خلفيات اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وتداعياته

أثار اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل موجات احتجاج واسعة، وعزل الولايات المتحدة دوليًّا، وطعن في شرعية رعايتها للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعرقل أهدافها الاستراتيجية المعلنة في منطقة الشرق الأوسط.
59c410873d944c4889443898fadd2064_18.jpg
احتجاجات واسعة على موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من القدس (غيتي)

مقدمة 

اعترف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يوم الأربعاء 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل وأعلن عن خطط لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة. أنهت هذه الخطوة تقاليد السياسة الخارجية الأميركية التي امتدت لعقود وكانت تتجنب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل في غياب اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني. سيكسر القرار توافق الآراء الدولي حول القدس ويسهم في الحكم مسبقًا على مسألة كان من المفترض أن تُترك للمفاوضات النهائية بين الجانبين، مع إمكانية أن تؤجج مزيدًا من التوترات في المنطقة.  

النزاع حول القدس

سيطرت إسرائيل على النصف الغربي من مدينة القدس إثر حرب عام 1948، بينما خضع الشطر الشرقي إلى السيطرة الأردنية والذي ضمَّ المدينة القديمة بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة. بعد انتصارها في حرب الأيام الستة عام 1967، ضمَّت إسرائيل القدس الشرقية وأعلنت المدينة بشقيها الشرقي والغربي "عاصمة موحدة وأبدية" لها. وعندما أصدرت إسرائيل قانون القدس، عام 1980، والذي نصَّ على اعتبار القدس "كاملة وموحدة" عاصمة لإسرائيل، رفض مجلس الأمن الدولي ذلك واعتمد القرار رقم 478 الذي اعتبر الخطوة الإسرائيلية انتهاكًا للقانون الدولي، ودعا الدول الأعضاء إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة. وحتى عام 2006، كانت كوستاريكا والسلفادور هما الدولتان الأخيرتان اللتان تنقلان سفارتهما من القدس إلى تل أبيب. فقبل القرار الأميركي لم يكن يوجد بلد آخر يحتفظ بسفارة له في مدينة القدس. 

انتعشت آمال الفلسطينيين بعد توقيع اتفاق أوسلو، في عام 1993، بإمكانية أن يشكِّل الجزء الشرقي من المدينة عاصمة مستقبلية لهم ولكن، أصدر الكونجرس الأميركي في عام 1995 قانونًا ينص على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس ووجوب الاعتراف بـ"القدس كعاصمة لدولة إسرائيل". رفض الرؤساء الأميركيون منذ ذلك الحين (بيل كلينتون، جورج بوش الابن، باراك أوباما) تنفيذ القرار، وكانوا يوقِّعون على قرار بتأجيل التنفيذ كل ستة أشهر. تحججت الإدارات الأميركية "بحماية مصالح الأمن القومي الأميركي" من جهة، ومن جهة أخرى أرادت أن تحافظ على تكتيك متوازن في العلاقات المتوترة والهشة ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين. 

سياقات القرار 

كانت خطوة ترامب متوقعة منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية في نهاية العام 2016؛ فقد تضمن برنامجه الانتخابي وعدًا أساسيًّا بنقل السفارة الأميركية من مدينة تل أبيب إلى مدينة القدس في حال وصوله إلى البيت الأبيض. وبعد فوزه، لم يُخفِ إصراره على تحقيق وعده، وأعلن أكثر من مرة أن ذلك ليس إلا مسألة وقت؛ ففي يونيو/حزيران 2017، أجَّل ترامب، كما فعل أسلافه السابقون، عملية نقل السفارة لمدة ستة أشهر ولكن، انقضت مهلة الستة أشهر الأسبوع الماضي وبدلًا من تجديدها قرَّر ترامب إنجاز وعده ونقل السفارة. 

لعبت مجموعة من العوامل المركبة دورًا مهمًّا في اتخاذ ترامب لقراره. داخليًّا، أصبحت التحقيقات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية تقترب رويدًا رويدًا من طاقم ترامب وبعض أعضاء إدارته. قبل أسبوعين تم توجيه الاتهام لمستشار الأمن القومي السابق لترامب، مايكل فلين، وذلك بسبب إدلائه ببيان كاذب لمكتب التحقيقات الاتحادي بشأن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في نهاية 2016. كما أن التحقيقات يمكن أن تطول أيضًا صهره، جاريد كوشنر، المقرَّب من إسرائيل، وبعض أركان إدارته؛ ما يعني أن ترامب بات في وضع داخلي يزداد هشاشة، وربما يريد أن يبعد الشبهات عنه أو على الأقل أن يؤجل النقاش حولها. وفي ظل هذه الظروف، فعلى الأغلب، يسعى ترامب إلى مراكمة الدعم من اللوبيات الصهيونية المؤثِّرة في واشنطن. عامل آخر لا يقلُّ أهمية يتعلق بسعي ترامب لإرضاء قواعد الحزب الجمهوري المؤيدين لنقل السفارة وخاصة المحافظين، والإنجيليين. بالإضافة إلى الشخصيات التي دعمته، ماليًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، للوصول إلى البيت الأبيض، فمنهم من دفع 25 مليون دولار بشرط أن تقوم الولايات المتحدة بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. من المرجح أن يعزِّز موقف ترامب من نقل السفارة شعبيته بين هذه الأوساط. 

لم تحدد الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة خيارات ترامب فقط، بل أيضًا الوضع العربي والإقليمي الراهن الذي يعاني من تمزق وحروب أهلية وانهيار في الدول الوطنية. طال الانقسام مجلس التعاون الخليجي، الذي حافظ لفترة طويلة على وضع سياسي واقتصادي مستقر نسبيًّا، وخاصة بعد حصار قطر. وفي ظل هذه الأوضاع، عوَّل ترامب وإدارته على امتصاص غضب حلفائه الرئيسيين من الأنظمة العربية، وخاصة مصر والسعودية، اللذان يحتاجان للدعم الأميركي في ظل التوترات الداخلية. فبينما يحتاج ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الدعم الأميركي لاحتواء معارضيه الداخليين وتنصيب زعامته في المملكة، يرغب السيسي في تجديد شرعيته وزعامته العام القادم عن طريق الفوز بولاية انتخابات ثانية. تحدي قرار ترامب لا يبدو أنه من ضمن الأوراق التي يمكن لهذه الأنظمة أن تلوح بها. 

لا تقتصر المتاعب والتمزق على الواقع العربي، بل يمتد ذلك إلى القوى الإقليمية الوازنة، وبالتحديد تركيا وإيران، مما يقلص خياراتها في التصدي لقرار ترامب. تشتبك إيران بالحرب الأهلية السورية إلى جانب قوات الأسد، وتعاني من وضع تفاوضي هش فيما يتعلق باتفاقية برنامجها النووي مع الإدارة الأميركية، التي يهدد ترامب بإلغائها، وهو ما تدعمه فيه السعودية والإمارات. تركيا أيضًا ليست بأفضل حالًا؛ فهي تعاني أيضًا من العديد من المتاعب الداخلية، أهمها تطلعات الأكراد لإنشاء دولة مستقلة على حدودها الجنوبية (كردستان) والتي يمكن أن تقوي شوكة القوى الانفصالية الكردية في جنوب شرق تركيا. 

المكسب الإسرائيلي 

رحبت إسرائيل بقرار ترامب ودعا نتنياهو دول العالم لأن تحذو حذو الولايات المتحدة في نقل سفاراتها. كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن مشاريع لبناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة في المستوطنات. وعلى الأغلب، سوف تسعى إسرائيل إلى إضفاء الشرعية على حوالي 200 ألف مستوطن يعيشون في مستوطنات القدس الشرقية، بالرغم من أن تواجدهم يعتبر في نظر القانون الدولي غير شرعي. وهي بذلك، تهدف إلى تعزيز إجراءاتها في فرض وقائع جديدة لتثبيت سيادتها على المدينة، وجعل من الصعب تجاوز الوقائع على الأرض في أي حراك مستقبلي للتوصل إلى تسوية. 

بالطبع، سوف تتصاعد سياسات إسرائيل لتهويد المدينة وطرد سكانها العرب والمستمرة منذ احتلالها عام 1967. استطاعت إسرائيل عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني وفرضت على سكانها العرب سياسات تهويدية عنصرية بهدف دفعهم إلى الرحيل. فهم يعيشون في أحياء مكتظة، ويصعب عليهم الحصول على رخص للبناء، ويعانون من التمييز المستمر، ويعيش ثلاثة أرباعهم تحت خطر الفقر. في عام 2015، شكَّل الفلسطينيون 37% من أصل 850 ألف شخص في مدينة القدس، يعيش معظمهم في أحياء القدس الشرقية. تسعى إسرائيل إلى تقليص هذا العدد إلى حده الأدنى عن طريق إخراج الأحياء المكتظة من حدود مدينة القدس وضمها إلى تجمعات عمرانية أخرى. 

وفي ظل سعي إسرائيل إلى تحويل المدينة إلى يهودية خالصة، تعاني المدينة وسكانها العرب من الإهمال الشديد من قبل السلطة الفلسطينية؛ حيث تتعدد المرجعيات الفلسطينية المعنية بالمدينة وتكثر خلافاتها، وتتراجع أهمية القدس على سلم أولويات السلطة الفلسطينية.  

عزلة أميركا 

يعزل قرار ترامب أميركا عن لعب دور فعَّال في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ فقد استطاع توحيد جميع العالم تقريبًا، بمن فيهم بعض حلفائه المقربين في المنطقة، ضده. 

رفضت الدول العربية والإسلامية، بمستويات مختلفة، القرار الأميركي، وحذَّرت الجامعة العربية من أن أي اعتراف بالقدس سيكون هجومًا سافرًا على الأمة العربية. وستجتمع منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، في 13 ديسمبر/كانون الأول 2017، في جلسة خاصة لتنسيق الرد. 

باستثناء الولايات المتحدة الأميركية، أكدت 14 دولة من أصل 15 (مجموع أعضاء مجلس الأمن الدولي) على التزامها بقرارات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. كما رفضت الغالبية الساحقة من الدول المؤثرة خطوات ترامب واعتبرتها مضرة بعملية السلام والاستقرار في المنطقة. أبرز المواقف جاءت من اللجنة الرباعية الدولية المكونة من الولايات المتحدة الأميركية، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا والتي تشكَّلت في العام 2002 للإشراف على عملية السلام.

لم تمض ساعات قليلة على خطاب ترامب حتى أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، معارضته لأي إجراءات انفرادية من شأنها تهديد فرص السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الاتحاد الأوروبي رفض أيضًا بشدة القرار الأميركي على لسان فيديريكا موغيريني، المفوَّض الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي. وهنا، برز بشكل واضح الموقفان، الألماني والفرنسي، وهما الدولتان الفاعلتان في الاتحاد. الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كان أول رئيس غربي يرفض قرار ترامب، معلنًا أن الوضع النهائي للقدس يجب أن تتم تسويته عن طريق المفاوضات. المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عارضتا قرار ترامب أيضًا. روسيا أيضًا رفضت قرار ترامب وأعربت عن قلقها من أن يؤدي إلى تعقيد الوضع الداخلي في الشرق الأوسط. 

التداعيات 

سيترك قرار ترامب تأثيرات عميقة من المحتمل أن تبدأ في التشكل على مستويين متداخلين.  

عملية السلام والوضع الفلسطيني الداخلي 

شكَّل مصير مدينة القدس مسألة حيوية وحساسة في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية؛ فقد تم تأجيل بحثها إلى مفاوضات الوضع النهائي بسبب المكانة الدينية والسياسية التي تتمتع بها لدى أطراف الصراع المختلفة. إن تغيير الوضع القائم، بعد قرار ترامب، سوف يحمل معنى رمزيًّا عميقًا وسيتم اعتباره دعمًا للسيادة الإسرائيلية على حساب الحقوق الفلسطينية في المدينة. اتحد المجتمع الدولي -باستثناء الولايات المتحدة- على أن مصير مدينة القدس يتحدد عن طريق الاتفاق النهائي ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن، يبدو أن التوصل إلى توافق، أو حتى الانطلاق في مفاوضات جادة، أصبح الأن غير وارد. منذ أن فشلت جهود جون كيري، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، عام 2014، في إحياء المفاوضات الثنائية ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم تجر أية محاولات جادة للتوصل إلى تسوية. كما أن موقف الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وشرعيته أصبحا على المحك. قبول المفاوضات، ضمن الشروط الحالية، سيكلف حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية خصمًا كبيرًا من شرعيتهما التي كانت مبنية على الوعود المتتالية منذ أكثر من عشرين سنة بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس؛ حيث أصبحت مهمتهم الآن أكثر صعوبة في إقناع الشعب الفلسطيني بأي حلول مستقبلية لا تتضمن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.  

خلال الأسبوع القادم سيحدد عباس خياراته: إما البقاء في عملية السلام أو الخروج منها. فمن المقرر أن يزور مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي، المنطقة، منتصف هذا الشهر، وأن يلتقي القيادة الفلسطينية. ولكنَّ مسؤولين فلسطينيين صرَّحوا بأنه سوف يكون غير مرحب به. وفي حال عدم استقباله فإن ذلك يغضب الإدارة الأميركية وربما يدفعها لمعاقبة السلطة وقياداتها، وهو ما سيحاول محمود عباس، على الأرجح، تجنبه بالبحث عن توازن بين التصدي لقرار ترامب مع الحفاظ على خطوط تواصل مع إدارته. 

مع حالة الغليان المتصاعدة في الشارع الفلسطيني والمظاهرات المتواصلة منذ صدور القرار، تبقى الحسابات الداخلية الفلسطينية شديدة التعقيد في ظل تأرجح موازين القوى ما بين الحركتين الأقوى في الشارع الفلسطيني: فتح وحماس. نادت جميع القوى الفلسطينية، بما فيها حركتا فتح وحماس، إلى النزول للشوارع والاحتجاج ضد القرار الأميركي. دعا كل من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، والرئيس السابق للحركة، خالد مشعل، إلى إطلاق انتفاضة فلسطينية جديدة وإنهاء مسار أوسلو بانسحاب السلطة الفلسطينية من عملية السلام. وإذا كانت حركة فتح تتفق، حتى الآن، على قيادة احتجاجات شعبية "مضبوطة" ضد القرار، فإنه من المستبعد أن توافق على تطويرها إلى انتفاضة شعبية يمكن أن تهدد مكانة السلطة الفلسطينية وأجهزتها. كما لا تزال إشكالية المصالحة ما بين الحركتين تراوح مكانها. يعاني الجسم الفلسطيني من انقسام سياسي، وأمني، واجتماعي حاد منذ أكثر من عشر سنوات، طالت تأثيراته كافة مناحي الحياة، وخاصة في قطاع غزة التي تخضع لحصار مشدد. بالرغم من الحراك الذي تلا القرار الأميركي لتسريع الوحدة ما بين الضفة وغزة، لا يبدو، على الأرجح، أن الأحداث الأخيرة سوف تعجِّل في هذا الملف الشائك وسيبقى يراوح مكانه على أغلب تقدير. 

وإذا كان الرئيس الفلسطيني مقيدًا بالحسابات السياسية المحلية والإقليمية والدولية الحساسة، فإن الشارع الفلسطيني لديه حسابات أخرى؛ حيث تعتبر مدينة القدس في صميم الهوية الفلسطينية المسلمة والمسيحية. كانت المدينة سببًا مباشرًا لهبَّة النفق عام 1996 بعدما افتتحت الحكومة الإسرائيلية نفقًا أسفل المسجد الأقصى المبارك، وانتفاضة عام 2000 التي اندلعت بعد زيارة رئيس الوزراء الأسبق، أرييل شارون، لباحات المسجد الأقصى، وانتفاضة القدس (2015-2016) والتي سميت أيضًا بانتفاضة السكاكين. وفي يوليو/تموز 2017، أدَّت الخطط الإسرائيلية لتثبيت كاميرات أمنية في المسجد الأقصى إلى اندلاع أسابيع من الاضطرابات والمواجهات. استطاعت التظاهرات الفلسطينية في القدس حشد الرأي العام العربي والإسرائيلي مما أدى في النهاية إلى خضوع الجانب الإسرائيلي وإزالته للكاميرات. على الأرجح سوف تتصاعد الاحتجاجات الشعبية التي تلت القرار في الأيام والأسابيع القادمة في القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية. وعلى الأغلب سوف تعمل حركة حماس على تطويرها إلى انتفاضة شاملة بينما ستحاول السلطة الفلسطينية ضبطها حتى لا تخرج عن السيطرة. 

ديناميات إقليمية ودولية

تفاعل قرار ترامب بصورة مباشرة على مستويات عدة. 

قلَّص الوضع العربي المنقسم اليوم والنزاعات والحروب العربية-العربية من ردَّات الفعل سواء الشعبية أو الرسمية؛ إذ مع ازدياد الانقسامات في المنطقة العربية وتركيز الشعوب العربية على مآسيها المباشرة تصبح قضية فلسطين، والقدس، مسألة ثانوية. لذلك، ليس من الوارد أن تشكِّل الدول العربية أي ضغوطات فعَّالة على الولايات المتحدة الأميركية لسحب القرار. 

وفي ظل تراجع العمل العربي المشترك، فإنه من المحتمل أن فاعليين دوليين آخرين سيعملون على توسيع نفوذهم. أوروبيًّا، يخشى الاتحاد الأوروبي حاليًّا من إعادة اشتعال الوضع الفلسطيني الداخلي أو زيادة حدة الاستقطابات والصراعات في الشرق الأوسط والتي ربما تهدد الوضع الهش في العديد من البلدان العربية وخاصة التي تحد إسرائيل: لبنان، والأردن، ومصر، وسوريا؛ حيث تتميز البيئة السياسية في هذه الدول بالهشاشة وعدم الاستقرار. وبالتالي تخشى الدول الأوروبية من أن انهيار الوضع الهش ربما يعيد تدفق اللاجئين إلى القارة العجوز والتسبب في تفكك الاتحاد الذي يشهد خلافات حادة حول مسألة استقبال اللاجئين، وخاصة المسلمين. من المرجح أن يعمل الاتحاد الأوروبي على امتصاص صدمة القرار الأميركي ومعالجة تبعاته التي لا يرغب في تحولها إلى أداة أخرى لعدم الاستقرار في المنطقة. 

سيؤدي قرار ترامب، حسب أغلب التقديرات، إلى عزل تدريجي للدور الأميركي في عملية السلام. وهنا بالتحديد، يمكن فهم الموقف الروسي الرافض وبشدة للقرار الأميركي. من المحتمل أن تسعى روسيا إلى تسويق نفسها في المنطقة على حساب مصالح الولايات المتحدة الأميركية، المنافس التقليدي لروسيا، باتخاذ مواقف أكثر تفهمًا للاحتياجات الفلسطينية/العربية بهدف زيادة نفوذها وتمددها في المنطقة من جهة، وبروزها على الساحة الدولية كقطب مواز للولايات المتحدة من جهة أخرى. وربما يمكن فهم الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الأسبوع القادم إلى تركيا وإجرائه مباحثات مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تتناول مسألة القرار الأميركي ضمن هذا السياق. 

وبصورة مماثلة، يمكن فهم الموقف الإيراني الرافض للقرار والذي جاء على لسان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله علي خامنئي؛ حيث تحاول إيران استثمار الموقف لترميم صورتها التي اهتزت جرَّاء اشتراكها في الحرب الأهلية السورية. فالقدس هي القضية المثالية لإيران وحلفائها (حزب الله والنظام السوري) للتعبئة ضد الولايات المتحدة وتحسين صورتهم التي فقدوها خلال السنوات الماضية في العالم الإسلامي السُّني. ولكن، لا يبدو أن تصعيد إيران وحلفائها سيخرج عن مستوى التصريحات النارية بسبب رغبة إيران في المحافظة على الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، والذي يعمل ترامب حاليًّا على إلغائه. 

أفق جديد 

يبدو أن مرحلة ما قبل القرار سوف تختلف عمَّا سيليها؛ لأنها أنهت مرحلة كاملة من المراهنة على خيار التسوية برعاية أميركية، وخاصة إذا قرر الشعب الفلسطيني مراكمة مجهوداته النضالية لإبطال القرار عن طريق تفعيل العمل الشعبي المقاوم. 

سيؤدي قرار ترامب وما خطَّط له، من تغيير الوضع القائم في مدينة القدس، على الأرجح، إلى نتائج عكسية. ومن المتوقع أن يُضعف أي دور مستقبلي للولايات المتحدة كوسيط محايد في عملية السلام، ويعوق الأهداف التي حددتها إدارة ترامب كاستراتيجية لها في الشرق الأوسط: التوصل إلى تسوية تُنهي الصراع العربي-الإسرائيلي، ومحاربة الجماعات الإسلامية المسلحة، وحسر النفوذ الإيراني.