مقدمة
بعد عام من التوترات الدبلوماسية بين الصومال وإثيوبيا إثر إقدام الأخيرة على توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي غير المعترف به دولياً، حققت الوساطة التركية اختراقاً كبيراً في إذابة جليد التوتر بين مقديشو وأديس أبابا، وأفضت إلى "إعلان أنقرة" الذي بموجبه انخفض التصعيد بين الجانبين، إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من التفاهمات تمهد الطريق لاتفاق يمكّن إثيوبيا من الوصول إلى منفذ بحري ويضمن للصومال سيادته على أراضيه، وهو ما يجنّب البلاد الوقوع في فخ الصراع الدبلوماسي والأمني، ويحُد من شدة الاستقطابات التي شهدتها منطقة القرن الYفريقي منذ مطلع العام 2024.
يتناول هذا التقرير محفزات ودوافع الصومال وإثيوبيا للاستجابة لوساطة تركيا بعد ثلاث جولات بقيادة وزير خارجيتها هاكان فيدان، إلى جانب إلقاء الضوء على حسابات الوسيط التركي، وأبعاد هذا الإعلان والسيناريوهات التي تحدد مآل ومسار الوساطة التركية بين البلدين الإفريقيين.
"إعلان أنقرة".. مضامين ورهانات
بعد جهود مضنية للوساطة التركية التي استمرت لمدة ستة أشهر، أثمرت جهود الخارجية التركية في منع انزلاق التوتر الدبلوماسي بين مقديشو وأديس أبابا إلى أتون صراع حقيقي يصب الزيت على حرائق القرن الإفريقي، وذلك وفق ما أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في العاصمة أنقرة، واتفق البلدان على العمل معًا بشكل وثيق للتوصل إلى نتائج إيجابية في ما يتعلق بالإجراءات التجارية ذات المنفعة المتبادلة من خلال الاتفاقيات الثنائية، بما فيها العقود والإيجارات والأدوات المماثلة، التي ستمكّن إثيوبيا من التمتع بوصول آمن وسلمي إلى البحر ومنه، تحت السلطة السيادية للصومال(1).
وبحسب الإعلان التاريخي بشأن الصومال وإثيوبيا، فإنه يتضمن جملة من البنود تشمل ما يلي:
- أكد قادة الصومال وإثيوبيا احترامهم والتزامهم بسيادة كلا البلدين ووحدتهما، واستقلالهما وسلامة أراضيهما، بالإضافة إلى المبادئ المنصوص عليها في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي.
- تجاوز الخلافات والقضايا الخلافية والمضي قدماً بطريقة تعاونية لتحقيق الازدهار المشترك.
- اعترف الصومال بتضحيات الجنود الإثيوبيين ضمن بعثات الاتحاد الإفريقي.
- الإقرار بالمنافع المتنوعة التي يمكن أن تتحقق من خلال ضمان وصول إثيوبيا إلى البحر ومنه، مع احترام سلامة أراضي الصومال.
- العمل معاً عن كثب لوضع ترتيبات تجارية مفيدة للطرفين من خلال اتفاقيات ثنائية، تشمل العقود والإيجار وأساليب مشابهة، تضمن لإثيوبيا الوصول الآمن والمستدام إلى البحر، تحت السيادة الكاملة للحكومة الصومالية الفيدرالية.
- قرر الطرفان بدء مفاوضات فنية بحسن نية لتحقيق هذه الأهداف، وذلك قبل نهاية فبراير/شباط 2025، على أن تتم برعاية تركيا وتُختتم في غضون أربعة أشهر.
- تنفيذ هذه الالتزامات والتعهد بحل أي خلافات تتعلق بتفسيرها وتطبيقها من خلال الحوار وبطريقة سلمية مع الاستعانة بالوسيط التركي عند الحاجة(2).
قراءة في ردود الفعل الإقليمية والدولية
لقي إعلان أنقرة بشأن الصومال وإثيوبيا موجة ترحيب عربية ودولية، واعتُبر بداية لانفراج الأزمة الدبلوماسية بين الجارتين، وأنه يضع حداً لحركة الاستقطابات التي تشهدها المنطقة منذ إبرام أديس أبابا مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال مطلع يناير/كانون الثاني 2024. ويأتي هذا الإعلان ليكسر حاجز التوترات والمخاوف المحتملة بشأن تصعيد الأزمة بين دول المنطقة، وينهي أزمة عمرها عام كامل بين دولتين لا يزال إرث التاريخ يحكم علاقاتهما الأمنية والدبلوماسية.
كما رحب الأمين العام للأمم المتحدة بإعلان أنقرة الذي اتفق فيه الرئيس الصومالي حسن شيخ محمد، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على العمل لحل خلافاتهما بروح من الصداقة والاحترام المتبادل. وفي بيان منسوب للمتحدث باسمه، أعرب الأمين العام أنطونيو غوتيريش عن تقديره للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مبادرته بجمع الزعيمين الصومالي والإثيوبي ودعمه لتحقيق الاتفاق بينهما. وجدد غوتيريش التأكيد على استعداد الأمم المتحدة لدعم هذه العملية المهمة، حسب الحاجة(3).
بدوره أعرب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، عن ترحيب بلاده بالاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الصومال وإثيوبيا في العاصمة التركية أنقرة، معبرا عن شكره لتركيا على دورها في إبرام الاتفاق. وقال بلينكن إن "الإدارة الأميركية ترحب بالاتفاق الذي أكد من جديد سيادة ووحدة واستقلال وسلامة أراضي الصومال وإثيوبيا، والذي من شأنه أن يؤسس للتعاون بين البلدين بما يتماشى مع المصالح المشتركة". وأعرب عن تطلع بلاده إلى إجراء مفاوضات تتيح لإثيوبيا الوصول الآمن إلى البحر، مع احترام وحدة أراضي الصومال، وبطريقة تحقق منفعة اقتصادية متبادلة للطرفين(4).
كما رحب الاتحاد الأوروبي باتفاق حل النزاع بين إثيوبيا والصومال، وبدور الوساطة الهام الذي لعبته تركيا بهذا الخصوص. جاء ذلك على لسان المتحدث باسم مفوضية الاتحاد أنور العنوني، الذي قال في مؤتمر صحفي إن "الاتحاد الأوروبي يرحب بالإعلان الذي تم اعتماده بين إثيوبيا والصومال في أنقرة يوم 11 ديسمبر/كانون الأول". وجدد دعم الاتحاد لوحدة وسيادة وسلامة أراضي الصومال وإثيوبيا وفقا للمبادئ الراسخة في القانون الدولي(5).
عربياً، رحبت كل من الخارجية القطرية والإماراتية والجزائرية والكويتية بجهود الوساطة التركية لنزع فتيل الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، وأشادت بمساعي الرئيس أردوغان لتحقيق الاتفاق الذي عدَّته "خطوة مهمة نحو تعزيز الأمن والاستقرار في القرن الإفريقي". ويؤكد هذا الترحيب العربي بإعلان أنقرة؛ أن الدول العربية كانت تراقب عن كثب مجريات الأوضاع في المنطقة، وبعضها عرضت محاولات للتوسط بين مقديشو وأديس أبابا، لكن محاولاتها لم تر النور(6).
الصومال وإثيوبيا: الدوافع والمكاسب وحسابات الوسيط التركي
على الرغم من أن ما توصل إليه "إعلان أنقرة" في الجولة الثالثة من الوساطة التركية بين مقديشو وأديس أبابا من "مصالحة تاريخية" بينهما، يُعد إيذاناً ببدء مرحلة من الهدوء تدفع البلدين إلى حل خلافاتهما، فإن ثمة دوافع حقيقية كانت وراء الاستجابة لجهود الوساطة التركية، هذا بالإضافة إلى وجود حسابات ومحفزات لدى الوسيط التركي لإنهاء أزمة مقديشو-أديس أبابا.
دوافع الصومال
هناك عدة محفزات شكلت دافعاً قوياً لعدول الصومال عن موقفه حيال عدم إمكانية الجلوس مع الطرف الإثيوبي، ما لم تتراجع حكومة آبي أحمد عن مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال، وتقدِّم اعتذاراً رسمياً لمقديشو، وجعلِ ذلك شرطاً أساسياً للانخراط في جهود الوساطة التركية التي انطلقت بناء على طلب من إثيوبيا، أثناء زيارة رئيس وزرائها إلى العاصمة التركية أنقرة في مايو/أيار الماضي، وحينها طرح آبي أحمد مبادرة المصالحة مع مقديشو على الرئيس التركي أردوغان، نظراً لعلاقة أنقرة الوثيقة مع مقديشو(7).
ويمكن تلخيص تلك المحفزات والدوافع في النقاط التالية:
- تهدئة الأوضاع الداخلية: مع بدء جولات الوساطة التركية التي اتخذت نهج التدرج في تفكيك المعضلات الخلافية بين مقديشو وأديس أبابا، تصاعدت حدة الخلافات الداخلية في الصومال، لا سيما الأزمة بين الحكومة المركزية والولايات الفيدرالية، وذلك بعدما عادت جبهة أحمد مدوبي (رئيس ولاية جوبا لاند) وخلافاته العميقة إلى الواجهة مع الحكومات الفيدرالية منذ عام 2013، وهو ما سبّب شرخاً عميقاً في النظام الفيدرالي، في ظل وجود خلافات لم تُحلّ بعد مع ولاية بونتلاند، وراحت إثيوبيا تستغل هذه الثغرات والخلافات الموجودة بين المركز والأطراف، وتساهم في إذكائها، واتهمت مقديشو الحكومة الإثيوبية بتهريب أسلحة إلى ولاية جوبا لاند، وهو ما يعد خرقاً وانتهاكاً لسيادة الصومال. كما تسعى الحكومة الفيدرالية لممارسة سياسة مضادة مع الولايات الفيدرالية الرافضة لسياستها، بالتقرب من إثيوبيا وإنهاء الأزمة الدبلوماسية معها، للحد من التدخلات الإثيوبية.
- الاستعداد للانتقال الأمني: تسابق الحكومة الصومالية الزمن من أجل تسلم الملف الأمني من القوات الإفريقية الانتقالية (أتمس) التي ينتهي تفويضها نهاية ديسمبر/كانون الأول 2024. وهذا الملف ظل هو الشغل الشاغل بالنسبة للحكومة الصومالية لتأمين المقار الأمنية التي تنسحب منها تلك القوات الإفريقية، لغاية وصول قوات البعثة الإفريقية الجديدة (أوصوم)التي تتولى مهمة حماية المقار الرئيسية وبعض القواعد العسكرية في وسط البلاد وجنوبها. ويُعد هذا التوقيت حرجاً للغاية في ظل توترات مع جارتها إثيوبيا التي تشترك معها في أطول حدود برية في القرن الإفريقي (1600 كلم)، ولهذا فإن توفير الهدوء في حدودها البرية مع إثيوبيا يمكن أن يساهم في انتقال أمني سلس في وسط البلاد وجنوبها
- الاستعداد لتنظيم انتخابات مباشرة: كذلك أعلنت الحكومة الصومالية عن خطة لتنظيم "اقتراع مباشر" في الصومال لأول مرة منذ 56 عاماً، وذلك لتجاوز الانتخابات غير المباشرة التقليدية. ويبذل الرئيس حسن شيخ محمود جهوداً كبيرة لإنهاء مرحلة الانتخابات التقليدية وفتح صفحة جديدة تدفع البلاد نحو تجربة الانتخابات المباشرة، وهو ما لا يتوفر حالياً في ظل وجود رفض من بعض الولايات الفيدرالية، خاصة بونتلاند وجوبا لاند اللتين رفضتا التعديلات الدستورية بشأن تنظيم انتخابات مباشرة. وتهدف خطة الحكومة الفيدرالية إلى فك الارتباط بين الولايتين وإثيوبيا، أو التقليل من شأن اعتمادهما على الدعم الإثيوبي في مواجهة الحكومة الفيدرالية(8).
مكاسب الصومال
وفق "إعلان أنقرة" فإن الصومال حقق عدة مكاسب تتمثل في الآتي:
- إثبات بطلان مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال: لم يتطرق الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ولا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس التركي، إلى الحديث عن مذكرة التفاهم الموقعة بين أديس أبابا وهرجيسا، ويمكن اعتبارها لاغية، وهي القراءة التي يمكن استنتاجها في البيان الختامي للمباحثات الصومالية الإثيوبية في أنقرة.
- ردع الطموح الإثيوبي لعسكرة البحر الأحمر: بحسب بنوده، يضمن إعلان أنقرة وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر لأغراض تجارية من خلال الحكومة الصومالية لضمان سيادة ووحدة أراضي الصومال، وهو ما يقوض مشروع آبي أحمد لعسكرة البحر الأحمر من خلال الأسطول الإثيوبي المتمركز في جيبوتي.
- تعزيز السيادة الوطنية: أثبت الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود أن وحدة أراضي الصومال وسيادة واستقلال بلاده خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه، وكرر في تصريحات تلفزيونية عدة منذ اندلاع الأزمة الدبلوماسية مع إثيوبيا؛ أن التفاوض بشأن وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر دون التنسيق مع الحكومة الصومالية حلم لن يتحقق، وأثمرت جهوده في ردع أديس أبابا في مسعاها لعسكرة البحر.
دوافع إثيوبيا
يمكن تلخيص الدوافع التي مثلت عامل ضغط بالنسبة للحكومة الإثيوبية في النقاط التالية:
- البحث عن مخرج: منذ توقيع مذكرة التفاهم بين أرض الصومال وإثيوبيا مطلع العام 2024، دخلت بموجبها حكومة آبي أحمد ما يشبه العزلة الإقليمية نظراً لتردي علاقاتها مع الحكومة الصومالية، هذا فضلاً عن توترات مع إريتريا على خلفية الصراع في إقليم تيغراي. كما أن انخراط مصر في خط الأزمة، وتشكيل تحالف ثلاثي مع الصومال وإريتريا(9)، زاد الضغط على أديس أبابا ووضعها في شراك المصيدة، ولهذا فإن أي حل للتفاوض مع مقديشو بشأن الوصول إلى منفذ بحري كان مطلباً إثيوبياً للخروج من عنق الزجاجة، بهدف تقليل حالة الاستقطاب المضادة لمشاريعها العملاقة ونفوذها الإقليمي.
- المشاركة في عملية "أوصوم": بعد تفاقم الخلافات بين مقديشو وأديس أبابا ووصولها إلى ما يشبه القطيعة الدبلوماسية عقب استدعاء الحكومة الصومالية سفيرها في أديس أبابا، وطردها الدبلوماسيين الإثيوبيين(10)، صعّدت مقديشو موقفها أيضاً بحجب مشاركة القوات الإثيوبية في عملية قوات حفظ السلام الإفريقية التي من المقرر نشرها في جنوب الصومال(11)، وهو ما يزيد الضغط الأمني والعبء اللوجستي بالنسبة لحكومة آبي أحمد لحماية حدودها البرية مع الصومال، ولهذا فإن التوصل إلى حل سلمي مع الحكومة الصومالية كان ملحاً أكثر من أي وقت مضى لضمان بقاء قواتها في جنوب البلاد ضمن بعثة الاتحاد الإفريقي، حتى لا تضطر إلى دفع تكاليف باهظة لحماية حدودها.
- قطع الطريق أمام الاستقطاب المصري: نتيجة تفاقم الخلافات بين الصومال وإثيوبيا، استثمرت مصر جل مساعيها لتطويق النفوذ الإثيوبي في القرن الإفريقي، عبر تدشين سلسلة من الجولات المكوكية إلى دول المنطقة. وكان وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي قد تنقل بين عواصم إقليمية من أجل حشد جهود القاهرة لفرض عزلة إقليمية على إثيوبيا نتيجة ما وُصفت بسياساتها المهددة لاستقرار أمن دول المنطقة(12). هذا الشعور تنامى بعد مذكرة التفاهم بين أرض الصومال وإثيوبيا، التي عكست توجهاً لدى أديس أبابا لتنفيذ تهديدات آبي أحمد للوصول إلى البحر الأحمر سلماً أو حرباً، والتي أطلقها في أكتوبر/تشرين الأول 2023(13)، ولهذا فإن كل الطرق الإثيوبية تؤدي حالياً إلى قطع الطريق أمام الاستقطاب المصري لدول المنطقة المجاورة لإثيوبيا، وإعادة الأوضاع إلى نصابها من خلال المصالحة مع حكومة مقديشو الفيدرالية وعدم الاستهانة بتأثيرها الدبلوماسي الإقليمي والدولي.
مكاسب إثيوبيا
- الوصول إلى منفذ بحري: كسبت إثيوبيا معركتها لإثبات مسعاها للوصول إلى البحر الأحمر، ولهذا فإن رؤية إثيوبيا ومقارباتها القانونية والتاريخية تكللت بالنجاح فيما يتعلق بالوصول الآمن إلى البحر الأحمر، استجابة للضغط السكاني في البلاد وحاجتها إلى منفذ بحري متعدد الأغراض في المياه الصومالية، وهو ما يعود بالنفع على الدولتين وفق بنود المصالحة التاريخية.
- الاعتراف بتضحيات الجنود الإثيوبيين: لجأت أديس أبابا إلى استثمار خطاب التضحيات لإبراز دور جنودها في مكافحة حركة الشباب الموالية لتنظيم القاعدة، وهو ما أقرَّه الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في المؤتمر الصحفي(14). هذا الاعتراف يعد مكسباً بالنسبة للحكومة الإثيوبية يشهد أن تضحيات جنودها لم تذهب سدى، بغض النظر عن المجازر التي ارتكبتها القوات الإثيوبية سابقاً إبان اجتياحها أراضي الصومال عام 2006 لمواجهة مسلحي المحاكم الإسلامية، وما تمارسه بين الحين والآخر من اعتداءات ضد الأبرياء في المناطق التي تنتشر فيها، لا سيما إقليم جدو وولاية جنوب غرب الصومال.
- تعزيز دورها الإقليمي: بعد محاولة الحكومة الإثيوبية الدخول في اتفاقية مع إقليم انفصالي غير معترف به دولياً، تلقت أديس أبابا موجة استنكار وانتقادات، وهو ما شوَّه صورتها ودورها الإقليميين، باعتبارها دولة تهدد سيادة واستقلال دولة عضو في الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، ولهذا فإن مسعاها للوصول إلى البحر الأحمر عبر بوابة أرض الصومال ترك ارتدادات عكسية وخيمة على مكانتها الإقليمية، ولهذا فإن القراءة الإثيوبية لإعلان أنقرة انحصرت في سبيل استعادة دورها الفاعل في تحقيق الأمن والاستقرار في الصومال ومنطقة القرن الإفريقي(15).
حسابات الوسيط التركي
- حماية المصالح والاستثمارات في القرن الإفريقي: لا شك أن تركيا لديها اسثمارات ضخمة في إثيوبيا، يتجاوز حجمها 3 مليارات دولار، إذ تُنفِّذ حوالي 200 شركة تركية مشاريع في مختلف القطاعات، بما فيها البناء، والصناعات الدوائية، والغذائية(16). وتُعَدُّ تركيا ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا بعد الصين، حيث تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 650 مليون دولار في السنوات الأخيرة. وفي الصومال تدير الشركات التركية ميناء ومطار مقديشو، وارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2020 إلى 250 مليون دولار(17)، كما أن أنقرة انخرطت في التعاون الأمني والدفاعي مع مقديشو بإنشائها قاعدة عسكرية تركية في العاصمة بتكلفة مالية قدرها 50 مليون دولار، وتجري حالياً مسحاً جيولوجيا لاستكشاف النفط والغاز في المياه الصومالية، ويتوقع أن تبدأ عملية الحفر والاستخراج بحلول أبريل/نيسان المقبل(18)، ولهذا فإن الإضرار بهذه المصالح الاقتصادية المتشعبة ونفوذها في القرن الإفريقي يعد خسارة جسيمة لتركيا، ولهذا تنتهج سياسة إخماد الحرائق من البيوت الخشبية قبل أن تمتد إلى مصالحها.
- زيادة النفوذ في القرن الإفريقي: تمثل المبادرة التركية جزءًا من رؤية أوسع لأنقرة في إفريقيا، حيث تؤدي تركيا دورًا نشطًا في الأزمات الإقليمية لتعزيز نفوذها في القارة الإفريقية(19)، كما أن نجاح وساطتها لرأب الصدع بين مقديشو وأديس أبابا أثبت قدرتها على تحقيق السلام والاستقرار في القرن الإفريقي، بما في ذلك النزاع في السودان الذي عرضت وساطتها لحل أزمته الحالية، بما يعكس نضج السياسة التركية للتمدد في القرن الإفريقي باعتباره بوابة للعبور إلى القارة السمراء(20).
السيناريوهات المستقبلية
هناك ثلاثة سيناريوهات بشأن مآلات ومسار استكمال جهود الوساطة التركية لغاية التوصل إلى اتفاق حقيقي يسحب فتيل التوتر ويبدد مخاوف انزلاق المنطقة إلى صراع دام بين الصومال وإثيوبيا:
- نجاح الوساطة وتحقيق مصالحة شاملة: وهذا السيناريو هو الأرجح في ظل وساطة تركية جادة برعاية الرئيس أردوغان الذي قد يجري زيارة إلى الصومال وإثيوبيا في الأسابيع القادمة، بهدف الضغط وتحريك ملف الوساطة إلى الأمام. وقد حققت وساطته نجاحها بعد جلسات انفرادية استمرت 7 ساعات مع الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء الإثيوبي في أنقرة، قبل إعلان ما وصفها "بالمصالحة التاريخية"(21).
- تجميد الوساطة التركية: يبقى هذا السيناريو مطروحاً إذا غاب عنصر التنازل وانعدام الجدية بين طرفي الأزمة، ويمكن أن يحدث إذا رفعت إثيوبيا سقف مطالبها، تحديداً فيما يتعلق بإنشاء قاعدة عسكرية في المنفذ البحري الذي يحرر من عزلتها المائية، وهو ما يرفضه الجانب الصومالي جملة وتفصيلا.
- فشل الوساطة التركية: وهذا السيناريو هو الأقل ترجيحاً في الوقت الحالي، لكنه مع ذلك يبقى واردا، إذا لم تفلح مساعي الأطراف الفاعلة في الأزمة في تبديد المخاوف والشكوك فيما بينهم، مما يؤدي إلى عودة التوترات بين البلدين من جديد.
الخاتمة
لا شك أن الوساطة التركية حققت تقدماً نتيجة الجهود الماراثونية التي أفضت في نهاية المطاف إلى انفراجة لحل الخلافات بين الصومال وإثيوبيا بالطرق الدبلوماسية، لكنّ أمام هذه الجهود التركية طريقا شائكا وتحديات كثيرة، تمثل عقبة كأداء أمام استمرارها وتقريب وجهات النظر بين الجانبين، فالثغرات الأمنية المتمثلة في النزاعات الداخلية في إثيوبيا، ووجود التنظيمات المسلحة في الصومال، وعدم وضوح آلية لتنفيذ مخرجات أي اتفاق بين الجانبين، ستكون بمنزلة مطبات تهدد الوفاق بين البلدين. ومع ذلك، هناك فرصة حقيقية بين مقديشو وأديس أبابا لتجنيب المنطقة أي توترات أمنية ودبلوماسية.
وبينما تعتمد إستراتيجية إثيوبيا على استغلال الخلافات القائمة بين الحكومة الصومالية والولايات الفيدرالية كورقة ضغط لتحقيق مطالبها، يتمسك الصومال بأحقيته المشروعة وسيادته على أراضيه براً وبحراً وفقاً للقانون الدولي وميثاق الاتحاد الإفريقي، إلى جانب دبلوماسيته النشطة في المحافل الإفريقية والدولية، ولهذا فإن الاستجابة للوساطة التركية ضرورية ومفيدة للطرفين الإثيوبي والصومالي، لأن احتدام صراع جديد في القرن الإفريقي ستكون شرارته واسعة وتداعياته كارثية، ووقف هذا النزاع سيكون صعباً، والحرب السودانية التي شارفت على استكمال عامها الثاني خير شاهد على ذلك.
- Ethiopia, Somalia reach agreement in Ankara-mediated peace talks: Turkish president, Anadolu Ajansı, 12 December 2024, (visited on: 17 December 2024), https://bit.ly/3Dnc9LJ
- Somalia, Ethiopia affirm each other's sovereignty, unity: Ankara Declaration, Anadolu Ajansı, 12 December 2024, (visited on: 17 December 2024), https://bit.ly/3BLxa2j
- الأمين العام يرحب بإعلان أنقرة والاتفاق بين الصومال وإثيوبيا، أخبار الأمم المتحدة، 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 17 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/3DvBnrx
- الاتحاد الأوروبي يرحب باتفاق إثيوبيا والصومال بوساطة تركية، وكالة الأناضول، 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/3P9q2jj
- ترحيب عربي باتفاق الصومال وإثيوبيا وإشادة بدور الرئيس أردوغان، وكالة الأناضول، 14 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/3VT5GyN
- عبد القادر محمد علي، الوساطة التركية بين إثيوبيا والصومال.. الدوافع والعوائق والسيناريوهات، مركز الجزيرة للدراسات، 5 سبتمبر/أيلول 2024، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/3BuyNBy
- الصومال تتهم إثيوبيا "بالتدخل" ضد سيادتها ووحدتها، التلفزيون العربي، 6 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/405WyJn
- رئيس الجمهورية: الدولة ماضية في محاربة الإرهاب وإجراء انتخابات شعبية في البلاد، وكالة صونا، 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2024)، http://bit.ly/49PI83m
- Eritrea, Egypt, and Somalia cement 'axis against Ethiopia', BBC, 10 October 2024, (visited on: 18 December 2024), https://bit.ly/41MMXID
- Somalia expels Ethiopian diplomat, VOA, 29 October 2024, (visited on: 18 December 2024), https://bit.ly/40aLL0Q
- Somalia: Ethiopian troops cannot be in AUSSOM, VOA, 23 August 2024, (visited on: 18 December 2024), https://bit.ly/3P8hqt9
- وزير خارجية مصر يبحث بجيبوتي والصومال أزمتي البحر الأحمر والسودان، وكالة الأناضول، 12 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/3DndX7t
- الشافعي أبتدون، مذكرة تفاهم بين صومالي لاند وإثيوبيا: الحيثيات والتبعات، مركز الجزيرة للدراسات، 9 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/4gPIbOU
- Türkiye brokers landmark deal between Ethiopia and Somalia, TRT WORLD, 12 December 2024, (visited on: 19 December 2024), https://bit.ly/3BKtvSq
- إعلان أنقرة يعزز دور إثيوبيا في تحقيق الأمن والاستقرار بالقرن الإفريقي، وكالة فانا عربي، 20 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 21 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/40707zb
- بمئتي شركة.. تركيا قوة استثمارية مرموقة في إثيوبيا، وكالة الأناضول، 3 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 21 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/3PbQ5qa
- انتعاش اقتصادي وتجاري أبرز مخرجات تعاون الصومال وتركيا، وكالة الأناضول، 10 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 21 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/40aZdR9
- تركيا تبدأ التنقيب عن النفط في الصومال، الجزيرة نت، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/4iP9BGn
- عبد القادر محمد علي، مرجع سابق.
- أردوغان: تركيا مستعدة للتوسط لحل الخلاف بين السودان والإمارات، الأناضول، 13 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://bit.ly/4gslxMW
- Turkish President Erdogan to visit Ethiopia, Somalia in January-February 2025, Anadolu Ajansı, 15 December 2024, (visited on: 22 December 2024), https://bit.ly/3VQQrGm