فرنسا والساحل الإفريقي: من النفوذ إلى البحث عن موطئ قدم

شكَّل إلغاء تشاد لاتفاق التعاون العسكري مع فرنسا ضربة قوية للحضور الفرنسي في إفريقيا؛ إذ تنضم نجامينا لدول الساحل التي طردت القوات الفرنسية، ويعكس تراجع النفوذ الفرنسي استياءً شعبيًّا ورسميًّا متزايدًا، بينما تسعى باريس للتوجه نحو دول أنجلوفونية لتعويض خسائرها.
أتت التدخلات العسكرية الفرنسية بمنطقة الساحل بنتائج عكسية وزرعت الشك والتمرد (الجزيرة)

مقدمة

شكَّل إلغاء تشاد اتفاق التعاون العسكري والدفاعي القائم بينها وفرنسا منذ عقود، ضربة قاسية للحضور الفرنسي بمنطقة نفوذها التقليدية في الساحل وغرب إفريقيا؛ ذلك أن تشاد طالما نُظر إليها باعتبارها قلعة فرنسية محصنة، كما كان يُنظر إلى الجنرال محمد ديبي على أنه امتداد لنظام والده، إدريس ديبي إتنو، الذي يُعد أحد أوفياء فرنسا في المنطقة.

ورغم أن ديبي الابن اتخذ خطوات مثيرة باتجاه التقارب مع روسيا، خليفة فرنسا الجديدة في المنطقة، إلا أنه كثيرًا ما سوَّق تلميحًا أو تصريحًا لتلك الخطوات على أنها انفتاح وتوجه نحو تعدد الشركاء لا أكثر، وأن الأمر لا يقتصر على روسيا وحدها، وإنما يشمل بلدانًا أخرى كالمجر مثلًا.

وبغض النظر عن مسوغات الخطوة وسياقاتها، فإن تشاد تقفَّت -وإن على طريقتها الخاصة- آثار الدول التي ثارت في وجه فرنسا، وألغت اتفاقيات التعاون العسكرية معها وطردت قواتها من أراضيها، ويتعلق الأمر بكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

ويبدو أن فرنسا -عن قصد أو عن غيره- لم تستوعب الدرس جيدًا حين طُردت قواتها من مالي؛ إذ كان واضحًا أن سيل مناهضة وجودها شعبيًّا ورسميًّا لن يقتصر على باماكو فحسب، فتوالى طرد قواتها لاحقًا من واغادوغو ونيامي، والآن تلتحق نجامينا بالركب، رغم أن موقف باريس من خلافة المشير الابن للمشير الأب في نظام جمهوري، كان مهادنًا حدَّ المباركة أو على الأقل التزام الصمت، عكس رفعها العقيرة في وجه الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

وإذا كانت باريس وفقًا لبعض التقارير تسعى إلى تقليص ما تبقى من حضورها العسكري في إفريقيا من 2200 جندي إلى 600 جندي في أفق 2026، فإن وتيرة إلغاء اتفاقيات التعاون العسكري معها وطرد جنودها قد تكون أسرع، فتصحو البلاد فجأة قبل المهلة التي حددتها لنفسها، على قواتها وقد أصبحت غير مرغوب فيها.

إن فرنسا لم تتوقع يومًا أن تُشهر تشاد في وجهها البطاقة الحمراء، ثم تليها بطاقة صفراء من السنغال، والصفراء إن تكررت تكون بمنزلة حمراء، وبالتالي الخروج من الملعب الذي أَلِفَ منتخب "الديكة" اللعب فيه لعقود، حتى بات يخاله ملعبه والجمهور جمهوره، وهما عاملان محفزان على الانتصار، أو على الأقل عدم الخوف من الهزيمة.

إن وجود قواعد عسكرية فرنسية ونشر قوات في عدد من المستعمرات الفرنسية السابقة بإفريقيا، بات اليوم مشكلًا ولم يعد وسيلة لتعزيز الحضور، فالرؤساء الذين كانت فرنسا توفر لهم الحماية مقابل النفوذ والاستفادة من الموارد الهائلة التي تزخر بها بلدانهم، إما ماتوا أو قُتلوا أو أطيح بهم عبر انقلابات عسكرية، والجماعات المسلحة التي برَّرت باريس أحيانًا وجودها العسكري بملاحقتها، يتعاظم نشاطها وتتوسع دائرة انتشارها في المنطقة.

ويبدو أن فرنسا لا تملك من الأدوات وآليات التصدي لرفضها المتنامي في المنطقة سوى الانسحاب الكلي منها، وباتت تتجه نحو بلدان لم يسبق أن استعمرتها، ولا تتقاسم معها اللغة ولا الثقافة، فانفتحت بالأساس على الدول الأنجلوفونية بالقارة، وسعت لتعزيز الشراكة والتعاون معها خصوصًا في المجالات الاقتصادية والتجارية، وهو مسعى لو سعت إليه في منطقة الساحل واستبدلته بالحضور العسكري، لما ثارت الشعوب والحكام في وجهها، ولبقيت معززة، ولكن الأمر لم يعد الآن ممكنًا حتى لو توافرت الإرادة اللازمة لدى ساكن قصر الإليزيه.

تشاد: قطيعة جزئية مع فرنسا وتقارب أوسع مع روسيا

لم تختلف تشاد عن مالي وبوركينا فاسو والنيجر في تبرير إلغاء اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، فقد كانت "السيادة" الخيط الناظم بين مختلف هذه الدول التي تحكمها أنظمة عسكرية، وإن كان الرئيس التشادي، محمد إدريس ديبي إتنو، تجاوز المسار الانتقالي الاستثنائي بتنظيم انتخابات رئاسية فاز فيها، وبقي في السلطة؛ الأمر الذي لم يحصل بعد في باقي تلك البلدان.

لقد اختارت تشاد توقيتًا له رمزية ودلالة خاصة لإعلان إلغاء هذا الاتفاق، وهو 28 نوفمبر/تشرين الثاني الذي يصادف الذكرى السادسة والستين لإعلان الجمهورية التشادية. وأكد الرئيس التشادي في مؤتمر صحفي عقده أيامًا بعد ذلك، أن إنهاء الاتفاق يشكل جزءًا من رغبته في "بناء جيش تشادي يتماشى مع كافة مسؤولياته، ويكون أكثر استقلالية، وأكثر التزامًا، وأكثر مسؤولية في إنجاز مهمته السيادية في الدفاع عن الوطن"(1).

ذكر الجنرال ديبي ضمن المسوغات التي ساقها لإلغاء الاتفاق القائم منذ 48 سنة، أن الزمن قد عفا عليه، ولم يعد يتماشى والسياق الحالي، كما أنه لا يقدم كبير إضافة على الصعيد العسكري، وهذا يعد كافيًا لوضع حد له.

لكن ديبي، ومع كل ذلك، أبقى الباب مفتوحًا جزئيًّا أمام فرنسا ولم يعلن قطيعة شاملة معها، كما فعلت مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين ليوم الحرية والديمقراطية في تشاد وكرسه كليًّا للحديث عن إلغاء اتفاق التعاون العسكري مع فرنسا، أكد الرئيس التشادي أن "قرار إنهاء هذا التعاون لا يشكل تحت أي ظرف من الظروف رفضًا للتعاون الدولي، أو تشكيكًا في علاقاتنا الدبلوماسية مع فرنسا. نظل منفتحين على التبادلات البنَّاءة مع جميع شركائنا بما في ذلك فرنسا .(2) "

كما أن البيان الصادر عن وزارة الخارجية التشادية والذي أعلن إلغاء اتفاق التعاون مع فرنسا، بعد ساعات من انتهاء زيارة لوزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، إلى نجامينا، أكد أن "القرار لا يشكك بأي حال من الأحوال في العلاقات التاريخية وأواصر الصداقة بين البلدين"، مضيفًا أن الطرف التشادي يبقى "منفتحًا على الحوار البنَّاء لاستكشاف أشكال جديدة من الشراكة"(3).

ويُستشف من خلال تصريحات الرئيس التشادي وبيان الخارجية التشادية، أن تشاد تتبنى قطيعة جزئية مع فرنسا، تتعلق فقط بالجانب العسكري، أما الجوانب الأخرى فمستعدة لتعزيز التعاون فيها، وبالتالي تكون نجامينا قد خرجت جزئيًّا عن النسق السائد في المنطقة القائم على القطيعة الكلية مع باريس.

إن السبب المباشر لإلغاء تشاد اتفاقية تعاونها العسكري مع فرنسا، هو تلقي الجيش التشادي مؤخرًا ضربة قوية، تمثلت في هجوم لجماعة بوكو حرام على قاعدة عسكرية في منطقة بحيرة تشاد، حيث قُتل وجُرح عشرات الجنود، وعلى إثر ذلك تنقل الرئيس التشادي إلى المنطقة، وأطلق منها عملية عسكرية تعرف بـ"حسكانيت" لملاحقة مقاتلي هذه الجماعة المسلحة(4).

وعلى إثر هذا الهجوم الذي اعتُبر الأعنف في البلاد منذ سنوات، لوَّح ديبي بانسحاب بلاده من القوة المشتركة متعددة الجنسيات التي تضم آلاف الجنود، ويتمثل هدفها الرئيسي في التصدي لجماعة بوكو حرام في المنطقة.

وتضم هذه القوة المشتركة كلًّا من تشاد، والنيجر، ونيجيريا، والكاميرون، وبنين، وتم وضع وثيقتها التأسيسية، عام 2015، خلال اجتماع بالعاصمة الكاميرونية، ياوندي، شارك فيه خبراء يمثلون مختلف الدول الأعضاء(5).

فبالنسبة لمحمد ديبي لا معنى لاستمرار انخراط البلاد في هذه القوة المشتركة ما دامت تقاتل جماعة بوكو حرام وحدها، وهو ذاته السبب الذي برر به تلميحًا إلغاء الاتفاق العسكري مع فرنسا، فوجود ألف جندي فرنسي إذا لم يمنع من صد هجمات الجماعات المسلحة، يصبح لا معنى له.

ولكن السبب غير المباشر لإلغاء الاتفاق هو التقارب الذي اتخذ منحًى تصاعديًّا ومتسارعًا في الآونة الأخيرة بين تشاد وروسيا، وتجلى ذلك من خلال مناحٍ متعددة، منها زيارة محمد ديبي إلى موسكو، مطلع العام 2024، وزيارة وزير الخارجية الروسي إلى نجامينا، في يونيو/حزيران الماضي، التي اعتُبرت الأولى من نوعها منذ 6 عقود، فضلًا عن إعلان وزارة الدفاع الروسية عن تنفيذ قواتها عملية عسكرية مشتركة مع الجيش التشادي مكَّنت من تحرير 21 عسكريًّا تشاديًّا كانوا رهائن لدى متمردين بجمهورية إفريقيا الوسطى المجاورة(6).

إن هذه الخطوات المتسارعة التي جرت في أقل من عام، تؤكد توجه تشاد نحو روسيا، كما أن اتفاق البلاد مع المجر على نشر 200 جندي في البلاد لتدريب القوات التشادية ضد الجماعات المسلحة(7)، يؤكد أن السيادة وربطها بطرد القوات الفرنسية قد يكون مجرد حديث لكسب التأييد الشعبي لا أكثر.

السنغال: تبنِّي سيادة السياسة والاقتصاد دون معاداة فرنسا

يتقاطع رئيس الوزراء السنغالي الشاب، عثمان سونكو، ورفيق دربه، الرئيس باصيرو ديوماي فاي، مع العسكريين الذين وصلوا إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية في مسألة السيادة، وضرورة أن تكون إفريقيا مستقلة الرأي، ولها كامل السيطرة على مواردها.

لكن الثنائي الذي خرج من السجن نحو سدة الحكم قبل أشهر قليلة، بعد سنوات من مناهضة حكم الرئيس السابق، ماكي صال، لا يتبنى موقفًا عدائيًّا من فرنسا والغرب، رغم أن سونكو يعتبر فرنسا "هي الناهب الأول للثروات الإفريقية، وتنظر إلى السنغال نظرة دونية"، لكنه مع ذلك لا يطالب سوى بـ"علاقات ندية مبنية على الشراكة المربحة للجميع" و"المزيد من السيادة الاقتصادية والنقدية"(8).

وذات موقف سونكو عبَّر عنه باصيرو عشية رئاسيات مارس/آذار الماضي، قائلًا: إن القطيعة التي يتبناها "تتعلق بذاتنا وممارستنا للحوكمة (...) والشراكة بين فرنسا والسنغال حتى اللحظة هي شراكة سليمة ولكنها تحتاج إلى إعادة نظر، لتكون أكثر مردودية بالنسبة لنا"(9).

وضمن تقاطع السنغال مع مالي والنيجر وبوركينا فاسو بشأن مسألة السيادة، يرى باصيرو ضرورة أن تغلق فرنسا قاعدتها العسكرية في السنغال وتسحب قواتها من البلاد، لأن ذلك يتعارض مع السيادة، فالسنغال "دولة ذات سيادة، والسيادة لا تتفق مع وجود قواعد عسكرية (أجنبية)"(10). لكنه يرى في الوقت نفسه أن باريس تبقى شريكًا مهمًّا لدكار على الصعيد الاستثماري والتجاري.

ولا تعتبر مناهضة الوجود العسكري الفرنسي في السنغال موقفًا جديدًا بالنسبة للثنائي الحاكم حاليًّا في دكار، فسبق لسونكو أن هنَّأ الرئيس الانتقالي المالي، عاصيمي غويتا، بمناسبة خروج القوات الفرنسية من بلاده، واعتبر أن الرئيس السنغالي السابق، ماكي صال، استعاد القوات السنغالية من مالي "بإيعاز من فرنسا"(11).

وقد زاد سونكو تمسكًا بموقفه تجاه الوجود العسكري الفرنسي في بلاده بعد توليه رئاسة الحكومة، فقد اعتبر قبل أشهر في مؤتمر بالسنغال استضاف المعارض اليساري الفرنسي، جان لوك ميلنشون، أن "ثلث دكار محتل بحاميات أجنبية"، وتساءل عن "الأسباب التي تجعل الجيش الفرنسي على سبيل المثال لا يزال يستفيد من عدة قواعد عسكرية في بلادنا، ومدى تأثير هذا الوجود على سيادتنا الوطنية واستقلالنا الإستراتيجي"(12).

وتعكس هذه المواقف أن السنغال في العهد الجديد، تتقاطع مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر في مناهضة الوجود العسكري الفرنسي في بلدانهم وطرد فرنسا عسكريًّا، وتتقاطع مع الموقف التشادي الجديد في عدم القطيعة الشاملة مع باريس، ولكن دون التقرب أكثر من روسيا.

ورغم الموقف المناهض للوجود العسكري الفرنسي، فقد زار باصيرو فرنسا عدة مرات خلال الأشهر القليلة التي مرَّت على توليه الرئاسة، بينما لم يزر روسيا، مكتفيًا حتى الآن باتصال هاتفي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اتفقا خلاله على "العمل معًا لتعزيز الشراكة الثنائية والسلام والاستقرار في منطقة الساحل، بما في ذلك الحفاظ على المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا"(13).

إن سيادة القرار والاقتصاد هي الموقف الجديد الذي تتبناه السنغال، لكن دون معاداة الغرب، أو انفتاح أكبر على روسيا، وفي الوقت نفسه دون انغلاق على نفسها أو اقتصار على الشركاء التقليديين للبلاد.

وكما تتبنى السنغال بحزم موقفًا مناهضًا للوجود العسكري في البلاد المستقرة سياسيًّا وأمنيًّا، حيث لم تشهد يومًا انقلابًا عسكريًّا ولا هجومًا للمجموعات المسلحة الناشطة في المنطقة، فإنها تتبنى كذلك مواقف حازمة تجاه العقود التي تربطها مع شركات النفط والغاز. وقد شكلت لجنة من الخبراء في مجالات القانون والضرائب والطاقة، من أجل مراجعتها(14).

فالبلاد التي أصدر رئيس وزرائها قبل سنوات كتابًا حول النفط والغاز ترى ضرورة خلق توازن في هذه الاتفاقيات، وهذا يجسد المبدأ السيادي الاقتصادي الذي يعتنقه باصيرو وسونكو.

وضمن ذات السياق المتعلق بالسيادة الاقتصادية، أعلن سونكو أن السنغال أبلغت الاتحاد الأوروبي بسعيها لمراجعة الاتفاقيات المتعلقة بالصيد، من أجل "ضمان استفادة السنغال من 80% على الأقل من الموارد السمكية"(15)، متهمًا الشركات الأجنبية بنهب موارد البلاد السمكية. وهو التصريح الذي أعقبه بأيام قرار الاتحاد الأوروبي عدم تجديد اتفاق الصيد مع دكار.

مالي وبوركينا فاسو والنيجر: محور الممانعة ضد فرنسا

شكَّل البعدان، العسكري والاقتصادي، مرتكزين أساسيين لتعزيز الحضور الفرنسي في القارة الإفريقية، وبشكل خاص في المستعمرات السابقة التي ظلت يُنظر إليها على مدى عقود كمناطق نفوذ تقليدية لفرنسا في إفريقيا.

فعلى الصعيد العسكري، تشير بعض المعطيات إلى أن فرنسا كان لديها حوالي 100 قاعدة عسكرية في إفريقيا خلال عام 1960 -وهو التاريخ الذي نال فيه عدد من مستعمراتها السابقة الاستقلال عنها- كما كان لديها في نفس الوقت اتفاقيات دفاع عسكرية مشتركة مع 21 دولة إفريقية، وهو ما مكَّنها من التدخل عسكريًّا حوالي 40 مرة خلال نحو نصف قرن(16).

وعلى الصعيد الاقتصادي، تمكنت فرنسا بفضل نفوذها العسكري بالقارة، والذي شكل أحد أهدافه حماية الأنظمة من الانقلابات العسكرية، من إبرام اتفاقيات اقتصادية عديدة أتاحت لها الاستفادة بشكل واسع من الموارد والمقدرات المعدنية.

وتزامنًا مع بداية حركات التحرر واستقلال المستعمرات الفرنسية السابقة بإفريقيا، عملت فرنسا على فرض الفرنك الإفريقي في 14 بلدًا إفريقيًّا كانت تستعمرها، وفرضت بذلك سيطرة "كاملة ومباشرة على إدارة الموارد المالية لدول منطقة الفرنك"(17) في غرب ووسط القارة الإفريقية.

وقد شكلت مناهضة هذا النفوذ الاقتصادي والعسكري الفرنسي بالقارة أحد مرتكزات خطاب القادة العسكريين الذين وصلوا إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية خلال السنوات الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وبنوا جزءًا كبيرًا من أهدافهم وتوجهاتهم على الرفض التام لوجود فرنسا في بلدانهم.

فبالنسبة لهؤلاء، فإن فرنسا فشلت عسكريًّا في القضاء على الجماعات المسلحة ووقف خطر تمددها بالمنطقة، بل إنهم يذهبون أحيانًا إلى حدِّ اتهامها بالتواطؤ مع هذه الجماعات من أجل تبرير بقائها، كما يتهمونها على الصعيد الاقتصادي بـ"إفقار" بلدانهم من خلال الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة للعديد من شركاتها الناشطة في هذه الدول.

وقد لقيت هذه السردية قبولًا واسعًا لدى شعوب المنطقة، التي كان بعضها يناهض بقاء القوات الفرنسية، واحتج في عديد المناسبات مطالبًا برحيلها قبل وصول العسكريين إلى السلطة، مقلِّلًا من أهمية وجودها في ظل تزايد هجمات الجماعات المسلحة.

وبناءً على ذلك، بات يُنظر إلى القادة العسكريين الحاكمين في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من طرف شعوبهم كمحررين جدد لبلدانهم من "الاستعمار الفرنسي"، وحافظوا بذلك على البقاء في كراسيهم بحماية شعبية أحيانًا، رغم الضغوط والعقوبات الإقليمية والدولية.

وقد انطلقت الشرارة الأولى للقطيعة العسكرية مع فرنسا من دولة مالي، التي تدخلت فيها باريس عسكريًّا، في يناير/كانون الثاني عام 2013، بطلب من نظام باماكو حينها من أجل التصدي للمجموعات المسلحة التي سيطرت يومها على عدد من مناطق الشمال المالي. ورغم تمكن فرنسا من استعادة تلك المدن خلال أقل من شهر، إلا أن الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا هولاند، أعلن بقاء القوات الفرنسية، معتبرًا أن مهمتها لم تنته بعد. فاستلمت عملية "برخان" المشعل من "سرفال" في مالي و"إيبرفييه" في تشاد(18)، واتخذت بُعدًا إقليميًّا، لأن الخطر المسلح بات يتجه حينها نحو النيجر وبوركينا فاسو.

ومع وصول عاصيمي غويتا إلى السلطة -العقيد الذي رقَّى نفسه لاحقًا إلى جنرال- إثر انقلابين عسكريين، أطاحا بحليفي فرنسا في الحكم، وهما: الرئيس المدني الراحل، إبراهيم بوبكر كيتا، والرئيس الانتقالي العقيد المتقاعد، باه نداو، توترت العلاقات بين باماكو وباريس. وقرر على إثر ذلك المجلس العسكري الذي يرأسه إلغاء الاتفاقيات الدفاعية بين الطرفين، معتبرًا إياها تتضمن "انتهاكات صارخة" للسيادة الوطنية المالية(19)، وعلى إثر ذلك انسحبت القوات الفرنسية من البلاد.

وعلى خطى مالي، سارت بوركينا فاسو، التي شهدت بدورها انقلابين عسكريين في 2022، فألغت اتفاق التعاون العسكري مع فرنسا، ومنحت قواتها مهلة شهر من أجل مغادرة البلاد(20). وعلى ذات النهج سارت النيجر، فبعد أسابيع قليلة على إطاحة الجيش بالرئيس المدني، محمد بازوم، تم إلغاء اتفاق التعاون العسكري مع فرنسا، والدعوة لمغادرة قواتها وسفيرها البلاد(21).

ولم تقتصر مناهضة المجالس العسكرية في الدول الثلاث لفرنسا على الجانب العسكري فقط، وإنما شملت كذلك البعد الاقتصادي؛ حيث ألغت عددًا مهمًّا من الاتفاقيات الاقتصادية التي كانت تربطها مع فرنسا، وانسحبت من مجموعة دول الساحل الخمس، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، معتبرة أن فرنسا هي التي تتحكم فيهما وتوجههما نحو ما تريده.

وانخرطت البلدان الثلاثة في تجمع إقليمي يجمعها يعرف بتحالف دول الساحل، يسعى لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والعسكري، ويشكل محور ممانعة قويًّا ضد فرنسا وكل ما يمت لها بصلة في المنطقة، مقابل الانفتاح الواسع على روسيا عسكريًّا واقتصاديًّا وتجاريًّا.

فرنسا: التشبث بالبقاء في المستعمرات السابقة والتطلع للشراكة مع دول أخرى

رغم انسحاب قواتها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وإلغاء اتفاق التعاون العسكري معها من طرف تشاد، وإعلان السنغال رفض بقاء قواتها على أراضيها، ما تزال فرنسا تحتفظ بقواعد عسكرية في كل من الغابون وساحل العاج وجيبوتي.

لكن مستقبل بقاء القواعد العسكرية الفرنسية في هذه البلدان يظل على المحك. فبالنسبة للغابون، فهي مقبلة على انتخابات رئاسية عام 2025 يسعى من خلالها الجنرال بريس أوليغي نغيما إلى الفوز وإنهاء المسار الانتقالي على الطريقة التشادية.

ولا يُستبعد بعد ذلك أن يسعى لإلغاء اتفاق التعاون العسكري مع فرنسا، خصوصًا أن الغابون دولة مستقرة، ولا تعاني أي خطر مسلح، على عكس معظم البلدان الأخرى التي توجد بها قوات فرنسية.

وبالنسبة لساحل العاج، سيكون موقف فرنسا من إمكانية ترشح الرئيس الحالي، الحسن واتارا، لولاية رئاسية رابعة محددًا رئيسيًّا لمستقبل هذه القوات. وإذا فاز بالرئاسة مرشح معارض من خارج الوسط المحسوب على باريس، فإن الأمر يصبح أكثر احتمالية.

وقد تكون جيبوتي الاستثناء من هذه الدول؛ حيث إن فرنسا ليست الدولة الوحيدة التي تمتلك قاعدة عسكرية بها، وإنما توجد خمس قواعد عسكرية أخرى تعود إلى كل من الولايات المتحدة الأميركية، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا. ويعود مرد هذا الاستقطاب بالأساس إلى الموقع الإستراتيجي للبلاد، وهو ما تسعى إلى استثماره من خلال "تأجير الأراضي للقوات العسكرية المختلفة، بهدف تعزيز وضعها الاقتصادي والأمني"(22).

وأمام حالة عدم اليقين هذه بشأن مستقبل بقاء القوات الفرنسية في إفريقيا، تتجه فرنسا نحو تقليص عدد جنودها بالقارة في أفق سحبهم النهائي تدريجيًّا، على أن تقتصر علاقاتها في المجال الأمني والعسكري مستقبلًا مع الأفارقة على التدريب والتكوين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية(23).

وبالتوازي مع هذه الخطة الهادفة إلى التشبث بالبقاء في منطقة النفوذ التقليدية، فإن باريس تُظهر كذلك انفتاحًا كبيرًا على بلدان إفريقية أخرى لم تكن في السابق مستعمرات فرنسية، وهو ما تجلى مؤخرًا في الزيارة غير المسبوقة التي قام بها الرئيس النيجيري، بولا أحمد تينوبو، إلى باريس، وتعهده ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بتعزيز الشراكة الاقتصادية الثنائية بين البلدين.

وقبل زيارة تينوبو إلى فرنسا بسنوات، كان ماكرون قد زار نيجيريا في عهد الرئيس السابق، محمد بخاري، وطغت على زيارته الأجندة الاقتصادية. وينتظر أن يستقبل مطلع العام 2025 الرئيس الغاني منتهي الولاية، نانا أكوفو أدو، والرئيس الأنغولي، جواو لورينسو. وفي خطوة تعكس عمق الانفتاح على إفريقيا الأنغلوفونية، اختارت فرنسا كينيا لاستضافة أعمال القمة الفرنسية-الإفريقية في عام 2026(24).

ولم تتوقف مؤشرات الانفتاح الفرنسي على الدول الإفريقية غير الفرنكفونية عند هذا الحد، فقد سبق لماكرون أن زار كلًّا من غينيا بيساو، وجنوب إفريقيا، وإثيوبيا، بهدف تعزيز العلاقات معها بعيدًا عن الجانب الأمني والعسكري، وهو ما يؤشر على أن فرنسا تتجه نحو اعتماد نهج جديد في شراكاتها مع البلدان الإفريقية.

خاتمة

لم تتعامل فرنسا بذكاء مع الرفض الشعبي المتنامي لوجودها العسكري في منطقة الساحل الإفريقي منذ سنوات، وتسبب تجاهلها المطالب الشعبية التي عبَّر عنها العديد من المظاهرات التي كانت تخرج في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، في توالي الانتكاسات التي تعرضت لها باريس.

ويمكن القول: إن عدم تعامل فرنسا بالجدية اللازمة مع تلك المطالب الشعبية، بل وتوجهها نحو تعزيز حضورها العسكري ببعض الدول المعنية بناءً على رغبة قادتها المقربين منها، شكَّل فرصة سانحة للعسكريين من أجل تنفيذ انقلابات للإطاحة بأولئك الرؤساء، ورفع شعارات تتماهى مع ما أرادته الشعوب. وهو ما شكَّل للانقلابيين حاضنة مهمة وأرضية صلبة، جعلت أنظمتهم تصمد أمام العقوبات الإقليمية والدولية.

لقد كان بالإمكان أن تتجنب فرنسا هذه الانتكاسات لو تعاطت إيجابيًّا مع مطالب سحب قواتها العسكرية من هذه الدول، خصوصًا أن الهدف الرئيسي لوجودها لم يتحقق، فالجماعات المسلحة لا تزال منتشرة في هذه البلدان، بل إن انتشارها توسع باتجاه دول أخرى، وبات خطرها يتمدد. وهذا وحده ربما كاف للدولة الفرنسية من أجل الانسحاب.

ويبدو الآن، وقد بات الرفض لفرنسا يتنامى شعبيًّا ورسميًّا في منطقة النفوذ التقليدية، من الصعب إرجاع العلاقات إلى سالف عهدها، أو حتى بناء شراكات جديدة -على الأقل في ظل وجود الأنظمة العسكرية بالسلطة- لكن إذا وصلت أنظمة مدنية للحكم ربما يختلف منطق التعاطي، ولكن لن يكون هناك بالتأكيد تعاون في المجال الأمني والعسكري.

وبالمقابل، قد تنجح فرنسا في مقاربتها الجديدة المتمثلة في الانفتاح على دول غير مستعمراتها السابقة، عبر إقامة شراكة اقتصادية وتجارية متقدمة ولكن حضورها لن يصل إلى مستوى النفوذ أو المنافسة مع بعض القوى الأخرى التي لها حضور استثماري قوي هناك.

فما تتعرض له فرنسا من خلال إحلال شركاء جدد محلها في بعض بلدان منطقة الساحل، لن يكون ممكنًا بالنسبة لها في الدول التي توجهت نحوها من أجل إقامة شراكات جديدة. ففي الحالة الأولى، خرجت باريس مطرودة أو على الأقل غير مرغوب في وجودها، وفي الحالة الثانية، هي تبحث عن حضور بين متنافسين كثر، ولا تقدم بالضرورة ما يمكن أن يرجح كفتها على حساب الآخرين.

ABOUT THE AUTHOR

References

1) حديث صحفي، موقع الرئاسة التشادية بتاريخ 1 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/oMW8Ry

2) نفس المصدر السابق.

3) انظر الموضوع:

Le Tchad annonce rompre ses accords de coopération de défense avec la France, publié le 29 novembre 2024, vu le 03 décembre 2024, https://urls.fr/gl9irI

4) مقتل 40 جنديا في هجوم مسلح على قاعدة عسكرية بمنطقة بحيرة تشاد، موقع أورونيوز بتايخ: 28 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/n6dv3u

5) الانتهاء من تشكيل قوة إفريقية لمواجهة بوكو حرام، موقع الجزيرة نت بتاريخ: 8 فبراير/شباط 2015، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/SSFH1L

6) تشاد والسنغال وتبني القطيعة الجزئية مع فرنسا، موقع مدار بتاريخ: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/IZ2OAJ

7) التقارب بين تشاد والمجر السياق والخلفيات، موقع مدار بتاريخ: 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 03 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/59LgcW

8) ملهم الشباب وخصم النظام عثمان سونكو رئيس حزب باستيف وزعيم المعارضة في السنغال، موقع الجزيرة نت بتاريخ: 17 يناير/كانون الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 4 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/uy75NR

9) انظر الموضوع:

Un partenariat correct, qui doit être revisité: à peine élu, Bassirou Diomaye Faye entend remettre à plat les relations entre le Sénégal et la France, publié le 26 mars 2024, vu le 04 décembre 2024, https://urls.fr/c8lacz

10) الرئيس السنغالي يقول إنه سيكون على فرنسا إغلاق قواعدها العسكرية في بلاده وهذا لا يعني القطيعة، موقع فرانس 24 بتاريخ: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 4 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/rzXbS2

11) سونكو يتعهد بإرسال قوات سنغالية إلى مالي إذا انتخب رئيسًا، موقع الأخبار بتاريخ: 19 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 4 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/gLDz5T

21) سونكو: يجب أن نتساءل عن الأسباب التي تجعل الجيش الفرنسي يستفيد من قواعدنا، موقع مدار بتاريخ:  17 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 4 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/EGTEDH

31) انظر الموضوع:

Sénégal-Russie-Diplomatie/Les présidents Faye et Poutine font un tour d’horizon de la longue et traditionnelle coopération d’amitié entre leurs deux pays, publié le 22 novembre 2024, vu le 04 décembre 2024, https://urls.fr/HMAsPK

41) السنغال تعلن تشكيل لجنة لمراجعة عقود الحكومة السابقة مع شركات النفط والغاز الأجنبية، مركز فاروس بتاريخ: 20 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 4 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/niPfMc

51) انظر الموضوع:

Mbour: Ousmane Sonko promet une renégociation des accords de pêche avec l’UE, publié le 01 novembre 2024, vu le 04 décembre 2024, https://urls.fr/BPB8eb

61) التدخل الفرنسي في مالي: البعد النيوكولونيالي تجاه إفريقيا، موقع المركز العربي للبحوث والدراسات بتاريخ: 15 فبراير/شباط 2015، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/AQZmeg

71) الفرنك الإفريقي.. عملة استعمارية تتحكم بها فرنسا في اقتصاد القارة السمراء، موقع الجزيرة نت بتاريخ: 16 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/m1bfqd

81) من إيبرفييه لبرخان.. عمليات عسكرية فرنسية بإفريقيا، موقع الجزيرة نت بتاريخ:  3 فبراير/شباط 2016، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/pjW2gT

91) المجلس العسكري في مالي يلغي الاتفاقيات الدفاعية الموقعة بين فرنسا وشركائها الأوروبيين، موقع فرانس 24 بتاريخ: 3 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/FFnCi_

20) انظر الموضوع:

Le Burkina dénonce un accord militaire de 1961 avec la France, publié le 02 mars 2023, vu le 07 décembre 2024, https://urls.fr/GjUz-l

21) انظر الموضوع:

Niger: La junte dénonce les accords de coopération en matière de défense et de sécurité conclus avec la France, publié le 04 août 2023, vu le le 07 décembre 2024, https://urls.fr/Rb3lib

 22) القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي.. نفوذ أجنبي يوفر نحو خمس دخل البلاد، موقع الجزيرة نت بتاريخ: 23 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 9 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/80OSaC

23) مصادر تكشف عن خطة فرنسا لخفض وجودها العسكري بإفريقيا، موقع الجزيرة نت بتاريخ:  30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 9 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://urls.fr/sK6Ycn

24) انظر الموضوع:

Le Nigeria, laboratoire de la nouvelle politique africaine d’Emmanuel Macron, publié le 29 octobre 2024, vu le 09 décembre 2024, https://urls.fr/u_dlDo