العابر والاستراتيجي: آفاق الضربة الأميركية لنظام الأسد

فرض القصف الأميركي على قاعدة الشعيرات الجوية بعض القيود على النظام السوري وحلفائه، ورفع سقف مطالب معارضيه مجددًا بإزاحة بشار الأسد، لكن لا يزال من المبكر اعتبار الضربة عملًا عابرًا أو تحولًا استراتيجيًّا للموقف الأميركي من الحرب السورية.
91cd964a14894fe1b24af0b29d9c5798_18.jpg
ترامب يفعل الخطوط الحمراء (الأوروبية)

اتخذ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قراره بقصف القاعدة الجوية السورية ولم يكمل المئة يوم الأولى من ولايته بعد. ولا شك أنه يدرك أن قصفه لموقع سوري عسكري، الأمر الذي تجنبته إدارة أوباما طوال ست سنوات، لن يستفز دمشق وحسب، بل موسكو وطهران أيضًا. 

ستترك الضربة الأميركية أثرًا إيجابيًّا على معنويات قوى المعارضة السورية، كما على الدول العربية المناهضة لإيران ونظام الأسد. ولكن الضربة في حدِّ ذاتها لا تمثل تغييرًا استراتيجيًّا في المقاربة الأميركية للأزمة السورية، أو على الأقل ليس بعد. كنَّا لاحظنا مثلًا، خلال أيام الجولة الخامسة الطويلة لمباحثات جنيف حول سوريا، أن الأميركيين لا يسعون إلى دور نشط في تقرير مستقبل سوريا. 

بيد أن هذا لا يعني استبعاد أن تكون الضربة مقدمة لتغيير ما في سياسة واشنطن السورية، سيما أن الرئيس قال بوضوح في اليوم السابق لتوجيه الضربة إن موقفه من الأسد قد تغيَّر، كما أن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيليرسون، أكد على أن لا مستقبل للأسد في حكم سوريا.

مقدمة 

لم تكد ثلاثة أيام تمر على قصف النظام السوري لمدينة خان شيخون بالأسلحة الكيمياوية، حتى نفذت واشنطن تهديداتها بعقابه؛ وذلك بتوجيه قصف صاروخي لقاعدة الشعيرات الجوية، قرب حمص، التي يقول الأميركيون: إنها مصدر الطائرات التي قامت بالهجوم الكيماوي على خان شيخون. 

وقد كانت طائرات تابعة لنظام الرئيس السوري، بشار الأسد، أسقطت، صباح يوم 4 أبريل/نيسان 2017، قذائف يُعتقد أنها محمَّلة بغاز السارين القاتل على بلدة خان شيخون، إحدى بلدات محافظة إدلب شمالي سوريا. أدَّى الهجوم الكيماوي على خان شيخون إلى مقتل ما يزيد عن 80 شخصًا من أبناء البلدة الصغيرة، وجرح عشرات آخرين. طبقًا لمصادر المعارضة السورية، هذا هو الهجوم الكيماوي الثاني على مناطق خارج سيطرة النظام في الشهر الأخير، وقع الأول منها في ريف دمشق. 

خلال اليومين التاليين، ترددت أصداء الهجوم على خان شيخون، وصور الضحايا، عبر العالم. ولم يكن خافيًا أن اللغة التي استخدمها مسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي ترامب، بمن في ذلك الرئيس نفسه، في شجب ما اعتبروه الفعل الوحشي للنظام السوري، كانت حادة ومنذرة. 

تعود مشكلة استعمال النظام للسلاح الكيميائي إلى 2013، عندما توسطت روسيا لنزع مخزون السلاح الكيماوي السوري مقابل توقف إدارة أوباما عن توجيه ضربة عقابية لنظام الأسد جرَّاء استخدامه السلاح الكيماوي ضد شعبه. في أغسطس/آب 2013، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره 2118، الذي ندَّد باستخدام النظام للسلاح الكيماوي وأكد على منع سوريا من تصنيع وتخزين واستخدام مثل هذا السلاح في المستقبل. كما أن مجلس الأمن الدولي كان قد بدأ بالفعل بحث الهجوم الكيماوي على خان شيخون، وسط انقسام حاد بين أعضائه؛ إذ هددت روسيا بمنع صدور قرار أممي بإدانة نظام الأسد. ولكن إدارة ترامب، على أية حال، لم تنتظر نتائج مداولات مجلس الأمن، ولا هي استدعت القرار 2118، عندما قررت توجيه الضربة العقابية لقاعدة النظام الجوية في الشعيرات. 

لماذا قام نظام الأسد بمثل هذا الهجوم الكيماوي على خان شيخون، سيما أن البلدة لم تكن ساحة حرب، ولا هي تقع على جبهة قتال؟ ولماذا اتخذت إدارة ترامب قرار توجيه ضربة عقابية لنظام الأسد، وللمرة الأولى منذ بداية الأزمة السورية قبل ما يزيد عن ست سنوات؟ وما هي تأثيرات هذا التحرك الأميركي على سياق الأزمة السورية، وعلى الاشتباك الدولي والإقليمي الذي أصبحت الأزمة السورية وثيقة الصلة به؟ 

حسابات الهجوم الكيميائي 

أنكر ناطقون باسم النظام السوري، بمن في ذلك وزير الخارجية، وليد المعلم، المتغيب عن المشهد منذ زمن، كليةً المسؤولية عن هجوم خان شيخون، وادَّعوا أن الحادث تسبَّب بفعل قصف الطائرات السورية مواقع لهيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا وحلفاؤها)، كانت، بحسبهم، مواقع تخزين لأسلحة كيماوية. ولكن الأميركيين يقولون إنهم متأكدون من أن طائرات النظام هي التي نفَّذت الهجمة الكيماوية على البلدة، وإنهم يملكون الأدلة على ذلك. إضافة إلى ذلك، يقول خبراء: إن رواية النظام غير قابلة للتصديق أصلًا، أولًا: لأن غاز السارين ينطلق من مادة غير مستقرة، ولا يُخزَّن لفترات طويلة، بل تُخلط المواد المولِّدة له عادة مباشرة قبل استخدامه؛ وثانيًا: لأن الغاز حتى لو كان مخزَّنًا في مكان ما من البلدة، فإن انتشاره يتطلب تفجيرًا حراريًّا شديدًا، وأن الانتشار من موقع التخزين يكون محدودًا في أغلب الأحوال، ولا يتسبب في خسائر بشرية كبيرة. 

السؤال المهم الآن: إن كان الاتهام الأميركي لدمشق صحيحًا، فلماذا إذن يقوم نظام الأسد بقصف بلدة، لا تمثِّل موقع اشتباك ولا تحتل بالضرورة موقعًا استراتيجيًّا، بالسلاح الكيماوي؟ يتطلب هذا السؤال إجابة من عدة مستويات؛ فعلى المستوى الأول، يبدو أن نظام الأسد، وحلفاءه، شعروا باطمئنان كبير مؤخرًا من جهة وضعه الدولي. قبل أيام قليلة فقط من وقوع الهجوم على خان شيخون، قالت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هايلي: إن إدارة الرئيس ترامب لا تعتبر الإطاحة بنظام الأسد أولوية لها. ولابد أن النظام في دمشق يعرف أن مساعدي ترامب الرئيسيين، بمن في ذلك ستيف بانون (قبل إقالته)، لم يُخفوا في السابق قناعاتهم بأن المعارضة السورية لا تبعث على الاطمئنان، وأن حل الأزمة السورية يتلخص في السماح لنظام الأسد بالانتصار. نظام الأسد، باختصار، انتابه الكثير من الارتياح من مقاربة إدارة ترامب للأزمة السورية، أو بالأحرى الغياب اللافت لمقاربة هذه الإدارة، وأصبح أكثر حرية في حربه ضد شعبه ومعارضيه. 

بيد أن هذا لا يكفي بالضرورة لتفسير اختيار خان شيخون هدفًا. أظهر نظام الأسد، بالتأكيد، قدرًا هائلًا من اللاعقلانية خلال السنوات الست الماضية، ولكن حتى لا عقلانيته المعتادة لا توفر تفسيرًا لقصف بلدة صغيرة، لا يزيد سكانها على الخمسين ألف نسمة، بعيدة نسبيًّا عن جبهات القتال، بالسلاح الكيماوي. 

الحقيقة، أن النظام يتبع في الفترة الأخيرة سياسة تهجير أكبر عدد ممكن من السوريين العرب السُّنَّة، ومن كافة المناطق التي تصلها أدوات جيشه، وليس فقط من المناطق التي تعتبر مصدر تهديد استراتيجي مثل ريف دمشق. عمل النظام على تهجير أهالي أحياء حلب ذات الأغلبية العربية السنية، ويعمل الآن على تهجير العدد الأكبر من أحياء حمص، ولابد أنه تصور أن قصف بلدة مثل خان شيخون يمكن أن يشجع عددًا أكبر من سُنَّة إدلب العرب على الهجرة، سيما بعد أن أصبحت إدلب منطقة لجوء لأعداد كبيرة من السوريين الذين أُجبروا على الرحيل من مدن حلب وحمص وريف دمشق. خان شيخون، إضافة إلى ذلك، هي آخر بلدات محافظة إدلب على الطريق الموصِّل إلى حماة، التي يشهد ريفها معارك طاحنة، أوقعت خسائر فادحة بقوات النظام والميليشيات الشيعية المساندة له في الأسابيع القليلة السابقة على هجوم خان شيخون. ويبدو أن النظام يعتقد أن البلدة باتت نقطة الانطلاق الرئيسة لقوات الثوار التي تخوض معارك ريف حماة. 

مهما كان الأمر، فلابد من رؤية الهجوم على خان شيخون باعتباره كارثة ليس لنظام الأسد وحسب، بل ولروسيا أيضًا. هجوم بالسلاح الكيماوي لا يمكن أن يتم بدون تصديق من الرئيس السوري؛ والمفترض أن روسيا لا تلعب الدور الأكبر، عسكريًّا وسياسيًّا، في حماية نظام الأسد فقط، ولكنها أيضًا الشريك الأهم في صناعة القرار السوري، إن لم تكن المقرر الأول بالفعل. إن كان الأسد اتخذ قرارًا منفردًا باستخدام السلاح الكيماوي، فهذا يعني أن الرئيس السوري يتجاهل حليفه الروسي، الذي كان أصلًا الراعي لاتفاق 2013 لتجريد سوريا من السلاح الكيماوي. بمعنى، أن الرئيس الأسد يبدو، وبعد كل ما قامت به روسيا من أجله، كأن لديه استعدادًا كامنًا لإدارة الظهر لحلفائه الروس وإظهارهم كمجرد حليف مؤقت. 

الاحتمال الآخر، بالطبع، أن الروس كانوا على دراية بالهجوم على خان شيخون، وربما أنهم ساعدوا النظام خلال السنوات القليلة الماضية على استعادة قدراته على إنتاج السلاح الكيماوي، أو أنهم غضوا النظر عن احتفاظه ببعض مقدراته في هذا المجال منذ اتفاق 2013. وبالرغم من أن هذا الاحتمال هو الأضعف، ولا توجد حتى الآن مؤشرات ملموسة عليه، فقد بدأ الأميركيون بالفعل تحقيقًا في ما إن كانت روسيا شريكًا في الهجوم على بلدة خان شيخون. 

العقاب الأميركي 

اتخذ الرئيس ترامب قراره بقصف القاعدة الجوية السورية ولم يكمل المئة يوم الأولى من ولايته بعد. كما أن هذا الرئيس جاء إلى البيت الأبيض في ظل شعار "أميركا أولًا" الذي رفعه بأعلى صوت ممكن طوال حملته الانتخابية وبعد توليه مقاليد البيت الأبيض، وهو ما فُهِم منه عدم اكتراث ترامب بما وصفه في مقابلة له من قبل بـ"رئاسة العالم". ولا شك في أن الرئيس الأميركي يدرك أن قصفه لموقع سوري عسكري، الأمر الذي تجنبته إدارة أوباما طوال ست سنوات، سيكون له أصداء ليس في دمشق وحسب، بل وفي موسكو وطهران أيضًا. فوق ذلك كله، فقد أخذ ترامب قرار توجيه الإنذار العقابي لنظام الأسد بدون محاولة الحصول على غطاء دولي. فلماذا اتخذ الرئيس الأميركي، حديث العهد بالبيت الأبيض، مثل هذا القرار، وبمثل هذه الطريقة؟ 

أظهر ترامب، في مؤتمره الصحافي مع الملك عبد الله الثاني، قبل يوم واحد على قصف قاعدة الشعيرات الجوية، تأثرًا بمشاهد ضحايا هجوم خان شيخون، لاسيما الأطفال منهم. وقد يكون ردُّ الفعل الشخصي هذا هو السبب خلف القرار السريع بمعاقبة نظام الأسد على إخلاله بتعهداته الدولية. ولكن المشكلة، أن السوريين يسقطون ضحايا، وبكافة الصور المؤلمة، منذ سنوات، ولم يكن لسقوطهم الأثر الكافي لدفع الولايات المتحدة للتحرك، ولا حتى في ظل إدارة أوباما، التي قدمت نفسها دائمًا باعتبارها الأكثر إنسانية واهتمامًا بمصير العالم. 

المصدر: معهد دراسة الحرب

ثمة عدد من الدوافع، المحلية والدولية، لابد أنها كانت الأثقل في ميزان الرئيس عندما قرر توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد. 

على المستوى المحلي، وبالرغم من أن قاعدة الرئيس الشعبية الرئيسية تعارض أي دور أميركي نشط على المسرح الدولي؛ فالملاحظ أن إدارة ترامب تعاني من تعثر متكرر في تنفيذ أجندتها، وأن استطلاعات الرأي تظهر نِسَبَ شعبية متدنية للرئيس في مطلع ولايته. الأهم من ذلك، أن قضية العلاقة بين حملة ترامب الانتخابية وروسيا لم تزل تلاحق الرئيس وإدارته بصورة باتت تهدد قدرته على الفعل وممارسة مهماته. اتخاذ خطوة مفاجئة على صعيد السياسة الخارجية، المجال الذي يوصف دائمًا بأنه الأكثر رئاسية في صناعة صورة قاطن البيت الأبيض، لن تساعد الرئيس في تعزيز موقعه وقيادته وحسب، ولكنها ستساعد أيضًا على دحر الشائعات حول علاقة حملته بروسيا، كما ستعمل على إظهاره بمظهر الحريص على المصالح الأميركية مهما كان رد فعل الآخرين في روسيا وغيرها. 

أما على المستوى الدولي، فلابد أن تُقرأ خطوة ترامب تجاه النظام السوري باعتبارها مناسبة لتوجيه عدَّة رسائل في وقت واحد: الرسالة الأولى، بالطبع، هي للنظام السوري، ولحلفائه الأقرب في إيران وروسيا. ما يريد ترامب قوله: إن الولايات المتحدة لن تخرج من الأزمة السورية، وإنها حتى قبل أن تبلور سياسة واضحة تجاه سوريا، لا يمكن افتراض تخليها عن دورها في تقرير مصير الأزمة الأكثر تعقيدًا وتكلفة منذ نهاية الحرب الباردة. إضافة إلى ذلك، فالواضح أن فريق ترامب يرى بوضوح أن واشنطن سمحت خلال السنوات الماضية بما كان يجب أن لا تسمح به من توسع روسي وإيراني، وأن الوقت قد حان لوضع حد لهذا التوسع. 

الرسالة الأخرى، بالضرورة، موجهة لنظام كوريا الشمالية، وتتضمن إنذارًا مباشرًا بأن واشنطن تحت قيادة ترامب لن تتردد في استخدام القوة لحماية أمنها وأمن حلفائها، حتى بدون غطاء قانوني دولي. 

أما الرسالة الثالثة، فتبعث بها إدارة ترامب إلى حلفائها الغربيين؛ فمن الواضح أن علاقات واشنطن بالحلفاء الأوروبيين الغربيين، باستثناء بريطانيا، يشوبها التوتر والفتور منذ تولي ترامب مقاليد الحكم، سواء للخلافات حول ميزانيات دفاع الدول الأعضاء بحلف الناتو، لموقف ترامب وبعض مساعديه السلبي من الوحدة الأوروبية، أو للانتقادات التي وجهتها برلين وباريس لتوجهات ترامب غير الليبرالية من التجارة الدولية ومن المهاجرين. ما يريد ترامب أن يقوله لحلفائه: إن الولايات المتحدة لم تزل في موقع قيادة الشأن الدولي، وإنها وحدها الكفيلة بالدفاع عن القيم الغربية في العالم. 

أخيرًا، لابد أن تعيد الضربة الأميركية للنظام السوري النظر في طبيعة إدارة ترامب، وما يمكن أن تكون عليه السياسات التي تتبناها هذه الإدارة. تنبع مشكلة قراءة واشنطن ترامب في الشعارات الحادة التي تبناها المرشح ترامب خلال حملته الانتخابية، واعتبر كثيرون أنها ستكون المحدد لسياساته في الداخل والخارج. الحقيقة، بالطبع، أن الرئيس الأميركي، أي رئيس أميركي، ليس صنيعة قناعاته المسبقة فقط، بل وصنيعة المؤثرات الموضوعية لفترته الرئاسية: توازنات مؤسسات الحكم الأميركية، وثوابت الدولة خلال المرحلة التي يتولى فيها مسؤولياته، وخبرات مساعديه الرئيسيين، والأزمات المفاجئة التي تواجهه. والملاحظ، خلال الشهور الثلاثة التي مضت من ولايته، أن الرئيس ترامب لن يكون استثناء، وأن الشعارات التي رفعها خلال حملته الانتخابية، سواء فُهِم منها توجهات انعزالية، أو لا، سيكون لها الأثر الأقل في تشكيل سياساته. 

تأييد واسع ورفض مضبوط 

الملاحظ أنه، بالرغم من أن القرار الأميركي اتُّخذ بصورة منفردة كلية، أن الضربة التي وُجهت لقاعدة النظام السوري الجوية أثارت تأييدًا واسع النطاق. أيدت جهات المعارضة السورية المختلفة الخطوة الأميركية، وكذلك كافة الدول الأوروبية الغربية ودول الخليج العربية. رحَّب الأوروبيون بالخطوة الأميركية، ربما، لِما أوحت به من توجهات جديدة لإدارة ترامب، خاصة ما يتصل بالاستعداد للمواجهة مع الروس. أما دول الخليج العربية فلابد أنها نظرت إلى خطوة ترامب ليس فقط من جهة تعلقها بدور أميركي أكثر فعالية في الأزمة السورية، ولكن أيضًا، وبصورة أهم، من جهة توكيدها على مصداقية إعلانات ترامب السابقة على عزمه مواجهة التوسع الإيراني الإقليمي. 

العراق، بين الدول العربية المعنية بالأزمة السورية، تجنَّب تأييد الضربة للنظام السوري، نظرًا لـنفوذ إيران العميق في الدولة العراقية ودوائرها السياسية. أما مصر، التي أصدرت بيانًا غامضًا، خلا من الإدانة أو التأييد، فلابد أن يُفهَم موقفها ليس فقط من زاوية تعاطفها مع النظام السوري، ولكن أيضًا في ضوء ما انتهت إليه زيارة الرئيس السيسي لواشنطن، التي اقتصرت على عبارات الود والدعم، وخلت كلية من أي دعم أميركي جوهري لنظام السيسي واقتصاد دولته المنهك. 

تركيا، الدولة الإقليمية الأكثر اتصالًا بالأزمة السورية أظهرت تأييدًا صريحًا وقاطعًا لخطوة ترامب، وأكدت على استعدادها للتعاون معه في سوريا. ولكن أنقرة أدركت كذلك الطبيعة المحدودة للخطوة الأميركية وَدَعَتْ إلى مزيد من الإجراءات العقابية للنظام السوري، وإلى تأسيس مناطق آمنة لحماية المدنيين السوريين. 

في الجانب الآخر، ندَّدت إيران بالعملية الأميركية ووصفتها بالإرهاب. ولكن الإيرانيين، الذين يعيشون حالة من الترقب لما ستكون علية سياسة ترامب تجاههم، لم يذهبوا أبعد من ذلك. أما رد الفعل الروسي، فكان متعدد الأوجه؛ فقد فهم الروس بالتأكيد أن خطوة ترامب تمثِّل إهانة مباشرة لهم ولدورهم وموقعهم في سوريا، وبالرغم من أن عنادهم في مداولات مجلس الأمن أسهم إسهامًا مباشرًا في قرار ترامب توجيه الضربة العقابية لنظام الأسد، إلا أنهم استمروا في إنكار مسؤولية نظام الأسد عن الهجوم الكيماوي، ووصفوا الضربة الأميركية باللاقانونية، وبأنها تقدم خدمة مباشرة، حسبهم، لقوى الإرهاب في سوريا، وأنها تعمل على تقويض عملية السلام الجارية في جنيف وآستانة. وخلال ساعات من قصف مطار الشعيرات، أعلنت موسكو تعليق اتفاق سلامة الطيران فوق سوريا، الذي ينظِّم الطلعات الجوية الروسية والأميركية في الأجواء السورية، كما أعلنت عزمها تعزيز إمداداتها الدفاعية للنظام السوري. 

بيد أن ردود الفعل الروسية لا تزال محدودة وتتفادى المواجهة المفتوحة. ما لا يمكن رؤيته بوضوح الآن ما إن كانت روسيا بدأت الاستعداد لدور أميركي مختلف في سوريا، وطبيعة ما يقوله الروس بالفعل لنظام الأسد وللإيرانيين، في حال كانت موسكو، كما واشنطن، متيقنة من مسؤولية النظام السوري عن الهجمة على خان شيخون. 

تداعيات الخطوة الأميركية 

ستترك الضربة الأميركية لمطار الشعيرات أثرًا إيجابيًّا على معنويات قوى المعارضة السورية، كما على الدول العربية المناهضة لإيران ونظام الأسد. ولكن ضربة مطار الشعيرات في حدِّ ذاتها لا تمثِّل تغييرًا استراتيجيًّا في المقاربة الأميركية للأزمة السورية، أو على الأقل ليس بعد. هذه ضربة محدودة إلى حدٍّ كبير؛ والواضح أن كلًّا من وزير الدفاع وسكرتير الأمن القومي قدَّما للرئيس خيارات أكبر أثرًا، مثل قصف القصر الجمهوري في دمشق، أو تدمير عدد من القواعد الجوية السورية في وقت واحد، ولكن ترامب قرر توجيه ضربة محدودة للقاعدة التي يُعتقد أن الطائرات التي هاجمت خان شيخون أقلعت منها. بمعنى أن الرئيس الأميركي نفَّذ خطوة صغيرة على المستوى العسكري، ذات أبعاد رمزية أوسع على المستوى السياسي. 

والواضح، أن إدارة ترامب لم تطوِّر استراتيجية محددة الملامح لسياستها في سوريا ولا في الشرق الأوسط ككل. خلال أيام الجولة الخامسة الطويلة لمباحثات جنيف حول سوريا، لم يُلحَظ أن الأميركيين يسعون إلى دور نشط في تقرير مستقبل سوريا. وبالرغم من اللقاءات الأميركية-التركية المتكررة منذ يناير/كانون الثاني الماضي 2017، ليس ثمة ما يوحي بأن إدارة ترامب تعتمد سياسة سورية مختلفة بصورة ملموسة عن سياسة أوباما، لا على مستوى الموقف من نظام الأسد، ولا ما يتعلق بأولوية محاربة تنظيم الدولة والتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في هذه الحرب. وبالرغم من تصريحات ترامب حول إقامة منطقة آمنة في سوريا، فليس ثمة ما يشير إلى أن واشنطن بدأت استعدادات فعلية لـتأسيس مثل هذه المناطق. 

بيد أن هذا لا يعني استبعاد أن تكون الضربة لنظام الأسد مقدمة لتغيير ما في سياسة واشنطن السورية، سيما أن الرئيس قال بوضوح في اليوم السابق لتوجيه الضربة إن موقفه من الأسد قد تغيَّر، كما أن وزير الخارجية ريكس تيليرسون بدا في مؤتمره الصحفي، يوم 6 أبريل/نيسان، الذي أكد فيه على أن لا مستقبل للأسد في حكم سوريا، وكأنه يتراجع عن تصريحات مندوبته في الأمم المتحدة. ما يعزز من احتمال هذا التغيير أن كفة رجال الدولة الأميركية التقليدية في إدارة ترامب، مثل وزير الدفاع ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية وسكرتير مجلس الأمن القومي، بدأت ترجح على كفة مساعدي الرئيس القادمين من أقصى اليمين القومي، وأن المجموعة الأولى هي التي أحاطت بالرئيس عند اتخاذ قرار الضربة لنظام الأسد. 

أما إلى أية درجة سيحدث هذا التغيير، فليس متيقنًا بعد. ثمة مؤشرات سيعني تبلورها أن هناك توجهًا مختلفًا لواشنطن في سوريا وفي عموم منطقة الشرق الأوسط، مثل إعلان الميليشيات الشيعية الداعمة لنظام الأسد جماعات إرهابية، أو توجيه ضربة ما لمعسكرات حزب الله في سوريا، أو تعهد واشنطن دورًا أكثر فعالية وتدخلًا في مباحثات جنيف، بما في ذلك اتباع تفسير واضح لاتفاق جنيف الأول يقول بوجوب تنحي بشار الأسد كمقدمة لأية تسوية للأزمة السورية، أو انطلاق العمل لتأسيس مناطق آمنة في شمال أو جنوبي سوريا. كما لابد من الانتظار لمعرفة الكيفية التي ستواجه بها إدارة ترامب التوسع الإيراني في الجوار العربي، سيما النفوذ الإيراني الهائل في العراق، والدور الإيراني المتسع في سوريا واليمن. إلى أن تبدأ مثل هذه المؤشرات في البروز، فلا يجب المبالغة في تقدير أثر الضربة الأميركية لمطار الشعيرات على مجريات الأزمة السورية، وعلى التدافع المحتدم بين إيران وجوارها العربي.