الأزمة البنيوية في صربيا: ديناميات التوترات الداخلية وأثرها على الاستقرار الإقليمي

تتصاعد التوترات الداخلية في صربيا وتتداخل مع عوامل خارجية على رأسها العلاقة المضطربة مع كوسوفو. دوليا، تتنافس قوى كبرى على النفوذ في صربيا. فروسيا تدعم بلغراد سياسيًّا واقتصاديًّا، أما الصين فتستثمر في البنية التحتية، بينما يشترط الأوروبيون إصلاحات سياسية لتقدم صربيا في مسار انضمامها للاتحاد الأوروبي.
(Shutterstock)

مقدمة

تشهد صربيا، في السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ منتصف العام 2022، تصاعدًا ملحوظًا في حدة التوترات السياسية والاجتماعية، وقد تجلَّى ذلك في موجات احتجاجية متكررة وانتقادات واسعة النطاق لأداء الحكومة. وتأتي هذه الأزمة في ظل تداخل معقد لعوامل داخلية وأخرى خارجية؛ حيث تتشابك التحولات الاقتصادية والسياسية المحلية مع تأثيرات الفاعلين الإقليميين والدوليين.

تحاول هذه الورقة تحليل جذور الأزمة الراهنة، وفهم دينامياتها الداخلية، واستشراف السيناريوهات المستقبلية، مع تسليط الضوء على أدوار الفاعلين الأساسيين في الداخل والخارج.

1. السياق السياسي والتاريخي للأزمة

تحتل صربيا موقعًا إستراتيجيًّا في منطقة البلقان، وتستند إلى إرث تاريخي معقد تشكَّل بعد تفكك جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية في تسعينات القرن العشرين وانفراط عقدها(1). وعلى الرغم من تبنِّيها نظامًا جمهوريًّا برلمانيًّا، إلا أن مسار التحول الديمقراطي ظل متعثرًا، وسط استمرار نفوذ النخب السياسية التقليدية وهيمنة حزب التقدم الصربي بقيادة الرئيس ألكسندر فوتشيتش. وقد شهدت البلاد، خلال السنوات الأخيرة، تراجعًا في مؤشرات الحريات السياسية واستقلال القضاء. وتزايدت اتهامات المعارضة للحكومة بالفساد وتقييد الحريات العامة والسيطرة على وسائل الإعلام، وهو ما أدى، في نهاية المطاف، إلى تآكل ثقة المواطنين في المؤسسات الرسمية ومهَّد الطريق لتصاعد الاحتجاجات الشعبية(2). من الجدير بالذكر في هذا الإطار أن التوترات مع كوسوفو، التي أعلنت استقلالها من جانب واحد في العام 2008، لا تزال تلقي بظلالها على المشهد السياسي الداخلي؛ حيث ترفض صربيا الاعتراف باستقلال جارتها وتستمر النزاعات حول قضايا الهوية والسيادة(3). ولا شك أن هذا الإرث التاريخي للصراع يعمِّق الاستقطاب السياسي ويزيد من هشاشة الاستقرار الداخلي. لكن، ما الأسباب المباشرة التي تقف خلف الأزمة الحالية؟

2. الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة

تلعب العوامل الاقتصادية والاجتماعية دورًا محوريًّا في تغذية الأزمة الصربية. تعاني البلاد من ارتفاع معدلات البطالة وتفاوتات حادة في التنمية بين المناطق، فضلًا عن تدني مستويات المعيشة لقطاعات واسعة من السكان. وعلى الرغم من تحقيق بعض النمو في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات والصناعات التحويلية، إلا أن الفساد وضعف الشفافية يعرقلان تحقيق تنمية مستدامة(4).

وقد أدَّت السياسات النيوليبرالية التي ركزت على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى اتساع الفجوة الاجتماعية؛ حيث يشعر المواطنون بأن ثمار النمو لا تنعكس إيجابيًّا على حياتهم اليومية. وقد كشفت الأزمات المتكررة في البنية التحتية، مثل انهيار محطة قطار نوفي ساد، عن سوء الإدارة وعمقت الغضب الشعبي، وأصبحت رمزًا لفشل الحكومة في الاستجابة لتطلعات المجتمع(5). كما زاد ارتفاع التضخم وأسعار الطاقة والغذاء من الضغوط المعيشية، ودفع شرائح كبيرة من الشباب إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل؛ ما أدى إلى فقدان صربيا نسبة ملحوظة من سكانها في العقد الأخير(6).

3. الديناميات الداخلية في صربيا

شهدت صربيا خلال العامين الأخيرين تصاعدًا غير مسبوق في الحراك الشعبي، فبرزت الحركة الطلابية كقوة دافعة للاحتجاجات ضد الحكومة، مطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية ومكافحة الفساد. وقد تميزت هذه الحركة بقدرتها على تجاوز الانقسامات التقليدية بين الأحزاب، وجمعت حولها قطاعات واسعة من المجتمع، من أكاديميين وفنانين ونقابات عمالية وحتى طلاب المدارس الثانوية.

بلغت الاحتجاجات ذروتها في شتاء 2024-2025، عندما أغلقت الجامعات والمدارس أبوابها تضامنًا مع الطلاب، وشارك عشرات الآلاف في مظاهرات حاشدة في بلغراد ومدن أخرى. وأضرب المزارعون وقطعوا الطرق السريعة، وانضمت نقابات التعليم والمحامين والجمعيات الإعلامية إلى الحراك؛ ما منح الحركة زخمًا اجتماعيًّا غير مسبوق منذ سقوط نظام سلوبودان ميلوشيفيتش(7).

ورغم تحقيق الناتج المحلي الإجمالي نموًّا نسبيًّا (قرابة 4% في 2024)، إلا أن مستويات المعيشة تراجعت بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، مع استمرار البطالة فوق 8% واتساع الفوارق الإقليمية في الأجور(8). وقد دفعت هذه الأوضاع شرائح واسعة من الشباب إلى الهجرة؛ إذ فقدت صربيا 7% من سكانها بين 2011 و2022؛ ما يعكس أزمة ثقة عميقة في قدرة النظام على تحسين حياة المواطنين.

على المستوى السياسي، تجلَّى ضعف الأحزاب التقليدية واليسار في عدم القدرة على تقديم بدائل واضحة، ما جعل الحركة الطلابية تتبنى أساليب ديمقراطية قاعدية مثل الجمعيات العمومية والجلسات العامة في إدارة الاحتجاجات. كما برزت مطالب جديدة تتعلق بالديمقراطية المباشرة، وحماية البيئة، ودمقرطة النقابات، ما يشير إلى تحول نوعي في الوعي السياسي والاجتماعي لدى قطاعات واسعة من المجتمع الصربي(9).

في خضم هذه التوترات لجأ الرئيس فوتشيتش إلى سياسة العصا والجزرة، محاولًا تهدئة الحركة أحيانًا عبر تنازلات شكلية، وأحيانًا أخرى عبر القمع والاعتقالات. لكن تصاعد الحراك أظهر أن النظام يواجه أزمة شرعية حقيقية، وأن البلاد دخلت مرحلة من عدم الاستقرار السياسي قد تطول(10). ولا تزال العلاقة مع كوسوفو تمثل عامل ضغط داخلي كبيرًا؛ إذ يستغل النظام التوترات مع بريشتينا لتعزيز الخطاب القومي وحشد الأنصار، بينما تظل المناطق الصربية في كوسوفو خاضعة لولاءات متقاطعة بين بلغراد وبريشتينا، ويزداد الطريق إلى الحل السياسي الدائم تعقيدًا(11).

4. العلاقة بين كوسوفو وصربيا وأثرها على الداخل الصربي

تعد قضية كوسوفو من أكثر القضايا حساسية وإثارة للجدل في السياسة الصربية المعاصرة. فهي تشكِّل محورًا مركزيًّا في الخطاب السياسي الوطني وتنعكس تداعياتها بوضوح على الاستقرار الداخلي في صربيا. فمنذ إعلان كوسوفو استقلالها من جانب واحد، عام 2008، رفضت صربيا الاعتراف بهذا الاستقلال، معتبرة كوسوفو جزءًا لا يتجزأ من سيادتها الوطنية. وقد أدى هذا الموقف إلى حالة من الجمود السياسي والدبلوماسي، ليس فقط في علاقات بلغراد مع كوسوفو، بل أيضًا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين يشترطان إحراز تقدم في ملف كوسوفو شرطًا أساسيًّا لانضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي(12).

على المستوى الداخلي، تُستخدم قضية كوسوفو باستمرار أداة في الخطاب السياسي لتعبئة الرأي العام وحشد الدعم الشعبي، خاصة في أوقات الأزمات أو التوترات الاجتماعية. فغالبًا ما تلجأ الحكومة الصربية، بقيادة الرئيس ألكسندر فوتشيتش، إلى تصعيد الخطاب القومي حول كوسوفو كلما واجهت ضغوطًا داخلية، سواء أكانت احتجاجات شعبية أم انتقادات للفساد وتراجع الحريات. ومن الملاحظ، في هذا السياق، استغلال وتوظيف التوترات مع كوسوفو لصرف الأنظار عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة توجيه النقاش العام نحو قضايا الهوية والسيادة الوطنية(13).

في المقابل، تُعمِّق قضية كوسوفو الانقسامات السياسية داخل صربيا؛ حيث تنقسم النخب السياسية بين تيار يدعو إلى تسوية سياسية واقعية مع كوسوفو من أجل تسريع عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتيار قومي متشدد يرفض أي تنازل أو اعتراف باستقلال كوسوفو. لا شك أن هذا الانقسام وضع، ويضع، الحكومة في موقف معقد بين ضغوط الخارج ومتطلبات الداخل، ويؤدي إلى حالة من الشلل السياسي فيما يتعلق باتخاذ قرارات إستراتيجية حاسمة.

تنعكس هذه الديناميات أيضًا على المجتمع الصربي في كوسوفو؛ حيث يعيش الصرب في المناطق الشمالية من الإقليم تحت ولاءات متداخلة بين بلغراد وبريشتينا؛ ما يخلق بيئة متوترة قابلة للانفجار في أي لحظة. وغالبًا ما تتحول التوترات المحلية إلى مواجهات بين الشرطة أو الجيشين، أو إلى احتجاجات شعبية في صربيا نفسها، كما حدث في عدة مناسبات خلال السنوات الأخيرة(14). إضافة إلى ذلك، تُمثل قضية كوسوفو عقبة رئيسية أمام تطبيع العلاقات بين صربيا وجيرانها في البلقان، وتُستخدم ورقة ضغط من قبل القوى الدولية المتنافسة في المنطقة. فبينما تدعم روسيا موقف صربيا الرافض لاستقلال كوسوفو، يضغط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة باتجاه حل سياسي يضمن الاستقرار الإقليمي ويعزز اندماج صربيا في المؤسسات الأوروبية(15).

في المحصلة، يمكن القول: إن قضية كوسوفو ستظل عاملًا بنيويًّا في تشكيل السياسة الداخلية الصربية، وتؤثر بشكل مباشر على الاستقرار السياسي والاجتماعي، كما تُستخدم أداة لإعادة إنتاج الخطاب القومي وتثبيت شرعية النظام الحاكم. ومع غياب تسوية نهائية، ستظل هذه القضية مصدر توتر دائمًا يعوق أي تحول ديمقراطي أو إصلاح اقتصادي عميق في صربيا، ويجعل البلاد رهينة للتوازنات الإقليمية والدولية المتغيرة(16).

5. الأبعاد الإقليمية والدولية للأزمة

تتأثر الأزمة في صربيا بعوامل إقليمية شديدة التعقيد والتداخل، أبرزها العلاقة المتوترة مع كوسوفو، والتي لا تزال تمثل حجر عثرة أمام تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. كما أن تصاعد النزعات الانفصالية في البوسنة والهرسك يثير المخاوف من امتداد التوترات إلى داخل صربيا.

على الصعيد الدولي، تتنافس قوى كبرى على النفوذ في صربيا. فروسيا تدعم بلغراد سياسيًّا واقتصاديًّا، في حين تستثمر الصين في مشاريع البنية التحتية، بينما يضغط الأوروبيون والولايات المتحدة من أجل إصلاحات سياسية واحترام حقوق الإنسان شرطًا لتقدم صربيا في مسار الانضمام للاتحاد الأوروبي. يمنح هذا التوازن بين الشرق والغرب صربيا هامشًا للمناورة، لكنه يزيد، من جهة أخرى، من تعقيد الأزمة ويجعلها أكثر ارتباطًا بتقلبات البيئة الدولية والإقليمية، وهو ما يدفع بصربيا إلى الدخول في منافسات مع دول الجوار لم تقتصر على الجانبين، السياسي والاقتصادي، وجلب الاستثمارات وحسب، بل  كان لها أيضًا بعد أمني وعسكري.

6. سباق التسلح في منطقة البلقان وأثره على التوترات في صربيا

إن سباق التسلح هو أحد أبرز مظاهر التنافس الإقليمي في منطقة البلقان اليوم، وقد تصاعدت وتيرته في السنوات الأخيرة على خلفية التوترات السياسية والأمنية المتزايدة بين دول المنطقة. ويكتسب هذا السباق أهمية خاصة في سياق الأزمة الصربية؛ حيث ترتبط السياسات الدفاعية ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الداخلية والخارجية التي تشهدها البلاد.

أ. السياق التاريخي والأمني لسباق التسلح في البلقان

نذكِّر في هذا السياق، بأن منطقة البلقان شهدت، منذ تفكك يوغوسلافيا في عقد التسعينات، عدة صراعات مسلحة تركت أثرًا عميقًا على البنية الأمنية للدول الجديدة. وقد أدت هذه التجارب الصعبة إلى ترسيخ ثقافة أمنية قائمة على الشك المتبادل والاستعداد الدائم لمواجهة التهديدات. في هذا الإطار، سعت دول المنطقة، وفي مقدمتها صربيا، إلى تحديث قواتها المسلحة وتعزيز قدراتها الدفاعية، في ظل بيئة إقليمية تتسم بعدم الاستقرار واستمرار النزاعات الحدودية والعرقية(17).

ب. دوافع سباق التسلح في صربيا ودول الجوار

تتعدد الدوافع التي تقف وراء سباق التسلح في البلقان، وتترواح أبرز تلك الدوافع ما بين الأمني الخالص إلى السياسي، وصولًا إلى السعي لترسيخ الشرعية في الداخل. ولا شك أن تزايد التوترات مع كوسوفو، وتصاعد النزعات الانفصالية في البوسنة والهرسك، واستمرار الخلافات مع كرواتيا والجبل الأسود، كلها عوامل تُذكي المخاوف الأمنية، وبالتالي تدفع صربيا إلى العمل على تعزيز قدراتها العسكرية وتنويع ترسانتها وتطويرها باستمرار.

أما على صعيد الضغوط الجيوسياسية التي تتعرض لها بلغراد، فيبدو ذلك جليًّا فيما يعكسه التنافس بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على النفوذ في المنطقة على كل طرف ويدفعه إلى دعم حلفائه عسكريًّا، وتُترجم النتيجة النهائية إلى تفاقم سباق التسلح. يضاف إلى ذلك أهمية الرمزية الوطنية والسياسية. فمن المعروف استخدام الأنظمة الحاكمة في صربيا، وغيرها من دول البلقان، الخطاب الأمني والتسلحي لتعزيز شرعيتها الداخلية، وصرف الانتباه عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

ج. مظاهر سباق التسلح: الإنفاق العسكري والتحديث التقني

شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في ميزانيات الدفاع بدول البلقان؛ حيث خصصت صربيا جزءًا متزايدًا من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري(18). وقد ركزت في ذلك على محاور ثلاثة: أولًا: تحديث سلاح الجو والدفاع الجوي عبر اقتناء طائرات رافال فرنسية ودبابات حديثة، إلى جانب شراء مقاتلة روسية من طراز "ميغ-29"، وأنظمة دفاع جوي متطورة مثل "بانتسير إس-1". ثانيًا: تعزيز القوات البرية من خلال تطوير الدبابات والمدرعات، وتحديث منظومات الاتصالات والمراقبة. ثالثًا، وأخيرًا: الاستثمار في الصناعات العسكرية المحلية؛ حيث تسعى صربيا لإعادة إحياء الصناعات الدفاعية الوطنية بهدف تقليل الاعتماد على الخارج وتعزيز الاكتفاء الذاتي.

لكن، في المقابل، لم تقف دول الجوار مكتوفة الأيدي. فقد عززت كرواتيا، ورومانيا، وبلغاريا، وحتى كوسوفو قدراتها الدفاعية من خلال صفقات تسليح مع حلف الناتو وعدد من الدول الغربية.

د. التداعيات الإقليمية والدولية لسباق التسلح

أدى تصاعد سباق التسلح إلى تعميق حالة عدم الثقة بين دول البلقان، وبالتالي زاد من احتمالات التصعيد العسكري في حال اندلاع أزمات جديدة. كما أسهم في استقطاب المنطقة بين المحاور الدولية، حيث تقدم روسيا دعمًا عسكريًّا سخيًّا لصربيا، بينما تدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خصومها الإقليميين (كرواتيا وكوسوفو أساسًا). وهو واقع من شأنه أن يعزز هشاشة الاستقرار الإقليمي ويجعل أي توتر سياسي قابلًا للتحول إلى مواجهة مسلحة.

ه. أثر سباق التسلح على الداخل الصربي

انعكس سباق التسلح على الوضع الداخلي في صربيا بعدة أشكال نوردها في النقاط التالية:

- توظيف الخطاب الأمني: تستخدم الحكومة ملف التسلح لتبرير السياسات الأمنية الصارمة وحشد التأييد الشعبي وإضعاف المعارضة.

- الضغط على الموارد الاقتصادية: يأتي ارتفاع الإنفاق العسكري، غالبًا، على حساب القطاعات الاجتماعية، وهو ما سيزيد من الاحتقان الداخلي ويفاقم الأزمات الاقتصادية أكثر، على المديين القريب والمتوسط.

- تأجيج النزعة القومية: يعزز سباق التسلح الخطاب القومي ويزيد من حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي، خاصة في ظل استمرار النزاع مع كوسوفو.

في الخلاصة، يمثل سباق التسلح في منطقة البلقان عاملًا محوريًّا في فهم ديناميات التوترات الراهنة في صربيا. فهو يربط بين الأبعاد الأمنية الداخلية والتوازنات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. ومع استمرار حالة عدم الاستقرار، يظل خطر الانزلاق إلى مواجهات عسكرية قائمًا، ما لم تُتخذ خطوات جادة نحو بناء الثقة وتعزيز التعاون الإقليمي، وهو ما لا نراه قريبًا، على الأقل في ظل الأوضاع القائمة حاليًّا. في هذه المناخات، كيف تبدو الآفاق المستقبلية لصربيا؟

7. الآفاق المستقبلية والسيناريوهات المحتملة أمام حكومة فوتشيتش

أ. استمرار الحراك وتآكل شرعية النظام

ينبني التصور الأول لمستقبل صربيا على فرضية تمكن الطلاب والنقابات والمجتمع المدني من مواصلة ضغطهم وحشد المزيد من المؤيدين لحراكهم وعملهم على توحيد صفوفهم، مع عجز النظام عن تقديم حلول جذرية. في هذا السيناريو قد تتجه البلاد نحو أزمة حكم حادة، وربما ينتهي الأمر بإجراء استفتاء على ولاية الرئيس أو تنظيم انتخابات مبكرة، وهو ما بدأت تنادي به فعلًا عدة جهات في صربيا، من بينها الطلبة(19). في هذا السيناريو، ستتعزز فرص بروز قوى سياسية جديدة أو حكومة خبراء انتقالية، لكنها لن تكون قادرة، في تقديرنا، على معالجة عميقة للفوارق الطبقية أو النفوذ الخارجي. فذلك يحتاج إجماعًا وطنيًّا شاملًا، ويتطلب وقتًا أطول من عمر حكومة خبراء.

ب. تجذر الوعي الديمقراطي وظهور يسار جديد

يقوم السيناريو الثاني على افتراض استمرار أساليب التنظيم القاعدي، التي يتبعها الطلبة وجزء من المعارضة السياسية، وتعزيز المطالب الاجتماعية والبيئية. في هذه الحالة ربما تظهر حركة يسارية، أو تقدمية جديدة، تكون قادرة على بناء مؤسسات ديمقراطية مستقلة، وتقديم رؤية بديلة للمجتمع تتجاوز مجرد إسقاط الحكومة نحو إصلاحات بنيوية أعمق(20).

ج. عودة النظام للسيطرة عبر القمع أو المناورة

قد يلجأ النظام، في هذا السيناريو الثالث، إلى تصعيد القمع أو عقد صفقات مع بعض قوى المعارضة التقليدية أو النقابات، بهدف الوصول إلى تهدئة مؤقتة دون تغيير جوهري في السياسات. في ظل هذا السيناريو ستبقى الأزمة كامنة وقابلة للانفجار مجددًا مع أي صدمة اقتصادية أو سياسية جديدة. وإذا اختار النظام اللجوء إلى القمع وعدم الإنصات إلى نداءات العقل ستتزايد تلك الصدمات ويتسع نطاقها(21).

د. تفاقم التوترات الإقليمية وتأثيرها الداخلي

يبقى سيناريو التصعيد مع كوسوفو، أو امتداد التوترات الإقليمية، خاصة في البوسنة والهرسك قائمًا. وقد يدفع ذلك التصعيد النظام إلى توظيف القومية لصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية، أو حتى الدخول في مواجهات محدودة تعيد ترتيب الأولويات السياسية والاجتماعية(22).

خاتمة

تعيش صربيا اليوم لحظة تحول تاريخي تتقاطع فيها الديناميات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية. ويحمل الحراك الاجتماعي الجديد والمتواصل والقوي، بقيادة الطلاب والعمال، بذور تغيير قد يكون عميقًا وجذريًّا إذا نجح في تجاوز الانقسامات التقليدية بين الأحزاب السياسية، وطرح رؤية بديلة تكون مقبولة داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا لضمان نجاحها وبلوغ مرادها. أما مستقبل النظام، فيبقى رهينًا بأحد احتمالين: توافر الرغبة الصادقة والقدرة الفعلية على الاستجابة لمطالب فئات واسعة من المجتمع الصربي، أو إعادة إنتاج أدوات السيطرة التقليدية لفرض مزيد من القمع وإسكات أصوات المعارضين واتهامهم بالخيانة وعدم الوطنية والعمالة وتنفيذ أجندات خارجية مدفوعة، كما يفعل حتى الآن. في كل الأحوال، ستحدد الأسابيع والأشهر المقبلة ملامح التحول الديمقراطي والاجتماعي في صربيا، وقد تفتح الباب أمام نموذج جديد في البلقان.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) Center for European Studies (CES): Background: Tito’s Yugoslavia

https://europe.unc.edu/background-titos-yugoslavia/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(2) Saša Savanović, The protests in Serbia are historic, the world shouldn’t ignore them, Al Jazeera.com, 23 February 2025.

https://www.aljazeera.com/opinions/2025/2/23/the-protests-in-serbia-are-historic-the-world-shouldnt-ignore-them

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(3) Global Guardian: 2025 Risk Map Analysis: Kosovo & Serbia

https://www.globalguardian.com/global-digest/2025-risk-map-kosovo-serbia

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(4) Nemanja Nenadić, Survey: For the first time in a quarter of a century, corruption is the main problem in Serbia, Radar, 27 April 2025.

https://radar.nova.rs/ekonomija/korupcija-glavni-problem-u-srbiji/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(5) Al Jazeera Balkans: Protests have affected all levels of society and all of Serbia, 28 January 2025.

https://balkans.aljazeera.net/news/balkan/liveblog/2025/1/28/tuzilastvo-traga-za-napadacima-na-studente-u-novom-sadu

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(6) Insider: Migration, why are we leaving Serbia? 07 June 2024.

https://www.insajder.net/Mladi/mladi-u-srbiji-izmedu-odlaska-i-ostanka

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(7) Miljana Miletić, History of student protests in Serbia, 10 December 2024.

https://www.slobodnaevropa.org/a/srbija-studenti-protesti-istorija/33235008.html

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(8) Vreme: Cost of living ranking, where does Serbia rank? 30 April 2024.

https://vreme.com/ekonomija/rang-lista-troskova-zivota-na-kom-mestu-se-nalazi-srbija/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(9) Srdjan Cvijic and Florent Marciacq, En Serbie, une ultime bataille pour la démocratie fait rage dans l’indifférence de l’Europe, Fondation Jean-Jaurès, 30 January 2025.

https://www.jean-jaures.org/publication/en-serbie-une-ultime-bataille-pour-la-democratie-fait-rage-dans-lindifference-de-leurope/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(10) Pauline Soulier, Serbie: la révolte des étudiants va-t-elle tout renverser?, The Conversation, 10 March 2025.

https://theconversation.com/serbie-la-revolte-des-etudiants-va-t-elle-tout-renverser-251508

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(11) United Nation: Conseil de sécurité: la Serbie et le Kosovo se rejettent la responsabilité du déficit de confiance intercommunautaire et des incidents sécuritaires, 8 avril 2025.

https://press.un.org/fr/2025/cs16041.doc.htm

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(12) Nen Si, Kallas: Full Normalization is the Only Path for Kosovo and Serbia Toward the EU, Euro News, 03 February 2025.

https://euronews.al/en/kallas-full-normalization-is-the-only-path-for-kosovo-and-serbia-toward-the-eu/

(13) Jelena Jelovac, Interview Momčilo Trajković: Vučić is playing dirty with Serbs from Kosovo, we remembered his words well after Banjska, Nova, 14 October 2023.

https://nova.rs/vesti/politika/intervju-momcilo-trajkovic-vucic-se-pokvareno-igra-sa-srbima-s-kosova-dobro-smo-zapamtili-njegove-reci-posle-banjske/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(14) Security Council: Kosovo Briefing, 7 April 2025.

https://www.securitycouncilreport.org/whatsinblue/2025/04/kosovo-briefing-7.php

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(15) Engjellushe Morina, Cast no shadow: How the EU can advance the Kosovo-Serbia dialogue process, European Council on Foreign Relations, 30 October 2024.

https://ecfr.eu/article/cast-no-shadow-how-the-eu-can-advance-the-kosovo-serbia-dialogue-process/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(16) Friedrich-Ebert-Stiftung: Serbia and Kosovo in 2035: Scenarios, March 2018.

https://library.fes.de/pdf-files/bueros/belgrad/14369.pdf

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(17) Press Xpress: Balkans at Crossroads: How an Arms Race Threatens Stability! 08 January 2025.

https://pressxpress.org/2025/01/08/balkans-at-crossroads-how-an-arms-race-threatens-stability/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(18) European Western Balkans: Who is spending the most on defence in the Balkans?, 22 March 2024.

https://europeanwesternbalkans.com/2024/03/22/who-is-spending-the-most-on-defence-in-the-balkans/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(19) Ivica Petrović, Students call, elections and list on a long stick, Deutsche Welle, 07 May 2025.

https://www.dw.com/sr/studenti-zovu-izbori-i-lista-na-dugom-%C5%A1tapu/a-72459136

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(20) Katja Giebel, Will Serbia’s Protest Movement Lead to a Democratic Beginning?, Heinrich Böll Foundation, 13 March 2025.

https://www.boell.de/en/2025/03/13/will-serbias-protest-movement-lead-to-a-democratic-beginning

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(21) Bojana Zorić, Under pressure at home and abroad - What path will Serbia take?, EU Institute for Security Studies, 24 January 2025.

https://www.iss.europa.eu/publications/commentary/under-pressure-home-and-abroad-what-path-will-serbia-take

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)

(22) Center for Western Balkans Studies: Is a New War in Kosovo Possible?, 14 April 2024.

https://cfwbs.org/is-a-new-war-in-kosovo-possible/

(تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2025)