كشفت نتائج الانتخابات الأميركية في 2024 اتجاه مركز الثقل الأميركي إلى الجمهوريين سياسيًّا وإلى قاعدتهم اليمينية انتخابيًّا، فلقد فاز ترامب بعهدة انتخابية ثانية، بالتصويتين الشعبي والمجمع الانتخابي، فلقد حصل على 312 صوتًا من أعضاء المجمع الانتخابي متجاوزًا الحد الأدنى المطلوب للفوز وهو 270 صوتًا، وحصل على 50.45% من التصويت الشعبي. في المقابل، حصلت مرشحة الديمقراطيين، كامالا هاريس، على 226 من أصوات المجمع الانتخابي وعلى 47.75% من الأصوات الشعبية. تؤكد هذه النتائج اتساع قاعدة الجمهوريين ليس في عموم الناخبين الأميركيين فقط بل في الولايات الحاسمة أو المتأرجحة التي فاز ترامب في عدد معتبر منها، كمؤشر على أن المكونات المنجذبة إلى الجمهوريين صارت غالبة عليها، فلقد فاز في أريزونا، وجورجيا، وميتشغان، ونورث كارولينا، وبنسلفانيا، وويسكونسن.
اكتسح الجمهوريون الكونغرس أيضًا، فلقد فاز 52 جمهوريًّا بمقاعد في مجلس الشيوخ مقابل 46 ديمقراطيًّا، وفاز 213 جمهوريًّا بعضوية مجلس النواب مقابل 205 ديمقراطيين. فاجتمع للجمهوريين البيت الأبيض والكونغرس الأميركي. تضاف أيضًا هيمنتهم على المحكمة العليا التي يميل ستة من قضاتها التسعة إلى الجمهوريين، وقد كان ترامب عيَّن ثلاثة قضاة منهم في عهدته الأولى. لذلك، لن يواجه ترامب مقاومة شديدة تحول دون تنفيذ تدابيره المزمعة.
تحرك مركز الثقل
أظهرت البيانات التي نشرتها نيويورك تايمز أن نحو 90% من المقاطعات، بما فيها تلك التي كانت هاريس في صدارتها في البداية، ذهبت إلى ترامب، كمؤشر على انزلاق ميول الناخب الأميركي إلى وعود الجمهوريين حتى في المقاطعات التي كانت تقليديًّا ديمقراطية. وقد أبانت هذه البيانات أن ترامب عزز شعبيته في المقاطعات الزراعية المناصرة له من قبل، لكنه وسَّع شعبيته أيضًا إلى المقاطعات الحضرية التي تتشكل من تنوع ديمغرافي، يشتمل على قطاع كبير من الشباب الذين تقل نسبة المكون الأبيض فيهم عن 50%، وترتفع نسبة اللاتين (أو ذوي الأصول الإسبانية) إلى 25%. هذا يدل على نجاح حملة ترامب في جذب قطاعات ناخبة أوسع وأكثر تنويعًا. تدل البيانات أيضًا على أن الانشغالات الغالبة على الناخبين هي المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، فلقد مال غالب الناخبين إلى وعود الاستقرار الاقتصادي والأمن. أما عن الاستقرار الاقتصادي، فإن بعض التحليلات تذهب إلى أن مشكلة الاقتصاد ليست في خفض البطالة، كما اعتقد الديمقراطيون، وإنما في خفض التضخم، لأن الدخل من الوظيفة إذا بات عاجزًا أمام ارتفاع الأسعار لن يضمن معيشة مستقرة. وكذلك، فإن هذه الفئات التي كانت تصنف أقلية عرقية أو دينية، لم تعد تنظر إلى نفسها كذلك، ولم تعد أصواتها مضمونة للديمقراطيين، لأنها باتت فئات مندمجة في المجتمع الأميركي وتحولت إلى جزء من نسيجه، فلا تعاني من مشاكل الهوية بل من المشاكل الاقتصادية كبقية الفئات الاجتماعية. وقد سبق أن توقع الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، أن يتغير سلوك الأميركيين من أصول بورتوريكية بعد اندماجهم، وحصولهم على أوضاع اقتصادية واجتماعية يريدون المحافظة عليها أو تحسينها. وقد صدق توقعه فلقد صوَّت قطاع كبير من الأميركيين من أصول بورتوريكية لترامب، وقد أظهرت نتائج الاستطلاع عقب التصويت أن ترامب فاز بنحو 46% من أصوات اللاتين، بمن فيهم من أصول بورتوريكية، متجاوزًا حصيلته في هذه الفئة التي كانت 32% في انتخابات 2020، ومتفوقًا على جو بايدن الذي حصل على 44% في نفس الفئة في انتخابات 2020. تجدر الإشارة إلى أن تصويت العرب والمسلمين لم يذهب كما في السابق في غالبته للديمقراطيين وإنما تراجع في دعم مرشحتهم هاريس وارتفع في دعم ترامب وذهب نصيب منه في دعم مرشح ثالث، كما يتضح في التصويت بمقاطعة ديربورن بولاية ميتشغان التي تعد خالصة تقريبًا للأميركيين من أصول عربية، فلقد حصل ترامب على 47% وهاريس على 24% وجيل شتاين المترشحة اليهودية الداعية لوقف الحرب في غزة على 22%. يتضح التغيير بالمقارنة مع نتائج انتخابات 2020، فلقد حصل حينها ترامب على 24% وبايدن على 72.2%. أما عن عامة الأصوات العربية، فلقد أبان استطلاع أجراه المعهد العربي الأميركي برئاسة جيمس زغبي أن 42% من العرب صوَّتوا لترامب و41% صوتوا لهاريس، وقد عبَّر 26% من الفئة المستطلعة أن الحرب في غزة كانت ضمن الاعتبارات الثلاثة الأولى التي وجَّهت تصويتهم. يدل ذلك على أن دعم إدارة بايدن للإبادة الإسرائيلية في غزة أفقدها قطاعات واسعة من الأصوات العربية والمسلمة، وفاقمت خسارتها الواسعة. أظهرت النتائج أيضًا أن الصوت اليهودي لم يرجح فوز هاريس، فلقد أبان استطلاع نشرته فوروورد اليهودية، أعقب التصويت، أن 79% من اليهود أعطوا أصواتهم لهاريس وأن 21% منهم أعطى صوته لترامب. هذا يكشف مجددًا أن الصوت اليهودي ليس حاسمًا في الفوز.
فقدان الثقة
تساعد عهدة ترامب الأولى على استكشاف السياسات التي سيتبعها في عهدته الجديدة، علاوة على تصريحاته خلال الحملة الانتخابية في 2024، وهي تتصف بطابعين، عام يتسم بالانطوائية أو الانعزالية، أو رفض الارتباطات المتعددة مثل المنظمات الدولية أو الإقليمية، وتفضيل العلاقات الثنائية. وسيؤثر هذا على الحلف الأطلسي الذي ظل ترامب يعده استثمارًا مكلفًا دون عائد مجز للولايات المتحدة. لذلك ستضعف مكانة الولايات المتحدة في بنية نظام الأمن العالمي؛ لأن حلفاءها سيفقدون اليقين في الاعتماد على نصرتها، فيبحثون عن تحالفات جديدة أو يغيرون مواقفهم لتتلاءم مع القوى الأخرى المؤثرة.
الاتجاه الثاني، ميل إلى الحماية الاقتصادية من خلال وضع الحواجز الجمركية أمام منتجات الدول الأخرى، فتشتد بذلك الحرب التجارية مع الصين التي سترد بالمثل، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي، وقد يضر هذا أيضًا بالثقة في دور الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي العالمي، فيصاب الدولار بمزيد من الضعف؛ لأنه يستمد قوته من الثقة في الولايات المتحدة، وتؤدي هذه الحرب التجارية إلى تضرر النمو العالمي فيتضرر الطلب على الطاقة والمواد الأولية.
أظهرت عهدة ترامب الأولى تعديله لهذين الاتجاهين ضمن السياسات التي يعتزمها للمنطقة العربية والإسلامية، فلقد ترك إسرائيل تتصرف كما تشاء في القضية الفلسطينية، وأعطاها مكاسب لم تحصل عليها من قبل مثل الجولان والقدس كاملة، وقد يضيف لها هذه المرة الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية، والتخلص من عوامل الدولة الفلسطينية، مثل الأونروا، لإنهاء قضية اللاجئين، والضغط أكثر على السلطة الفلسطينية لترضى بدور الإدارة الأمنية للضفة دون مطالب تحقيق دولة فلسطينية، ويسعى في ذات الوقت إلى مواصلة اتفاقات إبراهام التي بدأها. لكنه يواجه هذه المرة وضعًا مختلفًا عن عهدته الأولى، فالحرب لا تزال جارية في غزة وجنوب لبنان، ومختلف جبهات المساندة، ولم تستطع إسرائيل فرض شروطها بالقوة. لذلك سيكون ترامب أمام خيارين: إما الضغط على نتنياهو لوقف الحرب أو إعطاؤه مزيدًا من الأسلحة وتوفير الغطاء الدولي. في الحالة الأولى سيصطدم مع نتنياهو، وهذا وضع غير مسبوق ولم تظهر سوابق من ترامب على ذلك، وفي الحالة الثانية سيُخلف وعده بإنهاء الحروب بل قد يجر بلاده إليها إذا اعتقد أنه يزيد في شدتها ليستطيع إنهاءها، ولم يظهر من ترامب في عهدته الأولى رغبة في خوض الحروب بل كان يطالب بانسحاب قوات بلاده في مدد زمنية قصيرة لكن البنتاغون كان يماطل ليكسب الوقت، كما حدث في شأن وجود القوات الأميركية بسوريا. لا توجد سوابق لترامب في الحالتين، لذلك سيواجه وضعًا غير مسبوق.
كذلك، ليس الظرف حاليًّا مماثلًا للظرف الذي انطلقت فيه اتفاقات إبراهام الأولى، فالدول العربية التي تعتزم التطبيع في هذه الفترة لن تتجاهل الإبادة الإسرائيلية في غزة، وستطالب بوقف الحرب أولًا، ثم إن بعض هذه الدول سيطالب بمقابل من أجل التطبيع، ولا تبدو واضحة قدرة ترامب على تلبية ذلك، لأنه أوضح في عهدته الأولى بأن بلاده لن تحارب إيران من أجل السعودية.
قد يعود ترامب إلى فرض سياسة الضغط الأقصى على إيران مجددًا، لكن هذه السياسة ظلت مطبقة خلال عهد بايدن أيضًا، وقد مسَّت قطاعي الطاقة والمال، ولم تؤثر في دور إيران الإقليمي من خلال حلفائها ولا في إحكام العزلة عليها دوليًّا، ولا يبدو أن ترامب قد يجد عقوبات أخرى أشد على إيران وإنما قد يزيد من شدة العقوبات الحالية قليلًا. في المقابل، فإن إيران ستوسع علاقاتها مع بقية القوى التي ستستغل الانكفاء الأميركي أو تضعضع الحلف الأميركي أو المنخرطة في حرب اقتصادية مع الولايات المتحدة، وتعد البريكس أحد منتديات هذا التجمع للقوى الباحثة عن موازن أو بديل للقوة الأميركية. كذلك، ستطور إيران مشروعها النووي، وقد تراجع عقيدتها النووية إذا قدَّرت أن ترامب قد يلجأ للقوة العسكرية ليوقف مشروعها النووي أو يقضي عليه.
إجمالًا، سيؤدي تخلي ترامب عن التزامات بلاده الجماعية الأمنية والاقتصادية، والاعتماد على العلاقات الثنائية، والصفقات الاقتصادية، إلى إضعاف ثقة الحلفاء في الولايات المتحدة وتزايد اندفاع المنافسين لتوسيع نفوذهم وتعظيم مصالحهم. وسيؤدي رهان ترامب على الأداة الاقتصادية في العقوبات أو في تسوية القضية الفلسطينية إلى دفع مزيد من الدول، من جانب، إلى إنشاء نظام اقتصادي ومالي بديل، ومن جانب ثان يرفض الفلسطينيون التخلي عن هدف التحرير، وقد دفعوا في هذه الحرب لأجله ثمنًا باهظًا من أرواحهم.