مظاهرات السودان بين الإجراءات الاقتصادية المؤقتة والتغييرات السياسية العميقة

تتميز الاحتجاجات الجارية في السودان بالتماسك والاستمرار، أما النظام فيعاني من تصدعات وقلة موارد تجعله يعطي الأولوية للحلول العاجلة والمؤقتة حتى يخوض الانتخابات الرئاسية الوشيكة في 2020.
e4c7a3ea7dcb4547a1a22a02969266f3_18.jpg
غضب الشارع السوداني لا ينطفئ (رويترز)

مقدمة 

لا تزال التظاهرات في السودان مستمرة رغم مرور نحو 40 يومًا على انطلاقها وسقوط ما يفوق 40 قتيلًا حسب المنظمات الحقوقية و30 حسب التصريحات الرسمية للحكومة السودانية. يجد هذا الإصرار تفسيره في أن أسباب السخط على الأوضاع لا تزال قائمة وضاغطة. يواجه السودانيون يوميًّا مشقة كبيرة في الحصول على الحاجيات الأساسية إما لأنها ليست متوفرة في الأسواق أو أن أسعارها لم تعد تُطاق، علاوة على انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار، وصعوبة الحصول على الرواتب.

سرعان ما انتقلت الاحتجاجات من السخط على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى المطالبة برحيل الرئيس عمر البشير؛ لأنه يتحمَّل في نظر المحتجين مسؤولية الأوضاع المتردية في البلاد، ولم يعودوا يثقون بأنه سيُحقِّق الوعود التي أخفق في تحقيقها بعد 30 سنة من الحكم.

رفض البشير التنحي، واستعمل للتعامل مع الاحتجاجات عدة تكتيكات: الاعتراف بشرعية المطالب الاقتصادية والاجتماعية والوعد بتلبيتها. وفي نفس الوقت السعي لنزع الشرعية عن المطالب السياسية واعتبار المطالبين بها متآمرين مخَّربين يتبعون زعيم حركة تحرير السودان المسلحة بدارفور، عبد الواحد محمد نور، أو عملاء لقوى خارجية تريد إحداث الفوضى في السودان وتشريد أهله، واستعمال محدود للقوة مقارنة بأحداث سبتمبر/أيلول 2013 والتي أدت إلى سقوط 210 قتلى، وإعلان الطوارئ في عدة مناطق، ثم إغلاق المدارس والجامعات.

تبرز من هذا الصراع رؤيتان: البشير يرى أن الاحتجاجات اقتصادية واجتماعية ولا تحتاج إلى تغيير سياسي لتلبيتها، أما المحتجون فيرون أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة طبيعية لفشل النظام السياسي الذي حكم البلاد 30 سنة، وأن لا سبيل للخروج منها إلا برحيله. السؤال المركزي: ما الرؤية التي ستتغلب في نهاية المطاف؟

الأمر مختلف هذه المرة 

تتسم الاحتجاجات الجارية بعدد من الميزات تضافرت لتشكِّل زخمًا يدفع إلى إضعاف سيطرة السلطات السودانية على مناطق سكنية كبيرة ومساحات جغرافية واسعة. نستعرض هنا أربع ميزات: الانتشار في كامل الإقليم السوداني، واشتراك المعاقل التقليدية للنظام في الاحتجاجات، وانخراط مختلف المكونات الاجتماعية فيها، ونشوء توافقات متجاوزة للتقسيمات السياسية والمهنية القائمة.

الميزة الأولى: عمَّت الاحتجاجات منذ انطلاقها كامل التراب السوداني، وبلغة إحصائية شملت الاحتجاجات 15 ولاية من مجموع الولايات الثماني عشرة التي يتكوَّن منها السودان. هذا الاتساع يُضعف قدرة السلطات السودانية على حكم البلد. أولًا، ستجد صعوبة كبيرة في توفير العدد اللازم من القوات الأمنية والعسكرية لتغطية هذه المساحة الشاسعة، وستضطر إلى التركيز على ما تعتبره مناطق حيوية وتخفيف القبضة عما تراه أقل أهمية. وهي مفاضلة صعبة لأن المناطق المهمة تمثِّل مناطق نفوذها التقليدية أما المناطق التي قد تعتبرها ثانوية فتقع في مناطق تنشط فيها جماعات مسلحة متمردة قد تنتهز فرصة ارتخاء قبضة السلطات السودانية لتوسع نفوذها. ثانيًا، البعد الوطني يَحْرم السلطات السودانية من استعمال التمايزات المناطقية لتفريق الاحتجاجات، مثل تلويحها أن ما يجري هو امتداد للصراع في دارفور، حتى تبرر من جانب استعمال نفس الأساليب التي استعملتها في مواجهة المعارضة المسلحة بدارفور ومن جانب آخر إقناع المحتجين من باقي السودان بأنكم تخوضون صراعًا ليس صراعكم وأن من مصلحتكم التخلي عنه، لكن المحتجون ردوا: "كلنا دارفور".

الميزة الثانية: انطلقت الاحتجاجات من مدينة عطبرة من ولاية النيل الأبيض، وهي منطقة تحسب يسارية تاريخيًّا، ثم اتسعت إلى المناطق المجاورة لها في الشمال التي تشكِّل معقل النظام الذي ينحدر منه الرئيس عمر البشير وأركان حكمه، مما يدل على أمرين مهمين: أولًا، امتداد أزمة الثقة إلى المناطق التي تُعَدُّ موالية تقليديًّا للسلطات السودانية. وثانيًا، ستحتاج الدولة إلى قوات إضافية للسيطرة على هذه المناطق التي كانت من قبل موالية وتلعب دورًا مهمًّا في مساندة السلطات السودانية، مما يلقي أعباء إضافية تفاقم من إرهاق القوات الأمنية والمسلحة.

الميزة الثالثة: شاركت في الاحتجاجات مختلف المكونات الاجتماعية والمناطقية، وشملت الطلبة والعمال، والحضر والأرياف، والشماليون والجنوبيون، ولم تنحصر في فئة الطلبة بالخرطوم كما في احتجاجات سابقة، ما يمنحها مشروعية التمثيل الوطني، ووفَّر حاضنة شعبية للاحتجاجات، اتضح عمقها من تغلغلها في الأنشطة اليومية للسودانيين مثل المساجد والأعراس.

الميزة الرابعة: برزت في الاحتجاجات هيئات قيادية مثل تجمع المهنيين السودانيين، الذي تشكَّل أثناء مظاهرات 2013، لكن الإعلان عنه تم في أغسطس/آب 2018، وضم رابطات مهنية مثل العمال، والمعلمين، والصحفيين والمحامين والأطباء، ويُقدِّم نفسه بديلًا عن المعارضة الحزبية التقليدية. وقد تبنَّت الجبهة الوطنية للتغيير، المكونة من 22 حزبًا وتيارًا سياسيًّا تقليديًّا مطالب التجمع بتنحي الرئيس البشير. هذه التنظيمات الجديدة والقديمة، تنقل الاحتجاجات من مرحلة العفوية إلى العمل المؤسسي، لكنها ستحتاج إلى مواجهة مشكلة القيادة وإلا فقدت قوتها وزخمها.

هذه العوامل المتضافرة ضغطت على ركائز النظام السوداني وأحدثت فيها شروخًا ستضطره إلى تعديل سلوكاته وإعادة تشكيل بنيته للحفاظ على بقائه واستمراره.

تصدعات في ركائز السلطات السودانية

ظهرت عدة إشارات عن حدوث شروخ في أركان السلطة السودانية: المخابرات، والجيش، والأمن، وحزب المؤتمر الوطني الحاكم. لحقت بها إشارات عن بداية انحياز القوى الغربية إلى جانب المحتجين والتخلي عن الموقف المحايد أو الساكت عن السطات السودانية.

اعتمد الرئيس عمر البشير على المخابرات ركيزة أساسية في قيام حكمه واستمراره. وقد أعاد ضابط المخابرات المعروف صلاح عبد الله قوش إلى قيادتها في 2018 للتعامل مع ثلاثة تحديات، أولًا: تزايد الصعوبات الاقتصادية واندلاع الاحتجاجات في يناير/كانون الثاني 2018، ثانيًا: الترشح في انتخابات 2020، ثالثًا: تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. أظهر قوش في الماضي صلابة في الدفاع عن البشير ويرتبط بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة والقوتين الخليجيتين: الإمارات والسعودية، وهما مؤثرتان في إقناع واشنطن بقبول البشير أو في مساعدة السودان اقتصاديًّا لتجاوز المرحلة الصعبة التي يمر بها.

اعترف صلاح قوش بشرعية الاحتجاجات ورفض مواجهتها بالقوة، واتهم الجهاز التنفيذي للدولة (الحكومة) بالفشل. الملاحظ هنا هو اعتراضه على الحكومة التي تُعَدُّ ركيزة مهمة في السلطة السودانية، مما يضعفها من جانب، ويشجع المحتجين على مواصلة حراكهم من جانب آخر.

تشابه موقف القوات المسلحة بموقف جهاز الأمن، وانحصرت مهمتها في حماية المنشآت. وقد حمت قوات الجيش المحتجين في عطبرة والقضارف. لعل ما يفسر هذا الموقف هو أن قيادة الجيش لا يمكنها إنكار الأزمة الاقتصادية التي مست معظم فئات الشعب السوداني بما فيها أفرادها خاصة من المراتب الدنيا، ولا يمكنها أيضًا أن تدخل في مواجهة مفتوحة مع المحتجين لأنها تحرص على تماسك صفوفها.

برزت التصدعات في الركائز السياسية للنظام الحاكم في السودان على مستويين: المؤتمر الوطني الحاكم، والمعارضة السياسية المشكَّلة من نحو 22 كيانًا سياسيًّا وافق على الانخراط في الحوار الوطني للتوصل إلى تفاهمات مع السلطة السودانية مقابل توسيع المشاركة السياسية. بخصوص المؤتمر الوطني، تشير تقارير متواترة إلى وجود قوى نافذة بداخله معارضة لإعادة ترشيح البشير وأن الاحتجاجات قد ترجح كفتها. أما الائتلاف المعارض الذي وسع من القاعدة الداعمة للنظام السوداني فإنه أعلن كما ذكرنا سابقًا مساندته للمحتجين وتشكيل الجبهة الوطنية للتغيير المطالبة بتنحية البشير.

أما دوليًّا، فقد طالبت واشنطن الخرطوم بإطلاق سراح المعتقلين في الاحتجاجات، والتحقيق في عمليات القتل، والسماح بحرية التعبير، وإلا فإن فرص تحسين العلاقات بين البلدين ستتضاءل. تجدر الإشارة إلى أن واشنطن لم تطالب بتنحي البشير واكتفت بالدعوة إلى إصلاحات سياسية لكنها انحازت في المجمل للمحتجين وحمَّلت السلطات السودانية أسباب الأزمة وحلها. 

يسعى البشير إلى تعزيز موقفه الدولي بتنويع شركائه فحَرِص على التقرب من موسكو، لكن لا ينبغي المبالغة في دورها في حل الأزمة السودانية؛ لأنها لا تملك من جانب الموارد الاقتصادية التي تجعلها تسهم بشكل حاسم في حل مشكلات السودان الاقتصادية ولا تجد من جانب آخر البيئة المماثلة للبيئة السورية، مثل وجود تنظيم الدولة والانخراط الإيراني، التي تبرر قيامها بأي تدخل عسكري في السودان والنجاح فيه.

إقليميًّا، بدا الرئيس البشير وكأنه نجح في موازنة علاقته مع السعودية والإمارات من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى. وربما حقق مكاسب ساعدته على مواجهة الضائقة الاقتصادية في المدى القريب. هذه المساعدات تخفف آثار الأزمة فقط ولا تعالج أسبابها العميقة التي تحتاج إلى تدابير داخلية في المقام الأول.

علاج الأعراض وكسب الوقت

ثلاثة اعتبارات تحدد شكل السيناريوهات وترتيبها والترابط بينها. أولًا: الطابع الاستعجالي للأزمة الاقتصادية السودانية؛ لأنها تتعلق بالحاجيات اليومية للحياة مثل الخبز والمصاريف. ثانيًا: توافق ضمني على تفادي استعمال العنف للتعامل مع الاحتجاجات. ثالثًا: حاجة البشير، في مساعيه لإعادة الترشح في انتخابات 2020، إلى تحقيق ثلاث أمور في ظرف وجيز: التصالح مع الشارع الغاضب، والتوصل إلى توافق مع المعارضة، وإعادة تنظيم صفوف حزبه.

سيناريو الطوارئ الاقتصادي: هذا هو السيناريو الذي يسلكه الرئيس البشير حاليًّا. يلبي هذا السيناريو المطالب الثلاثة، ويوفر الحاجات المستعجلة، فيحد من زخم الاحتجاجات فلا تحتاج قوات الأمن إلى استعمال القوة للتحكم فيها، وينتزع من الأطراف المعترضة أداة الضغط الرئيسية التي يستندون إليها في الاعتراض على بقاء البشير في الحكم أو ترشحه لعهد جديدة في 2020.

تنصب جهود البشير حاليًّا في توفير الموارد لتحقيق هذا السيناريو. وترتكز بالأساس على الاستفادة من مواقف السودان الخارجية في تحصيل مساعدات اقتصادية عاجلة. وقد حصل على جزء منها، لكن أثرها لن يكون كبيرًا في الحد من الاحتجاجات إن لم تصل المساعدات بسرعة وتكون كافية. خلاف ذلك، لن يكون أمام البشير متسع من الوقت والبيئة المواتية للمشاركة في انتخابات 2020. وهذا يؤدي بنا إلى السيناريو الثاني.

سيناريو المخرج السياسي: يعقد البشير صفقة مع المحتجين والمعارضة السياسية، يحصل فيها على البقاء في السلطة في منصب الرئيس والإمساك بالأجهزة الأمنية، ويوافق في المقابل على حصول القوى المناهضة له على البرلمان والحكومة بصلاحيات اقتصادية واسعة وأن تكون الحكومة مسؤولة أمام البرلمان. لكن العوائق أمام هذا السيناريو كبيرة، فليس مضمونًا أن يوافق عليه المحتجون أو القوى المعارضة الذين يطالبون برحيل البشير، وكذلك سيتصدى المؤتمر الوطني وشبكاته لهذا السيناريو؛ لأنهم سيكونون الخاسر الأكبر في هذه الصفقة.

السيناريو العسكري: إذا فشل الحل السياسي، فإن الجيش وقوات الأمن سيكونان أمام خيارين: إما دفع البشير إلى التنحي أو استعمال القوة المفرطة للدفاع عنه. عاملان يرجحان الخيار الأول: حرص مختلف الأجهزة السودانية المسلحة على تحسين علاقاتها الدولية، والضغوط الدولية على السلطات السودانية لكي تتفادى استعمال القوة بشكل واسع ومفرط.

لا يمكن استبعاد أن تلجأ بعض الأطراف المتشددة داخل النظام بتشجيع من قوى خارجية مثل النظام المصري والإماراتي، إلى الصدام المسلح على المنوال السوري حتى تحول دون نجاح تغيير سياسي سلمي يصيبها بخسارة مواقعها داخل السودان ويبعث الأمل مجددًا في بقية شعوب العالم العربي بقدرتهم على تغيير أوضاعهم السياسية سلميًّا.

في حالة تحقق السيناريو الأول، فإن مفعوله سيكون سطحيًّا ومؤقتًا، ولن يعالج الأسباب العميقة للفشل الاقتصادي والسخط الاجتماعي، لأنها عميقة وبنيوية. وهي بإيجاز: خسارة عوائد النفط، والفساد، والديون، والمصاريف الأمنية.