المؤسسات الصحفية القومية (يوليو/تموز 2013- 2023)

ديون المؤسسات الصحفية القومية

2011- يونيو/حزيران 2013

يوليو/تموز 2013-2023

الصحافة القومية

-

20 مليار جنيه (الدولار 31 جنيهًا بالسعر الرسمي)

الإعلانات

1.5 مليار جنيه

انخفض الإنفاق على الإعلانات بنسبة 60% عام 2017  

 

- إغلاق الصحف: تراجع عدد الصحف المصرية بعد عام 2013؛ إذ انخفض عدد الإصدارات الكلي من 142 صحيفة، عام 2013، إلى 76 صحيفة، عام 2017. كما تراجع عدد الصحف اليومية من 35 صحيفة يومية إلى 22 صحيفة، عام 2022، فتمَّ إيقاف إصدار الصحف المسائية ("المساء" و"الأهرام المسائي" و"المسائية")، وهي صحف يومية مسائية كانت تصدر عن المؤسسات الصحفية القومية، وتمَّ دمج صحيفة "الرأي" في صحيفة "الجمهورية"، ومجلتي "الكواكب" و"طبيبك" في مجلة "حواء".

 كما خرجت بعض الصحف المستقلة من المشهد الإعلامي، مثل "الوادي" التي صدرت بعد ثورة 25 يناير. وأعلن مجلس إدارة صحيفة "التحرير" إيقاف الإصدار الورقي، والاكتفاء بالموقع الإلكتروني للصحيفة نظرًا للأزمات المالية التي عرفتها المؤسسة. كما أعلنت صحيفة "البديل"، والمعروفة بميولها اليسارية، إيقاف الإصدار الورقي الأسبوعي؛ إذ كان آخر عدد لها في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، فضلًا عن الصحف التي قامت السلطة بإغلاقها، مثل "الحرية والعدالة" و"المصريون". وبذلك تراجعت التعددية والتنوع في الصحافة الورقية التي فقدت 40% من العدد الكلي للإصدارات حتى عام 2023. ويشير ذلك إلى أن الصحافة المصرية ستزداد حدة أزمتها خلال الأعوام المقبلة إذا استمر تراجع عدد الصحف بنفس النسبة، كما يتوقع زيادة معدل إغلاق الصحف أو اندماجها في ظل الأزمة الاقتصادية وتراكم الديون وتراجع الإنفاق على الإعلانات، وهو ما يهدد مستقبل الصحافة والصحفيين.

- تراجع دخل الصحف من الإعلانات لأسباب مختلفة من أهمها الأزمة الاقتصادية؛ إذ انخفض الإنفاق على الإعلانات في وسائل الإعلام بنسبة 60% حتى عام 2017. وهو ما يشير إلى تراجع الإنفاق بنسبة أكبر في الفترة (2017-2023) نتيجة الأزمة الاقتصادية.

لكن هل يمكن تفسير أزمة الصحافة المصرية بأنها عجزت عن مواجهة تحدي ثورة الاتصال، وأن الناس انصرفوا إلى وسائل الإعلام الجديد؟

تُبيِّن دراسة أوضاع الصحافة المصرية أن الإعلام الجديد لم يكن سبب هذه الأزمة، فطبقًا لتقدير منظمة "مراسلون بلا حدود"، حجبت السلطة في مصر أكثر من 500 موقع إخباري خلال الفترة من 2014 حتى 2017(22)، واعتُقل الكثير من الناشطين بسبب الكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف نشر الخوف، وتوصيل رسالة إلى الجمهور بأن أجهزة الأمن تقوم بمراقبة كل ما يُنشَر على الإنترنت، وتستطيع معاقبة من ينتج أي مضمون، أو يكتب أي محتوى، بتهمة نشر أخبار كاذبة. ولذلك انتشر الخوف بين الناس من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، كما تراجعت قدرتهم على استخدام الاتصال المباشر خوفًا من أجهزة الأمن.

لذلك، فإن أزمة الصحافة المصرية تُعد أزمة دور ووظيفة اجتماعية؛ إذ فقدت قدرتها على الوفاء بحق الجمهور في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة حول قضايا المجتمع، فلم يعد المضمون الذي تنشره يجذب الجمهور. ويرجع السبب في ذلك إلى تقييد الحرية، وسيطرة السلطة والرقابة على المضمون، والتحكُّم في الصحفيين، والاقتصار على نشر المعلومات التي تريدها السلطة. ونتيجة للحملة الدعائية التي قامت بها الصحافة (2013-2023)، وترويج اتهامات ضد المعارضين للنظام، يُدرك طيف واسع من الجمهور المصري أن مصداقية الصحافة المصرية، وثقة الجمهور فيما تنشره، تراجعت. يضاف إلى ذلك أن الصحافة التابعة للسلطة لا تستطيع أن تجدد نفسها، أو تبني علاقة إيجابية مع جمهورها، أو تُشبِع احتياجاته، أو تكسب ثقته.

إن الصحافة الحرة وحدها التي تستطيع أن تصمد في مواجهة تحديات الإعلام الجديد، وتُقدِّم مضمونًا يقوم على التغطية المتعمقة للأحداث، وتكشف المعلومات التي يحتاج أن يعرفها الجمهور بعد أن كره الحديث عن إنجازات لا يراها في الواقع.

إن التبعية للسلطة، وتقييد الحرية، وعدم القدرة على إشباع احتياجات الجمهور وإغلاق المجال العام، تُعد من العوامل التي شكَّلت أزمة الصحافة المصرية، وأصبحت تهدد وجودها كرسالة ومهنة ووسيلة للوفاء بحق الجمهور في المعرفة. وترتبط أزمة الصحافة المصرية بأزمة نظام سياسي استخدم العنف ضد الصحفيين الذين لم يتمكنوا من القيام بعملهم الصحفي، فأصبح الكثير منهم يعانون من البطالة الحقيقية أو المقنَّعة؛ فيحصلون على رواتبهم دون عمل حقيقي، لكنهم لا يستطيعون التعبير عن غضبهم. وأوضح تقرير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية (2017) أن انصراف الجمهور عن الصحافة يعود إلى قلة مصداقية الصحف، وعدم قدرتها على المنافسة بمضامين تحليلية عميقة(23). لكن هل تقتصر الأزمة على الصحافة الورقية وحدها؟

بعد بيان الانقلاب، في 3 يوليو/تموز 2013، حاصرت قوات الأمن مقرات 14 قناة فضائية إسلامية، وصادرت معداتها وأغلقتها، وكان من أهمها: "مصر 25"، و"الناس"، و"الحافظ"، و"الشباب"، و"الفتح"، وبذلك اختفى صوت التيار الإسلامي من الساحة الإعلامية. وأصدرت محكمة القضاء الإداري، عام 2013، حكمًا بإغلاق "الجزيرة مباشر مصر"، و"أحرار 25"، و"القدس"، و"اليرموك"، بحجة التعاطف مع الإخوان المسلمين. وأُغلِقت أيضًا قناة "الفراعين" التي قامت بدور في إثارة الجمهور ضد الرئيس محمد مرسي، ويعتبر مالكها، توفيق عكاشة، نفسه "مفجر ثورة 30 يونيو/حزيران"(24)؛ إذ مهدت لانقلاب 3 يوليو/تموز 2013. وبذلك ضاق نطاق التعددية والتنوع في قنوات التليفزيون المصرية. 

كما تمَّ تضييق مجال الحوار والمناقشة في القنوات التليفزيونية؛ حيث اختفى الكثير من البرامج الحوارية، وسُمح فقط بالبرامج التي تُمجِّد السلطة وتدافع عنها وتبرر قراراتها، وأصبح ضيوف القنوات من الذين ترضى عنهم السلطة، ويقومون بدورهم في الدفاع عنها.

هناك أيضًا أدلة على أن القنوات التليفزيونية المصرية أصبحت تواجه أزمة مالية بسبب تراجع معدلات المشاهدة مما أدى إلى إيقاف قنوات "الحياة"، عام 2017، بحجة تراكم الديون عليها، واستغناء القنوات الفضائية عن العاملين فيها لتقليل النفقات، كما أن برامج الدراما والكوميديا والرياضة أصبحت تتصدر نسب المشاهدة، وهذا يشير إلى تراجع ثقة الجمهور في المضمون السياسي الذي تُقدِّمه القنوات التليفزيونية.

جدول (3): حالة القنوات التليفزيونية المصرية (2011-2023)

حالة القنوات التليفزيونية

2011- يونيو/حزيران 2013

يوليو/تموز 2013-2023

إغلاق القنوات

لم تُغلق أي قناة  

إغلاق 19 قناة

 

الاحتكار

 

-

تحتكر سوق الصحافة والإعلام أربع شركات، هي: "إيجل كابيتال"، و"دي ميديا"، و"تواصل"، و"الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"

5. سمات المنظومة الإعلامية المصرية (يوليو/تموز 2013-2023)

ارتبطت المنظومة الإعلامية بتحوُّل النظام السياسي بعد 3 يوليو/تموز 2013، الذي تطلَّع إلى الإعلام في عهد الرئيس جمال عبد الناصر (1952-1970) ليبني على أساسه منظومته الإعلامية، وليستخدمها في السيطرة على الجمهور، والتحكُّم في المعرفة التي تصل إليه. فقد أصبحت السلطة فاعلًا في صنع المضمون الصحفي، وقلَّلت من دور الإعلاميين المهنيين في تغطية الأحداث، والحصول على المعلومات. واستخدمت الرقابة المسبقة على النشر، والتنسيق المباشر مع الأجهزة التحريرية للصحف للتحكُّم في المعلومات(25). لكن هل يعني ذلك أن الصحافة قامت بدور التعبئة، أو أنها نظام صحفي تعبوي طبقًا لتوصيف الباحث وليم روو؟

استخدمت السلطة في هذه الفترة القوة للتحكُّم في الشعب، وأغلقت المجال العام، ولم تكن توجه الشعب لتحقيق أهداف محددة، مثل التنمية. لذلك لا ينطبق عليها هذا التوصيف (نظام تعبوي) بالرغم من استخدام الصحافة (القومية والحزبية والخاصة) في توجيه الجمهور لتأييد النظام، والهجوم على خصومه. ولئن ظهرت بعض السمات من نظم مختلفة، إلا أن المنظومة الصحفية تقترب من النظام السلطوي، فالصحافة تابعة للسلطة التي تتحكَّم في مضمونها، وتستخدمها في نقل خطابها وروايتها للأحداث إلى الجمهور. ولمنع وصول أية رواية أخرى قامت السلطة باستخدام إجراءات عنيفة ضد الصحفيين لمنعهم من تغطية الأحداث، واحتجاز عدد منهم بحجة تهديد الأمن القومي (وهو مفهوم غير محدد ويخضع لتفسير السلطة)، كما قامت بحبس بعض الصحفيين احتياطيًّا بلا تهم محددة)26).

وطبقًا للجنة حماية الصحفيين، فإن الحكومة المصرية أوضحت للصحفيين -بعد سلسلة من الاعتقالات والإهانات والرقابة- أن "الابتعاد عن الرواية الرسمية يعرضك للخطر، وأن الحكومة سوف تُوقف أية تغطية نقدية"(27). وفي هذه الفترة لم تكن هناك أية صحافة استقصائية، ولم يكن الصحفيون يستطيعون الحصول على المعلومات، وإذا كشف الصحفيون أي معلومات، تتم محاكمتهم بتهمة نشر وثائق غير قانونية.

هذا يوضح أن هناك علاقة قوية بين الحرية وازدهار الصحافة ووسائل الإعلام، فعندما تفقد الصحافة حريتها فإنها لا تستطيع إنتاج مضمون يشبع حاجة الجمهور للمعرفة، أو يجذب اهتمامها، فتبحث عن المعلومات والآراء في وسائل الإعلام الأجنبية، والإعلام الجديد؛ حيث وفرت ثورة الاتصال الفرص للوصول للمعلومات التي لا تريد السلطة للجماهير أن تعرفها.. ويشكِّل ذلك أساسًا لتفسير أزمة الصحافة ووسائل الإعلام المصرية، كما يشير إلى أن الأزمة يمكن أن تتزايد حدتها إن لم يتم فسح المجال العام، وإطلاق حرية الإعلام.

جدول (4): خصائص المنظومة الإعلامية المصرية (2011-2023) 

النظام السياسي والمنظومة الإعلامية

2013- يونيو/حزيران 2011

يوليو/تموز 2013-2023

النظام السياسي

ديمقراطي

شمولي، استبدادي، سلطوي

المنظومة الإعلامية

 

درجة كبيرة من الحرية والتعددية والتنوع

- فرضت السلطة قيودًا كثيرة

- تراجعت التعددية والتنوع 

الرقابة

 

لا توجد رقابة

- الرقابة مفروضة بكل أنواعها

- فرض الإعلاميون الرقابة الذاتية على أنفسهم

حرية إصدار الصحف  

 

فسح المجال لإصدار الصحف؛ إذ صدرت 25 صحيفة جديدة

تمَّ تقييد هذا الحق، وإيقاف الكثير من الصحف

حرية إنشاء القنوات التليفزيونية

 

فسح المجال لإنشاء قنوات تليفزيونية جديدة مملوكة ملكية فردية

تمَّ تقييد هذا الحق وإغلاق 14 قناة تليفزيونية إسلامية

علاقة وسائل الإعلام بالسلطة

تمتعت معظم وسائل الإعلام بالاستقلال عن السلطة وكانت على خصومة معها

تقوم علاقة وسائل الإعلام بالسلطة على التبعية

نطاق حرية الإعلام

تمتعت وسائل الإعلام بمستوى غير مسبوق من الحرية

تمَّ تقييد حرية وسائل الإعلام.

حرية الإعلاميين في العمل

 

تمتع الإعلاميون بمستوى عال من الحرية في إنتاج المضمون

 

تمَّ تقييد حرية الصحفيين وساد مناخ من الخوف، ففرض الإعلاميون الرقابة الذاتية على أنفسهم

وظائف وسائل الإعلام

 

 

- تغطية الأحداث

- توفير المعلومات للجمهور

- الإعلام

- إدارة الحوار

- الدفاع عن السلطة

- الدعاية

- تبرير قرارات السلطة

- نشر الرواية الرسمية

المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام

متنوع

- يركز على خطاب السلطة

- البيانات الرسمية

- رواية السلطة للأحداث  

6. وسائل السيطرة على الصحافة في مصر (يوليو/تموز 2013- 2023)

تمكَّنت السلطة بعد يوليو/تموز 2013 من تحويل الإعلام المصري إلى وسيلة للدعاية وترويج خطابها، والتحكُّم في تدفق الأنباء والمعلومات.. فما الوسائل التي استخدمتها لتحقيق ذلك؟ 

أولًا: الملكية

حافظت السلطة على ملكية الدولة للمؤسسات الصحفية الرئيسية في مصر، والتي يُطلق عليها "المؤسسات الصحفية القومية"، وتُشكِّل العمود الفقري لصناعة الصحافة المصرية. واستمرت السلطة في تعيين رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية، ورؤساء تحرير الصحف، على قاعدة الولاء للنظام، والالتزام بالدفاع عنه، والترويج لقراراته، ومنع ظهور أي نقد أو رواية تختلف مع رواية السلطة. وعادت القاعدة التي كانت تتردد منذ عام 1954 حتى ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وهي "أَيِّدونا بلا حدود، وافعلوا بعد ذلك ما تشاؤون". ونتيجة لتطبيق تلك القاعدة الذهبية -بعد عام 2013 مرة أخرى- تدهورت أحوال المؤسسات الصحفية، وتراكمت عليها الديون، وانهار توزيع الصحف؛ فقد أدرك رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير أن بقاءهم في مناصبهم مرهون برضى الحاكم عنهم، لذلك أيَّدوه بلا حدود ودافعوا عنه، وأصبحت الصحف تتحدث عن إنجازاته وتقوم بتمجيده، دون الاهتمام بالجمهور.

لكن كانت هناك مجموعة من الصحف المملوكة ملكية خاصة، لذلك قام جهاز المخابرات العامة بإنشاء "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، عام 2016، التي تتمتع بوضع احتكاري في مجال الإعلام، وتتحكَّم في أسواق الدراما والترفيه والإعلانات. وقامت هذه الشركة بشراء معظم القنوات التليفزيونية والصحف والمواقع وشركات التوزيع والإنتاج السينمائي حتى تحوَّلت إلى إمبراطورية تتحكَّم في السوق، وتفرض عليه شروطها، ومن أهمها الدفاع عن النظام والدعاية له. وتمتلك الشركة أهم شبكات التليفزيون، حيث تضم كل شبكة عددًا من القنوات التليفزيونية، مثل "دي إم سي" (DMC)، وشبكة تليفزيون "الحياة"، وشبكة "سي بي سي" (CBC)، وقنوات "أون" (ON)، بالإضافة إلى مجموعة قنوات أخرى، مثل: "القاهرة الإخبارية"، و"المحور"، و"الناس"، و"الوثائقية". كما تمتلك شبكة "راديو النيل"، ومجموعة من شركات الإنتاج والتوزيع السينمائي والدرامي، مثل "سينرجي" و"ميديا هوب".

ومن أهم الصحف التي تمتلكها هذه الشركة وتقوم بإدارتها: "اليوم السابع"، و"الوطن"، و"الدستور"، و"مبتدأ"، و"أموال الغد"، و"دوت مصر"، و"الأسبوع"، و"بيزنس توداي مصر" (Business Today Egypt)، و"صوت الأمة"، و"المصري اليوم"، و"زاجل"، و"إيجيبت توداي" (Egypt Today)(28). ولم تعد في مصر صحف مستقلة؛ حيث أصبحت خاضعة للسلطة. أما الصحف الحزبية، وأهمها: "الوفد" و"الأهالي"، فقد تراجع توزيعهما، ولم يعد لهما تأثير في الحياة السياسية المصرية. وهذا يوضح أن احتكار الشركات العملاقة (على النمط الأميركي/الأوروبي) ظهر في مصر، وارتبط بالنمط الموروث منذ 1960 لملكية السلطة للمؤسسات القومية، وضاق مجال التعددية والتنوع في الصحافة. كما ارتبطت الملكية الاحتكارية (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) في مجال الصحافة بالسيطرة على القنوات التليفزيونية والمواقع على الإنترنت والدراما والإعلانات. وسيطرت هذه الشركة على سوق الإعلانات في مصر من خلال شركاتها العاملة في هذا المجال، وأهمها: "سينرجي للإعلان"، و"ميديا هوب" و"بود" (POD)، وبذلك أصبحت تتحكَّم في حياة الصحف والقنوات التليفزيونية ومحطات الإذاعة.

وأصبحت بشكل عام النسبة الأكبر من سوق الإعلام المصري مملوكة لأربع شركات مرتبطة بالنظام بشكل مباشر، وهي: "إيجل كابيتال"، و"دي ميديا"، و"تواصل"، و"المتحدة"، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال الموالين للنظام، ومن أهمهم: محمد أبو العينين، مالك قنوات "صدى البلد"، وطارق نور، مالك قناة "القاهرة والناس"، ولم يتم إنشاء قنوات جديدة خلال هذه الفترة (يوليو/تموز 2013- 2023) سوى قنوات "دي إم سي" التابعة لجهاز المخابرات.

ويتفق علماء الإعلام بشأن خطورة الاحتكارات على الديمقراطية؛ إذ تقلِّل من إمكانيات توفير المعلومات والمعرفة، ولا تستطيع الصحافة أن تقوم بدورها في إدارة المناقشة الحرة، وحراسة مصالح المجتمع. وبالرغم من استمرار سيطرة السلطة على القنوات التليفزيونية ومحطات الإذاعة المملوكة للدولة، والتي تتبع اتحاد الإذاعة والتليفزيون، فقد تراجع الاهتمام بها لصالح القنوات التي تمتلكها وتديرها الشركة المتحدة؛ مما أدى إلى تراكم الديون على اتحاد الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو). ويعني ذلك عدم وجود فلسفة تقوم عليها المنظومة الإعلامية المصرية، وأن الهدف الوحيد لهذه المنظومة التي تجمع أسوأ ما في النظام الرأسمالي الغربي (الاحتكار) مع الأسس التي تقوم عليها النظرية السلطوية، ثم ملكية الدولة للمؤسسات الصحفية الرئيسية (المستمدة من النظام الشيوعي)، هو خدمة السلطة.

وبالنظر إلى سيطرة النظام على الحياة السياسية والثقافية في مصر، عقب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، تبرز سمة مميزة للمنظومة الإعلامية تتمثَّل في "عَسْكَرَة هذه المنظومة"؛ حيث يمتلك جهاز المخابرات العامة الشركة التي تحتكر الصحافة والتليفزيون والإذاعة والإنتاج الدرامي. كما تبرز سمة أخرى لهذه المنظومة وتتجلى في دور أجهزة الأمن التي تستخدم أساليب مختلفة في توجيه وسائل الإعلام، والتحكُّم في المضمون الإعلامي، والسيطرة على الصحفيين، وهذه السمة تكرِّس "أَمْنَنَة المنظومة الإعلامية المصرية". وبذلك تكون هذه المنظومة أداة للسلطة، تنقل خطابها للجمهور، وتُبرِّر قراراتها؛ إذ تتمثَّل وظيفتها في الدفاع عن الحاكم. ولا تهتم وسائل تلك المنظومة بالحقائق، ولا تقوم بتغطية الأحداث بموضوعية، وتُقدِّم فقط المعلومات التي يريد النظام نقلها للجمهور، مثل التركيز على إنجازات الحاكم، ولا تنشر أي نقد للنظام أو الحكومة. كما أن المنظومة تُغلق المجال العام أمام نشر أفكار جديدة، ولا تفسح في المجال لآراء معارضة للسلطة للتعبير عن وجهة نظرها، أو الحوار بين القوى الوطنية. ويكون التركيز بشكل دائم على شخص الحاكم، ولا تنشر هذه الوسائل سوى مقالات المديح في الحكومة.

ثانيًا: احتكار الإعلانات  

تُشكِّل الإعلانات المصدر الرئيس لتمويل الصحف ووسائل الإعلام، لكن الاقتصاد المصري لا يوفر الإيرادات المناسبة لوسائل الإعلام المصرية. وكانت الإعلانات الحكومية، والقطاع العام، توفر معظم دخل الصحف المملوكة للدولة منذ عام 1960، وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية، 2008، لتُقلِّل من إنفاق الشركات على الإعلانات، ثم اندلعت ثورة 25 يناير/كانون الثاني التي أدت إلى تزايد عدد الصحف والقنوات التليفزيونية الخاصة، وارتبط ذلك بتراجع الإنفاق على الإعلان. وفسح هذا التغير المجالَ لدخول المال السياسي، وقيام دول أجنبية بتمويل صحف تعمل لتحقيق أهدافها، ومن أهمها إسقاط نظام الرئيس محمد مرسي، حيث بلغ الإنفاق -بين عامي 2011 و2013- على القنوات التليفزيونية الخاصة 6.5 مليارات جنيه، بينما لا توفر السوق في مصر للإعلانات في جميع وسائل الإعلام سوى 1.5 مليار جنيه فقط (الدولار في تلك الفترة = 6.5 جنيهات تقريبًا).

بعد عام 2013، سيطرت السلطة على معظم الأنشطة الاقتصادية، وتراجعت إمكانيات مشاركة القطاع الخاص في تمويل الصحف والقنوات التليفزيونية باستخدام الإعلانات، في الوقت الذي استخدمت فيه السلطة الصحافة للدعاية لإنجازات النظام. فأصبح المضمون الذي تُقدِّمه الصحافة يشبه "الإعلان التحريري" لذلك قلَّت حاجة الشركات والحكومة للإنفاق على الإعلانات. كما قامت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة لجهاز المخابرات العامة بشراء شركات الإعلانات، والسيطرة الاحتكارية على سوق الإعلانات. ومن ثم لم يعد تمويل صحيفة أو وسيلة إعلامية باستخدام الإعلانات ممكنًا، وهذا يعني عدم وجود سوق حرة للإعلام في مصر طبقًا للنظرية الرأسمالية الغربية، وأن الإعلان لم يعد مصدرًا لتمويل وسائل الإعلام باستطاعته أن يوفر لها إمكانيات الاستقلال عن السلطة. وأدى ذلك إلى تزايد التبعية للسلطة، خاصة بعد أن تراكمت عليها الديون ولم تعد تستطيع دفع مرتبات الصحفيين والعاملين، ولهذا تنتظر الإعانات من الحكومة.

وستؤدي الأزمة الاقتصادية في مصر إلى التقليل من الإنفاق على الإعلانات؛ حيث انخفض الإنفاق الإعلاني في وسائل الإعلام، عام 2017، بنسبة 60%، كما ذكر آنفًا. وسيزيد ذلك من تعميق أزمة الصحافة الورقية والقنوات التليفزيونية، وسيجعل السلطة المُمَوِّل الرئيس لهذه الوسائل، لكن هل ستتمكن السلطة من الاستمرار في الإنفاق على هذه الوسائل؟

ثالثًا: الرقابة

عرفت الصحافة المصرية منذ عام 1952 كل أشكال الرقابة طبقًا لقانون الطوارئ الذي استخدمته السلطة للسيطرة على المجتمع، والتحكُّم في الواقع السياسي، ومنع وصول أي صوت معارض للجماهير. ومن أهم وسائل التحكُّم، كانت هناك الرقابة العسكرية المباشرة المسبقة على النشر، والتي ظلت مفروضة لسنوات طويلة، لكن بعد عام 1977 شهدت مصر أشكالًا أخرى من الرقابة، مثل الرقابة بعد النشر، والتي يتم فيها مراجعة العدد المطبوع من الصحيفة، ثم مصادرته وعرض الأمر على المحكمة. وبهذا الأسلوب تجري محاكمة الصحفيين، لكن تم تطوير الرقابة بعد ذلك لتشمل الرقابة غير المباشرة عن طريق إصدار التعليمات للصحف بعدم النشر عن موضوعات وقضايا تحددها السلطة، ويلتزم رؤساء التحرير الذين تقوم السلطة بتعيينهم بتعليماتها، واتخاذ قرارات النشر طبقًا للشروط التي تحددها السلطة.

أما القنوات التليفزيونية، فإن السلطة تفرض عليها الرقابة المباشرة، والتي لا تقتصر وظيفتها على منع المضمون الذي لا تريد السلطة وصوله للجمهور، بل تقوم باتخاذ قرارات الإنتاج والنشر وتوجيه الإعلاميين لإنتاج مضمون يحقق أهداف السلطة. لكن بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني شهدت الصحافة ووسائل الإعلام المصرية فترة تمتعت فيها بالحرية، فلم يكن هناك أي شكل من الرقابة على الصحافة أو القنوات التليفزيونية بما في ذلك القنوات المملوكة للدولة. ووجَّه الصحفيون والكتاب نقدًا قاسيًّا للرئيس محمد مرسي وللحكومة، فضلًا عن الاتهامات ونشر المعلومات الزائفة التي تستهدف تشويه صورته. وانتهت هذه الفترة بعد 3 يوليو/تموز 2013، وعادت السلطة لاستخدام كل أشكال الرقابة طبقًا لقانون الطوارئ. وقام رؤساء التحرير بدورهم في ضبط العمل الصحفي الذي أصبح قاصرًا على إنتاج الأخبار طبقًا لبيانات السلطة وتصريحات المسؤولين.

ومن الواضح أن رقابة رؤساء التحرير كانت أكثر قسوة من الرقابة العسكرية المباشرة، فهم يعرفون جيدًا معنى كل كلمة في النص، ويستطيعون تعديلها طبقًا لما تريده السلطة. كما أن رؤساء التحرير يستطيعون إنتاج المضمون الذي يقوم على مدح الرئيس والإشادة بإنجازاته. ومن ثم، لم تعد الرقابة قائمة على المنع فقط كما كان يحدث في الرقابة العسكرية المباشرة، ولكن أصبحت تقوم على نشر المواد التي تُرضي السلطة. وقد حدَّدت (السلطة) الكثير من المحظورات التي يجب أن يلتزم بها الصحفيون، وعلى سبيل المثال، حذَّر عبد الفتاح السيسي، في 1 مارس/آذار 2018، من الإساءة للجيش والشرطة، واعتبر ذلك خيانة عظمى وليست حرية شخصية أو وجهة نظر(29).

لقد فرضت السلطة رقابة صارمة على الصحافة استُخدمت فيها جميع الأشكال التي عرفتها النظرية السلطوية، بالرغم من أن ثورة الاتصال فرضت على الدول التخلي عن تلك الأساليب التي تمنعها من بناء القوة الإعلامية، بتوفير مصدر وطني للأخبار والمعلومات والمعرفة. لكن كانت الرقابة الذاتية من أخطر أنواع الرقابة وأشدها تأثيرًا، ويرتبط هذا النوع بالنظم السلطوية التي تستخدم العقوبات ضد الصحفيين، وتتحكَّم في أرزاقهم، فيضطر الصحفي لفرض الرقابة الذاتية على نفسه حتى يستطيع أن يعيش، ويتجنب التعرض للعقوبات. ويؤدي هذا النوع من الرقابة مع الزمن إلى تقليل مهارات الصحفيين وكفاءتهم وقدرتهم على إنتاج مضمون يجذب الجمهور، كما يؤدي إلى تزايد خروج الصحفيين من المهنة للعمل في مجالات أخرى، مثل العلاقات العامة.

وقد أسهم ذلك في زيادة حدة أزمة الصحافة المصرية، وتراجع مصداقيتها، فالكثير من الصحفيين صمتوا، واكتفوا بنشر الأخبار كما تأتيهم من مؤسسات الدولة دون تحرير. فأصبحت الصحافة تشبه الصحف الرسمية للدول السلطوية.. كما تزايدت ظاهرة التشابه الإخباري بين الصحف المصرية، فلم تعد قادرة على تقديم منظور جديد، أو تركز على زوايا متميزة في الأحداث، أو تعتمد على مصادر غير رسمية.

أما القنوات التليفزيونية، فأصبحت تتحكَّم فيها الأجهزة السيادية (المخابرات العامة والحربية والأجهزة الأمنية) بشكل مباشر، وتمَّ تحديد دورها في الدعاية للسلطة، وإنتاج المضمون الذي يخدم أهداف السلطة. كما أصبح الإعلاميون في هذه القنوات يفرضون الرقابة الذاتية على أنفسهم خوفًا من السلطة. ولكن لماذا فرض الصحفيون الرقابة الذاتية على أنفسهم؟

رابعًا: الحبس الاحتياطي والسجن والمحاكمات   

أصدر الرئيس محمد مرسي المرسوم بقانون (85) لسنة 2012، وينص على تعديل المادة 41 من قانون تنظيم الصحافة رقم (96) لسنة 1996 ليمنع حبس الصحفيين احتياطيًّا في جميع جرائم النشر بما فيها إهانة رئيس الجمهورية(30). وبمقتضى هذا المرسوم، تم إخلاء سبيل رئيس تحرير جريدة الدستور، إسلام عفيفي، الذي كان قد سُجن بتهمة إهانة رئيس الجمهورية. لكن بعد 2013 تم التوسع في استخدام السجن الاحتياطي للصحفيين، فطبقًا لتقرير منظمة "مراسلون بلا حدود"، سُجن أكثر من 100 صحفي منذ يناير/كانون الثاني 2014. لذلك اعتبرت المنظمة أن "مصر لا تزال تُعد من أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين؛ حيث أضحت بعيدة كل البعد عن آمال الحرية التي حملتها ثورة 25 يناير"(31). كما استخدمت السلطة قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2017 في سجن الصحفيين لمجرد الشك في عضويتهم في جماعة إرهابية، أو نشر أخبار كاذبة.

ويشير تقرير "مراسلون بلا حدود" إلى أن 32 صحفيًّا يقبعون الآن في السجون المصرية.. وبذلك تصبح مصر أكثر الدول التي تسجن الصحفيين بعد الصين. وصنَّف التقرير مصر في المرتبة 166 من مجموع 180 دولة في المؤشر العالمي لحرية الصحافة. ونتيجة لذلك لم يعد الصحفيون -بحسب التقرير- يملكون خيارًا سوى ترديد الخطاب الرسمي خوفًا من السجن بتهمة تهديد استقرار الدولة(32). ويشير عدد الصحفيين الذين زُجَّ بهم في السجن -100 صحفي خلال الفترة (2013-2023)- إلى أن استخدام العقوبات السالبة لحرية الصحفيين، وشعورهم بالخوف المستمر من السجن، كان من العوامل التي قلَّلت من قدرتهم على إنتاج مضمون صحفي يجذب الجمهور الذي أدرك أن الصحافة أصبحت وسيلة تستخدمها السلطة للتحكُّم في الجمهور والتلاعب باتجاهاته. وقد أدى ذلك إلى تراجع توزيع الصحف، وزيادة أزمة الصحافة وتراجع معدلات مشاهدة القنوات التليفزيونية. وكان من الطبيعي أن يفرض الإعلاميون الرقابة الذاتية على أنفسهم بسبب الخوف من السلطة. ويوضح ذلك أن الصحافة المصرية أصبح ينطبق عليها توصيف النظرية السلطوية.

7. التنظيم الدستوري والقانوني لحرية الإعلام  

منذ عام 1923، نصَّت الدساتير المصرية على كفالة حرية الصحافة، وسنقتصر هنا على دستور 2012 ودستور 2014؛ فقد نصَّت المادة (48) من دستور 2012 على أن "حرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام مكفولة، وتؤدي رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع والتعبير عن اتجاهات الراي العام، والإسهام في تكوينه وتوجيهه في إطار المبادئ الأساسية للدولة والمجتمع، والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، ومقتضيات الأمن القومي، ويُحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي. والرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام محظورة، ويجوز استثناءً أن تفرض عليها رقابة محددة في زمن الحرب أو التعبئة العامة". ونصت المادة (49) على أن "حرية إصدار الصحف وتملكها بجميع أنواعها مكفولة بمجرد الإخطار لكل شخص مصري طبيعي أو اعتباري"(33).

أما دستور 2014 فتضمن المادة (70) التي نصَّت على أن "حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية واعتبارية عامة أو خاصة حق ملكية وإصدار الصحف، وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون، وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الالكترونية". ونصَّت المادة (71) على أنه "يحظر بأي وجه الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية، أو مصادرتها، أو وقفها، أو إغلاقها، ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب، أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في أعراض الأفراد فيحدد عقوبتَها القانون(34).

ويوضح مضمون هذه المواد أن المشرِّع الدستوري أخذ بأسس النظرية الليبرالية في نصوص الدستورين، وأن هذه النصوص كان يمكن أن تُشكِّل بداية مرحلة يتمتع فيها الإعلام المصري بالحرية؛ إذ تكفل حرية الصحافة والإعلام بشكل عام. لذلك يصبح أي نص قانوني، أو إجراء سلطوي يقيد هذه الحرية غير دستوري. فالكفالة الدستورية العامة لحرية الصحافة والإعلام تفرض على المشرع القانوني إلغاء أي نص يتناقض معها، أو يُقيِّد هذه الحرية، كما أن أي إجراء سلطوي يُقيِّد حرية الصحافة يشكِّل انتهاكًا للدستور.  

ويتفق الدستوران على إطلاق حرية الأشخاص المصريين الطبيعيين والاعتباريين في إصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام وتملكها بجميع أنواعها بمجرد الإخطار. وهذا يعني أن أية قيود على هذا الحق أصبحت غير دستورية. كما يتفق الدستوران على حظر الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام، مع إجازة ذلك على سبيل الاستثناء وبشكل محدود في زمن الحرب أو التعبئة العامة. وبذلك أخذ المشرع الدستوري بنظرية الضرورة التي يجب أن تُقَدَّر بقدرها، ولا يجوز التوسع في استخدامها حتى لا تؤدي إلى إلغاء النص الدستوري. لكن انفرد دستور 2014 بالنص على حظر توقيع أية عقوبة سالبة للحرية (الحبس أو السجن) في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية (يشمل ذلك الصحافة ونشر الكتب والإذاعة والتليفزيون والإعلام الجديد بكل وسائله). وبذلك تصبح أية عقوبات تعرض لها الصحفيون في مصر -طبقًا لدستور 2014- غير دستورية، وتُشكِّل انتهاكًا لنص دستوري، كما يصبح أي نص قانوني يبيح حبس الصحفيين أو سجنهم غير دستوري.

بالرغم من هذه النصوص الدستورية الواضحة حافظت السلطة في مصر على ترسانة من القوانين الموروثة من فترات سابقة، يرجع بعضها إلى عهد الاحتلال البريطاني، والتي تتضمن الكثير من النصوص التي تستخدمها السلطة في تقييد حرية الصحافة، وتطبيق الكثير من العقوبات على الصحفيين ومنها عقوبات أصبحت محظورة دستوريًّا. ولكن بدلًا من أن يقوم المشرع القانوني (البرلمان) بمراجعة هذه القوانين لإلغاء كل ما يتعارض منها مع الدستور، فإنه قام بإصدار قوانين جديدة تتضمن قيودًا على حرية الإعلام والإعلاميين. كما أن السلطة لم تلتزم بالدستور، فقامت بحبس الصحفيين احتياطيًّا وعدم السماح للمصريين بإصدار صحف جديدة، وفرض الرقابة على الصحف. وهكذا فإن الإجراءات الإدارية التي استخدمتها السلطة بشكل مباشر في تقييد الصحافة والإعلام تتناقض مع الدستور، واستندت السلطة في تطبيق هذه الإجراءات الاستثنائية -ومن بينها فرض الرقابة على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام- على قانون الطوارئ.

وتوضح دراسة التاريخ المعاصر أن مصر عاشت في ظل حالة الطوارئ منذ عام 1952، ولم يتم رفعها إلا في فترات قليلة، أهمها الفترة التي أعقبت ثورة 25 يناير، ثم فرضت مرة أخرى بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. وقامت السلطة بإصدار مجموعة من القوانين تضمنت معظم نصوص قانون الطوارئ بهدف تحويلها إلى حالة ثابتة، من أهمها:

- قانون التظاهر(35)، الذي استخدم في اقتحام قوات الأمن لنقابة الصحفيين المصريين للقبض على الصحفيين، عمرو بدر ومحمود السقا، لمشاركتهما في الدعوة للتظاهر ضد تخلي مصر عن جزيرتي "تيران" و"صنافير" للسعودية(36). كما تمَّ توجيه اتهامات لسبعة صحفيين بالدعوة لهذه التظاهرات باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

- قانون مكافحة الإرهاب رقم (94) لسنة 2015 وتعديلاته، الذي يتضمن نصوصًا تتيح للسلطة تقييد حرية الرأي والتعبير والصحافة. وكانت نقابة الصحفيين قد وصفت هذا القانون بأنه "مخالف للدستور، ويضرب حرية الصحافة في مقتل". ويحظر هذا القانون على الصحفيين نشر أية معلومات تخالف البيانات الحكومية في مواجهتها لأية عمليات إرهابية، ويعاقب من يخالف ذلك بالسجن لمدة لا تقل عن عامين. كما يحظر قانون الإرهاب نشر أو ترويج أخبار تتعلق بالإرهاب مناقضة لبيانات وزارة الدفاع، وهذا يعني فرض الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام(37).كما يفرض غرامات كبيرة تتراوح من 200 ألف إلى 500 ألف جنيه (الدولار = 31 جنيهًا طبقًا للسعر الرسمي) على من ينشر أخبارًا أو بيانات غير حقيقية عن أعمال إرهابية. وهذا يعني أن السلطة لم تكتف بالنصوص التي تراكمت في القوانين المختلفة، مثل قانون العقوبات، فقامت بإصدار قوانين جديدة تمكِّنها من السيطرة بشكل كامل على الصحافة والتحكُّم في الصحفيين. وأدى ذلك إلى إشاعة مناخ قانوني يقوم على العقوبات والتخويف لتقييد حقوق التعبير عن الرأي والفكر، ولتتحول وسائل الإعلام إلى وسيلة لنقل خطاب السلطة للجمهور.

ورغم أن القوانين توفر للسلطة إمكانيات كبيرة للتحكم في الصحفيين والسيطرة عليهم، فإن السلطة استخدمت الكثير من الوسائل خارج إطار القوانين مثل الحبس الاحتياطي، بالإضافة إلى الكثير من الإجراءات الإدارية للتحكُّم في الصحافة والصحفيين. وفي الوقت نفسه تمَّ تهميش دور نقابة الصحفيين فلم تتمكَّن من الدفاع عن أعضائها، أو قيادة جهود الصحفيين من أجل حرية الإعلام. وهذا يوضح أن هناك دستورًا ليبراليًّا، بينما هناك الكثير من النصوص القانونية التي تستخدمها السلطة في فرض سيطرتها على الصحافة. لذلك لا ينطلق المشرع في تعامله مع الصحافة من فلسفة واضحة، ولم يهتم بتحقيق التوافق بين الدستور والقوانين، وأن النصوص القانونية التي تراكمت منذ عام 1937 (تاريخ صدور قانون العقوبات) حتى الآن أعاقت تطور الصحافة وازدهارها، وأسهمت في صنع الأزمة التي تعانيها، وأدت إلى إغلاق المجال العام، وتناقص القوة الإعلامية للدولة.

8. الصحافة المصرية وفلسفة التنظيم الذاتي

ترتبط فلسفة التنظيم الذاتي بنظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام، والتي تقوم على الدفاع عن حرية الصحافة والإعلام عن طريق توفير إمكانيات لالتزام وسائل الإعلام بوظائف لخدمة المجتمع، وبحث شكاوى الجمهور ضد الصحف بواسطة مجالس الصحافة في ضوء المواثيق الأخلاقية.

بدأ التفكير في الأخذ ببعض أسس هذه النظرية في مصر منذ عام 1980، حيث نصَّ قانون سلطة الصحافة على إنشاء "المجلس الأعلى للصحافة"، الذي حدَّد له القانون عددًا من الوظائف من أهمها تدعيم حرية الصحافة واستقلالها(38). لكن السلطة تحكَّمت في تشكيل هذا المجلس لتُحوِّله إلى أداة حكومية للسيطرة على الصحافة، حيث منحه القانون سلطة الموافقة على الإخطارات بإصدار الصحف أو رفضها، وأدى ذلك إلى تحويل الإخطار إلى ترخيص.  

دراسة الاختصاصات التي حدَّدها قانون سلطة الصحافة تُخرج هذا المجلس تمامًا عن الطبيعة التي عرفها العالم لمجالس الصحافة. كما أعطى قانون سلطة الصحافة لهذا المجلس حق إقرار ميثاق الشرف الصحفي والقواعد الكفيلة بضمان احترامه وتنفيذه. وقام المجلس بإصدار ميثاق الشرف الصحفي، في 23 مارس/آذار 1983، الذي نصَّ على التزام الصحفيين بما للمواطنين من حقوق، مثل حق المواطن المقرر في الإعلام... لكن كيف يمكن أن يلتزم الصحفيون بهذا الحق في ظل القيود القانونية والممارسات السلطوية التي تُقيِّد حقوق الصحفيين في الحصول على المعلومات؟ هذا يعني أن الميثاق يضع على الصحفي التزامًا لا يستطيع القيام به بسبب القيود القانونية والممارسات السلطوية وسيطرة السلطة على المؤسسات الصحفية الرئيسية، وتقييد حق إصدار الصحف(39). لذلك لم يكن هناك تأثير واضح لهذا الميثاق على الصحافة المصرية، منذ صدوره حتى ثورة 25 يناير، فهناك علاقة بين حرية الصحافة والحاجة لمواثيق أخلاقية تُشكِّل أساسًا لعلاقة متوازنة بين الصحافة والجمهور. وقد تزايدت تلك الحاجة للالتزام بالمسؤولية الاجتماعية وأخلاقيات الإعلام عقب ثورة 25 يناير نتيجة الحرية التي تمتعت بها الصحافة المصرية؛ حيث انطلقت الصحافة المصرية لتهاجم الحكومة والرئيس، بشكل يشبه نموذج الخصومة بين الصحافة والسلطة. وهو النموذج الذي يظهر في الدول الليبرالية، وحاول مجلس الصحافة الذي تمت إعادة تشكيله في عهد الرئيس محمد مرسي أن يقوم بدوره في إلزام الصحف والصحفيين بميثاق الشرف الصحفي، لكنه لم يتمكَّن من ذلك نتيجة تطور الأحداث التي انتهت بالانقلاب، في 3 يوليو/تموز 2013، ونهاية هذه الفترة.

المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام 

صدر القانون رقم (92) لسنة 2016 بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ليتولى تنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئي والرقمي والصحافة المطبوعة، وحدَّد القانون عددًا من الأهداف للمجلس، من أهمها:

1. يهدف المجلس إلى ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام في إطار المنافسة الحرة.

2. حماية حق المواطن في التمتع بإعلام وصحافة حرة ونزيهة، وقدر رفيع من المهنية، وفق معايير الجودة الدولية، وبما يتوافق مع الهوية والثقافة المصرية.

3. ضمان استقلال المؤسسات الصحفية والإعلامية وحيادها وتنوعها.

4. ضمان التزام الوسائل والمؤسسات الإعلامية والصحفية بمعايير وأصول المهنة وأخلاقياتها.

5. ضمان التزام الوسائل، والمؤسسات الإعلامية والصحفية بمقتضيات الأمن القومي.

6. ضمان ممارسة النشاط الاقتصادي في مجالي الصحافة والإعلام على نحو لا يؤدي إلى منع حرية المنافسة، أو تقييدها أو الإضرار بها(40).

ويعطي تحديد القانون لهذه الأهداف الانطباع بأنها مستقاة من نظرية المسؤولية الاجتماعية، وأن المجلس -على غرار مجالس الصحافة في أوروبا- هدفه تحقيق التوازن بين حرية الصحافة والالتزام بالأخلاقيات وحقوق الجمهور، وذلك فيما عدا ضمان الالتزام بمقتضيات الأمن القومي، وهو مفهوم واسع ولا يدخل في اختصاصات مجالس الصحافة والإعلام. كما أعطى القانون المجلس الاختصاص بتلقي الإخطارات بإنشاء الصحف، ومنح التراخيص اللازمة لإنشاء وسائل الإعلام المسموع والمرئي والرقمي وتشغيلها، ولا علاقة لمجالس الصحافة بذلك. لكن القانون أخذ من نظرية المسؤولية الاجتماعية اختصاص تلقي شكاوى المواطنين عما يُنشَر في الصحف، أو يُبَث في وسائل الإعلام، ويكون منطويًا على مساس بسمعة الأفراد، أو تعرض لحياتهم الخاصة. وأعطى القانون المجلس "اتخاذ الإجراءات المناسبة" تجاه الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية في حال مخالفتها للقانون، أو لمواثيق الشرف، وأعطى المجلس سلطة إحالة الصحفي أو الإعلامي إلى النقابة المعنية لمساءلته في حال توافر الدلائل الكافية على صحة ما جاء في الشكوى. وهذا يختلف عن دور مجالس الصحافة طبقًا لنظرية المسؤولية الاجتماعية، فهذه المجالس تكتفي بإدانة الصحفي أو الصحيفة في ضوء الميثاق الأخلاقي، ولا علاقة لها بأية مخالفة قانونية، كما أنها لا تملك الإحالة إلى أية جهة أخرى.

وأعطى القانون المجلس رصد الأداء الصحفي والإعلامي ومتابعته، وإعداد تقارير تتناول وضع التعدد والتنوع في هذا الشأن، ورصد الممارسات الاحتكارية، واتخاذ اللازم لمنعها، ومتابعة درجة الالتزام بالمعايير والقواعد والأصول المهنية. وهذا من أهم اختصاصات مجالس الصحافة طبقًا لنظرية المسؤولية الاجتماعية التي ظهرت لحماية الدول من خطر الاحتكار، وبناء إمبراطوريات إعلامية يمكن أن تتحكَّم في اتجاهات الجمهور وتتلاعب به. لكن من الواضح أن المجلس الأعلى للإعلام لم يقم بدوره في مواجهة الشركة "المتحدة" التي تمتعت بوضع احتكاري، وبقوة كبيرة في مجالات الإعلام والصحافة والدراما. كما أن دور السلطة في تشكيل المجلس الأعلى للإعلام يبعده كثيرًا عن تشكيل هذه المجالس طبقًا لنظرية المسؤولية الاجتماعية؛ حيث أعطى القانون رئيس الجمهورية سلطة تعيين رئيس المجلس، واثنين من الشخصيات العامة، ويغلب على التشكيل الطابع السلطوي.

الهيئة الوطنية للصحافة

نصَّ القانون رقم (92) لسنة 2016 على إنشاء الهيئة الوطنية للصحافة، ووصفها بأنها هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية، والاستقلال في ممارسة مهامها واختصاصاتها، ولا يجوز التدخل في شؤونها. وأعطى القانون هذه الهيئة سلطة إدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة ملكية خاصة (المؤسسات الصحفية القومية)، وتعمل على تطويرها وتنمية أصولها، وضمان تحديثها واستقلالها وحيادها، والتزامها بأداء مهني وإداري واقتصادي للمؤسسات الصحفية القومية. وأعطى القانون للهيئة سلطة تعيين رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية القومية، ورؤساء تحرير المطبوعات الصادرة عنها، واعتماد الهيكل التنظيمي والإداري للمؤسسات الصحفية(41). لكن من الواضح أن تلك الاختصاصات القانونية لا تمارسها الهيئة بشكل فعلي؛ حيث تقوم السلطة بشكل مباشر بتعيين رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير. كما أن الهيئة مجرد جهاز سلطوي تم إسناد مباشرة حقوق ملكية المؤسسات الصحفية له؛ فالقانون أعطى رئيس الجمهورية سلطة تعيين رئيس الهيئة، وثلاثة من ذوي الخبرة والشخصيات العامة، أما باقي الشخصيات فيغلب عليهم الطابع الحكومي. وأنشأ القانون أيضًا الهيئة الوطنية للإعلام لتقوم بإدارة المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة (القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون-ماسبيرو)(42).

المواثيق الأخلاقية ونظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام

يعتبر ميثاق الشرف الصحفي الذي أصدره المجلس الأعلى للصحافة، في مارس/آذار 1998، من التجارب المهمة في مجال الأخلاقيات المهنية؛ إذ ربط بين الحرية والمسؤولية وواجبات الصحفيين وحقوقهم، وحدَّد مجموعة من المبادئ العامة التي تمَّ صياغة الميثاق في ضوئها، ومن أهمها:

1. حرية الصحافة من حرية الوطن، والتزام الصحفيين بالدفاع عن حرية الصحافة واستقلالها عن مصادر الوصاية والرقابة والتوجيه والاحتواء، واجب وطني ومهني مقدس.

2. الحرية أساس المسؤولية، والصحافة الحرة هي الجديرة وحدها بحمل مسؤولية الكلمة، وعبء توجيه الرأي العام على أسس حقيقية.

3. حق المواطنين في المعرفة هو جوهر العمل الصحفي وغايته، وهو ما يتطلب ضمان التدفق الحر للمعلومات، وتمكين الصحفيين من الحصول على المعلومات من مصادرها، وإسقاط أي قيود تحول دون نشرها، أو التعليق عليها(43).

وبالرغم من أن الالتزام بهذا الميثاق وتطبيقه كان يمكن أن يُشكِّل تطورًا مهمًّا للصحافة المصرية، ويفتح لها مجالًا لبناء علاقة متوازنة مع المجتمع والجمهور، إلا أن الالتزام بهذه المبادئ كان محدودًا. وفي عام 2017، قامت نقابة الإعلاميين التي أُنْشِئَت بموجب القانون رقم (93) لسنة 2016 بإصدار ميثاق الشرف الإعلامي، ومدونة السلوك المهني للأداء الإعلامي. وكان مجلس إدارة النقابة الذي أصدر الميثاق، ذكر في ديباجته: "نعلن نحن الإعلاميين التزامنا بمواد هذا الميثاق نصًّا وروحًا، ونتعهد باحترام نصوصه"(44). وتضمن الميثاق أيضًا نصوصًا براقة يمكن أن تشير إلى أن الصحافة ووسائل الإعلام المصرية يمكن أن تنطبق عليها نظرية المسؤولية الاجتماعية، لكن الاعتماد على النصوص وحدها لا يكفي في التزام الصحافة المصرية بهذه النظرية. فمن الواضح أن عدم الدفاع عن حرية الصحافة والكفاح ضد القيود التي فرضتها السلطة بعد عام 2013، وعدم الالتزام بأخلاقيات المهنة، كان من أهم العوامل التي شكَّلت أزمة الصحافة المصرية، وأدت إلى تراجع توزيعها، وانصراف الجمهور عن الصحافة والقنوات التليفزيونية باتجاه وسائل الإعلام الجديد. لقد أسهمت وسائل الإعلام المصرية نتيجة لتحيزها الواضح لخطاب السلطة في زيادة حدة الانقسام المجتمعي، ونشر خطاب الكراهية ضد جزء كبير من شعب مصر.

9. الهوة بين النصوص القانونية والأخلاقية وتطبيقها

إن دراسة نصوص الدساتير والقوانين والمواثيق الأخلاقية لا تكفي لإصدار حكم على مدى حرية الصحافة؛ فالمناخ السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تعمل فيه وسائل الإعلام يلعب دورًا مهمًّا في نشر الحرية كقيمة مهمة للمجتمع بأكمله(45). وهذا المناخ أدى إلى نشر حالة الخوف منذ 3 يوليو/تموز 2013، وعدم القدرة على التعبير عن الرأي، وعدم التقدم لإصدار صحف جديدة أو إنشاء قنوات تليفزيونية، وإغلاق المجال العام. كما أن السلطة قامت بمنع الكثير من الصحفيين من الكتابة، وعدم نشر مقالاتهم في الصحف، أو الظهور في القنوات التليفزيونية، وذلك دون إعلان. فأصبحت الكتابة في الصحف امتيازًا يُمنَح لمن ترضى السلطة عنهم من الصحفيين، وأصبح الكثير من الصحفيين لا يعملون، ويحصلون على مرتباتهم دون تقديم إنتاج. وأسهم الجو المشحون بالخوف في فرض حالة الصمت على الصحفيين -من المعارضين للسلطة- واستخدمت السلطة الكثير من الوسائل لفرض هذه الحالة خارج إطار الدستور والقوانين. ومن أهم تلك الوسائل الحبس الاحتياطي الذي يتجاوز مدة السنتين التي ينص عليها القانون كوسيلة لمعاقبة من يخالفونها في الرأي. وقدَّرت "منظمة العفو الدولية" عدد الصحفيين الذين يقبعون وراء القضبان لقيامهم بعملهم المشروع بما لا يقل عن 25 صحفيًّا، أصدرت المحاكم أحكامًا بالسجن على ما لا يقل عن 16 صحفيًّا منهم لمدد تتراوح بين ثلاثة أشهر وخمس سنوات تتعلق حصرًا بكتاباتهم بما في ذلك اتهامهم بالتشهير، أو بنشر معلومات كاذبة(46).

وبالرغم من أن المواثيق الأخلاقية تلزم نقابة الإعلاميين ونقابة الصحفيين بالدفاع عن حرية الإعلام، ويشمل ذلك التضامن مع زملائهم الصحفيين الذين يتعرضون لأي نوع من الاضطهاد أو القهر، إلا أن التضامن مع هؤلاء كان ضعيفًا حتى مع أولئك الذين تمَّ اقتحام نقابة الصحفيين لاعتقالهم. فما الذي أدى إلى هذه الحالة؟ إنه مناخ الخوف السائد، والقضاء على التجربة الديمقراطية، واستخدام السلطة قوتها.

هذا يوضح العلاقة بين الديمقراطية وحرية الصحافة التي لا يمكن أن تزدهر إلا في مجتمع ديمقراطي يحترم دور الصحافة في تشكيل المواطن العارف، ويدرك أهمية دور الصحفيين كوكلاء للديمقراطية، ويمكن أن يساند فيه الشعب الصحفي الذي يقوم بوظيفته في الوفاء بحق جمهوره في المعرفة. كل ذلك أسهم في تشكيل أزمة الصحافة المصرية؛ حيث أصبح الصحفيون يدركون أن نصوص الدستور والقوانين لا يتم تطبيقها، ولن يستطيع أحد الدفاع عنهم في مناخ غير ديمقراطي، فالسلطة تستخدم الإجراءات الإدارية السلطوية بشكل مباشر دون الحاجة إلى القوانين.

ولهذه العوامل مجتمعة تراجع ترتيب مصر في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، ووصل في بعض اللحظات السياسية درجة متدنية (168)، كما يظهر في مؤشر منظمة "مراسلون بلا حدود"، الذي يقيِّم ظروف ممارسة النشاط الإعلامي في 180 دولة. (انظر الشكل رقم 1) 

شكل (1): ترتيب مصر في التصنيف العالمي لحرية الصحافة (2011-2023)

1
المصدر: من إعداد الباحث استنادًا إلى تقارير منظمة "مراسلون بلا حدود" بين عامي 2011 و2023. 

في ظل هذا المناخ السلطوي غير الديمقراطي لم يعد أمام وسائل الإعلام سوى الاعتماد بشكل مكثف على المصادر الرسمية، ونشر البيانات الصادرة عن الحكومة وأجهزتها، والتركيز على خطاب السلطة وتبرير قراراتها. ولم تعد وسائل الإعلام قادرة على تغطية الأحداث من مناظير مختلفة، أو تطبيق قاعدة تعددية المصادر وتنوعها. واقتصرت على نشر الرواية الرسمية للأحداث، وهي رواية غير جاذبة للجمهور؛ فأدى ذلك إلى تراجع جودة المضمون الذي تُقدِّمه الصحافة، وعدم قدرتها على إشباع احتياجات الجمهور للمعرفة. كما فقدت الصحافة وظيفتها في إدارة المناقشة الحرة بين الاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة، ولم تستطع القيام بدورها حارسًا لمصالح المجتمع بكشف الانحرافات والفساد. لذلك أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الوحيد أمام الجمهور للحصول على المعلومات، وتراجع اعتماد الجمهور على الصحف والقنوات التليفزيونية.

خلاصة

توضح الدراسة أن المنظومة الإعلامية المصرية قامت على عملية خلط عناصر كثيرة من نظريات مختلفة، فالدساتير المصرية الصادرة في 1970 و2012 و2014 تكفل حرية الصحافة والإعلام، لكنَّ هناك عددًا من النصوص القانونية التي تتناقض مع هذه الكفالة الدستورية، وتفرض قيودًا على حرية الصحافة، كما تفرض عددًا من العقوبات على الصحفيين. وبذلك تعيش الصحافة المصرية في ظل نصوص دستورية ليبرالية، ونصوص قانونية سلطوية، كما أن السلطة تستخدم الإجراءات الإدارية بشكل مباشر خارج إطار القوانين لنشر حالة من الخوف، وتمنع الإعلاميين من الكتابة وتغطية الأحداث. وظلت تحافظ على سيطرتها على المؤسسات الصحفية الرئيسية التي جرى تأميمها منذ العام 1960، وتمليكها للاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الوحيد في ذلك الوقت)، وهي صيغة تتشابه من بعض جوانبها مع النظرية الشيوعية (نظرية الصحافة السوفيتية)، لكن تم نقل ملكية هذه المؤسسات للدولة بمقتضى قانون سلطة الصحافة عام 1980. كما تمتلك الدولة قنوات تليفزيونية ومحطات إذاعية، ويمارس حقوقَ الملكية عليها اتحادُ الإذاعة والتليفزيون. كما تمَّ استقاء بعض العناصر من نظرية المسؤولية الاجتماعية تمثَّلت في مجلس الصحافة، ثم المجلس القومي للإعلام، وإصدار مواثيق أخلاقية، لكن هذه المجالس تسيطر عليها السلطة، كما أن الالتزام بالمواثيق الأخلاقية كان ضعيفًا.

واستخدمت السلطة الكثير من الوسائل منها الرقابة المباشرة وغير المباشرة قبل النشر وبعده استنادًا إلى قانون الطوارئ الذي تمَّ تطبيقه لفترات طويلة. كما أن مناخ الخوف وغياب الديمقراطية، واستخدام الحبس الاحتياطي ضد الصحفيين، ومحاكمتهم بتهم مختلفة طبقًا لقانون الإرهاب، أرغم الصحفيين على فرض الرقابة الذاتية على أنفسهم. وبذلك فإن أغلب العناصر الواضحة في المنظومة الصحفية المصرية مستقاة من النظرية السلطوية، فكان من الطبيعي أن تتعرض الصحافة المصرية لأزمة، وتتراجع ثقة الجمهور فيها لعدم قدرتها على القيام بوظائفها في الوفاء بحق الجمهور في المعرفة.

أما بالنسبة لتوصيف وليم روو، فإن الصحافة المصرية قامت منذ عام 1952 بدور تعبوي لصالح السلطة؛ حيث تمَّ تشكيل صورة الرؤساء منذ جمال عبد الناصر، وتسويق إنجازاتهم، وتبرير قراراتهم، بهدف كسب التأييد لهم. لكن لم يتم تعبئة الجمهور لتحقيق أهداف كبيرة، مثل تحقيق الاستقلال والتحرر من التبعية وتحقيق التنمية، وذلك فيما عدا فترات محدودة من أهمها حرب العاشر من رمضان، 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ضد إسرائيل. وهذا يعني أن وصف "الصحافة التعبوية" ينطبق بشكل محدود على الصحافة المصرية خلال فترات محددة. كما شهدت الصحافة المصرية، خلال الفترة من 2011 حتى 3 يوليو/تموز 2013، بعض سمات "الصحافة التحويلية"؛ حيث تمتعت الصحافة بقدر كبير من الحرية. لكن هذه الفترة شهدت استخدام المال السياسي قوةً مؤثرة في التحكُّم في الصحافة، في الوقت الذي ضعف فيه دور السلطة.

وخلال الفترة الممتدة من يوليو/تموز 2013 إلى 2023، تميزت المنظومة الإعلامية المصرية بسمات، من أهمها:

- التبعية للسلطة: وتنطبق هذه السمة على المؤسسات الصحفية القومية المملوكة للدولة ومحطات الإذاعة والقنوات التليفزيونية، والصحف الخاصة التي كانت تصور نفسها "مستقلة"، والصحف ووسائل الإعلام التي سيطرت عليها الشركة المتحدة المملوكة للمخابرات، أما الصحف الحزبية فلم تعد قادرة على نشر أية مادة معارضة للسلطة.

- نتيجة لتلك التبعية أصبح المضمون الذي تُقدِّمه الصحافة المصرية متشابهًا، وافتقد التنوع، ولم يعد جذَّابًا للجمهور.

- اعتمدت الصحافة المصرية على المصادر الرسمية، واقتصرت على تقديم رواية السلطة للأحداث.

- أصبح خطاب السلطة هو الأساس الذي يدور حوله المضمون الذي تُقدِّمه الصحافة المصرية؛ التي أصبح دورها تبرير قرارات السلطة، وتشكيل صورة الرئيس، والحديث بشكل مستمر عن إنجازاته بهدف كسب تأييد الشعب له.

- بالرغم من وجود الكثير من النصوص القانونية التي تستخدمها السلطة في السيطرة على الصحافة، لكنها تستخدم الإجراءات الإدارية المباشرة خارج إطار القانون.

- استخدمت السلطة الرقابة على الصحف، وأصبح دور رئيس التحرير الذي تعيِّنه السلطة هو ضبط الأداء الصحفي داخل الإطار الذي تحدده السلطة، وتقديم الأحداث داخل الأطر التي تريدها.

- فرض الصحفيون الرقابة على أنفسهم (الرقابة الذاتية) نتيجة مناخ الخوف الذي ساد في مصر، ولم يعد الكثير من الصحفيين يمارسون مهنتهم.

- لم تعد وسائل الإعلام المصرية قادرة على الوفاء بحق الجمهور في المعرفة، أو إدارة المناقشة بين الاتجاهات السياسية مما أدى إلى تراجع توزيعها وتأثيرها ودورها المجتمعي، وزيادة حدة الأزمة التي تهدد وجودها. وبذلك يمكن توصيف المنظومة الإعلامية المصرية بأنها "منظومة سلطوية" تقوم على تحكُّم السلطة في وسائل الإعلام.

نشرت هذه الدراسة في العدد الثالث من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) Fredrick Siebert, Theodore Peterson, Wilbur Schramm, Four Theories of the Press: The Authoritarian, Libertarian, Social Responsibility, and Soviet Communist Concepts of What the Press Should Be and Do, (USA: University of Illinois Press ,1984), 9-105.

(2) لمزيد من التفاصيل حول هذه النظريات، انظر: سليمان صالح، أزمة حرية الصحافة في مصر 1945-1985، (القاهرة، دار النشر للجامعات المصرية، 1995)، ص 34-35.

(3) Denis McQuail, Mass Communication Theory, (London: Sage Publications ,1989), 119-121.

(4) وليم روو، الصحافة العربية: الإعلام الإخباري وعجلة السياسة في العالم العربي، ترجمة موسى الكيلاني، (عمَّان، مركز الكتب الأردني، 1989)، ص 61-87.

(5) William Rugh, "Do Nation Political Systems Still Influence Arab Media?," Arab Media and Society, May 2007, "accessed July 15, 2023". https://t.ly/ZZhyg.

(6) عواطف عبد الرحمن، دراسات في الصحافة المصرية والعربية، (القاهرة، العربي للنشر والتوزيع، 1981)، ص 9.

(7) محمد حسنين هيكل، بين الصحافة والسياسة، (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1984)، ص 237.

(8) القانون رقم (148) لسنة 1980 بشأن سلطة الصحافة، (القاهرة، المجلس الأعلى للصحافة، د.ت)، ص 11.

(9) Ahmad Shehabat, Arab 2.0 Revolutions: Investigating Social Media Networks during Waves of the Egyptian Political Uprisings that Occur between 2011, 2012 and 2013, (MA thesis, University of Western Sydney, May 2015), 131.

(10) إسلام عبد الله زعبل، "الثورة ووسائل التواصل الاجتماعي"، المعهد المصري للدراسات، 1 فبراير/شباط 2019، (تاريخ الدخول: 12 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/wppvq.

(11) Rasha Abdulla, "Egypt’s Media in the Midst of Revolution," Carnegie Endowment for International Peace, July 16, 2014, "accessed July 15, 2023". https://t.ly/akx_w.

(12) Ibid.

(13) Ibid.

(14) Hala Elzahed, "Egyptian Press and the Transition to Democracy: A Study of the Conditions and Challenges Facing National Print Media Post the January 25th 2011 Revolution," International Journal of Humanities, Arts, Medicine and Sciences, Vol.1, Issue. 2, (November 2013): 61-76.

(15) حسين أمين، تعزيز حكم القانون والنزاهة في العالم العربي، تقرير حول وضع الإعلام في مصر، المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة، (ب.ت)، (تاريخ الدخول: 15 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/0rQF3.

(16) "Less press freedom than ever in Egypt, 10 years after revolution," Reporters without borders, January 22, 2021, "accessed July 15, 2023". https://t.ly/RfWqJ.

(17) وائل الغول، "رغم الأزمات الصحافة الورقية في مصر تصارع من أجل البقاء"، العين الإخبارية، 22 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 15 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/BB_rX.

(18) ممدوح الولي، "الصحف المصرية.. أرقام صادمة"، الجزيرة مباشر، 9 فبراير/شباط 2023، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/sN3u9.

(19) أحمد حامد دياب، "ضياء رشوان: توزيع الصحف المصرية انخفض منذ عام 2010 حتى الآن بنسبة 90%"، الوطن، 18 فبراير/شباط 2019، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/wjKEz.

(20) كريم محمود، "ديون متراكمة وإجراءات متلاحقة.. هل تبيع مصر الصحف الحكومية أم تستثمر أصولها؟"، الجزيرة نت، 7 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/coptX.

(21) مصطفي علي، "تخطت 20 مليار جنيه.. مصادر تكشف أسباب ديون المؤسسات الصحفية القومية"، مصراوي، 3 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/INTV0.

(22) "فيروس كورونا في مصر: حظر أكثر من عشرة مواقع وصفحات إلكترونية"، منظمة مراسلون بلا حدود، 3 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/LKW6k.

(23) "إشكاليات وتحولات الصحافة والإعلام في مصر"، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 2017، ص 12.

(24) "دولة القانون تجعل الكل يعمل بلا خوف… والمنافسة الانتخابية كانت بين مليونيرات لعبوا على المكشوف"، القدس العربي، 6 ديسمبر/كانون الأول 2015، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/8MxYP.

(25) "إشكاليات وتحولات الصحافة والإعلام في مصر"، مرجع سابق، ص 12.

(26) المرجع السابق، ص 12.

(27) أمين، تعزيز حكم القانون والنزاهة في العالم العربي، مرجع سابق.

(28) عبد الله حامد، "هيكلة الشركات المهيمنة على الإعلام المصري: أسرار ومفاجآت وتساؤلات عن الجديد"، الجزيرة نت، 1 يونيو/حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/ioEFN.

(29) "السيسي: الإساءة للجيش والشرطة ليست حرية شخصية أو وجهة نظر.. خيانة عظمى"، المصري اليوم، 1 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/cegv9.

(30) قرار بقانون رقم (85) لسنة 2012، منشورات قانونية، 2012، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/yDEGN.

(31) "مصر: المشهد الإعلامي، منظمة مراسلون بلا حدود، 2022-2023، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/kyQS5.

(32) المرجع السابق.

(33) دستور مصر الصادر 2012، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/jkoM6.

(34) دستور مصر الصادر 2014، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/dU029.

(35) قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم (107) لسنة 2013، الجريدة الرسمية، العدد 47 مكرر، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013.

(36) "الشرطة المصرية تقتحم مقر نقابة الصحفيين للقبض على صحفييْن بتهمة زعزعة استقرار البلاد"، بي بي سي، 2 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/xAIV6.

(37) قانون مكافحة الإرهاب رقم (94) لسنة 2015، منشورات قانونية، 3 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/pDEFN.

(38) القانون رقم (148) لسنة 1980 بشأن سلطة الصحافة.

(39) ميثاق الشرف الصحفي، المجلس الأعلى للصحافة، 23 مارس/آذار 1983.

(40) قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم (180) لسنة 2018، منشورات قانونية، (تاريخ الدخول: 17 يوليو/تموز 2023)، https://manshurat.org/node/31481.

(41) قانون رقم (179) لسنة 2018 بإصدار قانون الهيئة الوطنية للصحافة، منشورات قانونية، (تاريخ الدخول: 17 يوليو/تموز 2023)، https://shorturl.at/ewL36. 

(42) المرجع السابق.

(43) ميثاق الشرف الصحفي، المجلس الأعلى للصحافة، 1998.

(44) ميثاق الشرف الإعلامي، نقابة الإعلاميين 2017.

(45) أمين، تعزيز حكم القانون والنزاهة في العالم العربي، مرجع سابق.

(46) "مصر: ينبغي الإفراج عن صحفي قضى سنتين خلف القضبان دون تهمة أو محاكمة"، منظمة العفو الدولية، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2023)، https://t.ly/4fMBe.