جولة دبلوماسية جديدة بين إيران والولايات المتحدة: المستجد والمآلات

وإن طغت الدبلوماسية ولو إلی حين علی الملف الإيراني-الأميركي، وإن لم تأتِ هذه الجولة من التفاوض بجديد ولا هي أوقفت خطاب التهديد المصاحب لها، إلا أنها خطوة توحي بتوجه مختلف عن السابق بين إيران والرئيس ترامب قد تفضي في مراحلها المقبلة إلی تفاهم أو اتفاق حول المختلف عليه. تحاول هذه الورقة إيضاح المستجد وحيثياته ومآلاته المحتملة.
"حلوى مسقط" عنوان صحيفة إيرانية لصفحتها الأولى حول المفاوضات (رويترز)

بدأت في الثاني عشر من أبريل/نيسان 2025 جولة جديدة من المفاوضات الإيرانية-الأميركية بالوساطة العُمانية في مسقط. ورغم اختلاف السرديتين حول طبيعة تلك الجولة والمتفق عليه للتفاوض فيها، إلا أن الراشح منها واتفاق الجانبين علی استمرارها يوحي بإيجابيتها. ويأتي بدء هذه الجولة بعد التهديد والوعيد المتبادل بين طهران وواشنطن والذي تلاه تبادل رسائل أفضت إلی تفاهم أوَّلي للتفاوض. وإن طغت الدبلوماسية ولو إلی حين علی الملف الإيراني-الأميركي، وإن لم تأت هذه الجولة من التفاوض بجديد ولا هي أوقفت خطاب التهديد المصاحب لها، إلا أنها خطوة توحي بتوجه مختلف عن السابق بين إيران والرئيس ترامب قد تفضي في مراحلها المقبلة إلی تفاهم أو اتفاق حول المختلف عليه. تحاول هذه الورقة إيضاح المستجد وحيثياته ومآلاته المحتملة.

عود علی بدء

لم تكن إيران في طور المواجهة عند بدء ترامب حقبته الأولی إذ كانت قد وقَّعت للتوِّ اتفاقا نوويًّا ابتاعت بناءً عليه إلغاء العقوبات الأممية المفروضة عليها لقاء تجميد أجزاء من برنامجها النووي ووضعه تحت رقابة تامة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية(1)، إلا أن الرئيس ترامب المهووس بإنهاء إرث وإنجازات سلفه، خرج من الاتفاق منهيًا التزام بلاده بإلغاء العقوبات عن إيران(2)، وقام بفرض عقوبات هي الأقسی علی الاقتصاد الإيراني. يعود اليوم الرئيس ترامب للمربع الأول بقوله إنه لا يريد لإيران أن تتسلح نوويًّا(3) وهو ما تضمنه الاتفاق السابق. إلا أن العودة لتلك النقطة تأتي بعد تطورات متعددة طرأت علی المتفق عليه سابقًا شملت تطورًا غير مسبوق في برنامج إيران النووي وعقوبات متعددة الأبعاد نُعتت بالـ"ضغوط القصوى" علی إيران أُريد لها أن تدفع طهران للقبول بشروط تعسفية طرحها وزير الخارجية الأسبق، مايك بومبيو، في اثني عشر بندًا(4) ناهيك عن تطورات إقليمية وصلت بالمواجهات إلی ذروتها في الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل.

وكانت إيران قد أبدت مقاومة شرسة أمام شروط إدارة ترامب السابقة وصلت حدَّ الصدام المباشر مع الولايات المتحدة. ولم يغير الرئيس بايدن المسار إذ أبقی علی الضغوط القصوی ولم يعد للاتفاق النووي علی غرار عودته عن سياسات خارجية أخرى لسلفه بل حاول اقتطاف المزيد من التنازلات من طهران التي استمرت بمقاومتها وانتخبت رئيسًا حدَّد بوصلته الخارجية في اتجاهين: المنطقة والشرق(5). بذلك راوحت العلاقة الإيرانية-الأميركية مكانها حتی انتخاب الرئيس ترامب لولاية ثانية.

وبعد الخطاب المعادي الذي بدأه ترامب تجاه إيران، انتقل وبسرعة إلی خطاب يوائم احتمالات التفاهم مع طهران. فقد هدَّد بضرب طهران وطرح فكرة تفكيك البرنامج النووي برمته ناهيك عن حديثه المكرر حول قدرات إيران العسكرية وسياستها الإقليمية وضرورة ضبط كليهما. وبمجرد ظهور بوادر انفتاح إيراني علی الدبلوماسية الثنائية، وإن بوساطة، خفض ترامب سقف مطالبه مركزًا علی التسلح النووي بالقول إن مطمحه الرئيس إيقاف إيران عن امتلاك سلاح نووي. بذلك نزل ترامب من الشجرة التي أبعدته عن احتمالات التفاهم مع طهران وعاد بذلك إلی الخطاب والسياسة الأميركية المتبعة قبل اتفاق 2015. وإذ يعود ترامب عن خطابه المشحون تهديدًا ووعيدًا إلی الحدود المقبولة إيرانيًّا، يبلور واقع عبوره من الضغوط القصوى كخيار إستراتيجي في التعاطي مع طهران ويضع تلك الضغوط علی الطاولة للمقايضة. وضع بذلك ترامب أرضية مواتية لعملية تفاوضية مقبولة لدى طهران.

دوافع المستحدث

تختلف الدوافع بين الدولتين وتجتمع في تغليبهما الدبلوماسية طريقًا أمثل لتحقيق الأهداف المرجوة. بالنسبة لإيران التي التزمت بحذافير اتفاق 2015 حتی عام  2019 -أي حتی بعد خروج ترامب منه وفرضه الضغوط القصوی علی طهران- ثمة حاجة للحدِّ من الضغوط الاقتصادية عبر تفاهم يقيد برنامجها النووي بصيغة مشابهة لاتفاق 2015. المقايضة في هذه الحالة تحدث بين إبداء إيران الشفافية النووية إلی جانب التراجع عن التقدم الواسع في برنامجها النووي من جهة وإلغاء العقوبات المفروضة أحاديًّا علی إيران من قبل الولايات المتحدة من جهة أخرى دون تفعيل آلية الزناد التي تُعيد، حال تفعيلها، العقوبات الأممية المفروضة علی إيران قبل 2015 بشكل تلقائي. وإذ لُدغ الإيرانيون من ذات الرئيس في عام 2018 بتنصله من الاتفاق السابق، فمن المتوقع أن تأخذ سُبُل وأدوات الضمان وتوثيق الالتزامات الأميركية حيزًا مهمًّا من التفاوض بينهما. وتبدو طهران مجمعة بأغلب إستراتيجييها علی تلك المقايضة ولا تبدو كذلك عند الكلام عن الضمانات الأميركية. فإذ يُصر البعض علی أن يأتي الاتفاق الجديد في إطار يضمن عدم تنصل واشنطن منه مستقبلًا، يرى آخرون أن ذلك أمر صعبٌ إن لم يَسْتَحِلْ وقد يُعقد إبرام أي اتفاق.

أميركيًّا، يبقی الهدف الرئيس منع إيران من تسليح برنامجها النووي. وقد عبَّر الرئيس ترامب عن ذلك أكثر من مرة بالقول بأن هدفه الرئيس هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي. يُغَلَّف ذلك الهدف بنقاشات تضع أهدافًا أخری للتفاوض مع إيران كبرامجها الدفاعية وسياستها الإقليمية. ويمثل ذلك مصدر قلق لإيران إذ كانت قد أبدت استعدادها للتفاوض حول الملف النووي فقط في هذه المرحلة. يرجع مصدر القلق للخلافات البادية في واشنطن حول إيران؛ إذ يتكلم البعض بمنطق يُعيد شروط وزير الخارجية الأسبق، مايك بومبيو، إلی الأذهان والتي اعتبرتها طهران آنذاك "ذروة الوهم الأميركي"(6)، وهي رؤية تحاول إسرائيل تغليبها في النقاش الدائر في الولايات المتحدة لتعقيد احتمالات التفاهم بين الدولتين. يرى هؤلاء إيران في حالة ضعف يجب استثمارها عبر تكثيف الضغط للحصول علی المرجو، كل المرجو، وعدم تفويت هذه الفرصة. يتصدر هؤلاء -كما يرشح للعلن- مستشار الأمن القومي، والز، ووزير الخارجية، روبيو. أمام ذلك يظهر فريق يقوده المفاوض الأميركي، ستيف ويتكوف، ونائب الرئيس، جي دي فانس، يرجح عدم تعقيد الوضع بوضع أهداف غير واقعية علی الطاولة، بل الالتقاء مع طهران في مساحة الممكن إيرانيًّا. ويبدو الرئيس الأميركي أقرب للفريق الأخير بتأكيده علی أنه لا يريد سوى منع تسلح إيران نوويًّا.

وأمام هذا الانقسام تتلمس طهران طريقها في المفاوضات بقلق حول التقلبات المحتملة في واشنطن. فالمرشد الأعلی يتكلم بمنطق الراغب غیر المتسرع في قوله إنه يقف بين التشاؤم والتفاؤل وإن علی الحكومة أن لا تعول كثيرًا علی مخرجات التفاوض غير المضمونة مع واشنطن(7). وظهر وزير الخارجية، عباس عراقجي، المخوَّل بإدارة التفاوض مع واشنطن، بحلته الدبلوماسية طارحًا ضرورة عدم وضع شروط غير واقعية علی الطاولة من قبل الولايات المتحدة(8). ويبدو الخطاب مصوبًا نحو الإدارة الأميركية للإسهام في النقاش آنف الذكر لصالح فريق ويتكوف-فانس.

وإذ تهدف إيران من العملية التفاوضية لإلغاء العقوبات، إلا أن الحد من إمكانية المواجهة مع الولايات المتحدة يمثل هدفًا مؤثرًا علی موقفها أيضًا. وتلتقي إدارة ترامب مع طهران في ضرورة الابتعاد عن مواجهة مكلفة لكلا الجانبين. فالرئيس ترامب الذي رفع السقف، وما زال، دخل البيت الأبيض بانتقاد سياسة أسلافه بالدخول في حروب أتت بكلف باهظة علی بلاده. ويعلم الإستراتيجي الأميركي أن الموازنة العسكرية أمام إيران تصب في صالحه إلا أن تلك الموازنة لا تعني بأي حال من الأحوال منع الكلفة المترتبة علی أي مواجهة عسكرية. وكان الإيرانيون قد حرصوا في مناوراتهم العسكرية وخطابهم السياسي على إظهار جوانب من قدراتهم لإظهار المديات التي قد تصل إليها تلك الكلفة.

والمستحدث في هذه الجولة من التفاوض قد يتخطی تلك الأهداف في أهميته. فها هي إيران تفاوض الولايات المتحدة بشكل ثنائي وإن أتی بشكل غير مباشر في هذه المرحلة. ولم يسبق أن جری تفاوض مباشر إلا في إطار أوسع شمل آخرين كمجموعة الـ1+5 أو حول قضايا ذات اهتمام مشترك كالوضع في العراق بعد الاحتلال. ولا يخفی قطع طهران شوطًا في المحرم سابقًا بدخولها جولة مفاوضات ثنائية مع واشنطن حول ملفها النووي. يُظهر ذلك أولوية طهران الملحَّة في إلغاء العقوبات وإن أتی عبر التفاوض مع إدارة رئيسٍ قام بكل المساوئ في حقبته الأولی من التنصل عن الاتفاق النووي وفرضه العقوبات القصوی علی إیران واغتيال الجنرال قاسم سليماني وإعلانه ذلك.

أتی قبول طهران بهذا التنازل بعد الأخذ والرد المكتوب بينها وبين ترامب الذي قبل -كما يبدو- بالمطلوب إيرانيًّا: التفاوض في مراحل تبدأ بشكل غير مباشر، أولًا، والتركيز علی الملف النووي، ثانيًا. وإنْ قيس الموقف الأميركي بالحقبة الأولی للرئيس ترامب، يمكن اعتبار تلك التنازلات عناصر مؤثرة في قبول طهران التفاوض الثنائي. وبذلك انتقلت العملية التفاوضية متعددة الأطراف سابقًا إلی عملية ثنائية ووُضعت أوروبا وروسيا والصين والأمم المتحدة جانبًا ولو إلی حين.

التعاطي البنَّاء: التطمين والموازنة

ينشط وزير الخارجية الإيراني، المدير لملف التفاوض، في محاور لم تعهد إيران التركيز عليها بشكل متزامن. فإلی جانب التفاوض الثنائي مع الولايات المتحدة بتفاصيله متعددة الأبعاد، والذي يمكن وصفه بالتعاطي البنَّاء للتوصل لحل مُرضٍ للجانبين، تخوض إيران مسارين موازيين إقليميًّا ودوليًّا. فعلی المستوى الإقليمي، تنظر إيران إلی التفاهم الإيراني-العربي في المرحلة المقبلة إضافة إلی مسار التفاوض مع واشنطن. والواضح تأثير المواقف الإقليمية علی مخرجات الاتفاق النووي لعام 2015 علی هذا التوجه. فلم يفت إيران التأثير السلبي الذي مارسته دول عربية علی مخرجات الاتفاق السابق في حقبة ترامب الأولی. تهدف إيران من هذا المسار إلى تطمين تلك الدول بأن المسار الإيراني-الأميركي لا يعني ابتعاد إيران عن التفاهم والوئام مع جوارها ولا إيقافها مسار "دبلوماسية الجوار" الرامية للحدِّ من خلافات إيران وجوارها العربي وغير العربي. نَضَجَ هذا التوجه في نقاشات إيرانية دارت في السنوات الماضية انتقدت في بعض أوجهها توجه حكومة الرئيس روحاني في النظر للدبلوماسية الدولية مع الـ5+1 أولوية تُوجه المسار الإقليمي في مراحل لاحقة، وهو رهان فشل وأدی إلی تصاعد الصراع إقليميًّا بعد خروج واشنطن من الاتفاق. تحاول إدارة بزشكيان أن تُظهر حسن نية بلادها مع الجوار باستمرار إحاطتها بتطور ملف المفاوضات مع واشنطن واختيارها دولًا إقليمية للمراسلة، أولًا، وللوساطة، ثانيًا.

أما المسار الثالث فهو مسار إيراني مع المحور الروسي-الصيني. ويهدف هذا المسار إلی الاستفادة من الدورين، الروسي والصيني، في موازنة واشنطن والاتحاد الأوروبي عبر توفيق المواقف والتنسيق في التعاطي مع الأطراف الغربية في ظل المفاوضات الإيرانية-الأميركية. وإلی جانب ذلك، ينشط وزير الخارجية وإدارة الرئيس بزشكيان في الحد من مساوئ التفاوض الثنائي مع واشنطن علی الشراكات الإستراتيجية التي كانت إيران قد دخلتها مع الدولتين. ويأتي هذا المسار نتيجة الخبرة المتراكمة لمرحلة الاتفاق النووي لعام 2015 وما بعدها. وتُنتقد حكومة الرئيس روحاني بسبب ابتعادها عن الدولتين بعد ذلك الاتفاق وترجيحها العمل الاقتصادي مع الدول الغربية. ويرى المنتقدون استمرار الآثار السلبية لذلك المنحی علی علاقات إيران مع الصين وروسيا حتی انتخاب الراحل، رئيسي. ولذلك، تحاول الإدارة الحالية التنسيق مع الدولتين للموازنة أمام الأطراف الغربية، من جهة، ولتطمينها بأن إيران لن تبتعد عن الدولتين في حال الاتفاق مع واشنطن، من جهة أخرى. ويزداد ذلك التنسيق أهمية نظرًا لعدم حضور الدولتين في المفاوضات الجارية حاليًّا.

في هذه المحاور الثلاثة تحاول إيران أولًا بناء حيز من الثقة بينها وبين الولايات المتحدة لضمان استمرارية أي اتفاق مستقبلي يخلف الاتفاق النووي لعام 2015. وهي تركز علی ذات الهدف عبر تطمين الجوار واستمرار عملية بناء الثقة إقليميًّا للقول بأن المسار الإقليمي أولوية إيرانية أيًّا كانت نتائج العملية التفاوضية مع واشنطن. وعلی المستوى الدولي، تستند إيران إلی وزن روسيا والصين في المنظمات الدولية لموازنة الدول الغربية وتحاول توثيق موقفها المتوازن دوليًّا عبر التنسيق مع تلكما القوتين وإحاطتهما بتفاصيل التفاوض مع واشنطن حول البرنامج النووي.

رؤى إيرانية

تدخل طهران التفاوض الثنائي بالوساطة مثقلة بأعباء اقتصادية وإقليمية. وتختلف الرؤی الداخلية في تفسير المرحلة والأولويات المترتبة عليها. وتبدو الأغلبية الدافعة للتفاوض والمتصدرة للمشهد السياسي بإدارة إصلاحية مجمعة علی ضرورة التفاوض والوصول لتفاهمات للحد من تلك الأعباء(9). وترى هذه المجموعة في الرئيس ترامب، رغم تاريخه السلبي مع إيران، فرصة يجب استثمارها للحد من المشاحنات بين إيران والولايات المتحدة. يرى هؤلاء في محاولة ترامب تحقيق إنجاز دبلوماسي مع إيران فرصة جديرة بالاستثمار لإلغاء العقوبات المفروضة علی إيران لقاء تحديد البرنامج النووي الإيراني في أُطُرٍ تقنية ورقابية تقترب من مثيلتها في اتفاق 2015(10).

وبينما يبدو الإجماع في دوائر صنع القرار متبنيًا لتلك الرؤية، يری آخرون في الرئيس ترامب ورؤيته لإيران خطرًا متدرجًا يبدأ بمفاوضات نووية وينتقل لملفات أخری قد تجفف المخرجات الاقتصادية لأي اتفاق نووي بعد إخراج أوراق قوة إيران النووية من أيديها في اتفاق أولي، كما حدث عام 2018. هي رؤية متشائمة حول التعاطي مع الولايات المتحدة بشكل عام والرئيس ترامب بشكل خاص، ويرى أصحابها صعوبة ضمان التزام واشنطن بأي اتفاق إن أراد رئيسها الحالي أو أي رئيس مقبل التنصل منه حتی وإن تبنَّاه الكونغرس الأميركي. ففي نظر هؤلاء، يكمن الثمن الحقيقي لتطبيع واشنطن مع إيران في استقلال الأخيرة وليس في برنامجها النووي فحسب بل في قدراتها الدفاعية وسياستها الخارجية. ولا يرى أصحاب هذه الرؤية المتشائمة التوقيت مناسبًا للتفاوض مع واشنطن نظرًا لأخذ الأخيرة بأطروحة ضعف إيران التي تضخمها إسرائيل.

ويرد الداعمون بأن أوراق القوة الإيرانية علی المستوی النووي والدفاعي -أي البرنامج الصاروخي وبرنامج المسيرات- قطعت أشواطًا مهمة منذ 2015؛ ولذلك أثرٌ في التعويض عن الضربات التي تلقاها أعضاء محور المقاومة علی العملية التفاوضية. ويخلص هؤلاء إلی أنه لا ضير من العملية التفاوضية حتی وإن لم تُفضِ إلی المطلوب، إلغاء العقوبات. ورغم قولهم بإمكانية وصول المفاوضات إلی اتفاق، لا يری هؤلاء في أسوأ السيناريوهات خطرًا يمكن أن تفعله تلك المفاوضات، بل الأحرى، حسب هذا الرأي، أن تُظهِر نزعة إيران التفاوضية جُنوح طهران للسلام لا المواجهة وهي صورة يحاول الإسرائيليون وصقور واشنطن تفنيدها عبر إظهار إيران قوة إقليمية مزعزعة للاستقرار نافية للحلول السلمية في الملفات العالقة بينها وبين المجتمع الدولي. ويصل البعض في هذا التيار بين خروج ترامب من اتفاق 2015 وميله للاتفاق حاليًّا بالقول إنه يريد اتفاقا يبيعه داخليًّا علی أنه أفضل من سابقه الموقَّع في عهد أوباما. ويقلِّل هؤلاء من مخاوف تدرُّج ترامب في الضغط علی إيران بعد الاتفاق المقبل بالقول: إن الاتفاق بحد ذاته وخبرة ترامب السابقة مع إيران حريَّان بمنعه عن ذلك إذ بمجرد تنصله ستعود إيران ببرنامجها النووي إلی واقعه الفعلي بسرعة نظرًا لتطور التقنية النووية الإيرانية لحدود غير مسبوقة.

يرد المتشائمون المشككون بإمكانية العودة المسرعة للمستويات النووية الحالية في المستقبل، بأن التفاوض والعودة منه لأي سبب حري بإثارة البلبلة في الاقتصاد الإيراني المضغوط أساسًا. هذا بينما يشير أصحاب الرؤية الإيجابية إلی تأثير الأجواء التفاوضية الإيجابية علی الاقتصاد الإيراني وتعافي العملة الإيرانية في وقت قصير، قائلين بأن الوصول لاتفاق، وإن افترضنا عدم ديمومته، سيأتي بإيجابيات يجب عدم التغاضي عنها.

وبين الفريقين، يتبدى إجماع لدى النخب الحاكمة في إيران علی التفاوض الحذر مع واشنطن. فقد آثر المرشد الأعلی دعم التفاوض رغم عدم ترجيحه رؤی أحد الفريقين قائلًا بأنه غير متشائم ولا متفائل وأن لا ثقة بالطرف الآخر، الولايات المتحدة(11)، وردَّد الرئيس الإيراني(12) ورسميون آخرون ذات الخطاب. ويمكن اعتبار ذلك الخطاب وسطيًّا يتبنی كل الاحتمالات لتمكين صانع القرار، حين الضرورة، من الاستمرار بالعملية التفاوضية أو التراجع عنها إن اقتضت الضرورة ذلك.

تحديات عصيبة

بينما يطغی الخطاب الإيجابي لدى الجانبين، وبينما تقلَّصَ عدد الأطراف المعادية لاتفاق إيراني-أميركي في المنطقة خاصة بين الدول العربية، تبقی التحديات ماثلة أمام المفاوضات النووية ومستقبلها، ويمكن التكهن ببروزها أمام صانعي السياسة لدى الجانبين في قادم الأيام والأشهر. ويمكن تلخيص تلك التحديات كالتالي:

  • تفاصيل المفاوضات: بينما يتفق الجانبان، كما يبدو، علی ضرورة سير العملية السياسية بغية الوصول لاتفاق حول الملف النووي، إلا أن التفاصيل الكامنة في الإطار الفني-التقني للملف النووي ستفرض نفسها علی القرار السياسي لدى الجانبين في المرحلة المقبلة. فالتفاصيل التقنية وخاصة محاولة إيران ضمان المثول الأميركي أمام مخرجات التفاوض عبر ضمانات تقنية -كاحتفاظ إيران بكميات كبيرة من مخزون اليورانيوم عالي التخصيب علی ترابها تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية- من جهة، ومحاولة واشنطن اقتطاع تنازلات أكبر من ذي قبل من إيران -بغية إظهار الاتفاق المقبل أفضل من "اتفاق أوباما"- من جهة أخرى، يمكنها تعقيد مسار المفاوضات والتأثير علی مخرجاتها. ويتوجس الإيرانيون من احتمال طرح واشنطن أمورًا خارجة عن الإطار النووي في مراحل متقدمة من العملية التفاوضية، وهو ما قد يُعقد الوضع للطرف الإيراني وللعملية برمتها.
  • إسرائيل ورئيس وزرائها: يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي كأشد أعداء أي تفاهم أو تقارب أميركي-إيراني. وإذ يرجح البعض المصلحة الإسرائيلية في وضع البرنامج النووي الإيراني في حدودٍ يحددها اتفاق مستقبلي، لا تُبدي القيادة الإسرائيلية هذه النزعة؛ إذ ترى -حسب خطابها في الظرف الحالي- فرصة لضرب إيران بعد إضعاف محور المقاومة. والواضح أن لدى إسرائيل أدوات أمنية وعسكرية يمكنها تعقيد التفاهم الإيراني-الأميركي. وكان قد رشح تفكيرها بضرب المنشآت النووية في إيران في فترة ترامب(13). ويبقی السؤال المحوري المُختَلَف عليه: ما إذا كان بمقدور إسرائيل التجرؤ والتحرك خارج العباءة الأميركية وجرُّ ترامب إلی اتجاه خارج عن أولوياته هو؟
  • خلافات أميركية: وإذ يشير البعض إلی إشكالية الخلافات في إيران حول التفاوض مع واشنطن، أظهرت إيران حتی الآن انضباطًا في سلوكها وإدارتها لملف التفاوض والأرجح أن يستمر ذلك الانضباط مادام الإجماع البادي علی مستوی النظام قائمًا. وعلی الجانب الآخر، تختلف الرؤی والأولويات بين المجموعات المحيطة بالرئيس ترامب(14)؛ فمنهم فريق يتشدد ويرجح القراءة الإسرائيلية ويوجه لضرورة ضرب منشآت إيران النووية وفريق آخر يرى في الدبلوماسية حلًّا أمثل. وإذ استمرت الولايات المتحدة وفق الرؤية الأخيرة في التفاوض مع طهران، ولأن التفاصيل تحمل الكثير من التعقيد، فمن الممكن أن تطغی الخلافات الداخلية في الولايات المتحدة علی الموقف الأميركي في مناقشة التفاصيل ومراجعة الأطروحات الأميركية وطرح الحلول إزاء كل واحدة منها. ويبقی موقف الرئيس ترامب محوريًّا في مثوله لتلك الضغوط والخلافات أو استمراره في الدبلوماسية الإيجابية ومحاولة البحث عن حلول وسطية تُرضي كل من إيران والولايات المتحدة.

وإلی جانب تلك التحديات، يتكلم البعض عن عزلة أوروبا كتحدٍّ ثانوي. فبينما كانت مجموعة الـE3 الأوروبية محورية في المفاوضات السابقة، ها هي تُعزَل ولا يجري إحاطتها بواقع المفاوضات إلا من بعيد. ويملك الاتحاد الأوروبي أدوات ضغط علی رأسها مقدرته علی تفعيل آلية الزناد التي ستنقضي وفق اتفاق 2015 في أكتوبر/تشرين الأول 2025 إن لم يجرِ تفعيلها. وإن كان من المستبعد أن تذهب أوروبا لتفعيلها رغم رغبة واشنطن، إلا أنها يمكنها مقايضة مجاراتها التفاهم الإيراني-الأميركي مع الحفاظ علی جزء من مصالحها الاقتصادية في إيران.

تَمثُل تلك التحديات أمام طرفين أبْدَيَا إيجابية لم يتوقعها الكثير من المراقبين. فقد تطلب الوصول إلی تفاهم حول بدء المفاوضات التقنية جلستين من الحوار السياسي فقط بينما تطلب ذلك أشهرًا في المفاوضات السابقة لاتفاق 2015. يُظهر ذلك، ولو إلی حين، رغبة ثنائية في التوصل لتفاهم يفضي إلی اتفاق. وإن استمر البادي من الاستعداد للمضي بسرعة نحو اتفاق، يبدو بمقدور الطرفين الحد من أثر كل من التحديات سالفة الذكر. ويبقی التحدي الأكبر هو ما يرتبط بالتفاصيل التقنية التي ستتضح في الأسابيع القادمة بعد بدء تلك المفاوضات وهي التفاصيل التي أطالت أمد المفاوضات السابقة لسنوات.

إلی أين؟

بينما كانت التهديدات المتبادلة حول القصف والرد سيدة الموقف قبل أسابيع، انتقل الجانبان إلی موقف دبلوماسي يُرجح التفاهم مستقبلًا. ولا يخرج الوضع القائم عن أولويات أي من الطرفين. تريد إيران إلغاءً للعقوبات وتريد واشنطن اتفاقًا يضع سقفًا علی التطور النووي في إيران. وغني عن القول أن الربح السياسي ستجنيه كل من إدارتي ترامب وبزشكيان حال التوصل لاتفاق يؤمِّن تلك الأولويات. ولذلك أثر بادٍ في خطابهما ودفعهما عملية التفاوض للأمام. وبانتظار دخول التفاصيل التقنية المعترك الدبلوماسي، تبقی التحديات الخارجة عن إرادة الجانبين ماثلة أمام تفاهمهما. فهل سيتمكن الجانبان من ضبط وقع تلك التحديات أم سيجري استخدامها لتحسين أوراق التفاوض أم ستنسف تلك التحديات العملية الدبلوماسية برمتها؟ تلك سيناريوهات ثلاثة ستفرض تطورات المرحلة المقبلة أحدها. وبكل الأحوال، لم يأتِ اجتماعا مسقط وروما بجديد، لكنهما مثَّلا منطلقًا لجس النوايا لدى الجانبين وبانتقالهما المسرع إلی التفاوض حول التفاصيل التقنية، أبدى الجانبان جدية في الاستمرار بالعملية التفاوضية لحل المواجهة حول الملف النووي.

ABOUT THE AUTHOR

References
  1.  “Joint Comprehensive Plan of Action,” Vienna, July 14, 2015, (accessed:4/23/2025):  https://eeas.europa.eu/archives/docs/statements-eeas/docs/iran_agreemen…
  2.  “President Donald J. Trump is Ending United States Participation in an Unacceptable Iran Deal,” Trump White House, May 8, 2018,(accessed:4/23/2025):   https://trumpwhitehouse.archives.gov/briefings-statements/president-don…
  3.  Stephanie Lai and Hadriana Lowenkron, “Trump Says He’d Use Military to Prevent Iran From Nuclear Weapon,” Bloomberg, April 10, 2025, (accessed:4/23/2025):https://www.bloomberg.com/news/articles/2025-04-09/trump-says-he-d-use-…
  4. “Mike Pompeo speech: What are the 12 demands given to Iran?” Aljazeera, May,21,2018(accessed:4/23/2025):https://www.aljazeera.com/news/2018/5/21/mike-pompeo-speech-what-are-th…
  5. a5 حسن أحمديان، "سياسة رئيسي الخارجية في عامها الأول: أولويات إقليمية وتحديات دولية"، مرکز الجزيرة للدراسات، 18 أغسطس/آب 2022 )تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)،  https://studies.aljazeera.net/ar/article/5441
  6.  "پاسخ ظريف به شروط دوازده‌گانه پامپئو" (رد ظريف علی شروط بومبيو الاثني عشر)، وکالة أنباء إيسنا، 31 خرداد 1397، )تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)،  https://shorturl.at/OzJVs
  7.  "دیدار جمعي از مسئولان ارشد سه قوه با رهبر انقلاب" (لقاء المسؤولين الرئيسيين في القوی الثلاث مع قائد الثورة)، موقع المرشد الأعلی، 26 فروردين، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، 1404https://farsi.khamenei.ir/print-content?id=59993
  8.  "عراقچي: اگر آمريکايي ها درخواست هاي غيرعملي و غيرمنطقي نداشته باشند رسيدن به توافق محتمل است" (عراقجي: من المحتمل التوصل إلی اتفاق إن لم تطرح الولايات المتحدة مطالب غير عملية وغير منطقية) موقع فردا نيوز، 29 فروردين 1404 )تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://shorturl.at/Ldalc
  9.  "محسن ميردامادي: اجماع داخل کشور در باره مذاکره با آمريکا، کم سابقه است" (محسن ميردامادي: الإجماع داخل البلاد حول التفاوض مع أميركا قل نظيره)، عصر إيران، 30 فروردين 1404 (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://shorturl.at/O5Jnu
  10.  قاسم محبعلي "اولين فرصت رفع تمام تحريمها" (أول فرصة لإلغاء جميع العقوبات)، صحيفة هم ميهن، 25 فروردين 1404 (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://shorturl.at/KwFz4
  11. "دیدار جمعي از مسئولان ارشد سه قوه با رهبر انقلاب"، مصدر سبق ذکره.
  12.  "پزشکيان: در مذاکره با امريکا نه خوشبين هستيم و نه بدبين" (بزشکيان: لسنا متفائلين ولا متشائمين في التفاوض مع أمريکا)، موقع مشرق، 1 ارديبهشت 1404، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://shorturl.at/jCPF1
  13.  Erin Banco, “Exclusive: Israel still eyeing a limited attack on Iran's nuclear facilities,” Reuters, April 19, 2025, (accessed:4/23/2025): https://www.reuters.com/world/middle-east/israel-still-eyeing-limited-a…
  14. Barak Ravid “Trump team's Iran divide: Dialogue vs. detonation to end nuclear threat,”Axios, April 16, 2025(accessed:4/23/2025): :https://www.axios.com/2025/04/16/trump-iran-nuclear-policy-vance-rubio