صراع القوى الدولية والإقليمية في ليبيا ومستقبلها الجيوبولتيكي

تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ما أبرز القوى الداخلية والإقليمية والدولية التي تتصارع على ليبيا، وتبيان استراتيجيات تلك القِوى للنفاذ إلى الجغرافية الليبية، فضلًا إبراز المخاطر الجيوبولتيكية لصراع تلك القوى على ليبيا.
(الجزيرة)

المقدمة

تعدُ ظاهرة الصراع ظاهرة اجتماعية سياسية قديمة قدم الحضارات الإنسانية، فقد رافقت تلك الظاهرة شتى المجتمعات الإنسانية القديمة التي تصارعت فيما بينها للحصول على الماء والغذاء، ثُم تطور مفهوم تلك الظاهرة وأصبح الصراع للحصول على موطئ قدم في المواقع الجيوستراتيجية المؤثرة في العلاقات الدولية، ثُمَّ تطور أكثر نتيجة تطور البشرية وزيادة حاجاتها من الموارد الطبيعية، إلا أنَّ ذلك التطور رافقه تعدد أبعاد الصراع وأصبحت المناطق الجيوبولتيكية ذات القدرات الهائلة من مصادر الطاقة هدفاً جيوبولتيكياً ومحوراً أساسياً من محاور الصراع الإقليمي والدولي.

أثبت التاريخ السياسي للدولة الليبية بأنها تُمثل منطقة غايةً في الأهمية في الأراضي العربية، فقد كانت هدفاً جيوبولتيكياً للعديد من القِوى الإقليمية والدولية مثل: (تركيا، روسيا، فرنسا، إيطاليا، وغيرها)؛ نظراً لما تتمتع به من أهمية جيوستراتيجية كبيرة في فكر صُناع السياسة الخارجية للدول الطامعة والطامحة للوصول إلى الجغرافية الليبية، فهي ذات موقع مميز يطل على واجهة بحرية (البحر المتوسط) شكلت النواة الأولى لقيام كبرى الإمبراطوريات السابقة، كذلك تعدُ تلك الواجهة في وقتنا الحاضر واحدة من أهم طرق التجارة العالمية، إذ تُبحر فيه أكثر من (30%) من سفن التجارة العالمية، كذلك جواره لمنطقة الشرق الأوسط التي تُصدر أكثر من (70%) من النفط والغاز الطبيعي إلى العالم؛ لذا فإن السيطرة على ليبيا يتيح السيطرة على ذلك المنفذ المائي المهم والمؤثر في التجارة الدولية، فضلاً عن ذلك فرض موقع ليبيا بأن تكون حلقة وصل بين جناحي الوطن العربي فهي تربط المشرق العربي بالمغرب العربي، إلى جانب ذلك ربطها دول جنوب القارة الإفريقية بالبحر المتوسط، الأمر الذي يُفسر بأن تكون ليبيا ممراً مهماً للهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر والمخدرات، وغيرها من التداعيات التي رافقت التغيير الذي شهدته البلاد بعد عام (2011).

أضحت ليبيا عام (2011) واحدة من أهم مناطق الجذب الجيوبولتيكي في العالم، فقد شهدت تدخل العديد من القِوى الإقليمية والدولية على حدٍ سواء بدأً من تدخل حلف شمال الأطلسي لإسقاط النظام الليبي وصولاً إلى عام (2014) الذي شهد انقسام المؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسية في الجغرافية الليبية بين حكومتين مختلفتين واحدة في شرق ليبيا وأخرى في غربها حظيت كلٍ منها على دعم دولي وإقليمي، الأمر الذي زاد من حدة الصراع وديمومته، فتلك القِوى تدفعها أهدافاً جيوبولتيكية للتدخل لغرض الحصول على النصيب الأكبر من الثروات الليبية، علاوةً على ذلك السيطرة على موقع جيوستراتيجي مهم ومؤثر في العلاقات الدولية. كان من نتائج التغيير الذي رافق عام (2011) أنْ تصبح ليبيا ساحة صراع جيوبولتيكي، إذ شهدت تدخل مختلف القِوى الإقليمية والدولية، كذلك وفر الصراع الليبي مناخاً ملائماً لتنامي النفوذ الجغرافي للجماعات الأصولية المتطرفة والإرهاب العابر للحدود لتهديد الأمن القومي الليبي والدول المجاورة، فضلاً عن أنَّ ليبيا أصبحت واحدة من أكبر الدول التي تمر من خلالها الهجرة غير الشرعية إلى أوربا، كذلك شهدت ليبيا صراعاً داخلياً نتج عنه تنامي الطائفية المناطقية والجهوية والصراع القبلي والعرقي، فضلاً عن تنامي ظاهرة النزوح القسري وانهيار المنظومة الأمنية بالكامل، وتعدد مراكز القرار السياسي وتنوع الجهاز الأمني.

كانت ليبيا ولا زالت منطقة جيوبولتيكية مهمة من مناطق الصراع بين مختلف القِوى الإقليمية والدولية للسيطرة عليها؛ نظراً لمكانتها الجيوستراتيجية المهمة في الخطط الاستراتيجية لصُناع السياسية الخارجية للدول. لذلك تمحورت الإشكالية الأساسية لهذه الدراسة على التساؤل الآتي: ما هي أبرز القوى الداخلية والإقليمية والدولية التي تتصارع على ليبيا، وما استراتيجيات تلك القِوى للنفاذ إلى الجغرافية الليبية، فضلاً عن المخاطر الجيوبولتيكية لتلك القوى على ليبيا؟، لتأتي فرضية الدراسة للتأكيد على أنَّ هناك العديد من القوى الداخلية والاقليمية والدولية التي تتصارع على الجغرافية الليبية، إذ استخدمت تلك القِوى العديد من الاستراتيجيات للنفاذ إلى الجغرافية الليبية، الأمر الذي سيكون له تداعيات جيوبولتيكية على ليبيا مستقبلاً.

أما أهمية الدراسة فتأتي من الأهمية الجيوبولتيكية للجغرافية الليبية في الإدراك الجيوستراتيجي للقِوى الدولية والإقليمية، إلى جانب ذلك قلة الدراسات الجغرافية السياسية والجيوبولتيكية التي تناولت جغرافية ليبيا والصراع عليها قديماً وحديثاً، وكذلك تأتي أهمية الدراسة إلى جانب الدراسات السابقة لتعزيز الدراسات الجغرافية السياسية والجيوبولتيكية عن ليبيا وأهميتها في خريطة الصراع.

الخاتمة

قدمت فصول الدراسة تحليلا جغرافيا سياسيا لصراع القِوى الدولية والإقليمية في ليبيا ومستقبلها الجيوبولتيكي في ضوء ما تمر به من تغيرات بدأت منذ عام (2011) دفعت العديد من القِوى الخارجية للتدخل في الصراع الليبي طمعاً بتحقيق أهداف جيوبولتيكية مختلفة. وتطلب ذلك تحديد مفهوم الصراع ومستوياته وأبعاده.

ولإثبات صحة الفرضيات قدمت الدراسة أيضاً تحليلاً جغرافياً سياسياً لعناصر القوة الطبيعية والبشرية والاقتصادية للدولة الليبية ثم توضيح مكامن القوة والضعف لتلك العناصر ومدى مساهمتها في الصراع على ليبيا، فضلاً عن دراسة التاريخ السياسي للدولة الليبية عبر مراحل نشوئها المختلفة؛ إذ تتطلب دراسة الواقع الحالي العودة إلى دراسة الماضي لتقديم سيناريوهات للمستقبل وفق المتغيرات الجيوسترايجية السابقة والحالية، علاوةً على ذلك انصرفت الدراسة إلى توضيح الواقع الجيوسياسي المعاصر للدولة الليبية ومناقشة الأسباب التي أدت إلى قيام ثورة فبراير عام (2011)، وما نتج عنها من تداعيات جيوستراتيجية على المستويين الداخلي والخارجي، ثُمَّ تقديم أبرز القِوى الفاعلة في المشهد الليبي محلياً وإقليمياً ودولياً ومدى مساهمها في استمرارية الصراع الليبي القائم منذ أكثر من عقدٍ من الزمن. وتوصلت الدراسة إلى أنَّ هناك أكثر من سيناريو واحد لمستقبل الدولة الليبية في ضوء المعطيات التي قدمتها الدراسة على الرغم من أن المعطيات قيد التفاعل والاختبار.

امتلكت ليبيا موقعاً استراتيجياً كان له دور كبير وأثر واضح في الصراع الجيوسياسي الدولي والإقليمي للسيطرة على هذا الموقع الحيوي الغني بثرواته الطبيعية والمتمثلة بالنفط والغاز الطبيعي اللذان أعطيا قيمة استراتيجية اقتصادية سوّقية على مستوى السوق العالمي، وكذلك أعطى الموقع الاستراتيجي لليبيا مكانة سياسية مهمة في جيوبولتيك الصراع بين القوى الإقليمية والدولية في خضم الصراع العالمي، وأعطاها أيضاً مكانة عسكرية تُهدد أهداف استراتيجية للدول المواجهة لها، لذا سعت الولايات المتحدة الأوروبية ودول حلف شمال الأطلسي (NATO) إلى إبعاد النفوذ الروسي عن ليبيا خوفا من تهديد قواعد الحلف المنتشرة في جنوب أوروبا، وكذلك توفر السيطرة على هذا الموقع الاستراتيجي تهديد القواعد الفرنسية والأميركية المنتشرة في غير مكان بالقارة الأفريقية.

على المستوى الداخلي شهدت ليبيا بعد ثورة فبراير عام (2011) بروز العديد من التنظيمات والقوى الرسمية وغير الرسمية ذات الايديولوجيات المختلفة، فقد لعبت هذه القِوى في بداية الثورة دورا كبيرا في إسقاط النظام السابق، إذ شاركت بقوة لدعم الثورة، لكنها أصبحت بعد إسقاط النظام عنصرا أساسيا في ديمومة الصراع؛ كونها زادت من قوتها وتسليحها، سواء عن طريق أطراف خارجية، أو من معسكرات الجيش الليبي داخلياً، وسيطرة عدد منها على المناطق الغنية بالثروات الطبيعية بين الحين والآخر.

أما على المستوى الاقليمي والدولي فقد أضحت الجغرافية الليبية بعد عام (2011) مسرحا كبيرا وأرضا خصبة لتدخل العديد من القِوى الإقليمية والدولية التي تدفعها أهداف تسعى إلى تحقيقها عبر استراتيجيات سياستها الخارجية؛ نظرا لأهمية ليبيا اقتصاديا وجيوبولتيكيا. فالثورة الليبية تميزت عن بقية الثورات العربية بتعدد مختلف القِوى الداخلية والإقليمية والدولية التي شاركت في الصراع الليبي منذُ بدايته، لذا بدت للدراسة أنَّ أي مبادرة لتسوية الصراع بين أطرافه تكون نتيجتها الفشل؛ ويعود السبب في ذلك إلى اختراق القِوى الخارجية (الإقليمية والدولية) لأطراف الصراع الليبي، إذ تسعى تلك القِوى إلى الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية في الجغرافية الليبية عبر أدواتها الداخلية.

يتصارع في الجغرافية الليبية محوران إقليميان، هما: المحور (التركي - القطري)، والمحور (المصري - السعودي - الإماراتي)، وإن لكلا المحورين أهداف وأدوات تستخدمهما في الصراع الليبي عن طريق دعم أحد طرفي الصراع بعد عام (2014). تشهد ليبيا صراعا جيوبولتيكيا للسيطرة على مناطق الجذب والفراغ الجيوبولتيكي التي شكلت عبر التأريخ منطقة ذات أهمية جيوستراتيجية لدى صناع القرار في القوى الدولية، لما تتمتع به من عوامل جذب جيوستراتيجي تتمثل في موقعها الجغرافي وإطلالته على البحر المتوسط، علاوةً على أهميتها في ربط جناحي الوطن العربي (المشرق والمغرب العربي)، وربطها منطقة إفريقيا جنوب الصحراء بالبحر المتوسط، وموقعها البحري الذي جعلها بوابة للقوى الكبرى للوصول إلى الثروات الإفريقية جنوب الصحراء، وكذلك الموارد الطاقوية التي جعلت ليبيا هدفا أساسيا من أهداف صناع القرار في القوى الدولية، إذ تجلى ذلك الاهتمام منذ القدم. فليبيا كانت هدفا للإمبراطوريات القديمة مثل: الفراعنة والفينيقيين مرورا بالخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وصولا إلى الاستعمار الإيطالي، وتقسيم النفوذ بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وإنهاء الاستعمار الإيطالي، ولم ينتهِ الأمر بعد جلاء القوات الأجنبية بعد عام (1969) إذ عادت تلك القوى بثقلها إلى المشهد الليبي بعد عام (2011).

شهدت ليبيا صراع العديد من القوى الدولية لضمان السيطرة والنفوذ، ومن أبرز تلك القوى: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، إلى جانب كلٍ من فرنسا وإيطاليا، إذ تدفع تلك القوى محركات جيوبولتيكية تستهدف الجغرافية الليبية طمعا بالحصول على مكاسب سياسية واقتصادية تنبعُ من الأهمية الجيوستراتيجية للدولة الليبية في الفكر السياسي الخارجي لتلك القوى.

نظرا لأن الجيوبولتيك يُمثل عملية ديناميكية حركية مستقبلية لما سيؤول إليه مستقبل دولة الصراع والدول المتصارعة عليها كان لا بد أنْ تقدم الدراسة استشرافا لمستقبل الدولة الليبية في ضل الصراع الدولي والإقليمي والمحلي للسيطرة والنفوذ على الجغرافية الليبية وفق استخدام أسلوب السيناريوهات التي جاءت على ثلاثة مشاهد، الأول منها: هو سيناريو بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه والذي يعدُ الأقرب وفق معطيات المشهد السياسي الليبي، أما السيناريو الثاني فهو الاستقرار النسبي الذي لم تنعم به ليبيا منذ عام (2011) إلا خلال مرحلتين الأولى خلال الفترة (2012 – 2014)، والثانية بعد اتفاق وقف النار بين حكومتي شرق ليبيا وغربها عام (2020)، إلا أنَّ الاستقرار النسبي لا يعني بأنَّ هناك توقف للصراع بصورةٍ نهائية فتلك الفترات تتخللها في بعض الأحيان صراعات محدودة بين القِوى الداخلية مثلما حدث في طرابلس عام (2022). لكنَّ هذا السيناريو قد يؤدي إلى احتمالية وجود توافق سياسي مستقبلي بين الأطراف المتصارعة على الجغرافية الليبية في حال توقف الصراع الداخلي، إلا أنَّ ذلك التوافق وحسب المعطيات المتوفرة بعيد المنال في وقتنا الحاضر نظرا لرغبة كل جهة سياسية إقصاء الجهة السياسية الأخرى. ليأتي بعد ذلك السيناريو الأسوأ وهو تقسيم الدولة الليبية وأقلمتهما، خاصةً وأنَّ هذا السيناريو له أبعاد تاريخية، إذ تشير الجغرافية التاريخية بأن ليبيا خلال الفترة (1951 – 1963) كانت مقسمة إداريا إلى أقاليم ثلاثة (طرابلس، برقة، فزَّان)، ليعود الجدل حول هذا السيناريو في وقتنا الحاضر لإعادة هيكلة ورسم الخريطة الجيوسياسية لليبيا؛ نتيجة الصراع الداخلي الجهوي، وكذلك الشعور الذي لازم مدن شرق ليبيا منذ عهد النظام السابق بالحرمان وعدم المساواة في توزيع الثروات والخطط التنموية بين شرق ليبيا وغربها.

يدرك الشعب الليبي المخاطر الجيوبولتيكية لأهداف تلك القوى الخارجية وما تسعى إليه في رغبتها من تقسيم الجغرافية الليبية وفق خطط موضوعة ومعدة مسبقا لضمان السيطرة والنفوذ على المكامن والثروات الجيوستراتيجية التي تتمتع بها ليبيا، إلا أنَّ تلك المخططات دائما ما تلاقي فشلا ذريعا، نظرا للوسائل التي ينتهجها الشعب الليبي في مقاومة المخططات الخارجية رغبةً منه في الحفاظ على وحدة ليبيا وتماسكها في وجه الهجمة الشرسة التي تواجهها منذ عام (2011).