المخاطرة الإسرائيلية: حرب إقليمية شاملة وطويلة

تتدحرج الحرب الإسرائيلية إلى لبنان، وقد تصير شاملة أيضا في إيران، وتتسع أهدافها في كل مرحلة من فرض التخلي عن إسناد غزة إلى فرض بالقوة لتغييرات عميقة في مختلف الجبهات، تضمن أمن إسرائيل الدائم، حسب تصور حكومة نتنياهو.
خلال ذلك، يتكشف أكثر عجز إسرائيل عن تحقيق أهدافها، وتتعاظم تكاليفها البشرية والمادية، ويزداد اعتمادها على الولايات المتحدة خاصة في المواجهة مع إيران، وتمد في كل مرة من عمر الحرب التي تخوضها.
قوات من حزب الله خلال تدريب ميداني (أسوشيتد برس)

لم تندلع الحرب فعلاً على الجبهة اللبنانية إلا في 17 سبتمبر/أيلول 2024. طوال الأشهر العشرة السابقة من الحرب على غزة، كان الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل محدوداً ومحكوماً بسقف متعارف عليه ضمناً بين الطرفين. أعلن حزب الله منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 تبني سياسة إسناد غزة ومقاومتها، وذلك بهجمات منخفضة الوتيرة من القصف لأهداف عسكرية معدودة على الجانب الإسرائيلي من الحدود، وقد ردت إسرائيل بقصف مواقع الحزب في منطقة الشريط الحدودي اللبناني.

ولكن إسرائيل لم تتردد، كلما أتيحت لها الفرصة، في الهجوم على ما اعتبرتها مراكز تابعة للحزب في العمق اللبناني، سيما في منطقة البقاع، وفي سوريا. في أواخر يوليو/تموز 2024، اغتالت إسرائيل فؤاد شكر، الذي وُصف بأنه أرفع مسؤول عسكري في قوات الحزب. وفي حالات أخرى، عملت على اغتيال كوادر قيادية أخرى في جناح الحزب العسكري.

وفي 17 سبتمبر/أيلول، نجحت إسرائيل في تنفيذ عملية استخباراتية غير مسبوقة وغير تقليدية، عندما فجرت ما لا يقل عن ثلاثة آلاف من أجهزة الاستدعاء التي بدأ عناصر الحزب حملها منذ أشهر قليلة عند تحركهم بعيداً عن المواقع العسكرية، مما أدى إلى مقتل العشرات وجرح الآلاف من عناصر الحزب ومن المدنيين. وفي اليوم التالي، نجحت إسرائيل في تنفيذ عملية تفجير مشابهة لأجهزة اتصال اللاسلكي (ووكي توكي) التي يستخدمها الحزب منذ سنوات، نجم عنها مقتل عشرات آخرين، بعضهم من المدنيين، وجرح ما لا يقل عن ألف من عناصر الحزب. كلتا العمليتين أشارت إلى نهاية مرحلة الاشتباك المحدود، وإلى توجه إسرائيلي لفتح الجبهة اللبنانية على نطاق أوسع.

في 19 سبتمبر/أيلول، قصفت إسرائيل قيادات لحزب الله في الضاحية الجنوبية، وتصاعدت العمليات لتصبح حملة قصف جوي، طالت مختلف محاور الجنوب اللبناني، وضاحية بيروت الجنوبية، والبقاع. وقد أصبح القصف الجوي سمة رئيسية للحرب في الجبهة اللبنانية، وبصورة لا تقل عن حملة القصف الجوي على قطاع غزة المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ولم تلبث إسرائيل أن اغتالت الأمين العام للحزب حسن نصر الله في 27 سبتمبر/أيلول، واستهدفت بعد ذلك في 3 أكتوبر/تشرين الأول، هاشم صفي الدين، المرشح لخلافة نصر الله، لكن دون وضوح نتائج الاستهداف.

وفي عملية الاستهداف الثاني على وجه الخصوص، ادعت أوساط الجيش الإسرائيلي أن صفي الدين كان في اجتماع ضم عدداً من عناصر الحزب القيادية في مقر محصن تحت الأرض. وكانت القوات الإسرائيلية قد بدأت منذ أول أكتوبر/تشرين الأول محاولات الاختراق البري لجنوب لبنان في نقاط مختلفة من الحدود.

كشفت هذه الجولة من الصراع العربي - الإسرائيلي، منذ اندلاعها قبل ما يزيد عن العام، عن عجز المنظومة العربية - الإسلامية عن التأثير في مسار الحرب، سواء بالتدخل المباشر أو عبر التحرك الفعال على المستوى الدولي. كما كشفت عن محدودية التأثير الروسي - الصيني في القرار الدولي، سيما فيما يتعلق بالأزمات البعيدة عن الجوار القريب لكلتا القوتين. ولكن الواضح أن ثمة تعقيدات تحيط بمواقف وأهداف الأطراف المعنية بالحرب في جبهة غزة، والجبهة اللبنانية، وما يمكن أن تسهم به هذه الأطراف. بمعنى، أن مآلات الحرب على لبنان لا تتعلق بمواقف وأهداف إسرائيل، وقوى المقاومة (حماس أو حزب الله)، ولكن أيضاً بالولايات المتحدة ومدى تأييدها لإسرائيل، كما بإيران ومدى التزامها بدعم حزب الله.

المقاربة الإسرائيلية للحرب على لبنان

يسبق تصور إسرائيل للتهديد الذي يمثله حزب الله اندلاع الحرب على غزة بسنوات طويلة، بفعل العلاقة الوثيقة التي تربط الحزب بإيران. وقد ربط المخططون الإسرائيليون دائماً بين مخاطر البرنامج النووي الإيراني، وتعاظم مقدرات حزب الله العسكرية في لبنان، التي رأى فيها الإسرائيليون محاولة إيرانية لردع أي توجهات إسرائيلية لإجهاض البرنامج النووي. والمؤكد، أن إسرائيل كانت تخطط، قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وقبل تبني حزب الله سياسة إسناد غزة، لتوجيه ضربة استباقية للحزب. وتكشف عمليات الاختراق الأمني والاستخباراتي الإسرائيلية الواسعة لحزب الله ومواقع قيادته وشبكات اتصاله؛ حجم التركيز الإسرائيلي على الحزب منذ سنوات طويلة.

ارتفعت أصوات في الطبقة الإسرائيلية الحاكمة تدعو إلى التوجه نحو الشمال وإطلاق حملة واسعة ضد حزب الله منذ الأسابيع الأولى لتبني الحزب سياسة إسناد غزة. ولكن الأرجح أن قيادة الجيش، التي كانت قد حشدت ما لا يقل عن 120 ألفاً من الجنود في الحرب على غزة، رأت في الجبهة اللبنانية عبئاً ثقيلاً يصعب تحمله. منذ نهاية أغسطس/آب 2024، وما إن تقلص حجم العمليات في قطاع غزة، حتى أخذ الجيش الإسرائيلي في التوجه نحو الشمال.

ما أعلنته الحكومة الإسرائيلية أن هدف الحرب على لبنان وحزب الله هو تأمين عودة النازحين الإسرائيليين في الشريط الحدودي الشمالي إلى المدن والقرى التي هجروها منذ بدأ الحزب عمليات القصف المحدود لإسناد قطاع غزة. ويقول الإسرائيليون إن اللجوء إلى القوة لتأمين عودة النازحين لم يُقر إلا بعدما رفض الحزب مقترحات الوسيط الأميركي بتطبيق قرار مجلس الأمن 1701، الذي لم يطبقه اللبنانيون بصورة شاملة مطلقاً، وهو ما يقتضي انسحاب قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وتخلي قواته التي أخذت مواقع لها جنوب الليطاني عن سلاحها الثقيل، كما يقتضي تعهد الحزب بفك الارتباط مع الحرب في غزة.

ولكن أهداف إسرائيل المعلنة من الحرب لا تنسجم بصورة وافية مع تصورها المسبق لما يمثله الحزب من تهديد. فمجرد انسحاب الحزب إلى شمال الليطاني لا يضمن توقف قصفه لأهداف إسرائيلية، سيما أن مراكز صواريخ الحزب المتوسطة والثقيلة والطائرات المسيرة تقع أصلاً شمال الليطاني وليس جنوبه. كما أن تخلي الحزب عن سياسة إسناد غزة -إن وافق الحزب على ذلك- لا تضع نهاية للتهديد الاستراتيجي الذي كان يمثله أصلاً قبل اشتعال الحرب على غزة.

تشير الطبيعة المتعددة الأوجه للحرب على لبنان إلى أن إسرائيل استدارت إلى الجبهة اللبنانية للتعامل مع تهديد حزب الله بكافة جوانبه، السياسية والعسكرية، اللبنانية والإقليمية. بمعنى، أن هدف هذه الجبهة من الحرب وضع نهاية للتهديد برمته: تدمير مقدرات الحزب العسكرية، سواء على مستوى البنية القيادية، الكادر البشري، أو المعدات الثقيلة، وإضعاف الحزب سياسياً وإعادة بناء المعادلة الطائفية اللبنانية، بما يشمل تمهيد الطريق لصعود أسهم القوى اللبنانية ذات الاستعداد لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، واستهداف حاضنة الحزب الشعبية بالتهجير وتدمير الممتلكات ووسائل المعاش، ومن ثم تقويض الالتفاف الشيعي اللبناني حول الحزب، والتعامل الحثيث مع مواقع تمركز الحزب ومقدراته العسكرية في سوريا.

لذا، فالأرجح أن تستمر حملة القصف الجوي لكافة المراكز التي يعتقد الإسرائيليون أن لها علاقة مع حزب الله، العسكرية منها والمدنية - الخدمية، وستستمر حملات تهجير اللبنانيين في الجنوب والضاحية والبقاع واستهداف المساكن والمعامل والمزارع في هذه المناطق، وكذلك محاولات اغتيال قيادات وكوادر الحزب السياسية والعسكرية، وقد تتطور الاختراقات البرية في الشريط الحدودي إلى محاولة احتلال كافة المنطقة جنوب الليطاني إن أمكن، بل وإلى قصف أهداف خارج مناطق نفوذ الحزب التقليدية، بما يشمل بنى ومنشآت تحتية لبنانية لا علاقة لها بالحزب أو حاضنته. كما قد تتطور الحملة على مواقع تمركز الحزب في سوريا إلى غزو العمق السوري.

طريق الحرب هذا هو ما توحي به كلمات رئيس الشاباك الإسرائيلي، رونين بار، عندما قال إن الدفاع عن الدولة وشعب إسرائيل لم يعد ممكناً من داخل إسرائيل وحسب، ويجب العمل عليه من خارجها أيضاً. وهو أيضا ما يوحي به خطاب نتنياهو الموجه للشعب اللبناني، ودعوته إلى أن يقبض على مصيره بيده، وأن يتعظ مما أوقع بقطاع غزة وأهله.

نهج حزب الله الدفاعي

لم يكن الحزب يرغب أصلاً في خوض حرب واسعة النطاق وعالية الوتيرة مع إسرائيل، وتكرار الدمار الذي حل به وبحاضنته الشعبية وبلبنان ككل في عام 2006. ولذا، فقد حرص الحزب على أن يضبط وقع حملة مساندة غزة ضمن سقف محدود، بل وتجاهل أحياناً الضربات الإسرائيلية خارج سقف الاشتباك المنخفض. ولكن الحزب فوجئ منذ منتصف سبتمبر/أيلول بحجم الضربات الإسرائيلية التي وجهت له، ولم يعد لدى قياداته المتبقية شك في أن إسرائيل بصدد توسيع نطاق الحرب، براً وجواً، وفي لبنان وسوريا.

مع بداية التوغلات الإسرائيلية البرية، كان الحزب -على الأقل على المستوى العسكري- قد استعاد توازنه، وأعاد بناء مراكز وقنوات التحكم والسيطرة. ولا يبدو أن الضربة التي وجهت لقيادات الحزب قد تركت أثراً كبيراً على وضع جناح الحزب العسكري. تماماً كما أن تفجير الآلاف من وسائل الاتصال مسّ شبكة الاتصالات المتحركة، لكنه لم يمس تلك التي تربط بين المواقع العسكرية.

كما أن حملة القصف الكثيفة طوال عدة أسابيع من الحرب في الجبهة اللبنانية، وبوتيرة أقل في سوريا، والاغتيالات المتتالية في سوريا ولبنان، وتفجير شبكات الاتصال المتحركة، قد تسببت في خسارة الحزب عدة آلاف من جنوده وكوادره، وربما في خسارة جزء يصعب تقديره من معداته.

كما يبدو، بغض النظر عن الادعاءات الإسرائيلية، أن قدرات قوات الحزب على خوض هجمات برية داخل الحدود الإسرائيلية قد أضعفت. ولكن مقدرات الحزب العسكرية، سواء على مستوى البشر أو المعدات، هي كبيرة بأي مقاييس. والمؤكد أن ما يحتفظ به الحزب من مقدرات كافٍ للقيام بمهمة الدفاع بكفاءة ملموسة.

ويبدو أن الحزب ينتهج سياسة دفاعية من شقين: الأولى، تتعلق بالتعامل مع كافة محاولات التوغل والاختراق الإسرائيلي براً، وعلى طول وعرض الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، كما مع أي محاولة للاختراق عن طريق البحر على طول الساحل الممتد من جنوب بيروت إلى رأس الناقورة. والثانية، التصعيد التدريجي في القصف الصاروخي وهجمات الطائرات المسيرة على الأهداف الإسرائيلية، سواء على مستوى عمق الأهداف المستهدفة أو نوعية هذه الأهداف.

الهجمات التي بدأت تطال المواقع والقرى الإسرائيلية القريبة أو الملاصقة للشريط الحدودي، امتدت تدريجياً إلى صفد وعكا وحيفا وشمال تل أبيب. والأهداف التي اقتصرت في البداية على مواقع عسكرية إسرائيلية، اتسعت إلى معامل ومصانع ذات طابع عسكري واستراتيجي. وتأمل قيادة الحزب أن تؤدي صلابة دفاعاته، من جهة، والأثر السياسي والاقتصادي والمعنوي الذي توقعه هجماته في العمق الإسرائيلي، من جهة أخرى، إلى إقناع القيادة الإسرائيلية باستحالة تحقيق أهدافها في الجبهة اللبنانية، وإلى خفض الشروط التي تضعها لوقف إطلاق النار.

ولأن حزب الله يسعى إلى أن تتوقف الحرب على الجبهة اللبنانية قبل أن تتفاقم بصورة أكبر، فقد ترك باب الاتفاق السياسي موارباً، وهذا ما أوحى به نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، في كلمته المسجلة يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول، عندما أشار إلى تفويض رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، بالتفاوض. ما أوردته عدة تقارير أن الحزب يقبل بوقف إطلاق نار مؤقت لعدة أسابيع، يتم خلالها التفاوض حول تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 والمسائل الأخرى المتعلقة بالحرب (مثل الارتباط بين الجبهة اللبنانية والحرب على قطاع غزة). ولكن تصريحات قيادات الحزب لم توضح حتى الآن هل يقبل الحزب بالانسحاب شمال الليطاني مباشرة مع وقف إطلاق النار، وهل سيتفاوض على الموقف في الجبهة اللبنانية وحسب، أم سيبقى مُصرًّا على إنهاء الحرب على جبهتي لبنان وقطاع غزة.

في كلمته الثالثة منذ اغتيال نصر الله، بدا نعيم قاسم أكثر تصميماً على المقاومة، وثقة بأن مسار الحرب سيحسم في ساحة القتال، مجددا تأكيده أن التزام الحزب بدعم المقاومة في فلسطين هو في جوهره دفاع عن لبنان أيضاً. لم يشر قاسم إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، الذي بات ركيزة مساعي حكومة تصريف الأعمال اللبنانية لإيقاف الحرب، ولكنه أكد أن الطريق إلى وضع نهاية لأعباء الحرب على الطرفين، بما فيها عودة النازحين الإسرائيليين إلى بلداتهم وقراهم في شمال إسرائيل، هو وقف إطلاق النار، بدون أن يكشف إن كان يربط وقف النار في الجبهة اللبنانية مع وقف للنار في غزة، أو أنه بات يرى فصل الحرب في الجبهتين بعضهما عن بعض.

عموماً، لا يبدو أن مساعي حكومة تصريف الأعمال، المتمحورة حول القرار 1701 تثير قلق حزب الله. ما يثير قلق الحزب في المجال السياسي هو التحركات التي بدأت بلقاءات الجماعات والأحزاب المعارضة للحزب في لبنان، وفي مقدمتها القوات اللبنانية التي يقودها سمير جعجع. تتمتع هذه التحركات، كما يبدو، بدعم إقليمي ودولي، وتستهدف إعادة إنشاء معادلة القوة في الساحة السياسية اللبنانية، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية بمعزل عن إرادة الحزب، والتوجه بلبنان إلى تطبيق القرارين الدوليين 1559 الصادر عام 2004 و1701 الصادر عام 2006، وإلى وضع نهاية للحرب على لبنان، ومن ثم نزع سلاح الحزب وتحوله إلى جماعة سياسية فقط، وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني.

احتمالات تطور الموقف الإيراني

ليست إيران طرفاً مباشراً في الحرب على غزة ولا في الجبهة اللبنانية، ولكنها طرف بالغ التأثير، وقد تتطور علاقتها بالحرب من الاشتباكات المتقطعة مع إسرائيل (الرد والرد المضاد) إلى الاشتباك المتصل والأوسع نطاقاً. تتمتع إيران بعلاقة وثيقة مع حزب الله، تعود إلى الأيام الأولى من تأسيسه الذي شجع عليه الحرس الثوري الإيراني في أوائل الثمانينيات. وبينما يتهم الإسرائيليون إيران بأنها الداعم الرئيسي لحركة حماس، فإنهم يرون أن حزب الله لا يمكن أن يستمر في الوجود بدون دعم طهران وتأييدها، وأن قرار الحزب هو في الحقيقة قرار إيراني، وهذا ما دفع إسرائيل إلى استهداف المبنى التابع للقنصلية الإيرانية في دمشق في أبريل/نيسان 2024، باعتباره مركزاً لتخطيط ورعاية وتنسيق إمدادات الحزب.

ردت إيران على قصف مقرها الدبلوماسي في دمشق بحملة قصف صاروخي لأهداف عسكرية معدودة داخل إسرائيل. ولكن الصواريخ التي استخدمت في القصف كانت صغيرة وبطيئة، مما ساعد الدفاعات الجوية الإسرائيلية (بدعم من أنظمة اعتراض أميركية، ومشاركة أردنية)، على اعتراض معظمها، سواء في سماء الأردن أو داخل حدود فلسطين المحتلة.

ولكن القيادة الإيرانية، وبعد شهور من ضبط النفس ومحاولة التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة ولبنان، اضطرت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول إلى شن حملة قصف صاروخية جديدة ضد إسرائيل، رداً على انتهاك الأخيرة سيادة إيران واغتيال إسماعيل هنية في طهران. هذه المرة، استخدمت إيران صواريخ باليستية أكثر كفاءة وأسرع من الصواريخ التي استخدمتها في الحملة الأولى، مما تسبب في دمار بالقواعد الإسرائيلية العسكرية المستهدفة.

يؤكد كبار المسؤولين الإسرائيليين، ومنهم رئيس الحكومة ووزير الدفاع، أن إسرائيل في طريقها للرد على إيران، وأن الرد سيكون مؤلماً ودقيقاً. ولكن ثمة مؤشرات أخرى على أن الأميركيين يضغطون لإيقاف إسرائيل عن التصعيد مع إيران، ومنع استهداف منشآت إيرانية نفطية أو نووية. يحتاج الإسرائيليون إلى مساعدة أميركية، سواء في الهجوم على إيران إن اختارت إسرائيل استخدام سلاح الجو وليس الصواريخ والمسيرات وحسب، أو في الدفاع عن إسرائيل ضد رد إيراني متوقع، وهذا ما يمنح الأميركيين فرصة للتدخل في تحديد طبيعة الأهداف التي يمكن أن تستهدفها إسرائيل في إيران.

الواضح منذ بداية الحرب على غزة أن إيران -مثل حزب الله- لم تكن تريد الانخراط المباشر في الحرب، وأنها تتجنب بصورة خاصة تحوّل الأرض الإيرانية إلى ساحة اشتباك كما حدث خلال سنوات الحرب العراقية - الإيرانية. ويبدو أن وتيرة وحجم وأثر الرد الإسرائيلي، ومن ثم الرد الإيراني المضاد المتوقع، سيمثلان منعطفاً حرجاً في تحديد طبيعة المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية. ففي حالة التصعيد الاستراتيجي للمواجهة، وإفلات الردود والردود المضادة من التحكم، لا يستبعد أن تلجأ إيران إلى فتح الجبهة السورية، وإلى تشجيع حلفائها في العراق واليمن، كما في لبنان، على تصعيد هجماتهم على إسرائيل.

بيد أن إيران تحتفظ بدور آخر لا يقل أهمية في المجال السياسي المحيط بالجبهة اللبنانية. فعلى الرغم من إشارات المسؤولين الإيرانيين المتكررة إلى استقلالية قرار حزب الله، فالمؤكد أن إيران هي الجهة الوحيدة التي يمكن أن تدفع الحزب إلى القبول باتفاق تفاوضي لإنهاء الحرب على لبنان، وهي الجهة التي يمكن أن تتفاوض نيابة عن الحزب مع القوى الإقليمية الأخرى حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية.

ولكن، إلى جانب الغموض الذي يحيط بحقيقة الموقف الإيراني من مسألة فصل الجبهة اللبنانية عن الحرب في قطاع غزة، فإنه من المستبعد أن تقبل طهران بما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه، وما تطالب به القوى اللبنانية المعارضة لحزب الله، سيما التوجه إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 1559، الذي يفهم منه الدعوة إلى نزع سلاح الحزب، وتحوله إلى مجرد قوة سياسية.      

تحولات الموقف الأميركي

لا يريد الأميركيون المزيد من توسع الحرب في الشرق الأوسط، أو على الأقل هذا ما يكرره الرئيس جو بايدن وكبار المسؤولين في إدارته، سيما وأن الانتخابات الرئاسية الأميركية باتت على الأبواب. ولكن إدارة بايدن أحجمت منذ بداية الحرب عن ممارسة أي ضغوط ملموسة على حكومة نتنياهو، لا بخصوص استراتيجية الحرب وأهدافها الكبرى، ولا بخصوص تكتيكات الجيش الإسرائيلي وطرق الإبادة التي يستخدمها في قطاع غزة، وأخذ في استخدامها في لبنان. في الوقت نفسه، لم تتوقف الولايات المتحدة ولو للحظة عن الاستجابة لحاجات ومطالب إسرائيل التسليحية، كما عملت على حمايتها في مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.

حاولت إدارة بايدن، التي عينت مبعوثا خاصا للبنان، منذ شهور الحرب الأولى وانطلاق الاشتباكات المحدودة بين إسرائيل وحزب الله، احتواءَ الجبهة اللبنانية كاملة. وقد تمحور المقترح الأميركي، الذي وجد تأييداً فرنسياً، حول وقف لإطلاق النار في الجبهة اللبنانية، وفصلها عن تطورات الحرب في قطاع غزة، وتطبيق القرار 1701 الذي يقتضي انسحاب قوات حزب الله إلى شمال الليطاني، ونشر الجيش اللبناني على طول الشريط الحدودي.

ولكن، رغم ما ذُكر من أن الأمين العام لحزب الله وافق قبل اغتياله على المقترح الأميركي - الفرنسي في خطوطه العريضة، فإن الولايات المتحدة تخلت عن جهودها للتوصل إلى اتفاق حول الجبهة اللبنانية بمجرد انطلاق العمليات الإسرائيلية البرية عبر الخط الحدودي؛ بل لم يزر المبعوث الأميركي بيروت إلا في 21 أكتوبر/تشرين الأول، وبعرضٍ تنقل التقارير أنه يجعل لبنان ناقص السيادة في وجه الأعمال العسكرية الإسرائيلية.

الواضح، أن إدارة بايدن لا تعارض محاولة إسرائيل تقويض قوة حزب الله ومقدراته العسكرية، وإضعاف دوره السياسي وتهميشه في الحسابات اللبنانية الداخلية، ولكن واشنطن لا تريد أن تسلك إسرائيل في لبنان مسلك التدمير والإبادة الذي انتهجته في قطاع غزة، لأن لبنان في النهاية أكبر من حزب الله، وأنه وطن طوائف وجماعات عدة، بعضها وثيق الصلة بالغرب، ولابد من العمل على عودته إلى الحاضنة الغربية وليس تدميره. وذلك لا يعني بالضرورة أن إسرائيل، على المدى الطويل، ستأخذ المعارضة الأميركية دائماً في الاعتبار، خاصة إذا عجزت عن كسر المقاومة اللبنانية في الجنوب.

وعلى الرغم من عدم توفر معلومات يقينية حول التحرك السياسي الأميركي في الساحة اللبنانية، فالمؤكد أن الإدارة الأميركية تبذل جهداً مستمراً لجذب رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية ورئيس البرلمان اللبناني إلى وجهة نظرها حول مستقبل لبنان وعلاقته بإسرائيل. كما تؤيد واشنطن، وربما تشجع القوى المعارضة لحزب الله (التي يتصدرها سمير جعجع) على التكتل وبذل كافة الجهود الممكنة لانتخاب رئيس لبناني جديد مقبول غربياً، وتعهّدِ الرئيس المحتمل بتطبيق القرارين 1559 و1701.

توافق الولايات المتحدة كذلك على توجيه إسرائيل ضربةً رادعة لإيران، على أن تتجنب هذه الضربة أهدافاً إيرانية استراتيجية، مثل البنى النفطية التحتية والمنشآت النووية. ولكن من غير الواضح إن كانت واشنطن على استعداد لتقديم المساعدة الفعلية للقوة الإسرائيلية الجوية المهاجمة. الواضح، وما أكده المسؤولون الأميركيون مراراً، أن الولايات المتحدة ستساعد في الدفاع عن إسرائيل بصورة فعالة، إذا ما تعرضت لهجوم إيراني انتقامي، وهذا ما يعنيه نشر منظومة "ثاد" الأميركية المضادة للصواريخ داخل إسرائيل، ونشر قوة أميركية لتشغيله.

ترى الإدارة الأميركية، أو ربما أطراف فيها، أن ثمة مؤشرات متزايدة على ضعف حزب الله وإيران، وأن مزيداً من الضغط العسكري المحسوب يمكن أن يفرض على كل منهما تراجعاً ملموساً في لبنان والإقليم.

حرب مديدة بتجليات مختلفة

أطل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في كلمة قصيرة له صباح 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024، توجه فيها إلى الأمين العام للأمم المتحدة طالبا منه سحب قوات اليونيفيل (القوات الدولية التي تقوم بمهام المراقبة على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية منذ عام 2006). وقال نتنياهو إن وجود هذه القوة الدولية يعرقل عمل الجيش الإسرائيلي في الجنوب ويعرّض أفراد القوة للخطر. والواضح أن نتنياهو، الذي يعرف أن وجود قوات اليونيفيل يخضع لقرار مجلس الأمن الدولي وليس للأمين العام الأممي، أراد بكلمته توجيه تهديد مباشر للدول المساهمة في القوة الدولية.

بعد فترة قليلة على بث خطاب نتنياهو، أطل وزير الدفاع يوآف غالانت، ليقول بصورة مباشرة وبكلمات لا تحتمل التأويل: إن الجيش الإسرائيلي سيدمر كافة القرى والبلدات اللبنانية على طول الشريط الحدودي، مدعياً أن هذه القرى والبلدات ليست سوى مواقع لحزب الله. خلال الساعات التالية على بيان غالانت، أصدر الجيش الإسرائيلي بياناً يطلب فيه من سكان النبطية، إحدى أكبر مدن الجنوب اللبناني، و25 بلدة أخرى في الشريط الحدودي، إخلاء مساكنهم والتوجه إلى شمال نهر الأولي، أي شمال مدينة صيدا.

مع حلول مساء اليوم نفسه، نفذ حزب الله عملية قصف معقدة لمعسكر تدريب خاص بلواء غولاني، أحد أقدم وأبرز ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي، قرب بلدة بنيامينا، جنوبي مدينة حيفا. أوقع الهجوم الذي شنته طائرة مسيرة قرابة 70 جريحاً وأربعة قتلى من الجنود.

يشير هذا النسق من الأحداث إلى:

أولاً- أن حكومة نتنياهو لا تزال مصرة على مواصلة الحرب على لبنان، رغم عجز قوات الجيش الإسرائيلي، بعد نصف شهر على محاولات التوغل في عدة محاور من الجنوب اللبناني، عن تحقيق تقدم ملموس خلف الشريط الحدودي. وربما بسبب هذا الإخفاق، يبدو أن إسرائيل تتحرك بصورة حثيثة لتبنّي نمط التدمير الواسع في الجنوب اللبناني، الذي سبق أن تبنته في قطاع غزة. وإلى جانب القصف الجوي، الدقيق أحياناً، وغير الدقيق أحيانا أخرى، والذي بات يطال كافة الأراضي اللبنانية، فإن الادعاء بأن الحرب على لبنان ستكون عملية عسكرية محدودة قد أصبح مجرد تاريخ. تتدحرج الحرب الإسرائيلية في جانبها اللبناني سريعاً إلى حرب شاملة، لتحقيق الأهداف الإسرائيلية غير المعلنة للحرب، لكن الجيش الإسرائيلي لم يستطع بعدُ إحراز تقدم ملموس وذي معنى في جنوب الليطاني.

ثانياً، أن حزب الله، الذي تعرض لضربات مؤلمة في سبتمبر/أيلول، قد استعاد توازنه بالفعل، مظهراً منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول تماسكاً ملموساً على الصعيد العسكري تجلى في مقاومة صلبة في محاور التوغل الإسرائيلي بالجنوب، وفي القدرة على شن هجمات يومية بعشرات الصواريخ والمسيرات، تستهدف بصورة خاصة المواقع العسكرية والمواقع ذات الطابع الاستراتيجي من أقصى الشمال الإسرائيلي إلى حيفا وتل أبيب.

بيد أن الحرب في جبهتها اللبنانية تمضي في سباق محموم بين طريق التصعيد المستمر، وطريق التسوية المنفصلة عن غزة ووقف إطلاق النار. فرغم ما أظهرته إدارة بايدن من تخليها عن جهود التسوية في لبنان، أو السعي إلى تحصيل أثمان سياسية للحملة العسكرية الإسرائيلية، والتطلع إلى قيام إسرائيل بتدمير حزب الله عسكرياً وتهميشه سياسياً، فإن واشنطن باتت تدرك أن التقديرات الإسرائيلية لما أنجزته في الحرب ضد الحزب كانت مبالغاً فيها، وأن إسرائيل لا تبدو قريبة من تحقيق أهدافها في لبنان. وهذا ما يشجع حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، التي تحتفظ بقنوات اتصال مفتوحة مع الأميركيين والفرنسيين، على مواصلة جهودها للتوصل إلى وقف للحرب على أساس تطبيق القرار 1701. والسؤال الذي لا تبدو له إجابة حتى الآن، يتعلق بالإمكانية الواقعية لتطبيق 1701 وفق المنظور الإسرائيلي، سيما أن ثمة إشكاليات هائلة تحيط بتطبيق هذا القرار، لا تتعلق بحزب الله وحسب، ولكن حتى بإسرائيل كذلك.

كما تمضي الحرب في جبهتها اللبنانية في سباق آخر لا يقل حرجاً، انتظاراً لتطورات الاشتباك الإسرائيلي - الإيراني، وما يمكن أن تفضي إليه جولات الرد والرد المضاد بين الدولتين، ليس خلال الأسابيع القليلة القادمة وحسب، بل وخلال الشهور القادمة. فمهما كانت طبيعة وحدود الهجوم الذي يخطط له الإسرائيليون على إيران، فمن غير المستبعد أن تنتظر القيادة الإسرائيلية إلى ما بعد الانتخابات الأميركية لتوجيه ضربة كبرى للمشروع النووي الإيراني.

في المقابل، يبدو أن إيران لم تحسم أمرها بعدُ حول الاتجاه الذي لابد أن تأخذه في المواجهة مع إسرائيل: دفع حزب الله إلى تسوية سريعة بمعزل عن الحرب في غزة، أو تشجيع الحزب وحلفائها الآخرين في المشرق العربي على تصعيد الهجمات ضد إسرائيل، أو العمل على فتح جبهة أخرى للحرب، سيما في سوريا، وثيقة الصلة بالجبهة اللبنانية، جغرافياً واستراتيجياً.