الحرب الإسرائيلية على إيران: السياق والتداعيات الإقليمية

تسير حرب إسرائيل على إيران وفق المبدأ الذي بدأته في حربها على غزة أو تلك التي شنَّتها على لبنان، وهو عدم الإفصاح عن كل الأهداف رسميًّا وتركها تتدحرج إلى الغاية التي يمكن أن تنتهي عندها.
17 June 2025
تستهدف إسرائيل مشروع إيران النووي وأيضًا تريد استعادة قوة الردع الإقليمية ( أسوشيتدت برس ).

مقدمة

يتمثل هدف إسرائيل المعلن وراء الحرب التي تشنُّها على إيران في إلحاق "ضربة استباقية" للبرنامج النووي لأنه يشكل خطرًا وجوديًّا على إسرائيل، وفق ادعائها. ولم تكن هذه الضربة لتحدث لولا موافقة واشنطن، لاسيما أن العملية شُنَّت في فجر الجمعة، 13 يونيو/حزيران 2025، أي قبل يومين من جولة مفاوضات أميركية-إيرانية كانت ستعقد في عُمان يوم الأحد. وكان مسار المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران قد بدأ في سلطنة عمان، بتاريخ 12 أبريل/نيسان 2025.

تعيد التصريحات الأميركية في سياق هذه المواجهة، خاصة على لسان الرئيس ترامب، تأطير هذه العملية ومستقبلها بعودة طهران إلى المفاوضات، إلا أن الوقائع العسكرية ومجرياتها السياسية، تضع هذه المواجهة في سياق احتمالات أوسع قد تجعلها مفتوحة على أهداف متدحرجة. ولا تخلو العملية من أهداف أكبر تتجاوز المشروع النووي الإيراني وتتصل بأجندات إقليمية تسعى لإعادة تشكيل المنطقة ورسم مستقبلها وفق معادلات جديدة.

يضع هذا التعليق العملية العسكرية ضد إيران ومشروعها النووي في سياقها السياسي الإسرائيلي، ويبحث الأفق الذي يمكن أن تنتهي إليه.

العملية والطوفان

لا يمكن فصل العملية العسكرية الحالية ضد إيران، رغم أهدافها الأخرى، عن طوفان الأقصى وتداعياته، ويمكن الوقوف على أكثر من عامل لتأكيد هذه الصلة:

الأول: أن إسرائيل تعرضت خلال عملية طوفان الأقصى إلى ضربة قاسية فاجأتها وهزَّت مؤسستها الأمنية، حتى إن قوة الردع وصورتها تآكلت بشدة، رغم كل ما قامت به على "تخومها" وفي المنطقة. فحربها على غزة، رغم طولها ووحشيتها، لم تمكِّنها من استعادة قوة الردع إقليميًّا، خاصة أنها اقترنت بعمليات إبادة وتجويع للشعب الفلسطيني عجز الغرب عن الدفاع عنها. وأسهمت تلك الممارسات في تغذية السردية الفلسطينية على حساب الرواية الإسرائيلية، في وقت لا تزال المقاومة الفلسطينية مستمرة وقادرة على إلحاق الخسائر بالقوات الإسرائيلية. حتى استهداف إسرائيل لحزب الله وتعطيل قدراته، لم يُعِدِ الثقة لسكانها في الشمال، ولم تَعُدِ الحياة لطبيعتها هناك حتى اللحظة، لأن تطهير المنطقة الحدودية اللبنانية ما بين الليطاني وإسرائيل، لا يعني أن حزب الله بات عاجزًا عن التعافي أو العودة لتهديد الشمال "الإسرائيلي" بشكل مؤكد. فسلاح الحزب لا يزال موجودًا وحاضنته الشعبية لا تزال ملتفة حوله. ولا يمكن لسياسات التوسع الاستيطاني والتنكيل بسكان الضفة والاستمرار في دفن حل الدولتين، أن تحقق لإسرائيل الاطمئنان إلى تفوقها. فهذه السياسات كانت تجري أصلًا قبل عملية طوفان الأقصى، ولم تتوقف. في هذا السياق، تأمل إسرائيل تحقيق الردع الكامل بإضعاف إيران ودورها في الإقليم، لأن ذلك سينعكس ضعفًا على بقية مكونات المحور وعلى المقاومة في غزة وفلسطين.

الثاني: أن نتنياهو لم يَفْصِل، في سرديته التي اعتمدها لمواجهة طوفان الأقصى، المقاومة الفلسطينية عن إيران. بل ربط بينهما وأكد أن عملية الطوفان لم تكن من صنيع المقاومة وحدها، ربما سعيًا للانتقاص من قدرتها، وتبريرًا لعجز حكومته عن توقع العملية ومواجهتها. فجعل إيران جزءًا من خطته في مواجهة تداعيات الطوفان، وجعل برنامجه مفتوحًا على الإقليم وليس مقتصرًا على غزة أو الداخل فحسب. ولا يفتأ نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين حين يتعهدون بملاحقة الفاعلين والمسؤولين عن عملية الطوفان، يركزون خطابهم على إيران و"أذرع إيران"، أي حزب الله وأنصار الله، إضافة إلى المقاومة الفلسطينية في غزة. وقد توسعت رقعة العمليات العسكرية الإسرائيلية بالفعل وتجاوزت غزة إلى الضفة ثم إلى دول الجوار، مثل لبنان واليمن وسوريا. واليوم تصل المواجهة إلى إيران، أي إلى ما تعده إسرائيل "رأس الاخطبوط". جدير بالذكر أن نتنياهو وصف ضرباته السابقة لإيران، عام 2024، بأنها ضرب لرأس الأخطبوط. وهذه الفكرة ليست خاصة بنتنياهو، بل استخدمها قبله رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينيت، عام 2022. فقد كان يردد أن الإستراتيجية تقوم على أن تستهدف إسرائيل "رأس الأخطبوط" بشكل مباشر، بدلًا من مواجهة جماعاتها التي تمثل "أذرعها". وكان بينيت قد جدَّد دعوته لاستهداف إيران العام الماضي "بعد أن ضعفت أذرع الأخطبوط الإرهابي الإيراني"، أي حزب الله وحماس، ورأى أن إسرائيل باتت "للمرة الأولى، قادرة على التحرك ضد إيران دون خوف من ردِّ فعل رهيب وغير متوقع".

حرب نتنياهو الخاصة

رغم أن ضرب المشروع النووي الإيراني مطروح إسرائيليًّا قبل مجيء نتنياهو، خاصة بعد ولاية الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الثانية، عام 2009، إذ اعتبره كل قادة إسرائيل تهديدًا أمنيًّا وجوديًّا، إلا أنه احتل مكانة مركزية في خطاب نتنياهو السياسي والانتخابي. وتوسل به للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها واستخدمه مرارًا لمهاجمة خصومه في الداخل الإسرائيلي، خاصة بعد ولايته الثانية بداية من العام 2009. وبحسب أحد تقارير نيويورك تايمز "التاريخ السري للدفع باتجاه ضرب إيران"، المنشور في سبتمبر/أيلول 2019، طور نتنياهو "خطة"، عام 2010، لضرب المشروع النووي الإيراني، إلا أن رئيس هيئة الأركان، غابي أشكنازي، رأى أن إسرائيل لا تملك "القدرات العملياتية" لتحقيق ذلك. وكان من بين معارضي تلك أيضًا مدير جهاز الموساد، مائير داغان، وكذلك مدير شين بيت، يوفال ديسكن. وبحسب نفس التقرير، فإن نتنياهو كاد يضرب المشروع النووي الإيراني، في صيف عام 2012، خلال إدارة باراك أوباما، لولا ممانعة واشنطن، التي كانت قد بدأت مفاوضاتها مع إيران حول المشروع النووي. في ذلك الإطار، جاء خطاب نتنياهو الشهير، في سبتمبر/أيلول 2012، الذي حمل فيه صورة قنبلة نووية لتوضيح مدى قرب إيران من امتلاك السلاح النووي. وبدخوله هذه المواجهة ضد إيران، فإن كثيرًا من الملفات التي يُهاجَم بسببها، بدءًا بالدعاوى القضائية التي تلاحقه، مرورًا بتحميله مسؤولية عملية "الطوفان" ومحاسبته على إدارة الحرب بعدها، بما في ذاك تعامله مع ملف الأسرى، سيتراجع، خاصة إذا حقق "إنجازًا واضحًا" ضد النووي الإيراني أو تمكن بالفعل من تحييد الخطر الإيراني كما يصوره. بذلك، سيكون نتنياهو "المنقذ" لإسرائيل من إيران، وهو الخطاب الذي عمل عليه في جل حياته السياسية.

أفق العملية

إن حرب إسرائيل على إيران تسير وفق المبدأ الذي بدأته في حربها على غزة أو تلك التي شنَّتها على لبنان؛ وهو عدم الإفصاح عن كل الأهداف رسميًّا وتركها تتدحرج إلى الغاية التي يمكن أن تنتهي عندها، مع التأكيد أن سبب العملية هو تحييد النووي الإيراني الذي يشكِّل "خطرًا" على إسرائيل.

وقد كرر نتنياهو في سياق هذه العملية ما أطلقه في بداية حربه على غزة، أن إسرائيل تسعى إلى "تغيير الشرق الأوسط"، أي إعادة بنائه أو صياغة نظام إقليمي جديد يحقق الأمن لإسرائيل. يعني بذلك، أن يتمكن فعليًّا من إضعاف إيران أو إلحاق الهزيمة بها وليس الاكتفاء بتحييد مشروعها النووي فقط، وإن كانت بعض سيناريوهات تحييد النووي تعني إضعاف إسرائيل حكمًا. لهذا اتسمت الضربة الإسرائيلية الأولى بسمة "الصدمة والترويع" في تشابه مع استهداف حزب الله في لبنان، لتضمن، من جهة، عدم قدرة طهران على الرد السريع والمكافئ، ولتجعل النظام مفتوحًا على مخاطر تأتيه من الداخل. فاستهدفت الضربة عددًا من قادة النظام ومسؤوليه، لاسيما العسكريين والأمنيين بمزيج عسكري ومخابراتي، في سياق استهدافها لمواقع نووية إضافة إلى مراكز حيوية أخرى، عسكرية واقتصادية. ومن ثم شنَّت حربًا إعلامية لم تخل من تصريحات لنتنياهو نفسه، يدعو فيها الإيرانيين على الانقلاب على "النظام الظالم الطاغي" كما وصفه، وكأن حرب إسرائيل على إيران تهدف لتغيير النظام.

إن نتنياهو لن يتردد في إزاحة النظام الإيراني لو استطاع، ويحتاج إلى أن تشاركه واشنطن هذا الهدف فضلًا عن الدول الغربية. لهذا يريد من الحرب ضد المشروع النووي الإيراني أن تتطور لتكون سببًا لحرب صفرية بين البلدين تستدعي تدخلًا غربيًّا وتصعيدًا لأهداف الحرب؛ ما يعني الاستمرار في إثارة الشكوك حول مشروع إيران النووي، سواء في سياق الحرب نفسها أم بعدها، لاسيما إذا لم تنته بنصر واضح ضد إيران.

إن تراجع إيران وأذرعها لا يعني بالضرورة نهاية لمنظومة إيران وحلفائها، كما أن احتمالات مشاركتها في الحرب الحالية ببعض السيناريوهات تبقى محتملة وبحسب أطوار الحرب وتطورها.

ولكن، هناك أيضًا ظروف وأسباب موضوعية تُضعف من مشاركة الجماعات المؤيدة لإيران بفاعلية في الحرب. من ذلك أن مشاركة أنصار الله الحوثيين، مع اعتبار بُعد المسافة، لن تضيف الكثير ولن تبدو مؤثرة أو مفيدة، لأن قوة إيران الصاروخية والبحرية تقوم بدور أكثر فاعلية من هجمات الحوثيين. أما مشاركة قوى "المقاومة الإسلامية في العراق"، فهي ممكنة إلا أنها ستعمل في ساحة اشتباك مع واشنطن، وأي دخول مبكر لإسناد إيران، سيفتح صراعًا مبكرًا ضد النفوذ الإيراني، وقد يشمل قوى وأدوات محلية، لاسيما أن العراق يمثل حديقة خلفية لإيران، وليس من مصلحتها المسارعة إلى المغامرة بها دون سبب قوي يمس مصيرها. وبالنسبة إلى حزب الله، فهو لا يزال يملك القدرة على القيام ببعض العمليات النوعية، ولكن ليس على شكل حرب إسناد متواصلة مثل تلك التي خاضها من أجل غزة. وليس من المستبعد أنه لا يزال قادرًا على تنظيم هجمات نوعية عبر البحر أو الجو والبر، وهو ما تحذره إسرائيل حتى اللحظة. إلا أن السؤال سيكون حول قدرة حزب الله على تحمل العواقب باستهداف حاضنته أو استهداف لبنان لتغيير البيئة من حوله، وحول ماذا يمكن أن تقدم له إيران للحدِّ منها أو وقفها.

إن أكثر ما يمكن أن تفعله قوى الإسناد لإيران، إذا جاز لنا أن نصفها بهذا الوصف، هو إحداث فوضى في الإقليم بفاعلية لإرباك الحرب ضد إيران، وقد تلجأ إلى هذا الخيار إن استطاعت إسرائيل أو من ينضم إليها من القوى الغربية، أن تُدخل الفوضى إلى الداخل الإيراني أو أن تمس هذه الحرب بجوهر أمن النظام. لكن هذه القوى الحليفة لطهران، ستغامر أيضًا بمكاسبها المحلية في ساحاتها، في العراق ولبنان واليمن، وقد لا تستطيع تعويضها وتصبح خسائر مقيمة، لاسيما إذا ما تراجع دور إيران الإقليمي.

خاتمة

إن خاتمة هذه الحرب تبدو في أدناها عودة إيران إلى طاولة المفاوضات خلال أسابيع. أما في أسوأ الأحوال فإنها قد تتدحرج لتصبح حربًا مفتوحة على النظام الإيراني نفسه. وانعدام اليقين جزء أساسي من هذه الحرب، لأن أهدافها، كما هو الشأن مع غزة، لا توضع في أولها ولا تعلن كلها رسميًّا، بل تأتي في آخرها على سبيل التدحرج والتطور الميداني.

ولا شك أن إضعاف إيران في الإقليم أوضح هدف لهذه الحرب، وسيعطي إسرائيل الفرصة لتكون متصرفًا رئيسيًّا في الإقليم، وسيضعف كل القوى المناوئة لها من قوى المقاومة وسواها، وسيحد من دور الدول الأخرى التي تتناقض مصالحها مع تزعُّم إسرائيل للمنطقة. وسيشمل ذلك مصالح دول عربية وإسلامية متعددة، لأن إسرائيل حينها ستفرض أشد صورها المتطرفة "للسلام". كما أن انتصار إسرائيل سيغريها بالعودة إقليميًّا إلى فرض سياستين بالموازاة: سياسة إضعاف بقية دول الإقليم مثل تركيا وباكستان وسواهما، وقد عبَّرت هاتان الدولتان بوجه خاص عن أن الحرب الإسرائيلية على طهران هي تهديد لمستقبل أمنهما. وستعود إسرائيل إلى سياسة شد الأطراف في الإقليم أو ما يقرب منها، لتضمن تحالفات مع قوى عربية وإقليمية في مواجهة أخرى. ولكن لن تبنيها على مخاوف قومية من العرب أو مخاوف الأقليات في العالم العربي فقط، بل على أسس أخرى حول تصورها للسلام أو الأمن، أو مستقبل الإقليم.

من المؤكد أن النظام الإقليمي سيُبنى على تداعيات ونتائج الحرب الإسرائيلية ومسارها العابر لحدود المنطقة، فإن انتصرت إسرائيل انتصارًا حاسمًا، فإن نظام المنطقة وتوازنها سينكسر ويختل لصالحها، وستستعيد قوة الردع الإقليمية. أما إذا انتكس مسارها في هذه الحرب ولم تخرج بانتصار واضح أو لحقت بها الهزيمة، فإن مستقبل هذه المنطقة سيقوم على تفاهمات جديدة، قد لا تكون لصالح إسرائيل، وقد تفقد كثيرًا من تفوقها الإقليمي ولا تتمكن من تحقيق حلمها بزعامة المنطقة.

ABOUT THE AUTHOR