الإعلام الغربي ومأسسة الإبادة الجماعية في المجال العام

يحاول التعليق إبراز المنظور الإخباري للإعلام الغربي في تغطية الذكرى الأولى لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومعالم التحوُّل في الخطاب باتجاه التطبيع مع الحرب ومأسسة الإبادة الجماعية في الممارسة الصحفية والمواقف الفكرية والسياسية.
16 October 2024
انقلاب المعايير الصحفية في معظم الإعلام الغربي لدعم الحرب والتطبيع مع الإبادة الجماعية في غزة (رويترز)

بعد مرور عام على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة لا يزال معظم الإعلام الغربي مُؤَطَّرًا بالمنظور الإخباري للسردية الإسرائيلية ومنطلقاتها الأيديولوجية، في تغطية ذكرى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتطورات مسارات الحرب، بل إن هذا الإعلام يتجاوز الزمنَ الحربي الإسرائيلي مندفعًا لدعم الحرب وتداعياتها، التي يرى فيها انتصارًا لـ"الديمقراطية الليبرالية الكونية" أمام "محور الشر بقيادة إيران"، وأن "سقوط إسرائيل -في هذه الحرب- يُمثِّل سقوطًا للعالم الغربي وقيمه". لذلك تتعالى أصوات متعددة، صحفية وفكرية وسياسية، في الإعلام الغربي تدعو إلى القضاء على الفاعلين في المحور المذكور والأطراف التي تُمثِّله، وهو ما يكشف منظور خطابها للصراع في المنطقة وأطروحاته التي تجعل إسرائيل بمنزلة الذات الغربية (إسرائيل= نحن)، وتُجسِّد أيضًا الخط الأمامي في الحرب للدفاع عن الـ"نحن". بينما يرى في "محور الشر" الآخر الذي يجب تدميره حتى لا يظل تهديدًا دائمًا لنموذج "الديمقراطية الليبرالية الكونية".

يُشير هذا المنظور في المعالجة الإعلامية إلى لحظتين أساسيتين في الخطاب الإعلامي الغربي وتأطيره لهجوم السابع من أكتوبر: لحظة أولى تبدو ثابتة تتجاهل السياق وتستبعده، ومُسَيَّجَة بأحداث هجوم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، على مواقع عسكرية في مستوطنات إسرائيلية في غلاف قطاع غزة. وهنا، تتواشج الأطر الإخبارية لهذا الخطاب مع مزاعم السردية الإسرائيلية التي أنتجها الإعلام العبري/العسكري منذ اليوم الأول للحرب على غزة، ويتوقف أيضًا الزمن الإخباري في متابعة تطور الحرب عند لحظة الهجوم. وتوجد لحظة أخرى متحركة تتجاوز أحيانًا مشهد الأحداث، ويبدو فيها الخطاب الإعلامي الغربي منخرطًا في الحرب قائمًا بـالتوجيه المعنوي، ومطالبًا بـ"استثمار الفرصة" لإنهاء المقاومة، ومحرضًا على الإبادة الجماعية. وعلى الرغم من التباين الظاهري لروايات هاتين اللحظتين، فإنهما تتواشجان في بناء هذا الخطاب الذي يُبرِز الذات الإسرائيلية/الغربية انطلاقًا من منظور أيديولوجي يمنحها قدرًا من الانسجام والاتساق (الذات الضحية، الذات الحضارية والديمقراطية الوحيدة في المنطقة). وفي هذا السياق، يحاول التعليق إبراز سمات هاتين اللحظتين وخصوصيتهما في ذكرى أحداث 7 أكتوبر، ومظاهر التحول في الإعلام الغربي باتجاه مأسسة الإبادة الجماعية في الخطاب والمجال العام.

استدعاء الدعاية الإسرائيلية 

في الذكرى الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة، اختارت معظم وسائل الإعلام الغربي استدعاء مزاعم الرواية الإسرائيلية والأخبار الزائفة التي أنتجها جيش الاحتلال عن "اغتصاب النساء الإسرائيليات وتعذيبهن" من طرف مقاتلي حركة حماس، و"قطع رؤوس الرجال والأطفال، وحرق الأسر أحياء في مساكنها". كما أن "إرهابيي" الحركة "ذبحوا" الإسرائيليين، و"قتلوا الأطفال أمام أعين آبائهم، وكذلك الآباء أمام أعين أطفالهم". ورغم الحقائق التي كشفتها بعض وسائل الإعلام -بما في ذلك الإعلام الإسرائيلي نفسه، مثل صحيفة "هآرتس" وغيرها- بشأن زيف الرواية التي روَّجها الجيش الإسرائيلي عن قطع رؤوس الأطفال وتعليق جثثهم على الحبل، وقبل ذلك اعتذار مراسلة شبكة "سي إن إن"، سارة سيدنر (Sara Sidner)، عن نشر هذه القصة المُضَلِّلَة، فإن الإعلام الغربي لم يتمكن من العدول عن مزاعم هذا الخطاب الدعائي لتبرير الحرب، وشرعنة الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني حتى اليوم. وقد أصبحت هذه القصص المفبركة جزءًا من تقاليد ومسلَّمات التغطية الإخبارية للحرب والقواعد التحريرية للعمل الصحفي الغربي، التي تجعل تلك الروايات "حقائق ثابتة" لا يمكن الشك في معطياتها. لذلك يحرص هذا الإعلام على تكرار نشرها وبثها باستمرار حتى يُضفي عليها طابع الوقائع التاريخية الموثوقة، والروايات المقدسة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وكان صحفيون كثيرون انتقدوا هذه القواعد والسياسات التحريرية، وربما آخرهم الصحفي صموئيل مينا جونيور (Samuel Mina Junior)، في قناة "سي بي إس" الأميركية، الذي احتج على انحياز الصحافة الأميركية للرواية الإسرائيلية وقصصها المضللة بإشعال النار في ذراعه اليسرى أمام البيت الأبيض.

ويحاول الخطاب الإعلامي الغربي ربط هذه القصص والأحداث التي جرت خلال هجوم السابع من أكتوبر بما يُسمِّيها "المنظمة الإرهابية الإسلامية" حماس، و"البربرية الإسلاموية التي أبادت النساء والأطفال، والأشخاص المؤمنين بالسلام والإنسانية، الذين فتحوا أبوابهم للفلسطينيين". وهنا، يبدو واضحًا مسعى هذا الخطاب في صرف الانتباه عن حقيقة الصراع بين الاحتلال الإسرائيلي وحركات المقاومة الفلسطينية التي تخوض حرب التحرير لدحر الاستعمار منذ أكثر من سبعة عقود. لذلك يركز الخطاب على البعد الديني/الإسلامي والمرجعي لتشويه هوية حركة المقاومة الإسلامية/حماس. ويصف أيضًا الهجوم بـ"الإرهابي"، "ومذبحة القرن العشرين"، و"أسوأ عمل وحشي تعرض له الشعب اليهودي منذ الهولوكوست"، بل يُمثِّل السابع من أكتوبر "فعل الإبادة" (L’acte d’extermination) الذي ارتكبته حماس، كما جاء في افتتاحية لصحيفة "لوموند" الفرنسية: "7 أكتوبر: يوم فظيع، وعام مأساوي"، بقلم مديرها جيروم فينوغليو (Jérôme Fenoglio). وهو أيضًا "أكبر مجزرة في حق الإسرائيليين في تاريخ الدولة العبرية، وعمل إبادة متعمد لا يمكن أن يُبرِّره أي شيء". وتتكرر هذه الأوصاف كثيرًا في الخطاب الإعلامي الغربي الذي ينعت هجوم حماس بـ"مذبحة 7 أكتوبر، التي ارتُكِبت بوحشية تجعل ذكريات الماضي تقشعر لها الأبدان"، وهو "جريمة ضد الإنسانية، وجريمة إبادة جماعية، ارتُكبت مع سبق الإصرار والترصد".  

ويُؤَطِّر الإعلام الغربي ما يُسمِّيها "المذبحة الوحشية التي لا يمكن تحملها" في سياق "قتل اليهود" وإبادتهم ومعاداة السامية، وأن هذه "المذبحة كانت هجومًا على فكرة الدولة اليهودية في كل جزء من أرض إسرائيل"، وينأى عن التأطير السياقي للصراع، الذي يتمثَّل في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي ينكر على الفلسطينيين الحق في الوجود والعيش في أرض فلسطين. ويُضفي السياق المذكور (إبادة اليهود/والدولة اليهودية) على الصراع بعدًا دينيًّا/حضاريًّا؛ إذ يحاول تجريم فعل المقاومة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونزع الشرعية عن نضال الشعب الفلسطيني في مقاومة الاستعمار. كما يُؤَطِّر هذا الإعلام هجوم حماس في سياق الاعتداء على "الديمقراطية الليبرالية الكونية والوحيدة التي تُمثِّلها إسرائيل في المنطقة"، وعلى العالم الحر أيضًا. ولهذه الأسباب، يُماثل الخطاب الإعلامي الغربي هجوم السابع من أكتوبر (7/10) بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 (11/9)، بل يرى في "قتل الأطفال ... واغتصاب النساء... وإحراق العائلات... الحادي عشر من أيلول في إسرائيل".

وفي الوقت الذي تُركز فيه معظم وسائل الإعلام -خلال اللحظة الثابتة- على تقديم الإسرائيليين في صورة الضحية (اليهود) الذين يتعرضون لـ"فعل الإبادة" كما أشار مدير "لوموند" جيروم فينوغليو، فإن هذه الوسائل نفسها تسكت عن الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ولا تُسمِّي الأشياء بأسمائها، بل تتحدث عن "مقتل الفلسطينيين" وتُجهِّل اسم الفاعل للقتل الممنهج: "الحرب جعلت غزة غير قابلة للتعرف عليها. فقد قُتِل عشرات الآلاف من الأشخاص، ونزح جميع من يعيشون هناك تقريبًا مرات عديدة". ويسكت هذا الإعلام أيضًا عن حقيقة الصراع بين حركات المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وأرضه، ويختزل الصورة في الهجوم على إسرائيليين يؤمنون بالسلام والتعايش والحرية والاستقرار. لكن هذا لا ينفي وجود أصوات إعلامية مهنية ترى الأحداث من منظور مختلف.

طبول الحرب والإبادة الجماعية

في مقابل اللحظة الثابتة لتغطية الإعلام الغربي ذكرى هجوم السابع من أكتوبر، تَبْرُز لحظة متحركة/دينامية لهذا الإعلام، تتعالى فيها -بصورة غير مألوفة- الأصوات الداعمة للحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان وبقية الجبهات الأخرى، وتتلاحم فيها النداءات التي تدعو إلى "الدفاع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"؛ لأنها "تحارب أيضًا من أجلنا، ودفاعًا عن قيمنا، لذلك يجب ألا نكون مترددين في دعمنا" لإسرائيل. ولا يتوقف هذا الإعلام عند المطالبة بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، بل يرى أن العالم الغربي معني بهذه الحرب في سياق التحالف الإستراتيجي مع إسرائيل، ولذلك "يجب ألا تضيع الفرصة التي أوجدها النجاح الإسرائيلي الأخير والمذهل الذي حققته في الآونة الأخيرة (اغتيال قيادات حزب الله...) كما يجب إعادة تعريف الحرب على أنها معركة من أجل الحرية والاستقرار... وعلى إسرائيل وحلفائها أيضًا أن يستغلوا الفرصة الزمنية المتاحة قبل أن تتمكن إيران من امتلاك السلاح النووي، وأن يُحدثوا تحولًا إستراتيجيًّا من شأنه أن يُؤَمِّن مستقبل إسرائيل ويُعزِّز الاستقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط".

لا شك في أن هذا الخطاب يُسهِم في التحشيد للحرب، ويُشَرْعِن مشاركة بعض القوى الدولية، سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الصراع بالمنطقة واتساع ساحاته. كما يقوم الإعلام الغربي بإذكاء نار الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الشعبين، الفلسطيني واللبناني، وقد تمتد هذه الإبادة إلى ساحات أخرى. ويتواتر هذا الخطاب في معظم الإعلام الغربي الذي يحاول أن يُقدِّم الحرب خيارًا ضروريًّا لإسرائيل وللعالم الغربي. وهنا تتعالى أصوات عدد من الكتَّاب والمفكرين (وحتى بعض الفلاسفة!) والسياسيين الأوروبيين للتطبيع مع الحرب داخل الفضاء العام حتى تبدو حربًا وجودية لإنقاذ العالم الغربي من خطر ما يُسمِّيها "الإسلاموية"؛ إذ "يجب أن يفهم العالم أن الحرب تتعلق ببقاء إسرائيل التي تُحارب هذه التهديدات بمفردها. وإذا سقطت إسرائيل، فإن أوروبا ستكون في خط المواجهة المقبلة مع الإسلاموية.. لذلك فإن الشرط الأساسي هو أمن إسرائيل، ومن ثم يجب وقف تصرفات إيران وميليشياتها بشكل نهائي". هذا الخطاب التحريضي يصدر عن رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، إيمانويل فالس (Manuel Valls)، في مقالة بعنوان "إذا سقطت إسرائيل نسقط نحن أيضًا"، وهو يدعو إلى توسيع ساحات الحرب لتشمل إيران وفصائل المقاومة، ويحاول أن يعطي لهذا الخيار طابعًا مؤسساتيًّا ليكون جزءًا من بنية الفكر السياسي والثقافي في المجتمع الغربي. ويبدو ذلك واضحًا في خطاب بعض الفلاسفة الفرنسيين مثل باسكال بروكنر (Pascal Bruckner)، الذي يعتقد أن "حرب الشرق الأوسط توفر لنا (للغرب) اليوم فرصة فريدة لإنهاء النظام القاتل في طهران منذ العام 1979. إنها نافذة إستراتيجية لن تكون متاحة في أي وقت قريب... يجب علينا الآن أن نضرب الأخطبوط على رأسه قبل أن تحصل إيران على القنبلة. إن تفويت هذه الفرصة سيكون جريمة في حق الحرية وسيُعرِّض القادة الغربيين لعار دائم"، ولهذا يجب استثمارها "لانتزاع ثمن باهظ من حزب الله ودفعه بعيدًا عن الحدود كلما أمكن ذلك".

نجد هذا النمط من الخطاب الذي يحاول مأسسة الحرب، ومن ثم الإبادة الجماعية، سواء في المؤسسات الإعلامية الكبرى أو في الخطاب العام الغربي أو في المجال العام، ضمن كتابات صحفية أميركية ترى أن "الحرب التي يخوضها الإسرائيليون الآن هي في الأساس حرب أميركا أيضًا: حرب ضد عدو مشترك... يجب أن يَعُدَّ الأميركيون أنفسهم محظوظين؛ لأن إسرائيل تتحمل العبء الأكبر من القتال، وأقل ما يمكننا فعله هو أن نؤيدها".

إذن، تكشف هذه اللحظة المتحركة/الدينامية نزوع الخطاب الإعلامي الغربي إلى التطبيع مع الحرب والإبادة الجماعية في المجال العام، وتحشيد الرأي العام الغربي للاعتقاد بجدوى هذا الاختيار باعتباره ضروريًّا وفرصة يجب أن يستغلها الغرب لمواجهة ما يصفها بـ"الإسلاموية" و"محور الشر" قبل "سقوط إسرائيل" ومن ثم "سقوط الغرب" نفسه. ويعني ذلك مأسسة الإبادة الجماعية في الخطاب العام والممارسة الصحفية والمواقف الفكرية والسياسية. ويُكرِّس هذا المنظور في المعالجة الإعلامية لذكرى هجوم السابع من أكتوبر، وتداعيات الحرب على غزة ولبنان، تحوُّل معظم الإعلام الغربي إلى جهاز للتوجيه المعنوي والدعاية للحرب التي يُراد لها أن تُغيِّر خريطة المنطقة كما تُخطِّط لها إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها. وهنا، يتحلَّل هذا الإعلام مما بقي من القواعد الصحفية المهنية التي ألقى بها وسط محارق الإبادة الجماعية؛ الأمر الذي يجعله إعلامًا للإبادة بامتياز.  

ABOUT THE AUTHOR