الدساتير والمؤسسات السياسية في إفريقيا

إن الدساتير الإفريقية ومؤسساتها السياسية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل التنافس المحموم بين القوى الكبرى ألا تعيد إنتاج أخطائها "الباهظة"، بل التأسيس لعقد اجتماعي يؤمِّنُ للمواطنين حياة كريمة بكل متطلباتها المادية والمعنوية.
الاتحاد الأفريقي واجه العديد من مشكلات خرق الدساتير من طرف الدول الأعضاء وفشل في حلها (الجزيرة)

من المفترض أن ينظم الدستور الحياة السياسية بكل تشعباتها ومراميها؛ حاكمًا ومحكومًا، ولاءً ومعارضةً، فردًا ومؤسسة، بيد أن تَثْبِيت القانون الأساسي للدولة في مجتمعات اجتازت مراحل عصيبة من تاريخها (استعمار، تجزئة، استبداد، فساد، تفقير...) ليس بالأمر الهين، لجملة من الأسباب ترتبط بمصالح الداخل وتوازنات الخارج. 

وينبغي أن يعكس الدستور قيم المجتمع ومُثُله، مستلهمًا المرجعية الجامعة بما ينسجم تلقائيًّا مع إيقاع الحياة في جوانبها المركبة، محدثًا أثره الطبيعي الذي يتجلى في الشد والربط بين مؤسسات الدولة وإحكامها على وجه تتحقق فيه المصالح العليا للشعب (الوحدة الوطنية، والتماسك الاجتماعي، والتنمية والنهضة، وكرامة المواطن والعيش الكريم)، مع بيان شكل النظام السياسي وتوزيع السلطة وعلاقة المواطن بالدولة والمؤسسات فيما بينها، وتبقى الملاحظة الأساسية أن العلمانية بقيت ثابتًا من الثوابت الدستورية، كما تؤكد الصياغات المتعددة، كمرجعية فكرية وفلسفية للدولة الإفريقية الحديثة. 

الدولة في إفريقيا: تعثرات النشأة

وتعد الدولة أكبر المؤسسات السياسية المعاصرة؛ إلا أن ولادتها إفريقيًّا كانت مشوَّهة بحكم مخلَّفات حقبة الاستعمار والظرفية الدولية قبل الاستقلال من حربين عالميتين وما تبعهما من أخرى باردة، إلى جانب عقبات التجزئة والتقسيم التي أسفر عنها مبدأ عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار. وجُلُّ أنظمة الحكم بالقارة جمهورية في مقابل أنظمة فيدرالية معدودة كما يأتي في ديباجة الدساتير، ولا تزال جهود بناء الدولة وترسيخ الوحدة في إطار التنوع مركبًا صعب الامتطاء، على أن الوعي الوطني يأخذ مكانه في ظل تجارب إفريقية واعدة. 

ويأتي على رأس مؤسسات الدول: الرئاسة، والبرلمان، والحكومة، والمجلس الدستوري، والمجالس الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ ضمانًا لتوازنها واستقرارها واستجابة لاحتياجات المجتمع. ويستلزم تسيير تلك الوحدات نفقات مالية مكلفة من خزينة الدولة واستقلالًا ذاتيًّا وعنصرًا بشريًّا مكونًا تكوينًا عاليًا. 

ولضرورة استمرار المؤسسات عبر الزمن السياسي، فإن الرئيس يتعهد أثناء أداء اليمين الدستورية بحماية الوثيقة الدستورية وحسن أداء المؤسسات، كما يتمتع قائد البلاد بسلطات استثنائية في حال ما إذا كان انتظام سير المرافق العمومية مهددًا. 

ويمكن الإقرار رأسًا بأن الإطار المؤسساتي للحياة السياسية الإفريقية أوروبي محض؛ أي إنه وليد الدولة الاستعمارية وليس نابعًا من التراث الاجتماعي السياسي الإفريقي، وتلك ثغرة استعصت على السد، وهنا يمكن استدعاء الموروث الحضاري في تدبير الشأن العام. 

وتبقى المؤسسات عرضة للزيادة أو الإلغاء ضمن المتن الدستوري حسب توجهات النظام السياسي القائم والتفاعلات الدولية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تمَّ شطب مجلس الشيوخ السنغالي من نظام الغرفتين مرتين آخرها 2012، وإضافة المجلس الأعلى للجماعات المحلية 2016 عبر استفتاء دستوري، إلا أن الحكومة الحالية وعدت بإلغائه وتم عرض مشروع القانون على المؤسسة النيابية ولم يتحقق أمل القيادة الجديدة؛ ما يعني حركية ودينامية مرافق الدولة. 

تتناسل المؤسسات بناءً على الحاجة، وهي هنا خدمة الشعب في مجالات معينة (سن تشريعات، مراقبة عمل الحكومة، تلبية حاجة الأمن، الصحة، التعليم، الفصل في الخصومات...)؛ إذ إن الغاية من الهيئات تحقيق خدمات عامة وتجسيد مصلحة الشعب، أي القيام بأعمال وأنشطة لصالح الشعب، فكل المؤسسات تلتقي عند هذا الحد ابتداءً من رئيس البلاد فمن دونه حسب التسلسل الهرمي الإداري. 

تسطر الأدبيات بهذا الصدد أن السلطة التنفيذية ظلت محور الأنظمة السياسية، متسببة في أعطاب بالغة للديمقراطيات الناشئة، ولم يتأتَّ -حسب الآليات الدستورية والمقتضيات التشريعية- إلجام الحكومات المتعاقبة عن النفوذ والهيمنة على المشهد السياسي القاري، ومن هنا كانت هشاشة المؤسسات بادية وتأثيرها ضعيف وأفقها محدود. 

ومما يمكن أن يحد من نفوذ الحكومات تقليص صلاحيات القيادة خصوصًا مع سيادة الرئيس، ثم التحكم في موارد الدولة عبر الأجهزة الرقابية بالكشف عن المخالفات والفساد، وهو عامل لتقليم أظافر السلطة التنفيذية والحد من هيمنتها على نظيرتيها والمضي نحو توطيد الحكم الرشيد. ومما يساعد على ذلك أن شأن الميزانية وسن التشريعات من اختصاص البرلمان، أي تمكين النيابة الشعبية من أداء دورها بعيدًا عن تأثيرات الساسة وأرباب المصالح الضيقة، مع ضمان استقلال القضاء.

ويمكن ذكر بعض العقبات التي أعاقت التطور الدستوري، منها: 

ـ الحالة الأمنية للقارة وتداعياتها على المؤسسات الدستورية وعلى حياة المواطن، حيث شهد المسار الدستوري انحرافًا في وقت مبكر من تاريخ الأنظمة السياسية الإفريقية المعاصرة بسبب الأزمة الأمنية التي هزت أركان الدولة وتهاوت على إثرها عروش الزعامات، فتزعزعت الأواصر بين القمة والقاعدة وتبعثرت الحياة السياسية برمتها بدءًا بعقدية الاستقلال وما تلاها بسبب انقلابات أو حروب أهلية أو تمرد ومطالبة بالانفصال أو قمع ومحاصرة المعارضة أو ضعف المشاركة الشعبية؛ ما جعل الدستور عاجزًا عن ضبط الشأن العام وفق متطلبات العقد الاجتماعي(1)

ـ طبيعة الدستور وما ينتج عنه من حواجز تحول دون استيعاب المواطنين لمقتضياته، نذكر منها: اللغة التقنية وفنية صياغة النصوص القانونية، ثم نخبوية التخصص وتأخر الدراسات القانونية إلى المرحلة الجامعية... 

ـ ارتفاع نسبة الأمية التي تجتاح ربع أبناء القارة. 

وللتذكير، فإن الحركة الدستورية الإفريقية لم تكن عاجزة عن ابتكار حلول للتحديات السياسية والاجتماعية المطروحة، كما تكشف خبرة وممارسة الحكم عبر القرون في شتى أرجائها مع الممالك السارية إلى يومنا هذا. 

أخيرًا، يمكن صياغة الإشكالية على النحو التالي: 

ما موقع الدستور في النظام السياسي الإفريقي؟ وما علاقته بالمؤسسات السياسية؟ 

سنستعين في هذه الورقة بالمقاربة الدستورية من خلال استنطاق القوانين الأساسية عند الاقتضاء بشكل مقتضب، مع استحضار الصراع حول السلطة اتساقًا مع المنظومة التشريعية أو غصبًا عنها. 

الدستور في النظام السياسي الإفريقي

يقرر القانون الأساسي أن السيادة للشعب باعتباره مصدر السلطة(2)، وتتم ممارستها في إطار القانون، ومن خلال احترام صلاحيات كل هيئة وفق الديمقراطية التمثيلية. وقد بدأت الدولة الإفريقية الحديثة في التشكل بمؤسساتها الوافدة بعد الحرب العالمية الثانية، فيما تكفل الدستور بتنظيم كيفية الوصول إلى مقاليد الحكم وصناعة القرار. وكانت السمة البارزة للحياة السياسية بعد الاستقلال استحواذ الحزب الأحادي على كل أنشطة الدولة بعيدًا عن الإجماع الوطني إلى حد التماهي بين "الحزب والدولة"؛ مما أدى إلى شخصنة السلطة موازاة مع وجود شبكة حزبية تحيط بكل شاردة وواردة من العاصمة إلى آخر قرية على الحدود، ولم يكن هناك حينئذ إلا شرعية وحيدة هي شرعية الحزب الحاكم. 

وشكَّل تحجيم الأحزاب السياسية وتقليص أدوارها أكبر شغل للأنظمة الحاكمة، فضلًا عن حرمانها من التمويل والظهور الإعلامي. وارتكز العمل الحزبي تاريخيًّا على الأحادية لمدة استغرقت قرابة النصف من العمل السياسي بعد الاستقلال قبل إقرار التعددية إلا في حالات معدودة. ولهذا أثر مباشر على تدبير السلطة وكيفية إعادة توزيعها بين مكونات المجتمع، وعلى طريقة الحكم، وعلى الاستقرار والتوازنات. ولعل أكبر إدانة لتلك الفترة هي تجريم تلك الممارسة وتصنيف تأسيس الحزب الواحد خيانة عظمى، كما في الفقرة الثانية من دستور كونغو كينشاسا 2006. 

ومهدت الأحادية الحزبية للصراع على السلطة في الداخل والخارج، وأرجأت التحول الديمقراطي والولوج إلى عهد التناوب السلمي على السلطة إلى حين، انتهاءً بعزوف فئة عريضة من الشعب عن السياسة في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وطنيًّا وإملاءات المؤسسات الدولية المالية دوليًّا. 

وينص الدستور على صلاحيات واختصاصات كل مؤسسة على حدة، لكن مع ذلك لا يزال تنزيل المقتضيات إشكالًا قائمًا، كتطبيق مبدأ فصل السلطات والشفافية والمحاسبة وتكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون. على أن قضايا من قبيل الالتزام بمدد الولايات الرئاسية لم تحسم بشكل قاطع في القارة، وتتطلع بعض القيادات لأكثر من ولايتين رئاسيتين، وقد تتوسل في ذلك بالتعديلات الدستورية تقوية لموقعها إن بالنص أو الفحوى (رواندا، توغو...). وهذا يعني أنه على الرغم من أهمية النص الدستوري، ينبغي ترسيخ ممارسات قانونية تتحول مع الأيام إلى أعراف سائدة في المجتمعات الإفريقية لا يجوز تخطيها. 

وعاشت القارة في العقود الأولى من الاستقلال انقلابات متعاقبة وسيطرة على الحكم بالعنف؛ ما جعل من انتظام الدولة ومؤسساتها ضمن حركة قانونية دستورية ضربًا من المستحيل. وكان الحاكم الفعلي هو الرئيس/السلطة التنفيذية، وبتعبير آخر، فكل انقلاب يسجل تراجعًا في الحياة الدستورية والسياسية. ونجاح الانقلابيين يقتضي تعطيل العمل بالدستور وتعليق عمل المؤسسات واعتماد قانون الطوارئ وترقية رُتب قادتها وابتداء دورة حكم خارج القانون تحت قيادة المجلس الوطني للخلاص.

رغم تنصيص بعض الدساتير لاحقًا على مأسسة المعارضة بكونها جزءًا لا يتجزأ من الممارسة السياسية، ما فتئت الحكومات تضايق المعارضين بشتى الوسائل، ولسان حالها: لا مقام لكم بيننا، وترتب على ذلك حضور باهت من الشريك السياسي في مؤسسات الدولة بسبب انعدام الأجواء الملائمة؛ ما أفضى إلى حياة سياسية غير متوازنة وغير مستقرة، ظهرت في التباين بين التمثيل الحكومي وثقل المعارضة، والذي دفع أحيانًا إلى اندلاع وتفاقم أزمات حادة.

وتارةً ما يكون التأويل الدستوري عقبة في وجه التطور السياسي رغبةً من النظام القائم في البقاء على السلطة أو الحصول على امتيازات، فعلى سبيل المثال لم يسبق للمحاكم الدستورية أن قضت بكون الرئيس في حالة عجز تستوجب شغور منصبه مع حصول الموجب (مرض، شيخوخة، غيبة)، علمًا بأنه إجراء دستوري، ويمكن التمثيل هنا بواقعة رحلة استشفاء الرئيس عمر موسى يارادوا النيجيري وبونغو الابن بالخارج، وبما حصل مع الزعيم الكاميروني الذي تطول فترة غيابه عن البلاد، والأحدث في شأن الأخير ربط أجهزة ياوندي الحديث عن مسألة صحته بالأمن القومي بعد حظر رسمي لأي نقاش حول صحته(3).

ولا يزال دور "الدستور الجديد" مرتقبًا لإعادة تأسيس الدولة الإفريقية المعاصرة والاستجابة لمتطلبات التغيير والإصلاح، ومن ذلك ما استجد في عهد الاتحاد الإفريقي من وجود ترسانة قانونية ترفض كل أشكال التعدي على النظام الدستوري(4) وإفساح المجال للمسلسل الديمقراطي.

وثمة سلوك مألوف من لدن الاتحاد الإفريقي يتعلق بالإدانة والاستنكار وتعليق عضوية الدولة الانقلابية، وتحذو حذوه هيئاته التابعة له، وهو نفس المسار الذي تسلكه المنظمات الفرعية كالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والمجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا.

الدولة الإفريقية والمؤسسات السياسية

لا يُتصور فكاك بين المبدأ والممارسة، وهو ما يبدو من خلال ثنائية الدستور والمؤسسات، فهي ليست سوى تعبير عن القيم والمثل في تطبيقاتها اليومية، وهو ما يسمح بتقييمها وتعديلها ومن ثم تطويرها بالوقوف على تفاصيل وجزئيات الأجهزة الحكومية ضعفًا وقوة.

وتعد سلامة الأداء المؤسساتي (الحفاظ على النظام العام، التسيير الإداري، المحاسبة، محاربة الرشوة...) أحد أسباب استقرار الحياة السياسية وتقدمها، ثم إن التحول الديمقراطي لن يتأتى إلا من خلال مساهمة قوية وفعالة من الوحدات السياسية والإدارية للدولة.

وينبغي أن تتسم المؤسسات بسمة الانفتاح على المواطن وعلى الأطياف السياسية وعلى كل فئات الشعب من غير تمييز، بمعنى ألا تتحول الهيئة التنظيمية إلى لوبي مغلق يعمل لصالح جهات معينة فقط، بل تتوخى المصلحة العليا في ممارسة مهامها وأداء واجباتها، ويعني ذلك أن يكون البرلماني ممثلًا للأمة ونائبًا عن الشعب وليس حتى عن الحزب الذي ينتمي إليه، بخلاف ما هو مشاهد في بعض البرلمانات، وموظفو أي قطاع حكومي في خدمة المواطن وشغل العدالة إحقاق الحق، وهذا ما ينهض بالحياة السياسية وبالتجربة الديمقراطية الإفريقية.

وينتظر مؤسسات الدولة عمل جبار عنوانه العريض ضمان تقاسم السلطة وتوزيع الثروة بين أبناء الوطن الواحد بتولية الأكفاء وضمان تكافؤ الفرص أمام الجميع وعدم إفلات الجناة من العقاب/المحاسبة والمساءلة وإعادة النظر في الإنفاق الحكومي الذي يأتي على حساب المشروع التنموي ومتطلباته لصالح الأمن وأعباء خدمة الدين وتفاقم الرشوة...

سعت الدول الإفريقية عقب الاستقلال إلى البحث عن هياكل وآليات للتعبير عن توجهاتها وتنفيذ سياساتها، ومن ثم تحقيق المثل والقيم العليا للشعب والتي تنتظم غاية وجودها وفلسفتها في الحياة، إلا أن عقبات داخلية وخارجية متنوعة حالت دون الوصول إلى الأهداف المتوخاة، نذكر منها: (حروبًا أهلية، وانقلابات، وتأثير القوى الاستعمارية التقليدية على صناعة القرار، والحرب الباردة، وسياسة التقويم الهيكلي).

ومن العقبات التي واجهت العمل المؤسساتي في الدولة الإفريقية الحديثة بشكل عام أن الهياكل الوافدة لم تولد ولادة طبيعية ولم تتبلور خلال الزمن الدستوري المتقطع، بل وجدت الدولة نفسها في بيئة غير مهيأة، بدءًا بقضايا تهدد الوحدة الترابية والتماسك الاجتماعي وربما التمرد والمطالبة بالانفصال.

وحين الحديث عن المؤسسات فإنه يتوخى منها أثرًا ملموسًا من الأداء والفعالية والحيوية وصولًا إلى الإصلاح والتغيير وبناء دولة قوية متماسكة قادرة على النهوض بشأنها ومجابهة التحديات الداخلية والخارجية، أي معبِّرًا حقيقيًّا عن الإرادة السياسية وتوجهات الدولة وروح الشعب في حقبة من الحقب.

فالمؤسسات هي الهيئات التي تتجلى من خلال أعمالها أحلام الشعب لكونها آليات ووسائل للتعبير عن المبادئ الدستورية وصناعة القرار والقدرة على التأثير من خلال توظيف السلطة المتاحة، ومنها هيئات حاكمة وأخرى استشارية، وثمة صلاحيات متبادلة بينها تُسعف في توازن واستقرار مؤسساتي نسبي؛ فإذا كان من حق الحكومة مثلًا حل البرلمان فإن من صلاحيات المؤسسة النيابية سحب الثقة من الحكومة، وإذا كان للرئيس حق تعيين أعضاء المجلس الدستوري فليس له إقالتهم، وإذا كان للبرلمان التشريع فإن لمرفق العدالة النظر في دستورية القوانين.

ولن يتأتى الانتقال من مؤسسات شكلية إلى حقيقية إلا بقيام مختلف النخب -دينية واقتصادية واجتماعية- بدورها وإصلاح المدنية الإفريقية على مختلف الأصعدة مما يفرض أخيرًا هيبة الدولة.

المؤسسة البرلمانية

المؤسسة النيابية هيكل تنظيمي ووحدة سياسية يُناط بها تحقيق غايات معينة، ومن ثم فهي قابلة لكل مرجعية. فإلى جانب الإجراءات التنظيمية في تشكيلها من غرفتين (كوت ديفوار، نيجيريا) أو واحدة (السنغال، بوتسوانا) ودورات انعقادها وعدد نوابها، فإن وظائفها الأساسية تتمثل في: التشريع والرقابة وتقييم العمل الحكومي، في وقت ينحصر فيه اختصاص البرلمان التشريعي في مجالات محددة. 

وللتذكير فقد سيطر الحزب الحاكم على أعضاء ممثلي الشعب قبل عهد التناوب، وفي حالات نادرة جدًّا وُجد العكس ولم يدم لفترة طويلة، ولهذا تبعات مباشرة على البرلمان وعلاقته بالسلطة التنفيذية. غير أن الواقع اليوم أثبت أن الفوز في التشريعيات يتم من خلال ائتلاف حكومي يرتكز على الحزب الحاكم. 

لم يطرأ على آليات البرلمان الإفريقي تغيير جوهري (سن القوانين، التصويت على قانون المالية، سحب الثقة من الحكومة، الموافقة على التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، إعلان الحرب مثلًا) وتأتي حالة انتقال دولة توغو من النظام الرئاسي إلى البرلماني كالتفاف على إرادة الشعب. والثابت في هذه المسرحية بقاء فور ياسيمبي الابن رئيسًا في كلا النظامين، ويرتقب من المؤسسة النيابية أن تقوم بدور أكبر في مجال التكامل الإقليمي والتعايش السلمي عبر الدبلوماسية الموازية في زمن العولمة والتشبيك. 

ومن القصور الذي لحق بالعمل النيابي: 

ـ انحطاط السلوك البرلماني لدى بعض النواب. 

ـ غياب تسليط الأضواء على قضايا حساسة تهم الوطن والمواطن من خلال لجان التقصي أو غيرها من وسائل المراقبة. 

ـ فتور العلاقة بين النائب ودائرته الانتخابية بعد ولوج قبة البرلمان. 

ولعبت البرلمانات في فترات ماضية دور المتمم للسلطة التنفيذية تشريعيًّا بحجة إسناد الحكومة في سياساتها العامة بغض النظر عن مراميها؛ حيث وُجد نواب يصرحون علنًا بانتمائهم للنظام الحاكم وليس للشعب علمًا بأنهم يمثلون الشعب وليس الحكومة. ولهذا كان الطريق سالكًا لكل صور الاستبداد التشريعي والمالي والسياسي. وعمومًا، فإن ضعف البرلمان أمام السلطة التنفيذية ظاهرة متفشية، وغير خافٍ أن وعي الشعب وانتشار المعلومة مما يعزز السلطة الرقابية ويحصر نطاق الفساد ولو بنسبة ضئيلة. 

السلطة التنفيذية

تسهر الحكومة على رسم وتطبيق السياسات العامة للدولة (الصحة، التعليم، القضاء، الفلاحة، المواصلات، الأمن...)، وتعتبر الإدارة موضوعة تحت تصرفها ولها لائحة مدنية. وبرزت سمة التعدي على الدستور من طرف الحكومات المتعاقبة بالأساس مع من وصفوا بـ"جيل التأسيس" من الرؤساء؛ إذ في عهدهم كانت مسألة تركيز السلطة بيد الحاكم والانفراد باتخاذ القرارات أمرًا مألوفًا سواء على مستوى القضايا الداخلية أو الخارجية. 

وترتفع المطالب الدستورية الإفريقية في كل منعطف منادية بتقليص صلاحيات الرئيس الذي شكَّل قطب رحى السياسة، ثم إن عدم تطبيق مبدأ فصل السلطات دفع السلطة التنفيذية للارتماء في عتمة الفساد وتفريخ كافة أنواعه، حتى غدا سرطانًا يصعب استئصاله. 

ومن الملاحظ تحديد مدة الرئاسة في المتوسط في خمس سنوات، وحصر ولايات الرئيس في مأموريتين تتسع دائرته شيئًا فشيئًا (نيجيريا، كونغو كينشاسا، كينيا...) وما من شك أن تلك الممارسات الدستورية قد تعقلن الأنشطة السياسية في الأمد المتوسط مع ضغط الشعوب تجاه إصلاح المنظومة السياسية برمتها، والذي بات يتجلى في النضال القاري من أجل ترسيخ الديمقراطية مع الحركات المدنية العابرة للدول التي تشكل أحيانًا دور الرقابة الصارمة في بعض الملفات الساخنة. 

تأتي تنحية نائب الرئيس الكيني من منصبه بقرار من المحكمة الدستورية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سابقة من نوعها في ظل دستور 2010 إثر إقرار البرلمان عزله بأكثر من ثلثي أعضائه وتعيين وزير الداخلية محله، فيما نصت المادة 150 على حالات عزل نائب الرئيس، ومن بينها "ارتكاب مخالفة جسيمة لأي نص في هذا الدستور أو أي قانون آخر"، ومن اللافت أنه مع صدور مثل هذا القرار لم تستتبعه اضطرابات داخلية بل موافقة كاسحة من ممثلي الأمة، وهو ما يوحي بتقبل الشعب للمسالك القانونية على غيرها. 

السلطة القضائية

تتكون السلطة القضائية من مختلف الهيئات والمحاكم القضائية على تفاوت بينها، المجلس الدستوري، والمحكمة العليا، ومحكمة الحسابات وغيرها من محاكم الدرجة الأولى والثانية. وتأتي المحاكم العليا -كما هي الحال في نيجيريا- في أعلى درجات السلم القضائي وتحظى أحكامها بالنهائية، وتعمل من خلال دوائر وتتكون كل دائرة من ثلاثة قضاة يرأس أقدمهم الدائرة، وذلك للنظر في الطعون ضد أحكام محاكم الاستئناف وتصدر قراراتها بالأغلبية. 

و"السلطة القضائية هي حامية الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور والقانون"، كما يرد في الوثائق التشريعية، المادة 91 من الدستور السنغالي 2016، وعلى عاتقها يقع عبء حماية دولة المواطنة أي الوطن الذي يسع الجميع. 

لكن التضييق على حرية المواطنين، سيما مع اقتراب المواسم الانتخابية من خلال منع المظاهرات والاعتصامات والتجمع، بات أمرًا شائعًا وأحيانًا التعدي على الحقوق المدنية والسياسية بمنع إنشاء أحزاب أو حلها في حال وجودها، وقد يصل الأمر إلى حدِّ استهداف المعارضة وتصفية قادتها، كما في حالة التنزاني، علي محمد كيباو، وآخرين من موزمبيق، ألفينو دياس وباولو جوامبي، في غضون السنة الجارية 2024. 

ومما يمكن رصده أن كثيرًا من الدول الإفريقية لم تنجح في إيجاد قضاء مستقل نزيه ذي مصداقية يحظى بثقة الشعب، وهو ما يؤدي إلى أن تكون مؤسسة القضاء ومثيلاتها مصدر قلق بدل اطمئنان وتصعيد عوض تهدئة، بسبب بنية المنظومة القضائية الخاضعة للتراتبية ومن ثم قابلية التأثير، إضافة إلى الخروقات التي تصاحب القضايا المعروضة على المحاكم شكلًا ومضمونًا، ولا شك أن ذلك يجعل من الإحالة عليها مثار جدل وقلق في نظر المرتابين في نزاهته، ويطرح السؤال من جديد حول أزمة الثقة في المؤسسات. 

لكن المجتمع المدني جعل من معاركه الكبرى، إصلاح القضاء وانتفاض الشعوب لتصحيح سير العدالة، أمرًا ضروريًّا للعيش في ظل الاستقرار، واستقلال القضاء ركيزة أساسية لإعادة بناء الدولة المعاصرة تحترم فيها حقوق الإنسان الفردية والجماعية، ويعتبر ضمانة أساسية للشعب من التردي في انزلاقات مؤكدة أو محتملة، مع ما يتطلبه القضاء من الالتزام بأخلاقيات المهنة التي لو سادت لأمكن التغيير والتأسيس لعيش مشترك ينعم فيه المواطنون بالسلم الاجتماعي والتوافق الوطني. 

إلى جانب ما ذُكر من الهياكل التنظيمية الرسمية في الدولة، ثَمَّ أخرى تتمتع بمساحة واسعة في المعترك السياسي سواء تعلق الأمر بجماعات الضغط ووسائل الإعلام والمجتمع المدني فضلًا عن المؤسسة العسكرية العتيدة التي ظلت حاضرة ومؤثرة في المشهد السياسي، لكنها في جميع الأحوال تبقى مشمولة بالوثيقة الدستورية التي تنتظم الحياة السياسية عموديًّا وأفقيًّا. 

خاتمة

ليس هناك دستور مثالي إلا بقدر ما يحقق للناس مصالحهم ويحفظ كرامتهم، لكن مع ذلك استعصى على الدولة الإفريقية الحديثة ضبط السلطات الثلاث وفق معادلات القانون الأساسي لها، وحظيت السلطة التنفيذية على مدى السنوات المنصرمة بالنصيب الأوفر مقارنة بنظيرتيها، التشريعية والقضائية. 

ويتطلب الارتقاء بالتجربة الدستورية توفير الحد الأدنى من مستويات العيش الكريم التي تمكِّن المواطن من إدراك تفاصيل شؤون الحكم بعد اجتياز عقبة البحث عن لقمة العيش ومجابهة ضغط الحياة اليومية. 

إن الدساتير الإفريقية ومؤسساتها السياسية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل التنافس المحموم بين القوى الكبرى لئلا تعيد إنتاج أخطائها "الباهظة"، بل التأسيس لعقد اجتماعي يؤمِّنُ للمواطنين حياة كريمة بكل متطلباتها المادية والمعنوية.

ABOUT THE AUTHOR

References

1) هارون باه، سلطات الرئيس في الدساتير الإفريقية: دراسة تحليلية، مجلة قراءات إفريقية، العدد 56، أبريل/نيسان 2023-رمضان 1444هـ، ص 49.

2) المادة الثامنة من الدستور الإثيوبي 1994، والمادة الثالثة من دستور بنين 1990، والمادة الأولى من الدستور الغاني المعدل 1996.

3)- Cameroun: le ministère de l'Administration territoriale interdit tout débat sur la santé de Paul Biya, https://www.seneweb.com/news/Afrique/cameroun-le-ministere-de-l-adminis…, تاريخ الدخول: 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024.

4) الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخاب والحكم 2007.

5) د. أحمد إبراهيم أبا، تطبيق الشريعة في نيجيريا "قراءة في الدستور الفدرالي النيجيري"، منشورات المركز النيجيري للبحوث العربية 1430هـ-2009، ص 24.