"إسرائيل تسعى لتوسيع ساحة المواجهة"، لعل هذه العبارة التي وردت على لسان أكثر من مسؤول إيراني لا تقف عند تشخيص حالة الفعل الإسرائيلي، بل تذهب إلى ما وراء ذلك من بناء إستراتيجية تقول إيران: إن إسرائيل تسعى من خلالها إلى بناء بيئة تعطيها الذريعة لمهاجمتها وتدمير برنامجها النووي. لكن التغيير الذي أحدثه طوفان الأقصى جعل قائمة التهديد لإسرائيل تتسع، فالمسألة لا تقف عند إيران وبرنامجها النووي؛ إذ أصبح محور المقاومة ونقصد هنا كل المحور يمثل تهديدًا مباشرًا لدولة الاحتلال التي شعرت ربما للمرة الأولى في تاريخها بخطر وجودي حقيقي.
كانت إيران تعتقد بأن الهجوم الذي نفذته ضد إسرائيل وأطلقت عليه "الوعد الصادق" ردًّا على استهداف قنصليتها في دمشق، قد أرسى قواعد الردع التي تريدها مع تل أبيب، لكن الرهان الإيراني لم يكن مصيبًا؛ فقد التقط نتنياهو بصورة دقيقة إشارات السياسة الإيرانية المحتاطة، وقرر أن يستغل ذلك إلى أبعد مدى بتوجيه ضربات متتالية ودامية لإيران ولحلفائها، وبناء على قياس إسرائيل لرد الفعل الإيراني على اغتيال قياداتها داخل إيران وخارجها رفعت إسرائيل من مستوى الاستهداف بصورة لم تعتقد إيران أن إسرائيل ستصل إليها فاغتالت إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية وبعد يوم من تنصيب الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، الذي جاء ضمن معادلة داخلية شديدة التعقيد والصعوبة، بعد مصرع الرئيس، إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية، أمير عبد اللهيان، بتحطم مروحيته في مايو/أيار 2024.
أتبعت إسرائيل اغتيال هنية الذي وُصف بأنه "مساس بهيبة إيران وشرفها" باستهداف مكرر ومدروس لحزب الله، الأخ الأكبر في محور المقاومة وحليف إيران الأبرز في المنطقة، فاستهدفته بهجمات غير مسبوقة من خلال أجهزة النداء (البيجر) في لبنان وسوريا، والتي أسفرت عن مقتل وإصابة عدد من قادة حزب الله الرئيسيين، ودمرت قدرًا كبيرًا من شبكة الاتصالات التي يستخدمها الحزب. دون توقف اغتالت إيران قيادات الحزب الكبار ليصل الأمر ذروته في يوم الجمعة، السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024، حين أقدمت على اغتيال زعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، بهجوم نفذته طائرات من السرب 69 أسقطت نحو 85 قنبلة خارقة للتحصينات تزن طنًّا.
إن نزع أوراق قوة إيران هي الإستراتيجية التي تواصل إسرائيل بناءها خاصة مع اتساع مساحة الصراع مع حزب الله على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة وفي وقت نشهد فيه انخراطًا مستمرًّا ومتصاعدًا لأطراف المحور من اليمن والعراق، واستمرار المواجهة مع حركة حماس واستمرار عملية الإبادة الإسرائيلية ضد أهل غزة، وتصاعد المواجهات في الضفة الغربية، وتغول المستوطنات والمستوطنين الإسرائيليين، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية تمويل 70 بؤرة استيطانية، ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، انتهجت إسرائيل سياسة التوسع السريع لهذه المستوطنات وتم إنشاء أكثر من 25 بؤرة استيطانية جديدة.
مع انخراط حزب الله المتزايد وتأكيدات نصر الله أن الحزب لن يتخلى عن غزة باتت إسرائيل أمام حاجة ملحَّة لمعالجة الوضع في الشمال، فقد نزح نحو ستين ألف مستوطن إسرائيلي، بسبب هجمات حزب الله الصاروخية، ولم تفلح وعود نتنياهو المتتالية بإعادتهم.
في المقابل، تقدم إيران سياستها في ضبط النفس، بوصفها فعلًا إستراتيجيًّا يفوِّت على إسرائيل سعيها لخلق الظروف المناسبة لشن هجوم على إيران يستهدف فيما يستهدف منشآتها الحيوية ومن ضمنها منشآتها النووية. لكن ما تصفه إيران بأنه "تفويت للفرصة على إسرائيل" لجرها إلى حرب واسعة، يقدم لتل أبيب فرصًا متتالية لضرب مكامن القوة الإيرانية.
الحالة الإيرانية وتعقيداتها
إن فهم طبيعة التفكير الإيراني في هذا السياق تقتضي التوقف عن عناوين عدة، أهمها:
تعقيد الحالة الإيرانية: إن ظهور إيران وصعودها كقوة إقليمية ذات طموحات كبيرة جاء ممزوجًا بحالة من العداء مع الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم إسرائيل، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل إستراتيجية إيران الدفاعية تقوم على محاولة التعامل مع هذا التهديد والسعي لموازنته. وهي إستراتيجية تقوم بصورة كبيرة على الأجندات المتعارضة لإيران والولايات المتحدة. ويرتبط ذلك بصورة جوهرية في عدائها مع إسرائيل، كما لا يمكن النظر إلى حالة التنافس والمد والجزر التي حكمت علاقتها مع السعودية بمعزل عن هذا العنوان.
لقد سعت إيران كما سعى أعداؤها ومنافسوها إلى تشكيل وإعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة في صراعات المنطقة سعت إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي بالقوة، وهو ما أوجد عددًا من البؤر الصراعية والأزمات التي ترى إيران أن العامل الخارجي وتدخل الولايات المتحدة الأميركية هو المسؤول بصورة أساسية عنها.
ولأن إيران ترى شكلًا للمنطقة يتعارض بصورة جذرية مع الشكل الذي تريده أميركا وإسرائيل، فإن مستوى التهديد الذي ترى إيران أنه يحيط بها، يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية وقدرتها على التدمير، وهذا أمر تدركه طهران جيدًا التي راقبت بدقة الحالة العراقية وما وصل إليها العراق بفعل آلة الحرب الأميركية. وبناء عليه، فإن إيران تنتهج سياسة حذرة تراهن عن الوقت ومراكمة القوة، مع مرونة تبديها كلما وصل مستوى التهديد إلى حدود مقلقة. لكن الرؤى المتضاربة للمستقبل بين إيران والولايات المتحدة ما زالت تراوح مكانها ولم تفلح محاولات بعض الساسة الإيرانيين بدءًا من رفسنجاني مرورًا بمحمد خاتمي وانتهاء بروحاني في إحداث تغيير في هذه الرؤى مما يمكِّن من فتح صفحة جديدة من العلاقات.
الحالة الداخلية الإيرانية: على مدى عقود من عمر الجمهورية الإسلامية، بدا أن الحالة الداخلية الإيرانية تصبح حالة ضاغطة، فما تريده قطاعات من الشعب الإيراني يبتعد كثيرًا عما يظهر في شعارات الجمهورية الإسلامية وأولوياتها السياسية، ولعل هذا التباين هو الذي أوجد نخبة سياسية ترى أن مشكلات إيران لا تُحل بدون حل معضلة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، كما أن إيران لا يمكنها الاستمرار في تحمل تبعات الموقف من القضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل، وأن الدعم يجب ألا يأتي على حساب رفاه وحياة المواطن الإيراني. وهذه النخبة هي التي تحيط بالرئيس الإيراني الحالي، وتشكِّل في حقيقتها جماعة ضغط لها قاعدة اجتماعية لا يمكن تجاهلها، تقول بضرورة إحداث تغيير جذري في السياسة الخارجية الإيرانية. ولعل ذلك يفسر ما عبَّرت عنه بعض الكتل السياسية الإيرانية التي رأت ضرورة إقدام بزشكيان على وضع حدٍّ للعداء بين طهران وواشنطن، ورأت أن "الوقت الراهن مناسب للمصالحة بين الجانبين".
ونشرت الجزيرة نت تفاصيل رسالة مفتوحة لـ"جمعية الفائزين بمقاعد البرلمان لعدة دورات" وجَّهتها إلى الرئيس الإيراني، تحثه فيها على الوفاء بوعوده الانتخابية بشأن خفض التوتر مع العالم، وتطالبه بالتفاوض مع الولايات المتحدة، والسماح للأخيرة بافتتاح مكتب للشؤون القنصلية في طهران. وقالت الجمعية: إن الأخطاء التي ارتًكبت عقب انتصار الثورة الإيرانية وأدت إلى قطع علاقات طهران مع واشنطن والقاهرة وتوترها مع بعض دول الجوار، أحدثت تحديات كبيرة في طريق تنمية البلاد وأهداف الثورة. وقد يكون من ضمن هذه "الأخطاء" اقتحام الطلاب للسفارة الأميركية في طهران، وهي المناسبة التي تحييها إيران سنويًّا، ووصفها آية الله الخميني بأنها ثورة ثانية. الرسالة "حرضت" الرئيس على خطوة جريئة وحضَّته على استغلال فرصة حضوره في الأمم المتحدة لفتح صفحة جديدة من التعامل البنَّاء مع الدول الأعضاء وحلحلة الخلافات معها "دون أن يخشى لومة سماسرة العقوبات" على حدِّ وصف أعضاء الجمعية. وتقدِّم مقولة الباحث في العلاقات الدولية، علي صالح آبادي، بأنه "لا يعرف دولة بلغت السعادة والفلاح في خواتيم عدائها مع الولايات المتحدة. كما أنه لا يعرف دولة استفادت من صداقتها مع روسيا"، وصفًا للرؤية السياسية للتيار الذي يرى ضرورة إنهاء حالة العداء مع واشنطن.
وبدا واضحًا أن مستشاري الرئيس قد أدلوا بدلوهم في هذا الاتجاه، فأرسل بزشكيان رسائل صداقة متعددة تجاه الولايات المتحدة الأميركية، وتحدث عن "استعداد إيران لنزع سلاحها إن فعلت إسرائيل ذلك"، لكن المعضلة التي يواجهها هذا الفريق أن هذه الرسائل لم تلق الجواب الذي يأملونه، فقد ردت الولايات المتحدة على تحية بزشكيان بسلسلة عقوبات جديدة، والتقطت إسرائيل إشارة بزشكيان كمؤشر على ضعف لا قوة، فأقدمت على اغتيال نصر الله بينما كان نتنياهو في الأمم المتحدة يهدد دول الإقليم، ويزدري العالم وقوانينه.
ورغم أن الكتلة الأقوى في إيران، ممثلة بمؤسسة الحرس ومؤسسة القيادة وعلى رأسها آية الله خامنئي، لديها مواقف مختلفة وتقييمات أخرى، إلا أنهم باتوا يدركون أنه لا يمكن الاستمرار في تجاهل الحالة الداخلية، ولعل طريقة وصول بزشكيان إلى مقعد الرئاسة توضح بشكل دقيق إكراهات الحالة الداخلية الإيرانية والضغط الذي أوجدته.
الإقليم ومعادلة بناء التحالفات: تدرك إيران جيدًا أن نقاط القوة التي راكمتها تعود في جزء منها إلى التحالفات التي نجحت في عقدها داخل الإقليم، وهو التحالف الذي بات يُعرف بـ"محور المقاومة" ويقوم بصورة واضحة على العداء مع إسرائيل، ولذلك فإن التخلي عن هذه التحالفات يعني بصورة جوهرية تراجع إيران، كما أن سعي فريق بزشكيان لإعادة تعريف محور المقاومة أو تعريف علاقتها بالمحور وذلك بالتركيز على الدعم الدبلوماسي والحراك السياسي لن يؤدي إلى شيء، بل سيُخرج الجمهورية الإسلامية من جلدها دون أن يكون قادرًا على ضمان مكان لها في الإقليم الذي يكتظ بالطموحات المتضاربة.
إن عداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإسرائيل هو الالتزام الأخطر في سياستها، لكنه أيضًا العنوان الذي يشكل هوية إيران ما بعد الثورة، ولذلك سيكون للتنازل عن هذا العنوان تبعاته وهو ما تحاول إيران تجنبه لكنها في الوقت ذاته لا تريد حربًا إقليمية واسعة. لقد نجحت إيران في بناء تحد وجودي لإسرائيل في لبنان وسوريا وغزة والضفة الغربية، ويضاف إليها العراق واليمن. وبنت إيران إستراتيجيتها ضمن خطة تقول بإحكام الخناق على إسرائيل واستنزافها ببطء من خلال مواجهات محسوبة، لكن الأثر الكبير الذي أحدثه طوفان الأقصى ورد الفعل الإسرائيلي والدعم غير المحدود من قبل الولايات المتحدة والتزامها الدائم والصلب تجاه إسرائيل وضع الإستراتيجية الإيرانية أمام تحديات صعبة، كما أن سياستها المحتاطة قد أضرت كثيرًا بصورتها كدولة قادرة، وجعلت حلفاءها أمام أسئلة جذرية تتعلق بحدود القوة الإيرانية.
خلاصة
ما بين تحد داخلي واستهداف خارجي، تجد إيران نفسها اليوم بحاجة إلى مراجعة إستراتيجيتها الدفاعية بالكامل، فما كان مناسبًا لحرب الظل بينها وبين إسرائيل، نسفته عملية "طوفان الأقصى" وما أعقبها من تطورات. وهي إذ تحاول تجنب المواجهة لمنع تكرار تجربة الحرب المرة التي اختبرها الشعب الإيراني مع العراق، قد تجد إيران أن الحرب على وشك أن تصل إلى عقر دارها، إن لم تكن قد وصلت بالفعل، يوم اغتالت إسرائيل ضيفها، وألحقت ذلك باغتيال السيد نصر الله والذي كان رقمًا صعبًا في معادلة النفوذ الإيرانية. تتضاءل الخيارات أمام الجمهورية الإسلامية، فإما أن تعيد الاعتبار لصورتها كدولة قادرة، أو تنزع جلدها وتستسلم كما يدعو بعض ساستها على غرار ما فعلت اليابان.