طريق بريطانيا المرهق للخروج من الاتحاد الأوروبي

انقسمت بريطانيا حول كيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى اتجاهات متعارضة تهدد استقرار البلد وعلاقته بأوروبا.
b0e50dcb43904beb87645873b17a6904_18.jpg
الحكومة البريطانية تتململ في شباك الخروج من الاتحاد الأوربي (رويترز)

مقدمة 

لم يكن الشعور بالصدمة خافياً في مجلس العموم البريطاني، عندما بدأت لجنة فرز الأصوات في إعلان نتائج التصويت على اتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (ما بات يعرف بالبريكست)، التي توصلت إليها حكومة تيريزا ماي. وربما ظن بعض النواب أنه لم يسمع جيداً وانتظر حتى يعلن رئيس البرلمان البريطاني، جون بيركو، النتائج بشكل رسمي. ولكن، ما إن اتضح حجم خسارة ماي حتى تعالت الأصوات المرحبة، سواء من أنصار أوروبا أو من دعاة القطيعة معها. كانت خسارة الحكومة فادحة بكل المقاييس، بل وغير مسبوقة منذ عرفت بريطانيا نظام الحكم الحديث والسياسة الحزبية: 432 من الأصوات ضد الاتفاقية، و202 فقط معها، أي أن الاتفاقية رفضت بأغلبية 230 صوتاً.

الخسارة الفادحة للاتفاقية، التي أصبحت تعرف باتفاقية ماي، بعد استقالة اثنين على التوالي من الوزراء المكلفين بملف البريكست، كانت اليقين الوحيد الذي توصل إليه البرلمان. غير ذلك، ليس ثمة أغلبية على أي خطوة مقبلة في طريق الخروج من الاتحاد، أو على بديل لاتفاقية ماي. المفترض، طبقاً لتصويت برلماني سابق، أن يبدأ تطبيق البند 50 من المعاهدة المؤسسة للاتحاد الأوروبي، والذي يعلن الخروج الرسمي لأي دولة عضو من الاتحاد، في 29 مارس/ آذار المقبل. فهل يمكن إيجاد مخرج من الأزمة خلال الوقت القصير المتبقي على يوم الخروج الرسمي؟

هل تعود ماي إلى الاتحاد الأوروبي وتطلب إعادة فتح التفاوض على اتفاقية الخروج، وهل ستقبل مؤسسة الاتحاد ودوله الرئيسة فتح باب التفاوض من جديد؟ أم هل ستقوم ماي بعقد مشاورات مع أحزاب البرلمان الأخرى، سيما حزب العمال المعارض، وتحاول إيجاد تصور للخروج، يحظى بدعم الأغلبية البرلمانية؟ وفي حال لم تستطع، أو لم تنجح، في مساعي أي من الخيارين، هل تمضي بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد دون اتفاق، بكل ما يحمله ذلك من عواقب اقتصادية ومالية وأمنية واجتماعية؟

خروج غير محسوب العواقب 

كانت حكومة ديفيد كاميرون المحافظة هي من دعا لاستفتاء شعبي، بعد أن تفاقمت الخلافات داخل حزب المحافظين الحاكم حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. جرى الاستفتاء في صيف 2016، وجاء بنتيجة لم يتوقعها رئيس الحكومة، عندما صوت البريطانيون بأغلبية ضئيلة لصالح الخروج من الاتحاد. ولأن كاميرون كان قد دعا الشعب للاستفتاء متبنياً موقف البقاء في الاتحاد، فقد سارع إلى الاستقالة بعد إعلان النتيجة. خلفت تيريزا ماي كاميرون في رئاسة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، وبدأت وحكومتها إجراءات ومفاوضات الخروج من الاتحاد ومناقشة شروط هذا الخروج.

في ظل صدمة نتائج الاستفتاء، سيما أن مناطق في بريطانيا معروفة بتأييدها لحزب العمال صوتت لصالح الخروج من الاتحاد، أقر البرلمان بأغلبية كبيرة تشريعاً ينص على أن يبدأ خروج بريطانيا الرسمي من الاتحاد في 29 مارس/ آذار 2019. وقد كان القصد من اختيار هذا التاريخ هو إتاحة وقت كاف للحكومة للتوصل مع الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق، يؤمن خروج بريطانيا من الاتحاد ويؤسس لعلاقات اقتصادية، في كافة المجالات الأخرى، تحمي البلاد من عواقب نهاية عضوية مستمرة منذ أكثر من خمسين عاماً.

المشكلة، أن البرلمان، الذي يفترض أن ينفذ إرادة الشعب في الخروج، كان منقسماً بصورة واضحة، ومن البداية، حول طبيعة الخروج ومداه، كما حول العلاقة المستقبلية مع الفضاء الأوروبي لدول الاتحاد السبع والعشرين. فقد صوت البريطانيون بأغلبية ضئيلة للخروج، ولم يصوتوا حول ماهية الخروج. وكان على البرلمان أن يتفق حول ما يعنيه هذا الخروج فعلياً. ثمة كتلة محافظة صلبة طالبت بخروج نظيف ونهائي وقاطع، بينما طالب عدد من النواب المحافظين بما يسمى بالخروج الناعم، الذي يحافظ على علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية وثيقة بالاتحاد. أما رئيسة الحكومة ماي، فقد بدأت المفاوضات مع الاتحاد على أساس خروج نهائي، يؤسس لفترة انتقالية مدتها عامان، يجري خلالها التفاوض للتوصل إلى اتفاق لعلاقات وثيقة، ولكن غير مقيدة، بين بريطانيا والاتحاد.

من جهة أخرى، طالب بعض ممثلي أحزاب المعارضة الصغيرة، مثل الحزب القومي الاسكتلندي، وعدد من نواب حزب العمال، باستفتاء شعبي جديد، يضع الشعب أمام خيارات محددة، وليس مجرد الخروج بصورة عامة. أما حزب العمال، الذي يمثل المعارضة الرئيسة، وعلى خلفية صعوبة وتعقيدات التفاوض بين بريطانيا والاتحاد خلال 2017 و2018، فقد تبنى في مؤتمره العام الأخير سياسية الخروج مع الاحتفاظ بعضوية الاتحاد الجمركي الأوروبي، الذي يعني عدم وجود تعرفة جمركية في التبادل الاقتصادي بين دول الاتحاد، وتعرفة موحدة على تبادل البضائع مع أية دولة أخرى.

في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، أعلن في لندن وبروكسيل أن بريطانيا والاتحاد توصلا إلى اتفاقية الخروج الأولية. ولكن، ما إن كشف عن نصوص الاتفاقية حتى علت الأصوات المعارضة لها، سواء في حزب المحافظين وحزب العمال، أم في أحزاب المعارضة الصغيرة الأخرى، وسواء في معسكر الداعين للخروج القاطع، أم من طالبوا بخروج ناعم.

ما عارضه الرافضون الراديكاليون للعلاقة مع أوروبا كان نص الاتفاقية على بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الجمركي في حال لم يتم التوصل لاتفاقية نهائية حول طبيعة العلاقات المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد خلال فترة العامين الانتقالية، وذلك للحفاظ على حرية حركة البضائع بين إيرلندا الشمالية، التي تعتبر جزءاً من المملكة المتحدة، وجمهورية إيرلندا. وينظر إلى حرية الحركة بين جانبي الجزيرة الإيرلندية باعتبارها مسألة ضرورية للحفاظ على اتفاقية السلام التي وضعت حداً للعنف والانقسام الأهلي في إيرلندا الشمالية، الأمر الذي يطالب به الاتحاد الأوروبي وتؤيده كل من لندن ودبلن. ولكن دعاة الخروج القاطع عارضوا أيضاً الغموض الذي شاب الاتفاقية حول طبيعة العلاقة المستقبلية، والزمن المفتوح للتفاوض بين الطرفين حول اتفاق نهائي. أما دعاة الخروج الناعم، بما في ذلك حزب العمال، فقد رأوا في الاتفاقية قطيعة غير مبررة بين بريطانيا وأوروبا، دون توفير حل مقنع لمسألة الحدود الإيرلندية الشائكة. بعض من هؤلاء، خاصة أولئك الذين يعتقدون أن استفتاء جديداً سيأتي بنتائج مختلفة عن استفتاء 2016، حسبوا أن إسقاط الاتفاقية سيفتح الباب لتوافق برلماني على عقد استفتاء ثان، وإجبار السلطة التنفيذية على تبني هذا الخيار.

كان المفترض أن يصوت البرلمان على اتفاقية ماي قبل عطلة أعياد الميلاد، ولكن ازدياد المؤشرات على أن الاتفاقية لن تستطيع الحصول على تأييد الأغلبية البرلمانية، دفع ماي إلى تأجيل التصويت إلى 15 يناير/ كانون الثاني، آملة أن يتاح لها ما يكفي من الوقت لإقناع قطاع من النواب المعارضين بتغيير موقفهم. في الوقت نفسه، بذلت ماي جهداً إضافياً مع مؤسسة الاتحاد الأوروبي للحصول على تعهد بأن يكون تطبيق نظام الاتحاد الجمركي لحل مشكلة الحدود الإيرلندية مؤقتاً، وبسقف زمني واضح. ولكن، بالرغم من أن الاتحاد قدم بالفعل بعضاً من التوضيحات، إلا أن هذه التوضيحات تجنبت التطرق إلى سقف زمني، ولم يكن لها من القوة القانونية الملزمة التي للاتفاقية.

في النهاية، لم يحدث تأجيل التصويت تغييراً ملموساً في موقف الأغلبية البرلمانية من الاتفاقية. وعندما أجري التصويت بالفعل مساء الثلاثاء، 15 يناير/ كانون الثاني، سقطت الاتفاقية بأغلبية 230 صوتاً، وهو الفشل الذي لم تعرفه حكومة سابقة في التاريخ البرلماني البريطاني.

خيارات غير محدودة

كان المفترض أن تفضي الهزيمة الفادحة للاتفاقية إلى استقالة الحكومة، وإجراء انتخابات جديدة، أو على الأقل إلى استقالة رئيسة الحكومة، وإعطاء حزب المحافظين الحاكم فرصة اختيار بديل لها، ولكن تيريزا ماي تعرف أن ليس ثمة أغلبية برلمانية للتخلص منها، وأن ليس لدى حزب المحافظين، المنقسم على نفسه بصورة بالغة، بديلاً لها. على خلفية هذه الهزيمة، تقدم جيرمي كوربن، رئيس حزب العمال، مباشرة بعد التصويت على الاتفاقية، بطلب تصويت برلماني على الثقة في الحكومة. وقع التصويت بالفعل في اليوم التالي، 16 يناير/ كانون الثاني، وكما كان متوقعاً، لم يحقق أغلبية كافية. فعلى الأرجح لم يكن طرح الثقة في الحكومة سوى مناورة سياسية تقليدية، لا تقدم حلا لأزمة الخروج من الاتحاد، لأن الخيارات، ببساطة، لا حصر لها، وليس لأي منها حظ الحصول على دعم الأغلبية.

الخيار الأول أن تعود ماي إلى الاتحاد الأوروبي، مسلحة بفشل الاتفاقية البرلماني، وتطلب تفاوضاً عاجلاً لحل الإشكاليات التي يتضمنها نص الاتفاقية الأول. ولكن الآمال المعلقة على مثل هذا الخيار تظل محدودة. فبالرغم من أن قادة أوروبيين، مثل الفرنسي ماكرون والألمانية ميركل، أوحوا في تصريحات لهم بالاستعداد للاستماع إلى ماي ومحاولة مساعدتها، إلا أن موقف مؤسسة الاتحاد المعلن مسبقاً ظل ثابتا وهو أن اتفاقية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي هي أفضل ما يمكن التوصل إليه، وأن الاتحاد لا يرى إمكانية فتح باب التفاوض من جديد إلا في حال بروز تغيير جوهري في الموقف البريطاني من البريكست. ما تقوله مؤسسة الاتحاد أن على رئيسة الحكومة البريطانية أن تقدم تصورها للمستقبل. وعندها فقط يمكن للاتحاد أن ينظر فيما يمكن أن يقدمه من دعم لتجاوز معضلة الانقسام البريطاني.

المؤكد أن الاتحاد يراقب تطورات الوضع البريطاني بقدر لا يخفى من السعادة. فإن كان في تعقيدات البريكست البريطاني وإخفاق الطبقة السياسية البريطانية في التوصل إلى توافق من درس، فلابد أن هذا الدرس قد وصل الدول الأعضاء الأخرى، ودعاة الخروج من الاتحاد في هذه الدول، على وجه الخصوص. ومهما كانت الانتقادات الموجهة للاتحاد، فقد أصبح حقيقة أوروبية راسخة، ولن تكون مغادرته شأناً يسيراً أو بلا عواقب.

الخيار الثاني هو البحث عن مخرج برلماني يحظى بدعم الأغلبية. ولكن المخاطر المحيطة بهذا الخيار كبيرة في كافة الاتجاهات. فإن سعت ماي للحصول على دعم حزب العمال، فذلك يعني أن تقبل بأن تؤسس اتفاقية الخروج من أوروبا على عضوية بريطانيا الدائمة في الاتحاد الجمركي. ولكن مثل هذا التغيير في الاتفاقية سيؤدي بالتأكيد إلى انقسام عميق ومدو في حزب المحافظين، تقوده كتلة الخروج القاطع. وقد يترتب على هذا الانقسام خسارة ماي لموقعها في رئاسة الحزب ورئاسة الحكومة معا. أما إن ذهبت لاتجاه أكثر تشدداً في العلاقة مع الاتحاد، فستخسر كتلة النواب المحافظين المطالبة بخروج ناعم، ولن تحصل على أي دعم يذكر من حزب العمال.

في كلتا الحالتين، ثمة أغلبية برلمانية، غير مؤكدة بعد، تدعو إلى تأجيل موعد الانسحاب من 29 مارس/ آذار إلى وقت آخر، لإتاحة الفرصة لتبلور أغلبية برلمانية. ولكن ماي، التي تخشى أن يؤدي التأجيل إلى التخلي عن الخروج كلية، لا تزال ترفض القبول بهذا المقترح.

كل الخيارات الأخرى تتعلق بالبرلمان نفسه وقدرته على بناء أغلبية حول مقترح معين، بداية من الاحتفاظ بعضوية الاتحاد الجمركي وعضوية السوق المشتركة، أو كلاهما معاً، أو العودة إلى الشعب في استفتاء ثان أكثر وضوحاً من جهة الأسئلة التي يطرحها على الشعب. المشكلة أنه ليس هناك ما يشير بعد إلى وجود أغلبية برلمانية مع أي من هذه الخيارات. وفي ظل غياب مثل هذه الأغلبية، لن يتمكن البرلمان من فرض إرادته على الحكومة، طالما أن هذه الإرادة لم تتضح بعد.

ما قد يتبقى في النهاية، إن أخفقت الحكومة والبرلمان في الاتفاق على مخرج محدد، هو تداعي الأزمة تدريجياً إلى خروج بلا اتفاق، بكل ما قد يحمله هذا المصير من مخاطر، بداية من الوضعين المالي والاقتصادي، حركة البضائع والبشر، حركة الطيران ووسائل النقل الأخرى، العلاقات الأمنية والسياسية، وسواها من العواقب الأخرى، المنظورة وغير المنظورة بعد.

بيد أن هذا ليس كل شيء. فقد بنى أنصار البريكست خطابهم أثناء الحملة الانتخابية السابقة على استفتاء 2016 على أساس أن بريطانيا كيان اقتصادي كبير، خامس قوة اقتصادية في العالم، ودولة ذات تاريخ ووزن سياسي كبير، وأن التخلص من عضوية الاتحاد وقيود هذه العضوية، سيفتح باب العالم واسعاً أمام الاقتصاد البريطاني. لم يخل هذا الخطاب، بالطبع، من أوهام إمبراطورية مستعادة، ورؤية لعالم أقرب إلى القرن التاسع عشر منه إلى الحادي والعشرين.

المشكلة، أنه وبعد جهود دبلوماسية مستمرة طوال عامين، ليس ثمة ما يشير إلى أن بريطانيا في طريقها لعقد اتفاقات تجارية – اقتصادية مواتية مع دول ذات وزن اقتصادي ملموس، بما في ذلك دول الكومنولث. فأستراليا ونيوزيلندا، مثلاً، تسعيان إلى عقد اتفاقات مع الاتحاد الأوروبي، مثل تلك التي توصلت إليها كندا مع الاتحاد، قبل البحث في اتفاق مع بريطانيا. أميركا والصين، اللتان تتبنيان الآن سياسة متصلبة في حقل التجارة الخارجية، لن تعرضا شروطاً ملائمة لمتطلبات بريطانيا وحاجاتها. أما الهند فطالبت بوضوح كاف موافقة لندن على إصدار تأشيرات دخول إضافية للمواطنين الهنود قبل التفاوض على اتفاق تجاري بين البلدين، الأمر الذي يصعب على الحكومة البريطانية القبول به. فالجغرافيا، مهما كانت الأهواء السياسية، تفرض شروطها الخاصة على الدول والشعوب. وعندما تتخلى دولة مثل بريطانيا، بسكانها الخمسة والستين مليوناً، عن العلاقة مع جوار أوروبي بسوق يبلغ تعداد سكانه أربعمائة وخمسين مليوناً، فإن البحث عن بدائل سيكون أمراً شائكاً بالتأكيد.

حيرة الديمقراطية

تستند الديمقراطية البريطانية إلى النظام البرلماني. وفي النظام البرلماني يستبعد عادة اللجوء إلى وسيلة الاستفتاء الشعبي. الاستفتاء الشعبي، كما يقول أنصار النظام البرلماني، أداة خطرة لسبر رأي الشعب، نظراً لأن الشعوب تتأثر بصورة كبيرة باستحقاقات الراهن السياسي، وقد تغير موقفها بتغير الضغوط الراهنة. وعندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى، ذات الأثر بعيد المدى على مصائر الأمم والشعوب، تصبح هذه الأداة أكثر خطراً. ولكن بريطانيا ذهبت للاستفتاء، على أية حال، وقد جاء الاستفتاء بما يفيد الخروج من الاتحاد الأوروبي. فلماذا يصعب على مؤسسة ديمقراطية عميقة الجذور، أقدم ديمقراطيات العالم، إيجاد طريقة لخروج آمن من الاتحاد الأوروبي، يحظى بدعم الأغلبية الشعبية والبرلمانية.

تأتي الإجابة الأولى على هذا السؤال من معسكر المتفائلين، المؤمنين المثاليين بالنظام الديمقراطي، الذين يقولون إن عدم اليقين سمة أصيلة في النظام الديمقراطي. لا تقدم الديمقراطية إجابات جاهزة، ولا تستند إلى فرضيات صائبة بشكل مسبق. فالديمقراطية هي بالأساس نهج تفاوضي، براغماتي، وعملية مستمرة للبحث عن الصائب واللائق في مرحلة ما، والذي قد يخضع للتغيير والاستبدال في مرحلة أخرى. ما تعيشه بريطانيا ليس أزمة دستورية ولا سياسية، بل هو تعبير طبيعي للنظام الديمقراطي. وستجد الديمقراطية البريطانية حلاً في النهاية، حتى إن كان هذا الحل هو عدم التوافق على اتفاق ما.

أما الإجابة الثانية فتأتي من معسكر الديمقراطيين الواقعيين، الذين يقولون إن الديمقراطية تقوم بدورها فقط عندما يوجد إجماع مسبق على القضايا الكبرى. لضمان فعالية النظام الديمقراطي لابد للشعوب والأمم الاتفاق، تفاوضاً أو حرباً، على القضايا الأساسية التي ترتكز إليها مؤسسة الدولة الحديثة. في المقابل، تصبح نجاعة النظام الديمقراطي، عند غياب الإجماع، مسألة حظ وحسب. والانقسام البريطاني على طبيعة العلاقة مع أوروبا ليس شأناً طارئاً، بل يعود إلى منتصف السبعينات، عندما التحقت بريطانيا للمرة الأولى بالسوق الأوروبية المشتركة، المنظمة الأم للاتحاد الأوروبي. الحقيقة، أن بريطانيا لم تبلور إجماعاً على الموقف من أوروبا قط، ليس من الاتحاد الأوروبي وحسب، بل ومنذ نهاية الحكم الروماني للجزيرة البريطانية. 

كلا المعسكرين، على أية حال، يقر بأن ليس ثمة حل متوقع لمعضلة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأي طريق ستنتهجه بريطانيا في المدى القصير، لن يضع نهاية لسؤال العلاقة البريطانية الملتبسة بالقارة. وربما كتب على بريطانيا أن تؤرق بالسؤال الأوروبي، مرة بعد الأخرى، ومن جيل إلى آخر. بيد أن مسألة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي لا تقتصر في أهميتها وتأثيرها على بريطانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي، بل يطال الكثير من شركاء بريطانيا وأوروبا الآخرين، سيما في الشرق الأوسط الجار اللصيق بالقارة الأوروبية. ففي حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بهذه الصورة أو تلك، فلابد أن علاقات بريطانيا بدول الثقل الاقتصادي القريبة، مثل تركيا والعربية السعودية، ستنتقل نقلة نوعية.

ولكن المهم لمثل هذه الدول أن تأخذ في الاعتبار أن أحداً لا يمكنه تجاهل الاتحاد الأوروبي، وما يمثله من ثقل اقتصادي وسياسي، والذهاب مع الرأي القائل بأن الاتحاد في طريقه إلى التحلل. ليس هناك من يجادل في حجم التحديات التي يواجهها الاتحاد، سواء لغموض توجهات إصلاح إدارته، أو لبروز حكومات وأحزاب يمينية، قومية في دول مثل إيطاليا والمجر وبولندا. ولكن تجربة بريطانيا تكشف أن الخروج من الاتحاد أكثر صعوبة وتعقيداً بكثير من الصبر على إصلاح مؤسساته. لن يتحول الاتحاد الأوروبي في المدى المنظور إلى دولة أوروبية اتحادية، ولكنه ليس في طريقه للاختفاء، على أية حال.