المباحثات الأميركية-الطالبانية: مؤشرات النجاح ومحاذير تضييع الفرصة

دفعت عوامل مختلفة كلًّا من الولايات المتحدة وطالبان إلى التفاوض، وقد توصلا في الدوحة إلى توافق مبدئي، لا تزال أمامه عقبات عديدة حتى يتحول إلى تسوية نهائية.
088554b1c7af4521adcd03eba522d05d_18.jpg
طالبان تتقدم في طريق السلام (الجزيرة)

اختتمت في الدوحة جولة جديدة من مباحثات أميركية رسمية، مباشرة مع حركة طالبان، 26 يناير/ كانون الثاني 2019، استمرت لستة أيام متواصلة. ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الطرفان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ولكنها المرة الأولى التي تفصح فيها واشنطن عن طبيعة التفاوض، ويعلن مندوبها في المباحثات، الأميركي من أصول أفغانية، زلماي خليل زاد، عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق بين الطرفين.

بعد أيام فقط، اجتمع عدد من الشخصيات الأفغانية، بمن في ذلك مسؤولون سابقون، مثل الرئيس السابق حامد كرزاي، وبوجود وفد من حركة طالبان، ترأَّسه ملا محمد عباس ستانك زاي، في موسكو. وبالرغم من أن اجتماع موسكو، الذي شاركت فيه سيدتان كذلك، كان لقاء تشاوريًّا، غير رسمي، إلا أنه لم يخل من الدلالات، كونه حدثًا غير مسبوق، سواء من جهة من شاركوا فيه، أو من حيث طبيعة المناخ التصالحي الذي أوحى به. 

ولكن الملاحظ، على أية حال، أن الحكومة الأفغانية، في كابل، كانت الغائب الأكبر عن المناسبتين: مباحثات الدوحة، ولقاء موسكو. موقف طالبان الرسمي لم يزل ينظر إلى حكومة كابل باعتبارها كيانًا غير شرعي، ومجرد أداة أميركية. إن كان لابد من التفاوض لوضع نهاية للحرب المستمرة منذ 2001، تقول طالبان، فسنتفاوض مع الأميركيين، أصحاب الشأن والقوة المحتلة للبلاد، وليس مع أداتهم في كابل. ولكن ثمة ما يشير، سواء في مفاوضات الدوحة أو لقاء موسكو، إلى أن هذا قد لا يكون الموقف الأخير لطالبان. وقد رفضت حركة طالبان عرضًا قدمه الرئيس الأفغاني، أشرف غني، بفتح مكتب لها بالعاصمة كابل أو بولايتين أخريين، في خطوة لـ"إحلال السلام وإنهاء الحرب المستمرة منذ أكثر من 18 عامًا".

فهل دخلت الحرب الأفغانية الطويلة بداية النهاية؟ إن كانت طالبان والأميركيون، أهمُّ أطراف الحرب وأكثرها تأثيرًا، جادين في العمل على التوصل إلى اتفاق، فأية عقبات أخرى يمكن أن تواجهها العملية التفاوضية؟ وما الإطار الزمني الذي ينبغي على المفاوضين عدم تجاوزه، قبل أن تغلق نافذة الاتفاق، وتفقد العملية التفاوضية زخمها؟

ظروف مواتية ومؤشرات تفاؤلية

لم يولد الحراك المتسارع للتوصل إلى نهاية تفاوضية للحرب في أفغانستان فجأة، بل من تطورات ملموسة في السياق الموضوعي للحرب ومواقف أطرافها، بما في ذلك موقفا الإدارة الأميركية وقيادة حركة طالبان. 

الحرب في أفغانستان هي الآن أطول حروب الولايات المتحدة على الإطلاق، مستمرة بلا هوادة منذ خريف 2001، وبدون أمل في تحقيق الانتصار. بدأت الحرب بغزو أميركي صريح، استهدف إطاحة حكومة طالبان والقضاء على وجود تنظيم القاعدة في البلاد. ولكن، وبالرغم من أن تنظيم القاعدة قد أُضعف بصورة ملموسة، وأن أغلب مجموعاته غادرت أفغانستان بالفعل، كانت طالبان مسألة أخرى مختلفة إلى حد كبير. خلال فترة قصيرة بعد سقوط نظام طالبان وولادة نظام حكم، يقوده حلفاء واشنطن من الأفغان، أعادت طالبان تنظيم صفوفها من جديد وعادت إلى ساحة المواجهة، مطالبة بخروج الأميركيين كلية من البلاد. وبعد ما يزيد على 17 عامًا من الحرب، باتت طالبان تسيطر على مناطق شاسعة من البلاد، ولا يوجد كبير شك في أن وجودَ دولةِ ما بعد الغزو والاحتلال الأفغانيةِ مشروطٌ ببقاء الأميركيين.

خلال السنوات القليلة الماضية، انخفضت وتيرة الحرب في جانبها الأميركي، نظرًا لانسحاب القوات الأميركية من معظم أنحاء البلاد وتمركزها في مواقع محصنة، وقيام الأميركيين بإلقاء العبء الأكبر من الحرب على كاهل قوات الجيش والأمن الأفغانية، التي يقوم الأميركيون بتدريبها وتسليحها. ولكن أعباء الحرب الأميركية لم تزل ملموسة، سواء من جهة التكلفة المالية لاستمرار الوجود العسكري في أفغانستان وتوفير الدعم والحماية لحكومة كابل، أو من جهة الخسائر البشرية. وكان الرئيس أوباما أول من وعد بوضع نهاية لحروب أميركا الموروثة عن إدارة بوش الابن، في أفغانستان والعراق. وقد نحج أوباما بالفعل في التحلل من مسؤوليات الوجود العسكري في العراق (إلى أن صعد تنظيم الدولة من جديد في صيف 2014)، ولكن وزارة الدفاع الأميركية أقنعت أوباما بأن الأمر في أفغانستان مختلف، وأن الانسحاب منها يعني سقوط حكومة كابل وعودة طالبان للسيطرة على البلاد.

دونالد ترامب، الذي خاض انتخابات الرئاسة الأميركية ببرنامج قومي التوجه، وعد هو الآخر بالخروج من أفغانستان. وبالرغم من معارضة العسكريين الأميركيين، أصر ترامب على تحقيق هدف الانسحاب والتخلص من العبء الأفغاني، ليس فقط لتكلفة الوجود العسكري الأميركي الكبيرة، ولكن أيضًا لبروز أولويات أخرى للاستراتيجية الأميركية في العالم. في خطاب حالة الاتحاد، 5 فبراير/شباط 2019، أعاد ترامب التذكير بخياراته الأفغانية، قائلًا: "إن الدول العظمى لا تخوض حروبًا لا نهاية لها". ما قدمه ترامب لمعارضي سياسة الانسحاب في أفغانستان هو التعهد ببذل جهود سياسية كافية لمنع سيطرة طالبان المنفردة على البلاد، ومنع تحول أفغانستان من جديد إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. وهذا ما دفع إدارة ترامب لإحياء المسار التفاوضي مع طالبان، حتى مع التسليم بجزء من شروط طالبان للتفاوض.

طالبان، من جهتها، وبالرغم من تصميمها على مواصلة الحرب، تحملت خسائر باهظة، سواء على صعيد المقاتلين، أو القادة الكبار. كما أنها اضطرت، خلال السنوات الأخيرة، لتقبل مساعدات، متنوعة ومختلفة المستويات، من دول مثل إيران وروسيا، التي كانت تعتبرها ضمن معسكر الأعداء. ولكن طالبان، التي تضم جماعات مختلفة التوجهات، بهذا القدر أو ذاك، وضعت من البداية شروطًا للدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة. رفضت طالبان أن تشمل المفاوضات حكومة كابل، التي تعتبرها طالبان مجرد ذراع أميركية، وأصرت على أن المفاوضات لابد أن تتمحور حول انسحاب كامل للقوات الأميركية من البلاد. 

لم يصدر عن جولة مفاوضات الدوحة الأخيرة أية وثيقة رسمية، تكشف مدى ما تم التوصل إليه بين الطرفين. ولكن الواضح أن المفاوضات انطلقت على أساس قبول أميركي بشروط طالبان، وتنازلات نسبية من طالبان. مثلًا، تدور المفاوضات بين الأميركيين وطالبان فقط، بدون تمثيل لحكومة كابل؛ وتدور المفاوضان بالفعل حول جدول لانسحاب القوات الأميركية. في المقابل، وافقت طالبان على أن تبدأ مفاوضات مع الحكومة الأفغانية بمجرد التوصل إلى اتفاق حول جدول الانسحاب الأميركي؛ كما تعهدت بمنع تحول أفغانستان إلى مركز للجماعات الإرهابية. أما ما أشيع عن أن الأميركيين وافقوا على جدول انسحاب فعلي، يبدأ في أبريل/نيسان المقبل (2019)، فلم يؤكده وفد طالبان في لقاء موسكو التشاوري.

هذا التوافق حول مسار المفاوضات في الجولات المقبلة يجعل مفاوضات الدوحة، التي وُصفت بالجولة الرابعة للمباحثات بين الطرفين، منعطفًا بالغ الأهمية في طريق التوصل إلى نهاية للحرب.

وما يعزز من أهمية هذه المفاوضات، ومناخ التفاؤل الذي وُلِد عنها، أن الطرفين اتفقا على العودة إلى جولة مفاوضات جديدة، خامسة، في الدوحة أيضًا، في 25 فبراير/شباط. كما كان من اللافت تصريح ملا ستانك زاي، مسؤول وفد طالبان لمشاورات موسكو، 5 فبراير/شباط، بأن الحركة لا تستهدف السيطرة العسكرية الشاملة على أفغانستان، وأنها تدرك مخاطر وعواقب تبني مثل هذا المشروع. ما يستبطنه هذا الموقف، أن الحركة لا تستبعد قيام نظام حكم تشاركي، إن تحقق هدف جلاء القوات الأميركية. 

في الوقت نفسه، وما إن شارفت جولة مفاوضات الدوحة على الانتهاء حتى أعلن الناطق باسم حركة طالبان عن قرار بتعيين الملا عبد الغني برادار رئيسًا لمكتب الحركة السياسي (وهو ما يطلق على مكتب طالبان التمثيلي في الدوحة)؛ بمعنى أن الملا برادار سيكون المسؤول الطالباني المباشر عن المفاوضات. عمل ملا برادار منذ اللحظات الأولى لانطلاق طالبان إلى جانب مؤسس الحركة وزعيمها الأول، ملا عمر، وتعهد دورًا رئيسًا في إعادة تنظيم الحركة بعد 2001 وتبنيها نمط حرب العصابات. وكانت باكستان ألقت القبض عليه قبل سنوات أثناء تواجده على أراضيها، ولكنها أفرجت عنه مؤخرًا بطلب من واشنطن وكابل. وإلى جانب أنه أرفع مسؤول طالباني يمكن أن يُعهد إليه قيادة المفاوضات، فالمعروف أن ملا برادار أحد أبرز شخصيات الصف الأول في الحركة إيمانًا بضرورة التفاوض لإنهاء الحرب.

المشكلة أن المسألة الأفغانية، سواء لأسباب جيوسياسية، أو لأسباب سياسية بحتة، لا تتعلق فقط بما يمكن أن يتوصل إليه الأميركيون من تفاهمات مع طالبان. ثمة عدد من الدول لا تقل اهتمامًا بأفغانستان من الولايات المتحدة، بل إن اهتمام بعضها يفوق بكثير الاهتمام الأميركي. وهذا ما يؤسس لضرورة توسيع أفق التفاوض لضمان ألا تقف واحدة أو أكثر من هذه الدول حجر عثرة في طريق نهاية الحرب.

أفغانستان وتعدد المصالح الدولية

يتسع نطاق الدول ذات الاهتمام المتفاوت بأفغانستان ليضم روسيا، والصين، وباكستان، والهند، وإيران، وقطر، والسعودية، والإمارات.

تلعب قطر، منذ استضافتها، بموافقة وطلب من إدارة أوباما، مكتب طالبان السياسي، دورًا توافقيًّا في أفغانستان، سواء على مستوى دعم المسار التفاوضي، أو المحافظة على قناة اتصال بحكومة الرئيس، أشرف غني، والحرص على استمرار تأييده للمفاوضات الأميركية-الطالبانية. وتنظر قطر إلى الملف الأفغاني باعتباره فرصة أخرى لتعزيز وزنها المعنوي ودبلوماسية المصالحات التي تبنتها في بلدان أخرى من قبل، مثل: لبنان والسودان. 

بيد أن الدور القطري لا يُنظَر إليه بترحيب كبير من قيادتي السعودية والإمارات، اللتين تستهدفان إضعاف قطر وحصارها. ثمة قلق سعودي من أن تتحول أفغانستان من جديد لمركز جذب للمقاتلين السعوديين المعارضين للنظام، والذين ينشط عدد منهم في صفوف القاعدة وتنظيم الدولة، ولكن هذا القلق في الحقيقة هامشي، نظرًا لضعف وتراجع كل من القاعدة وتنظيم الدولة. ما تريده السعودية والإمارات هو منع قطر من تحقيق انتصار دبلوماسي جديد، يعمل في الوقت نفسه على رفع مستوى العلاقات الأميركية-القطرية. وهذا ما دفع السعودية والإمارات لمحاولة استضافة المفاوضات الأميركية مع طالبان، بدلًا من قطر؛ وهو ما رفضته حركة طالبان.

موقف كل من روسيا وباكستان والهند وإيران يختلف إلى حد ملموس؛ فلهذه الدول مصالح جيوسياسية مباشرة في أفغانستان، لا تتعلق بحسابات استراتيجية وحسب، بل وملفات أخرى متعددة الأبعاد.

روسيا، على سبيل المثال، لا تريد أن تعود أفغانستان مركزًا لحركات الإحياء الإسلامي في دول آسيا الوسطى، التي تمثِّل حزامًا أمنيًّا استراتيجيًّا لروسيا، وتعتبر بوابة روسيا الرخوة الثانية، إلى جانب البوابة القارية الأوروبية. ولأن روسيا عادت إلى تعزيز وجودها العسكري في دول آسيا الوسطى، فإن وجود نظام صديق في كابل، يحفظ أمن الحدود الأفغانية مع هذه الدول، هو أولوية حيوية لاستراتيجية موسكو الآسيوية. وليس ثمة شك في أن استضافة روسيا اللقاء التشاوري الأفغاني مؤشر واضح على حرص موسكو على توكيد دور لها في حل المسألة الأفغانية. 

وبينما يشترك الصينيون مع الروس في القلق من تحول أفغانستان إلى مركز للحركات الإسلامية، والتأثير المحتمل لأفغانستان على المسلمين الصينيين، سيما في مقاطعة شنغيانغ (تركستان الشرقية)، لا يُخفي الصينيون اهتمامهم الاقتصادي والاستراتيجي بأفغانستان. إنْ تحقق الاستقرار في أفغانستان، فيمكن أن تتحول إلى محطة أخرى لطريق الحرير والحزام، الذي يحتل موقعًا مركزيًّا في جهود التوسع الاقتصادي الصيني. كما أن أفغانستان يمكن أن تصبح ممرًّا لأنابيب الغاز والنفط. 

باكستان، التي لم تُخْفِ مطلقًا سعيها لأن تصبح أفغانستان عمقها الاستراتيجي، عارضت أصلًا إسقاط نظام طالبان في 2001، وحافظت على علاقات وثيقة بالحركة في المرحلة التالية. خلال السنوات القليلة الماضية، تراجع تأثير إسلام أباد على طالبان، سواء بفعل الصدام الدموي بين طالبان باكستان والقوات الباكستانية، أو بفعل الضغوط الأميركية. ولكن العلاقة بين الطرفين هي أمر لا مفر منه؛ ولم يكن غريبًا بالتالي أن يتواجد ممثل باكستاني في غرفة مفاوضات الدوحة، إلى جانب ممثل قطر، الدولة المضيفة. 

من جهة أخرى، وبالرغم من الجهود التركية الحثيثة لإعادة بناء جسور الثقة بين كابل وإسلام أباد، ظلت الشكوك تحيط بالعلاقات الباكستانية مع النظام الأفغاني؛ بينما اتجهت كابل، منذ عهد كرزاي، لاستخدام العلاقات مع الهند لموازنة العلاقات مع الجار الباكستاني. الآن، وبالرغم من الحدود المفتوحة، والصلات التاريخية بين شعبي البلدين، يفوق حجم التبادل التجاري بين أفغانستان والهند نظيره الأفغاني-الباكستاني. وترى الهند في وجود نظام صديق في كابل ضمانة لمنع تحول أفغانستان إلى مركز للحركات المسلحة المعارضة في كشمير، ولحرمان باكستان من عمقها الاستراتيجي.

إيران، الجار الغربي لأفغانستان، اعتُبرت خصمًا لدودًا لنظام طالبان، الذي حمل توجهات طائفية مناهضة للشيعة. ولم يكن خافيًا أن إيران دعمت الحرب الأميركية على أفغانستان في 2001؛ ورحبت بسقوط نظام طالبان، ودفعت القوى الشيعية الأفغانية للتعاون مع الأميركيين والانضواء في نظام الحكم الذي أقاموه ليحل محل طالبان. ولكن حسابات طهران تغيرت بصورة ملموسة في السنوات القليلة الماضية، سيما بفعل تصاعد حدة الخلافات الأميركية-الإيرانية. وهذا ما دفع طهران لفتح قنوات اتصال مع طالبان؛ بل وتقديم مساعدات متنوعة للحركة. 

تضم أفغانستان بين شعوبها قطاعًا من الشيعة، المعروفين بالهزارة، الذي يرون في إيران وجهة للدعم والتضامن. كما أن أفغانستان منبع نهر هلمند، الذي يعتبر مصدرًا رئيسًا للمياه في شرق إيران الصحراوي. ولأن الكتلة الإيرانية السنية البلوشية تقع في منطقة مثلث الجغرافيا الإيرانية-الأفغانية-الباكستانية، فمن الممكن أن تصبح أفغانستان مصدر قلق كبيرًا لإيران، في حال التحقت كابل بالتحالف الأميركي-السعودي المناهض للنظام الإسلامي الشيعي في طهران.

لا يُعتبر أيٌّ من هذه الدول طرفًا مباشرًا، أو رئيسًا، في الحرب الدائرة في أفغانستان. طرفا الحرب هما الولايات المتحدة وطالبان؛ ومن المنطقى أن تبدأ مفاوضات نهاية الحرب وحل المسألة الأفغانية بالولايات المتحدة وطالبان. ولكن صلات هذه الدول الوثيقة بهذا الطرف أو ذاك في أفغانستان يجعل من دعمها للمسار التفاوضي، أو على الأقل عدم معارضتها، مسألة ضرورية لوصول المفاوضات إلى اتفاق. هناك أطراف في حكومة كابل ليست سعيدة بعزلتها عن العملية التفاوضية؛ وهناك أطراف في طالبان تريد استمرار الحرب حتى إجبار الأميركيين على الخروج وإسقاط حكومة كابل. وإلى جانب هؤلاء يمثل الشعب الأفغاني إطارًا واسع النطاق للتعددية الإثنية والطائفية. مثل خطوط الفتق الزلزالي هذه، على مستوى القوى السياسية والمستوى الديمغرافي، يمكن أن تُستغل بسهولة لمنع التوصل إلى اتفاق، أو منع تطبيع الاتفاق، أو صناعة مناخ مستديم من عدم الاستقرار، حتى بعد التوافق على نهاية الحرب وبناء نظام حكم جديد.

النافذة المتاحة لتحقيق السلم

كانت مسألة الانسحاب الأميركي دائمًا العقبة الكأداء أمام انطلاق أية مفاوضات جادة حول مستقبل أفغانستان. وحتى لقاء الدوحة الأخير، لم تقتنع حركة طالبان مطلقًا بالحديث الأميركي عن الانسحاب. الآن، يبدو أن الأميركيين أظهروا من الجدية ما يكفي لإشعار طالبان بعزمهم على الخروج. ولكن الوصول إلى هذه المحطة لا يعني أن الطريق إلى الاتفاق حول نهاية الحرب بات ممهدًا.

ما ينبغي على المفاوضات تجاوزه من معضلات، يتعلق، أولًا، بجدول الانسحاب، وما إن كان من الممكن توصل الطرفين إلى اتفاق على هذا الجدول. أما المعضلة الثانية، إن تم التوصل إلى اتفاق حول جدول الانسحاب، فتتعلق بالمفاوضات بين طالبان ونظام كابل. فبالرغم من التصريحات التصالحية، فلا يعرف أحد بعد حجم ما تريده طالبان من الحكم، وطبيعة هذا الحكم وتوجهه، وكيفية بناء مؤسساته والتوازنات داخل هذه المؤسسات. كما ليس من الواضح ما إن كان نظام كابل سيتصرف في المفاوضات ككتلة واحدة، وحجم الآمال التي تعقدها أطرافه المختلفة على تقاسم مواقع النفوذ والدور في نظام حكم ما بعد نهاية الحرب. خلال ذلك كله، ينبغي عدم تجاهل أطراف الجوار الأفغاني المختلفة، وتوفير تطمينات كافية لهذه الأطراف، سواء تلك الصديقة لواشنطن أو المخاصمة والمنافسة، بأن أفغانستان الجديدة ستكون صديقة للجميع، أو على الأقل لن تكون مصدر تهديد لأحد. 

ليس ثمة شك في أن خروج الأميركيين من أفغانستان يمثِّل انتصارًا كبيرًا لحركة طالبان وهزيمة لا تقل حجمًا للولايات المتحدة. ولكن الأميركيين سيحرصون على ألا يوحي الاتفاق مع طالبان بالنصر والهزيمة، بل برغبة مشتركة في وضع نهاية لحرب باهظة التكاليف لكافة أطرافها. للتحرر من شبح الهزيمة، يسعى الأميركيون، مثلًا، إلى موافقة طالبان على استمرار وجودٍ ما لهم في أفغانستان بعد الانسحاب العسكري. فأي وجود يمكن لطالبان تقبله؟ ما طبيعة هذا الوجود، وحجمه؟ وأي دور يمكن أن يمارسه في مستقبل البلاد؟

في النهاية، وبالرغم من مناخ التفاؤل الذي ولدته جولة مباحثات الدوحة، فإن النافذة المتاحة للتوصل إلى اتفاق ليست كبيرة بالتأكيد. تقررت الانتخابات الرئاسية الأفغانية في يوليو/تموز المقبل (2019)، وعلى كافة الأطراف أن تعمل على أن يصل المسار التفاوضي نقطة عدم العودة قبل عقد الانتخابات بفترة كافية. فإن كان للحرب أن تنتهي ولأفغانستان أن تعبر إلى سلْم توافقي، فلابد أن يكون لطالبان دور رئيس في تحديد هوية الرئيس القادم؛ أليس هذا الرئيس من سيصبح الشريك الأبرز لطالبان في صناعة السلم وخلاص البلاد؟!