نكسة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي: الأسباب المحلية والتداعيات السياسية

تحاول هذه الورقة قراءة أسباب تراجع الدعم الوطني لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي وتداعياته في سياسة جنوب إفريقيا الخارجية ومواقف البلاد في القضايا العالمية، مثل أزمة روسيا-أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة.
رامافوزا متحدثًا إلى البرلمان الجنوب أفريقي بعد إعلان فوزه في الانتخابات (الفرنسية)

في يوم 29 مايو/أيار من عام 2024، أجرت جنوب إفريقيا سابع انتخاباتها العامة منذ نهاية حقبة الفصل العنصري في عام 1994، وذلك لانتخاب جمعية وطنية جديدة ومجلس تشريعي إقليمي في كل مقاطعة من المقاطعات التسع. وأظهرت النتائج أن "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم فقد أغلبيته البرلمانية الوطنية والكثير من الأغلبية التي كان يتمتع بها منذ انتخابات عام 1994 التي أوصلت الرئيس السابق "نيلسون مانديلا" إلى السلطة. وبهذا التطور تنتقل جنوب إفريقيا إلى مرحلة حرجة لكون البلاد تتبنى نظام حكمٍ يُعطِي البرلمان مهمة انتخاب رئيس البلاد بعد 14 يومًا من إعلان نتائج الانتخابات.

وفي حين أن "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"، الذي قادت جنوب إفريقيا لأكثر من 30 عامًا، لا يزال الحزب الأكبر من حيث النسبة المحققة في هذه الانتخابات، فقد اعترف "سيريل رامافوسا" رئيس جنوب إفريقيا بالنكسة وأعلن أن الحزب سيشكِّل حكومة وحدة وطنية بالتحالف مع أحزاب المعارضة ذات الأيديولوجيات المختلفة. وعليه، يتناول هذا المقال أسباب تراجع الدعم الوطني لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" وتداعياتها في سياسة جنوب إفريقيا الخارجية ومواقف البلاد في القضايا العالمية، مثل أزمة روسيا-أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة.

الأسباب والعوامل المحلية

توقعت جل التقارير قُبيل الانتخابات صعوبة تحقيق "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" الأغلبية التي يحتاجها في البرلمان(1)، وذلك بسبب أداء الحزب في انتخابات عامي 2019 و2021؛ إذ النتائج النهائية للانتخابات الأخيرة (في مايو/أيار 2024) التي أصدرتها اللجنة الانتخابية المستقلة بجنوب إفريقيا يوم الأحد كشفت عن حصول الحزب على 40.18% فقط(2) -وهو انخفاض كبير عن نسبة 57.5% التي حققها في انتخابات عام 2019.- وفي الانتخابات البلدية التي أجريت في عام 2021 حصل الحزب على أقل من 50% من إجمالي الأصوات للمرة الأولى منذ نهاية الفصل العنصري، وخسر أيضًا الدعم المحلي في المدن الرئيسية في بريتوريا (ببلدية تشواني) وجوهانسبرج وإكورهوليني وديربان (ببلدية إيثيكويني)(3).

وتمثِّل نتائج انتخابات مايو/أيار 2024 الأخيرة تحذيرًا من الناخبين لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"، واحتجاجا على إخفاقه في معالجة القضايا الوطنية وتجاهله للعوامل التي حددت اتجاهات الناخبين، والتي يمكن تلخيصها في التالي:

أ- عوامل اقتصادية: تعد جنوب إفريقيا من الدول الأكثر تقدمًا في قارة إفريقيا ولكنها أيضًا واحدة من أكثر الدول التي تعاني من عدم المساواة عالميًّا. ويمر اقتصاد البلاد بأزمات متعددة فاقمتها جائحة كوفيد-19، كما ترتفع معدلات البطالة وتبلغ 32% وفق تقرير رسمي(4)، وتتأثر الأنشطة الاقتصادية والتجارية بالملفات التي تشمل نقص طاقة الكهرباء وحدوث الفيضانات وصعوبات قطاع النقل مع بيئة اقتصادية عالية التكلفة. ويتسم اقتصاد البلاد أيضًا بنمو سلبي لنصيب الفرد، وتتزايد الشكاوى من عدم المساواة والفقر المتزايد الذي يؤثر بشكل غير متناسب على المواطنين السود، رغم تشكيلهم 80% من سكان البلاد البالغ عددهم 61 مليون شخص، ورغم كونهم لسنوات جوهر دعم "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي". هذا، إلى جانب الديون التي تثقل الحكومة، بينما يعيش حوالي 42% من السكان على المنح، مع ارتفاع معدل الجرائم العنيفة(5).

وفي ظل تراجع دعم السود لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"؛ ظهر عشرات الملايين من الشباب المعروفين بـ"جيل المولودين أحرارًا"، وهم الذين وُلدوا بعد انتهاء الفصل العنصري في عام 1994، الذين لم يشهدوا جهود "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" وغيره من حركات التحرير في إسقاط نظام الفصل العنصري، وبالتالي لا يشعرون بالتزام أو ولاء سياسي لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"، وهو ما يجعلهم يقيِّمون أداءه بمنظار اقتصادي وتنموي(6). وقد استغلت جل الأحزاب المعارضة بجنوب إفريقيا توجهات هذا الجيل الجديد لصالحها؛ حيث ضمت أجنداتها إبان الحملات الانتخابية الأخيرة سياسات اقتصادية هدفت إلى جذب الشباب. ويكفي مثالًا على هذا دعوة كل من حزب "مخونتو وي سيزوي" (أو رمح الأمة uMkhonto weSizwe)(7) وحزب "المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية" (Economic Freedom Fighters = EFF)(8) إلى تأميم أجزاء من الاقتصاد، بينما حزب "التحالف الديمقراطي" (Democratic Alliance = DA) قدم بيانات صديقة لرجال الأعمال والتجار المحليين وللمستثمرين الغربيين(9).

ب- الاستياء العام من الفساد الإداري وفشل الخدمات الاجتماعية: عززت العوامل الاقتصادية تصاعد الغضب الشعبي ضد حكومة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" الذي يواجه أعضاؤه المسؤولون في الحكومة سلسلة اتهامات الفساد والمحسوبية وإثراءهم جيوبهم في ظل تردِّي الخدمات الحكومية الأساسية التي تؤثر على ملايين السكان، مثل انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة(10). ولذلك يمكن تتبع المسار الهبوطي لدعم الحزب إلى بداية انتشار مزاعم الفساد ضد قادة الحزب وشكاوى ضعف الخدمات الأساسية، وتحديدًا منذ عام 2015 حيث أخفق قادة الحزب في التعامل الحاسم مع آراء المواطنين المطالبين باتخاذ إجراءات قانونية ضد أشخاص معينين منتمين إلى الحزب. ومما يلاحظ أن أكبر تراجع لدعم "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" بدأ في عام 2021 في البلديات والمدن الكبيرة التي أبدى سكانها مرارًا استياءهم من النقص الحاد في المياه، مثل مناطق ديربرن في كوازولو ناتال والتي لم تصلها مياه الصنبور منذ 10 أشهر ويعتمد سكانها على صهاريج المياه التي تغيب أحيانًا عن توصيل المياه في الوقت المحدد(11). وهذا الاستياء والغضب اتضح أثناء انتخابات مايو/أيار الأخيرة؛ حيث أصرَّ الناخبون على الإدلاء بأصواتهم مصطفِّين رغم الشتاء القارص من يوم الانتخابات حتى الساعة الثالثة صباحًا من اليوم التالي(12).

ج- أحزاب المعارضة الرئيسية كبديل: تنافس أكثر من 50 حزبًا سياسيًّا في انتخابات جنوب إفريقيا الأخيرة، وبالرغم من أن الكثير منها فاز بأسهم ضئيلة فقط، إلا أن معظم سياسات هذه الأحزاب المعارضة تتناسب مع شكاوى السكان، كما أن أجنداتها تتفق في ضرورة تغيير الاتجاه الذي تسير فيه البلاد. وقد تمكنت ثلاثة أحزاب رئيسية معارضة من تقديم منصاتها بديلًا لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي". وهذه الأحزاب هي: حزب "التحالف الديمقراطي" بزعامة "جون ستينهاوزن" والذي يرى أن السبيل الوحيد لإنقاذ جنوب إفريقيا "هو كسر أغلبية "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"(13)؛ وحزب "مخونتو وي سيزوي" بزعامة "جاكوب زوما" والذي ادَّعى وقوع مخالفات في الانتخابات وتزوير لنتائجها(14)؛ وحزب "المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية" بزعامة "جوليوس ماليما" الذي أشاد بنتيجة الانتخابات ونهاية هيمنة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" على العملية السياسية في البلاد.  

وقد ركَّز حزب "التحالف الديمقراطي" (المتهم بتغليب مصالح البيض على السود بجنوب إفريقيا)، في بيانه الانتخابي لعام 2024، على ضرورة توسيع آفاق النمو الاقتصادي في جنوب إفريقيا وقدرة البلاد على خلق فرص العمل، واتهم "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" بالفشل في إدارة مرافق البلاد وتحسين الخدمات اللازمة بما في ذلك توفير طاقة الكهرباء والمياه وتنشيط الموانئ، وحمَّله مسؤولية تآكل مؤسسات الدولة نتيجة المحسوبية والفساد والإجرام وتفاقم أزمة النظام التعليمي التي تعزز الأمية بين الأطفال(15). وهذه النقاط تتفق مع مظالم سكان المدن والمستثمرين وشكاوى سكان الأحياء الثرية، وخاصة البيض.   

وفي حالة حزب "المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية"؛ فقد أشار في بيانه الانتخابي لعام 2024 إلى ضرورة تحقيق الحوكمة الرشيدة والتي أخفق فيها "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم، وتمحورت برامجه على استعادة الأراضي وتوفير فرص العمل ومعالجة أزمة الكهرباء(16). وهذه القضايا حاسمة بالنسبة لمعظم سكان جنوب إفريقيا، وخاصة السود والشباب. أما برامج حزب "مخونتو وي سيزوي"؛ فهي تجمع بين رغبات السود بجنوب إفريقيا بشكل عام والشباب بشكل خاص، وبين مطالب سكان الأرياف والزعماء التقليديين والإثنيات المختلفة التي تدعو إلى دمج القيادة التقليدية في النظام البرلماني للبلاد. وركَّز الحزب أيضًا سياساته على حل قضايا عدم المساواة الاقتصادية وعدم كفاية الوصول إلى التعليم الجيد والرعاية الصحية الجيدة، وضرورة معالجة تهديدات الأمن القومي والتوزيع غير العادل للأراضي مع تعزيز السياسات الخارجية التي تعكس قيم البلاد وتطلعاتها(17).

د- عامل "جاكوب زوما": يُعَدُّ "جاكوب زوما"، الرئيس السابق الذي استقال من منصبه في عام 2018 وسط سحابة من اتهامات الفساد، أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض حصة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" وتقلص دعمه في انتخابات 2024 الأخيرة(18)؛ إذ شهدت جنوب إفريقيا قُبَيل الانتخابات معركة سياسية شرسة بين "زوما" و"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" من جانب، وبين "زوما" و"سيريل رامافوسا"، نائبه السابق والرئيس الحالي من جانب آخر. وبلغت المعركة ذروتها في 7 يوليو/تموز 2021 بعد اعتقال "زوما" وسجنه لرفضه الظهور أمام "اللجنة القضائية للتحقيق في مزاعم الاستيلاء على أموال الدولة والفساد والاحتيال في القطاع العام بما في ذلك أجهزة الدولة" (المعروفة أيضًا بـ"لجنة زوندو")، وتحدَّى "زوما" أمر المحكمة الدستورية بمثوله أمام اللجنة، فحُكم عليه بالسجن لمدة 15 شهرًا. وفي يوم 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، أطلق "زوما" حزب "مخونتو وي سيزوي" في سويتو(19)، المدينة التي شهدت انتفاضة عام 1976 لأطفال المدارس السود إبان نظام الفصل العنصري.

وعلى الرغم من أن "جاكوب زوما" كان من بين أولئك الذين أضرُّوا بسمعة "المؤتمر الوطني الإفريقي" وجلبوا للحزب انتقادات واسعة خلال رئاسته من عام 2009 إلى عام 2018، إلا أنه تمكَّن من كسب الدعم المحلي لحزبه الجديد، "مخونتو وي سيزوي"، من خلال الإدلاء بتصريحات منتقدة لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي". فعلى سبيل المثال: ادعى "زوما"، عندما أعلن عن تشكيل حزبه الجديد، أن حزبه السابق "المؤتمر الوطني الإفريقي" قد جلب الكثير من المعاناة لمواطني جنوب إفريقيا السود، وأدلى بتصريحات تحريضية كما تبنَّى حزبه "مخونتو وي سيزوي" مواقف شعبوية، مثل طلب استبدال سيادة برلمانية غير مقيدة بسيادة دستور جنوب إفريقيا

وفي حين أن حزب "مخونتو وي سيزوي" تأسس قبل خمسة أشهر فقط من انتخابات 2024، إلا أن إستراتيجيات "جاكوب زوما" أثبتت فعاليتها حيث حصل حزبه على ما يقرب من 15٪ من الأصوات الوطنية واجتذب المؤيدين التقليديين المستائين من "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"، مما أدى إلى تقليص أغلبية "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" إلى 40.2٪، ليحل حزب "مخونتو وي سيزوي" محل حزب "المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية" كثالث أكبر حزب سياسي في جنوب إفريقيا (أي بعد حزب "التحالف الديمقراطي" الذي يحتل المركز الثاني). وعلى مستوى مقاطعات جنوب إفريقيا؛ أثبتت كوازولو ناتال ومبومالانغا أنهما أقوى قواعد دعم حزب "مخونتو وي سيزوي"؛ إذ شهدت مقاطعة كوازولو ناتال، موطن "جاكوب زوما"، تقدم الحزب بنسبة 45.32% من الأصوات ليصبح حزبًا رئيسيًّا هناك، في حين تراجع "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" إلى المركز الثالث بنسبة 17% فقط من أصوات المقاطعة. وفي مقاطعة مبومالانغا تسبب "مخونتو وي سيزوي"، الذي حصل على 17.1% من الأصوات ليصبح ثاني أكبر حزب في المقاطعة، في انخفاض حصة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" من الأصوات إلى 51%(20).

حكومة وحدة وطنية وتداعياتها على السياسة الخارجية

إن تراجع هيمنة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" في الانتخابات الأخيرة إلى أقل من 50.1% من الأصوات اللازمة لتشكيل الحكومة يعني أنه مجبر على البحث عن شركاء لتشكيل الحكومة. وهذا التطور سيؤثر على سياسة جنوب إفريقيا الخارجية لسببين: الأول: أن مواقف البلاد بشأن المسائل الجيوسياسية العالمية معروفة وواضحة نتيجة هيمنة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" وإدارته على حكم البلاد؛ والثاني: أن سياسة جنوب إفريقيا الخارجية محل نقاش كبير قُبَيل الانتخابات، مما يدل على أن سياسات البلاد الخارجية ستكون إحدى قضايا التفاوض بين "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وشركائه الآخرين من الأحزاب السياسية في البلاد".

ويأتي التطور أيضًا في الوقت الذي كانت فيه جنوب إفريقيا جزءًا رئيسيًّا في الشؤون العالمية، مثل كونها صوتًا لإفريقيا والجنوب العالمي الأوسع منذ أزمة كوفيد-19 عندما تحدثت ضد ما أسمتْه "أبارتايد اللقاحات" أو "الفصل العنصري في مجال اللقاحات". ودخلت البلاد في توترات مع الغرب بسبب الأزمة الروسية-الأوكرانية، إلى جانب كونها لاعبًا رئيسيًّا في إعادة تنظيم القوى العالمية بموجب عضويتها في مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ولا تزال بريتوريا عنصرًا بارزًا في الدفاع عن حق الفلسطينيين ومقاومة الحرب الإسرائيلية على غزة ورفع قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وقد صرَّح الرئيس "سيريل رامافوسا"، بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، بأن حزبه "المؤتمر الوطني الإفريقي" سيشكِّل حكومة وحدة وطنية مع أحزاب المعارضة الرئيسية(21)؛ مما يوحي بأن الحزب يحاول تفادي الاعتماد بشكل أساسي على حزب واحد منافس لما لذلك من تحديات لبرامج "المؤتمر الوطني الإفريقي" ومستقبله. وبما أن الحزبين -"مخونتو وي سيزوي"، الذي يحتل المركز الثالث على المستوى الوطني، و"المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية"، الذي يحتل المركز الثالث على المستوى الوطني- قد رفضا الانضمام إلى حكومة الوحدة الوطنية؛ فإن الخيار المتاح أمام "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" أن يتحالف مع حزب "التحالف الديمقراطي" والحزبين الأصغرين -"حزب إنكاثا الحرية" (Inkatha Freedom Party) و"التحالف الوطني" (Patriotic Alliance)-(22).  

وباعتبار أن حكومة الوحدة الوطنية تتكون من "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" وحزب "التحالف الديمقراطي" و"حزب إنكاثا الحرية" و"التحالف الوطني"؛ يُتوقَّع من هذه الحكومة الجديدة الاعتدال في سياستها الخارجية، وذلك لتحقيق التوازن بين أيديولوجيات الأحزاب السياسية التي تتشكّل منها. وقد تؤدي طبيعة الحكومة أيضًا إلى ظهور جهود حثيثة لإصلاح علاقات جنوب إفريقيا مع الغرب بالنظر إلى أن حزب "التحالف الديمقراطي" يُعد حليفًا للغرب والاستثمارات الأوروبية وممثلًا لمحور "حلف شمال الأطلسي" )الناتو(، وهو ما قد يوفر للحكومة الجديدة دفعة محتملة للاستثمارات الأوروبية وتعزيزًا للشراكة الاقتصادية الغربية التي تضاءلت مؤخرًا بسبب مواقف البلاد في الشؤون العالمية والتي يراها الغرب متعارضة مع مصالحه.

على أن هناك خلافات فلسفية صارخة بين حكومات "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" وحزب "التحالف الديمقراطي"، وخاصة فيما يتعلق بوظيفة الحكومة وطرق حل القضايا الاجتماعية والاقتصادية. فحزب "التحالف الديمقراطي"، على سبيل المثال، يعارض برنامجين من أهم مبادرات "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"، وهما: "مشروع قانون التأمين الصحي الوطني" الذي يهدف إلى توفير الرعاية الصحية الشاملة للجميع؛ وتدابير تمكين السود بجنوب إفريقيا لمنحهم فرصًا اقتصادية وتقليل الآثار الناتجة عن عهد الفصل العنصري. كما أن حزب "التحالف الديمقراطي" متهم بتغليب مصالح السكان البيض في جنوب إفريقيا ومناهض لروسيا، بينما تصرفات أعضائه وقيادته توحي بانحيازه لإسرائيل. وهذا يؤشر على احتمال حدوث تغيير في موقف جنوب إفريقيا تجاه إسرائيل أو على الأقل انخفاض حدة الانتقادات والتساهل في الإجراءات الدولية الحاسمة لصالح الفلسطينيين.

وهناك قضية أخرى مرتبطة بالتعامل مع الصين والاعتراف بتايوان؛ حيث إن سلوك حزب "التحالف الديمقراطي" يميل إلى رفض مطالبة الصين بالسيادة على تايوان، بينما حكومات "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" تقبل مطالبة الصين بالسيادة على الجزيرة. وفيما يتعلق بعلاقة جنوب إفريقيا بروسيا، فإن "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" يؤيد روسيا في سياسته الخارجية، بينما حزب "التحالف الديمقراطي" يؤيد أوكرانيا ويناهض روسيا؛ حيث انتقد الحزب حكومة جنوب إفريقيا خلال التوترات بين بريتوريا وواشنطن نتيجة ملفات استضافة السفن الروسية والمساعدة في نقل الأسلحة. بل زار "جون ستينهاوزن"، زعيم الحزب، أوكرانيا وأعرب عن تضامنه مع كييف. وقد أبدى "التحالف الديمقراطي" أيضًا عدم رضاه عن مجموعة البريكس؛ حيث في أغسطس/آب 2023، بعد مؤتمر البريكس في جنوب إفريقيا، عارض بعض أعضاء الحزب المجموعة ووصفوها بـ"تحالف غير مقدس على نحو متزايد" وإهدار للمال(23).

وقد تشهد السنوات القادمة في جنوب إفريقيا سياسات شعبوية مناهضة للتكامل الإفريقي، وذلك بالنظر إلى أن "حزب إنكاثا للحرية" وحزب "التحالف الوطني" المنضمين إلى حكومة الوحدة الوطنية معاديان للمهاجرين الأفارقة. بل الحزب الأول، أي "حزب إنكاثا للحرية"، منذ إنشائه في سنوات الفصل العنصري يُعتبر منظمة محافظة ومؤيدة للغرب، بينما الحزب الثاني، أي "التحالف الوطني"، شعبوي ومؤيد لإسرائيل بدعوى المسيحية الإنجيلية. وهذ يعني أن إصرار "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" على مواصلة سياساته الخارجية ومواقفه المعتادة قد يُقابل بالرفض من قبل أعضاء الحكومة الجديدة من الأحزاب السياسية الباقية المشكِّلة للحكومة والمعترضة على تلك السياسات، وقد تشهد حكومة الوحدة الوطنية أيضًا سلسلة استقالات من الرافضين لتلك المواقف أو السياسات الخارجية.

وتجدر الإشارة إلى أن تراجع "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" عن سياساته الحالية أو تبني مواقف مختلفة لإرضاء أطراف الحكومة الجديدة قد تؤجج احتجاجات ومعارضة من حزب مثل حزب "مخونتو وي سيزوي" و"المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية" اللذين تتشابه مواقفهما مع مواقف حكومة "المؤتمر الوطني الإفريقي" لكون النسبة الكبرى من السياسة الخارجية الحالية لـ"المؤتمر الوطني الإفريقي" (بما في ذلك الانضمام إلى البريكس) تعود إلى فترة حكم "جاكوب زوما"، مؤسس "مخونتو وي سيزوي" رئيسًا لجنوب إفريقيا.

ويرجح ما سبق حقيقة أن حزب "مخونتو وي سيزوي" تصوَّر في بيانه الانتخابي الأخير حكومةً تدعم العدالة والاحترام لجميع الأطراف في العلاقات الدولية مع التأكد من أن السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا تمثل مصالح البلاد وقيمها، مؤكدًا دعمه لحركات المقاومة بفلسطين والتضامن مع الدول  التي كانت ترفع شعارات الوقوف ضد قوى الإمبريالية الغربية مثل كوبا وروسيا، وداعيًا إلى استعادة سيادة جنوب إفريقيا عبر مراجعة المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بما في ذلك عضوية جنوب إفريقيا في المحكمة الجنائية الدولية، بل وحثَّ "مخونتو وي سيزوي" جنوب إفريقيا على التعاون مع دول البريكس للبحث عن بدائل للعُملات وطرق التسوية العالمية، مشيرًا إلى ضرورة الإنهاء الكامل لاعتماد البلاد على الغرب للحصول على المساعدة الأجنبية(24). أما حزب "المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية"؛ فقد دعا في بيانه الانتخابي إلى تعزيز التكامل القاري الإفريقي، بما في ذلك حرية تنقل الأفارقة، كما أكد تأييده لروسيا ودعمه للفلسطينيين وتسليح "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) ضد الاعتداءات الإسرائيلية(25).

خاتمة

إن الانخفاض الكبير في دعم الناخبين لـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" بمنزلة تقييم لأدائه الضعيف في قيادة جنوب إفريقيا وتلبية الحاجات الوطنية الملحَّة، وتخلق النتيجة النهائية وضعًا صعبًا للرئيس "سيريل رامافوسا" الذي يسعى وراء فترة ولاية ثانية في ظل ضعف الرضا العام عن حكمه وبرامجه. ويتضح مما سبق أن الطريق أمام "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" لتشكيل الحكومة غير سهل، وأن تحالفه مع الأحزاب السياسية الأخرى سيؤثر على سياسته الخارجية؛ إذ التعاون مع "التحالف الديمقراطي" و"حزب إنكاثا الحرية" و"التحالف الوطني" سيعني ميل الحكومة الجديدة نحو الغرب وتبني مواقف أكثر تساهلًا فيما يتعلق بإسرائيل وأكثر حيادية فيما يتعلق بروسيا.

وبالرغم من أنه يُتَوقَّع أن تتولى جنوب إفريقيا رئاسة مجموعة العشرين في عام 2025، إلا أن شراكة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" مع الأحزاب السياسية الأخرى ذات الأيديولوجية المختلفة تدفع إلى حالة من عدم اليقين في مواقف جنوب إفريقيا تجاه القضايا العالمية، وخاصة إذا ما اعتبرنا أن السياسة الخارجية بجنوب إفريقيا لم تعد من صنع وزارة العلاقات الدولية والتعاون وحدها؛ حيث يوجد في كل دائرة حكومية تقريبًا مكتب للشؤون الخارجية، وعدم المركزية في السياسة الخارجية قد يعزز الخلاف بين الأحزاب المشكِّلة لحكومة الوحدة الوطنية حتى وإن احتفظ "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" بالوزارة لنفسه.

ABOUT THE AUTHOR

References

1- Olivia Kumwenda-mtambo. “South Africa's ANC likely to lose parliamentary majority in May vote، survey shows.” Reuters، March 11، 2024، https://shorturl.at/f1Iux (visited on 12 June 2024)

2- IEC South Africa. “2024 National and Provincial Elections”. https://shorturl.at/o2qO0 (visited on 12 June 2024)

3- Kate Bartlett. “South Africa's ANC loses its 30-year majority in landmark election.” VOA، June 01، 2024، https://shorturl.at/cQpoB (visited on 12 June 2024)

4- “Unemployment in South Africa: A Youth Perspective”. Statistics South Africa، May 17، 2024، https://shorturl.at/gKdwZ (visited on 12 June 2024)

5- Ntando Thukwana. “Power Cuts، Debt Pose Biggest Risks to South Africa’s Economic Outlook.” Bloomberg، February 12، 2024، https://shorturl.at/U2AaZ (visited on 12 June 2024)

6- Monica Mark. “South Africa’s ‘born-free’ generation scorns democracy as ‘pyramid scheme’.” The Financial Times، May 23، 2024، https://shorturl.at/ck7sz (visited on 12 June 2024)

7- “People’s Manifesto”. umkhonto wesizwe (MK)، https://shorturl.at/wnSRo (visited on 12 June 2024)

8- Julius Malema. “Introducing the EFF election manifesto - Julius Malema”. Politicsweb، February 11، 2024، https://shorturl.at/Mt3zT (visited on 12 June 2024)

9- “The DA's Rescue Plan for South Africa: Election Manifesto 2024.” DA، https://shorturl.at/Vyb20 (visited on 12 June 2024)

10- “Power cuts return in South Africa.” Africa News، 2 January 2024، https://shorturl.at/rdraI (visited on 12 June 2024)

11- Lou Newton & Nomsa Maseko. “South Africa president faces up to poor poll result”. BBC، https://shorturl.at/LnVaG (visited on 12 June 2024)

12- Gerald Imray، Mogomotsi Magome & Farai Mutsaka. “South Africans vote in a pivotal election as president says he has no doubt his ANC party will win”. Yahoo News، May 29، 2024، https://shorturl.at/3SAN3 (visited on 12 June 2024)

13- “South Africa’s ANC loses 30-year parliamentary majority after election.” Aljazeera، June 1، 2024، https://tinyurl.com/4v5k683j (visited on 13 June 2024)

14- Mogomotsi Magome. “Former South Africa leader Zuma threatens legal action over allegations of election irregularities”. AP News، June 1، 2024، https://tinyurl.com/23zbzcps (visited on 13 June 2024)

15- مصدر سابق:

“The DA's Rescue Plan for South Africa: Election Manifesto 2024.” DA

16- مصدر سابق:

Julius Malema. “Introducing the EFF election manifesto - Julius Malema”.

17- مصدر سابق:

“People’s Manifesto”. umkhonto wesizwe (MK)

18- Sarah Dean & David McKenzie. “Jacob Zuma has made a dramatic comeback in South Africa’s elections. Will he have the last laugh over Ramaphosa?”. CNN، June 5، 2024، https://tinyurl.com/4pn2tk2m (visited on 13 June 2024)

19- Shola Lawal. “Jacob Zuma’s nine lives: How South Africa’s ex-president keeps coming back”. Aljazeera، https://tinyurl.com/mtxwnrae (visited on 13 June 2024)

20- مصدر سابق:

IEC South Africa. “2024 National and Provincial Elections”.

21- Gerald Imray. “South Africa’s ANC leans toward a ‘unity’ government that evokes Mandela but divisions are there”. AP News، June 7، 2024، https://tinyurl.com/4u8p5ehb (visited on 13 June 2024)

22- Barbara Plett Usher. “South Africa coalition talks go down to the wire.” BBC، June 14، 2024، https://tinyurl.com/yxf2zmdn (visited on 14 June 2024)

23- Emma Louise Powell. “ANC government blows R180 million on BRICS talk shop.” Democratic Alliance، October 31، 2023، https://tinyurl.com/4hdzzu3x (visited on 14 June 2024)

24- مصدر سابق:

“People’s Manifesto”. umkhonto wesizwe (MK)

25- مصدر سابق:

Julius Malema. “Introducing the EFF election manifesto - Julius Malema”.