ثمة تاريخ طويل للتدافع بين تركيا وإيران، يعود في أصوله إلى البنية الصفوية لولادة إيران الحديثة في القرن السادس عشر. أراد الصفويون، الأتراك إثنيًّا، تأسيس شرعية مستقلة ومختلفة عن أسس الشرعية العثمانية، وكان لابد بالتالي أن تشهد الحقبة الصفوية حلقات من الصدام الدموي بين إيران والسلطنة العثمانية، ومن الصراع على العراق وشرق الأناضول. في القرن التاسع عشر، وبعد أن فُرض على الدولتين التراجع أمام روسيا القيصرية والإمبرياليات الأوروبية الأخرى، عمل السلم التعاهدي على استقرار علاقات الجارتين. ومنذ العقد الثالث من القرن العشرين، ومع ولادة الجمهورية التركية وإيران البهلوية، وانكفاء الدولتين على شؤونهما الداخلية، بدا أن مناخًا من الجوار الطبيعي ساد العلاقات بينهما. ولكن، ومع أواخر القرن العشرين، عادت تقاليد التنافس والتدافع التاريخية بين الدولتين، وريثتي الصفويين والعثمانيين، لتبرز من جديد.
إيران وتركيا هما، بالطبع، دولتان إسلاميتان، ولكنهما تختلفان في أن أغلبية الإيرانيين هم من الشيعة، بينما أغلبية الأتراك من السنة. وعلى الرغم من تداخل التشيع والتسنن في أوساط مواطني الدولتين، ووجود كتلة ملموسة من الأكراد والعرب بينهما، إضافة إلى أن ما يقارب ربع سكان إيران هم من الأتراك، فقد تبلورت الهوية القومية لكل من الدولتين في القرن العشرين بصورة منفصلة. الأهم، أن رؤية كل من الدولتين لمصالحهما الجيوستراتيجية، وعلاقاتهما بجوارهما، تختلفان إلى حدٍّ كبير؛ بل وتبدوان عرضة للصدام.
خلال العقود الثلاثة الماضية، بدأت إيران العمل على توسيع نفوذها الإقليمي في جوارها العربي، لاسيما في الدول التي تضم كتلة شيعية ذات ثقل ملموس بين سكانها. كما حاولت، وإن بصورة أكثر إلحاحًا، تأمين موضع قدم لها في الشرق الأفغاني، كما في الشمال القوقازي. تركيا، وإن بصورة مختلفة، أخذت هي الأخرى في التوجه نحو الجوار العربي، وفي إعادة بناء الروابط مع الدول التركية في القوقاز ووسط آسيا. وكان طبيعيًّا أن تؤدي السياسة الخارجية النشطة والتوسعية لكل من الدولتين إلى توليد مناخ تدافعي، صريح أحيانًا ومكتوم في أحيان أخرى، مباشر أحيانًا وغير مباشر في أحيان أخرى.
عندما برزت في أوساط إدارة بوش الابن، في ذروة الاحتلال الأميركي للعراق، فكرة الاستعانة بقوات حفظ سلام تركية، تحرك حلفاء إيران من العراقيين لمنع استدعاء قوات تركية إلى مناطق الأغلبية السنية العراقية. ولم ينظر الإيرانيون بأي قدر من الارتياح إلى التقارب المتزايد بين النظام السوري وحكومة العدالة والتنمية التركية خلال السنوات بين 2004 و2011. وما إن اندلعت الثورة السورية ضد حكم الأسد حتى عملت إيران على بسط سيطرتها على الشأن السوري الداخلي. ولأنها تحتل موقعًا بالغ الأهمية في رؤية تركيا الإقليمية، سرعان ما أصبحت سوريا ساحة اشتباك بين حلفاء إيران وحلفاء تركيا.
تتسم مقاربة الجارتين للعلاقات بينهما بقدر كبير من العقلانية والبراغماتية؛ وهذا ما ساعد طهران وأنقرة على تجنب الصدام المباشر، وعلى فصل دوائر التنافس والتدافع عن دوائر التعاون. ولكن العقلانية والبراغماتية لم تمنعا بروز ملفي اختلاف وتدافع إقليميين بالغي الحساسية بين الدولتين خلال الأشهر القليلة الماضية، يتعلق الأول بمشروع طريق التنمية العراقي الطموح، الذي يستهدف إقامة خط اتصال بري وسكة حديد بين البصرة العراقية ومرسين التركية، ويتعلق الثاني بسعي أذربيجان إلى تأمين الطريق عبر جنوب أرمينيا، الذي يربط كتلة البلاد الرئيسة بإقليم ناخشوان الأذري ذي الحكم الذاتي في الغرب.
نزاع طريق التنمية العراقي–التركي
اختار الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، في أول رحلة له خارج بلاده، زيارة العراق. الزيارة التي بدأت صباح 11 سبتمبر/أيلول، واستمرت ثلاثة أيام، انتقل فيها بزشكيان من بغداد إلى العتبات المقدسة، ومن ثم إلى البصرة على رأس الخليج، ومنها إلى كردستان العراق في أقصى الشمال، ملتقيًا بكبار المسؤولين العراقيين العرب والأكراد في كل من محطات زيارته. أحد أبرز من رافقوا بزشكيان في الوفد الإيراني، كان وزير خارجيته، عضو الحرس الثوري السابق والدبلوماسي المجرب، عباس عراقجي.
أجرت قناة الفرات العراقية مقابلة شاملة مع عراقجي، تناول فيها كافة جوانب العلاقات الإيرانية-العراقية. قال عراقجي بشأن الرد على التساؤل حول اختيار العراق ليكون أول بلد يزوره مسعود بزشكيان بعد تسلمه مقاليد رئاسة الجمهورية: "يجب أن أقول: إن السؤال الأدق هو أنه لو كان قد تم اختيار بلد آخر غير العراق لكان مبعثًا للاستغراب، فعلاقاتنا مع العراق حكومة وشعبًا متميزة؛ حيث تتجاوز مجرد علاقات بين بلدين جارين. هناك وشائج كثيرة تربط الشعبين والبلدين، وهناك ترابط بين شعبنا والشعب العراقي؛ فالعراق بالنسبة لنا أكثر من بلد جار، بلد صديق وشقيق، ولنا مشتركات كثيرة دينية وثقافية وتاريخية، وهناك وحدة في الكثير من الأمور".
الأهم، كان حديث عراقجي حول مشروع طريق التنمية العراقي، الذي يفترض أن يربط العراق وتركيا من البصرة إلى مرسين. قال وزير الخارجية الإيراني: "نحن نرحب بتطور وتنمية العراق ونرغب أن يكون العراق بلدًا مزدهرًا ومتطورًا ومرفهًا وقويًّا على حدودنا؛ وكل مشروع يمكن أن يساعد في تحقيق هذا الهدف هو مشروع جيد ويحظى بدعمنا. ومن بين المشاريع المطروحة في هذا المجال مشروع طريق التنمية في العراق؛ ونحن نتابع عن كثب مستجدات هذا المشروع. ومن الطبيعي أن أي مشروع اقتصادي في أي بلد يكون له مضاعفات وتبعات إقليمية، ربما تتجاوز ذلك البلد وتؤثر على سائر بلدان المنطقة. والمفترض أن تكون حول ذلك مشاورات وتبادل وجهات النظر بين أي بلد وسائر بلدان المنطقة، ونحن بالطبع نتوقع ذلك، ولكن لا شك في أن رغبتنا ورغبة شعبنا هو تقدم وتطور العراق". والواضح، على الرغم من البلاغة التي تخللت كلمات عراقجي حول توكيد الحرص على مصالح العراق وازدهار شعبه، أن وزير الخارجية الإيراني أحجم عن تأييد مشروع طريق التنمية، وبدا وكأنه يوجه اللوم للحكومة العراقية التي أقدمت على الاتفاق على المشروع بدون استشارة إيران.
أُطلق مشروع طريق التنمية في مايو/أيار 2023؛ ولكن المؤكد أن دراسة المشروع وتبلوره قد بدأت في بغداد قبل ذلك بعام على الأقل. يفترض أن تبلغ كلفة المشروع 17 مليارًا من الدولارات في شقِّه العراقي، وأن يكتمل في مرحلته الأولى ويصبح صالحًا للمرور والنقل في 2028. يشمل المشروع الطموح خطًّا للسكة الحديدية يبدأ من ميناء الفاو الموسع، وصولًا إلى منفذ فيشخابور على الحدود مع تركيا، بطول 1175 كم؛ وفي محاذاته يكون هناك طريق بري سريع بطول 1190 كم. في الجانب التركي، سيمتد خط السكة الحديد بطول 2088 كم، والطريق البري بطول 1922 كم، بداية من المعبر الحدودي مع العراق إلى مدينة شانلي أورفا في الجنوب التركي، وصولًا إلى ميناء مرسين على المتوسط.
في أبريل/نيسان 2024، وُقِّع في بغداد اتفاق عربي رباعي للتعاون على بناء المشروع، بمشاركة وزراء النقل والطاقة لدول العراق وتركيا وقطر والإمارات، بحضور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس الحكومة العراقي، محمد شياع السوداني. ما يعنيه الاتفاق، أن قطر والإمارات، وليس العراق وتركيا وحسب، ستسهمان في مراحل إنشاء الطريق وتطوره، سواء باستثمارات مباشرة من الدولتين، أو عبر مشاركة شركات خاصة إماراتية أو قطرية. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت الحكومتان العراقية والتركية، بفاصل أيام بينهما، عن اكتمال رسم مخططات الطريق والمشاريع التنموية الملحقة به.
يفترض أن يتحول الطريق ليس إلى ممر حيوي لنقل البضائع بين الشرق والغرب، وحسب، بل وإلى شريان اقتصادي، تحفُّه مدن صناعية ومراكز تنموية جديدة، من أقصى جنوب العراق إلى أقصى شماله. كما سيساعد الطريق على إطلاق حركة تنموية موازية حول محور طويل على امتداد جنوب وجنوب شرقي تركيا، بداية من منطقة الأغلبية الكردية التي عانت طويلًا من الاضطرابات السياسية والتباطؤ الاقتصادي، إلى الساحل التركي على المتوسط.
لكل هذا، فالمتوقع أن يعمل المشروع على تعزيز العلاقات العراقية-التركية؛ أولًا: لأن تأمين الطريق سيفرض على الدولتين التعاون الوثيق للتعامل مع المخاطر الأمنية التي تحفه في منطقة الحدود العراقية-التركية-السورية، التي تعج بالقوى المسلحة من كافة الخلفيات. وثانيًا: لأن المخطط التنموي العراقي لجانبي الطريق سيوفر فرصة غير مسبوقة لشركات الإنشاءات التركية، المعروفة بكفاءتها والتي تعهدت العديد من المشاريع في العراق من قبل. وثالثًا: لأن المشروع سيعزز الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين العراق وإيران، كما حركة البشر والتجارة.
ممر زنغزور: معضلة ربط تركيا وفصل إيران
على خلفية من الغزل المتبادل بين إيران وروسيا، ونشر تقارير حول عزمهما توقيع اتفاقية للتعاون الإستراتيجي الشامل خلال الأشهر القليلة المقبلة، أُعلن في موسكو عن موقف داعم لأذربيجان بخصوص مطالبتها بفتح ممر زنغزور البري الذي يربط العاصمة، باكو، بإقليم نخشوان. وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد تحدث أثناء زيارته إلى أذربيجان عن حق باكو في امتلاك ممر بري يكفل الاتصال الآمن بين الكتلة الجغرافية الأكبر لأذربيجان وإقليم ناخشوان ذي الحكم الذاتي. كما قام وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في لقاء مع القناة الروسية الأولى، 4 سبتمبر/أيلول، بتوجيه النقد لسياسة أرمينيا الرافضة لتنفيذ اتفاق المعابر والممرات لعام 2020، مؤكدًا أن موسكو تؤيد إبرام معاهد سلام بسرعة بين باكو ويريفان و"إزالة عوائق الاتصال". ولابد أن لافروف كان يشير إلى البند التاسع من الاتفاق الذي كان وُقِّع بموسكو، والذي ينص على أن "تقوم الدولتان المتحاربتان بفتح المعابر التي تربط أرمينيا بقرة باغ، أو تربط أذربيجان بناخشوان"، أي ممري لاتشين وزنغزور.
أثار الموقف الروسي الجديد من معضلة ممر زنغزور ضجة في أوساط رسمية إيرانية، وفي وسائل إعلام مقربة من نظام الجمهورية الإسلامية، التي عدَّت موقف الحليف الروسي "طعنة في خاصرة طهران الشمالية". من جانبها، سارعت الخارجية الإيرانية إلى استدعاء السفير الروسي، ليكسي ديدوف؛ وفي خطوة نادرة لم تعتدها الحليفتان، حمَّله نائب وزير الخارجية الإيراني، مجتبى دميرجي، رسالة إلى موسكو مفادها أن طهران تعارض التغييرات الجيوسياسية في المنطقة، وأن من الضروري أن تأخذ موسكو مصالح ومخاوف الدول الأخرى في الاعتبار. في السياق نفسه، اعتبر وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في تغريدة على منصة إكس، أن أي تغيير في الحدود القائمة للدول يعد "أمرًا غير مقبول على الإطلاق"، وأن "أي تهديد يوجَّه ضد سلامة أراضي دول الجوار أو تغيير جيوسياسي قرب حدودنا يشكِّل خطًّا أحمر بالنسبة لإيران".
في 12 سبتمبر/أيلول، ردَّت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على سؤال حول القلق الإيراني من الموقف الروسي الجديد من مسألة ممر زنغزور قائلة: إن بلادها تسير على أساس أن يكون هناك حل مقبول من أرمينيا وأذربيجان، ومن دول الجوار، وأنها "تفترض أننا أوضحنا موقفنا لإيران". وعلى الرغم من الغموض الذي صيغت به كلمات زاخاروفا، فقد فهم أن تصريحاتها تمثل تراجعًا ما عن الموقفين اللذين عبَّر عنهما الرئيس الروسي ووزير خارجيته، نظرًا لأن روسيا لم تزل في وسط الحرب الأوكرانية وأنها ربما بحاجة ماسَّة لبعض أنواع السلاح التي يعاني الجيش الروسي من نقص في مخزونه منها. وقد بدا أن الزيارة المفاجئة التي قام بها سيرغي شويغو، سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، لطهران، في 16 سبتمبر/ أيلول، وعقده مباحثات لم تُعرف طبيعتها مع الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، جاءت في سياق محاولة امتصاص رد الفعل الإيراني.
بيد أن هذا التقدير للتحول في الموقف الروسي لا يبدو أنه نجح في تطمين الإيرانيين. ففي لقاء له على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، صدر عن الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، ما يفيد بأن طهران قررت فك الارتباط بالحرب الروسية في أوكرانيا. قال بزشكيان (24 سبتمبر/أيلول)، مدافعًا عن موقف بلاده من الحرب الأوكرانية وداحضًا التقارير حول قيام إيران بتزويد روسيا بالسلاح، إنه على استعداد لمناقشة المسألة الأوكرانية مع ممثلي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وإن "إيران لم تؤيد مطلقًا العدوان على أوكرانيا".
ورثت إيران القاجارية منذ ولادتها في أواخر القرن الثامن عشر عن الصفويين ونادر شاه السيطرة على معظم جنوب القوقاز، وصولًا إلى داغستان والشيشان. ولكن الدولة القاجارية اضطرت إلى التراجع عن القوقاز أمام توسع روسيا القيصرية الحثيث في القرن التاسع عشر. في معاهدة غولستان، 1813، تخلت إيران عن داغستان وشرق جورجيا وأجزاء من أذربيجان وأرمينيا. وفي معاهدة كرمنشاه، 1828، رسمت الحدود الشمالية الحالية لإيران، سواء مع أذربيجان أو أرمينيا. بذلك، لم يعد لإيران منفذ على المجال الأورو-آسيوي. ولأن إيران البهلوية، سيما بعد نهاية الحرب الثانية وخلال الحرب الباردة، حُسبت على الغرب، فقد استمر هذا الوضع طوال العهد السوفيتي.
لم تُفتح طريق إيران على الشمال الأوروآسيوي إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال كل من أرمينيا وأذربيجان. نظرًا للإشكال الذي تمثله أذربيجان لوحدة إيران، والروابط الوثيقة بين الأذريين من مواطني إيران، ذوي الطموحات القومية، اختارت إيران بعد انهيار الاتحاد السوفيتي التحالف مع أرمينيا. لم تمانع إيران في أوائل التسعينات سيطرة أرمينيا على إقليم ناغورنو قرةباغ الأذري، ورأت أن قطع الطريق الموصل بين أذربيجان وناخشوان يصب لصالح انفتاحها الجيوسياسي على المجال الأوروآسيوي.
في 22 مايو/أيار الماضي، وبعد أن بدا واضحًا أن أذربيجان تصر على أن تكفل معاهدة السلام مع أرمينيا فتح ممر زنغزور، قام الرئيس الأرميني، نيكول باشينيان، بزيارة طهران للمشاركة في تأبين الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي، والتقى أثناء زيارته بالمرشد الإيراني الأعلى، آية الله خامنئي. وذُكر أن خامنئي أكد لباشينيان دعم إيران للموقف الأرميني من مسألة ممر زنغزور. ولم يلبث الرئيس التركي، أردوغان، الحليف الرئيس لأذربيجان، في منتصف يونيو/حزيران، أن كشف لصحافيين يرافقونه على متن الطائرة الرئاسية خلال عودته من زيارة لباكو "أن إيران هي العقبة الرئيسة أمام فتح ممر زنغزور".
يبلغ طول ممر زنغزور 43 كيلومترًا، وسيتيح في حال نجاح أذربيجان في استعادته الاتصال البري المباشر مع إقليم ناخشوان في غرب أرمينيا، الذي لا تزيد مساحته عن 4400 كيلومتر مربع. وتنبع أهمية الممر الإستراتيجية لكل من أذربيجان وتركيا، على السواء، من أن إقليم ناخشوان يفتح على شمال شرقي تركيا ببوابة لا تقل عن سبعة كيلومترات، مما سيسمح بالاتصال المباشر بين أذربيجان وحليفتها الأوثق تركيا، ويسمح للأخيرة بالاتصال ليس مع أذربيجان وحسب، بل ومع العالم التركي في وسط آسيا، بدون الاضطرار للالتفاف حول جورجيا أو الارتهان لطريق مواز عبر إيران.
مخرج من نفق الصراعات
تسعى إيران منذ ما بعد إطاحة نظام البعث إلى السيطرة على الشأن العراقي، ليس فقط فيما يتعلق بتعزيز العلاقات مع شيعة العراق، ولكن أيضًا على المستويين السياسي والاقتصادي. ولم يكن غريبًا أن ترى أوساط الحكم في إيران أن مشروع طريق التنمية العراقي-التركي لا يصب لصالحها، وأن ما يكتنف المشروع من تقارب عراقي-تركي إستراتيجي سيؤثر على وضعها في العراق، الذي باتت تعده منطقة نفوذ خاص بها. خلال زيارة الرئيس الإيراني متعددة المحطات للعراق، أعرب الإيرانيون لمضيفيهم العراقيين عن معارضتهم لمشروع طريق التنمية. وللحساسية التي أثارها المشروع في كردستان العراق، يعلق الإيرانيون آمالًا على اتخاذ الأكراد موقفًا مناهضًا للمشروع. وخلال أيام فقط من مغادرة الرئيس الإيراني العراق، بدأت قوى شيعية موالية لإيران حملة ضد رئيس الحكومة العراق، متهمين مكتبه بإدارة عملية تنصت غير شرعية على قادة سياسيين وزعماء ميليشيات في البلاد، كادت أن تدفع إلى إطاحة حكومة السوداني.
المشكلة، بالطبع، أن مشروع طريق التنمية بالغ الشعبية في العراق، لاسيما في أوساط المواطنين الشيعة في المنطقة الممتدة من بغداد إلى البصرة. يحمل المشروع وعودًا لتغيير وجه العراق، ونهضة تنموية غير مسبوقة في تاريخه الحديث لكافة مناطقه، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال؛ إضافة، إلى آثاره الإيجابية الأخرى على موقع العراق الجيوسياسي في خطوط الاتصال بين الشرق والغرب. ولهذا، لا يتوقع أن تخوض إيران معركة مكشوفة وصريحة ضد المشروع. ولكن هذا لا يعني أنها لن تستهدف رئيس الحكومة، بصورة أو أخرى، وتعمل على إطاحته في أقرب فرصة ممكنة، وهو الذي تعرف الأطراف المعنية جميعًا أنه الأب الشرعي للمشروع والأكثر حماسًا وتصميمًا على المضي به قدمًا.
أما في جهتها الشمالية، فتبدو المشكلة بالنسبة لإيران أن ممر زنغزور يقع على خط مواز تمامًا للحدود الإيرانية-الأرمينية. وترى طهران بالتالي أن انتقال الممر إلى السيادة الأذرية يعني بالضرورة العودة إلى الوضع السائد خلال العهد السوفيتي، وإلى إغلاق نافذة إيران على المجال الأوروآسيوي من جديد. كما أن الإيرانيين لا يريدون أن يتاح لتركيا طريق اتصال مباشر مع وسط آسيا في شرق إيران، بدون أن يمر هذا الطريق بإيران نفسها.
ما يسأله الأتراك والأذريون: لماذا يجب أن تنظر الجمهورية الإسلامية إلى أذربيجان، التي تربطها مع إيران روابط تاريخية وثقافية وبشرية وثيقة، باعتبارها عدوًّا، وترى أن استعادة الأذريين لحقوقهم في ممر زنغزور خطر عليها؟ فتح ممر زانغزور لا يعني بالضرورة قطع طريق إيران مع الشمال، يقول الأذريون، لأن من السهل سواء أنشأت أذربيجان طريقًا بريًّا أو خط سكة حديدية عبر الممر، أن تحافظ إيران على الطريق البري الذي يربطها بأرمينيا، سواء ببناء أنفاق أو جسور عبر الممر.
ليس من السهل أن يجد العراقيون والأذريون إجابات واضحة في طهران على تساؤلاتهم. قد يحسب العراقيون والأذريون، وربما الأتراك معهم، أن يسهم تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، سيما بين إيران وإسرائيل، في تطور توجه أكثر عقلانية وبراغماتية في طهران تجاه مصالح جوارهم العراقي والأذري والتركي، توجه متحرر من مواريث تدافعات تاريخية طواها الزمن. بدون ذلك، ثمة قليل من الشك في أن إيران ستقف عقبة كأداء أمام طريق التنمية العراقي-التركي، وأمام نجاح أذربيجان في استعادة حقها في ممر زنغزور.