المحليات التركية: فوز العدالة والتنمية بطعم الهزيمة في المدن الكبرى

حافظ حزب العدالة والتنمية على تقدمه في الانتخابات المحلية التركية مع استمرار تراجعه في المدن الرئيسية، مما يكشف أن أسباب التراجع تعود إلى اختلالات بنيوية.
67ebe5fcbef74236bea9e4bc4d57c0ae_18.jpg
العدالة والتنمية: الاحتفاظ بالأغلبية مع تراجع نسبي (أناضول)

أُجريت الانتخابات المحلية التركية، يوم الأحد 31 مارس/آذار (2019). وبخلاف السنوات القليلة الماضية، التي شهدت سلسلة من الانتخابات والاستفتاءات الشعبية، فالمتوقع أن تكون هذه الفرصة الأخيرة لاستطلاع توجهات الشعب التركي، قبل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في صيف 2023. هذا هو السبب الأول الذي منح هذه الجولة الانتخابية أهميتها. السبب الثاني، والذي لا يقل أهمية، يتعلق بمحاولة حزب العدالة والتنمية الحاكم -منذ 2002- استعادة دعم الشرائح الانتخابية التي يبدو أنها تخلت عنه منذ الاستفتاء على الانتقال للنظام الرئاسي.

وكانت تركيا شهدت الاستفتاء على تعديلات دستورية جذرية، في ربيع 2017، نقلت إدارة الدولة الجمهورية، للمرة الأولى منذ تأسيسها، إلى النظام الرئاسي. في صيف العام الماضي، ولإكمال عملية الانتقال للنظام الرئاسي، أُجريت انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة. في كلتا المناسبتين، الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، جاءت النتائج لتكشف عن موقف العدالة والتنمية الحرج.

أقرَّ الشعب التركي التعديلات الدستورية بفارق ضئيل من الأصوات، بعد أن صوَّتت المدن الكبرى ضد التعديلات بأغلبيات ملموسة. وبالرغم من فوز الرئيس أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، في الانتخابات الرئاسية، فقد جاء فوزه بأغلبية صغيرة، بينما خسر حزبه أغلبيته البرلمانية، ولم يعد قادرًا على تمرير إرادته السياسية في المجلس الوطني الكبير (البرلمان التركي) دون دعم حلفائه في حزب الحركة القومية.

بهذا المعنى، أيضًا، تمثل الانتخابات المحلية فرصة أخيرة، إلى أن يحل موعد الانتخابات المقبلة بعد أربع سنوات، لقراءة موقع حزب العدالة والتنمية الشعبي، الحزب الذي يقود الدولة التركية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2002، ويسيطر على معظم بلدياتها الكبرى ومجالسها المحلية.

فما الأحزاب الرئيسة التي تنافست في هذه الانتخابات؟ وما الأهداف التي حاول كل منها تحقيقها؟ أية نتائج انتهت إليها هذه الانتخابات، وكيف يمكن تحديد من ربحها ومن خسرها؟ هل يمكن القول: إن حزب العدالة والتنمية أوقف عجلة التراجع الانتخابي، التي تهدده منذ الاستفتاء على النظام الرئاسي، أم أن الحزب يمر بالفعل بمنعطف الانحدار السياسي الذي شهدته الأحزاب السياسية التركية الكبرى من قبل؟

خارطة سياسية جديدة
خاض الانتخابات تحالفان حزبيان رئيسان، وحزبان آخران، بصورة منفردة. التحالف الأول باسم "تحالف الشعب" يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، الحزبين اللذين تقاربا بصورة ملموسة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016. في المقابل، وقف "تحالف الأمة" الذي يضم كلًّا من حزب الشعب الجمهوري (كمالي التوجه، أقدم الأحزاب السياسية التركية، وحزب المعارضة الرئيس)، والحزب الجيد، الذي لم يمض بعدُ عامان على تأسيسه إثر انشقاق ميرال أكشنر، رئيسة الحزب، ومجموعة من أنصارها عن حزب الحركة القومية.

لم تكن ظاهرة التحالفات مرحَّبًا بها في الحياة السياسية التركية خلال العقدين الماضيين، سيما بعد أن عاشت البلاد عهدًا مديدًا من الحكومات الائتلافية الضعيفة، التي لم تكن تخرج من أزمة حتى تغرق في أخرى. وكان واضحًا منذ منح الشعبُ التركي حزبَ العدالة والتنمية حق الحكم منفردًا في 2002، أن المزاج الانتخابي ذهب إلى تجنب الائتلافات الانتخابية حتى عندما كانت الانتقادات للعدالة والتنمية تتصاعد، وهو الأمر الذي عززه خطاب أردوغان السياسي طوال الفترة إلى 2016. ولكن الأمور تغيرت عندما أدركت قيادة العدالة والتنمية صعوبة تمرير التعديلات الدستورية المتعلقة بالنظام الرئاسي دون دعم حزب الحركة القومية.

كانت تلك الخطوة الأولى في اتجاه بناء تحالف الشعب، الذي لم تكن رغبة حزب الحركة القومية في الالتحاق به أقل من شركائه في العدالة والتنمية. فمن ناحية، أدرك حزب الحركة القومية، بعد الانقلاب الفاشل، حجم المخاطر التي تهدد البلاد ووحدتها. ومن ناحية أخرى، أرادت قيادة حزب الحركة القومية، عبر التحالف مع العدالة والتنمية، تجاوز التهديد الذي مثَّلته النزعات الانشقاقية داخل الحزب، والتي انتهت إلى خروج مجموعة أكشنر وتشكيل الحزب الجيد.

في الجانب الآخر، ولأن تحالف الشعب أسَّس لقوة انتخابية وتصويتية جديدة في الحياة السياسية، وجد كل من حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد أن لا مناص من تحالفهما من أجل تحقيق مكاسب انتخابية ملموسة. وبالرغم من أن كلًّا من الحزبين ينتمي لمعسكر سياسي مختلف، كون الشعب الجمهوري أقرب إلى يسار الوسط، والجيد يقول بأنه قومي محافظ، وجد كل من الحزبين أن تآلفهما يصنع إضافة انتخابية ملموسة لم يكن أي منهما يستطيع تحقيقها منفردًا.  

إضافة إلى هذين التحالفين الرئيسين، يخوض الانتخابات بصورة منفردة كل من حزب الشعوب الديمقراطي، ذي التوجه القومي الكردي، وحزب السعادة، إسلامي التوجه، الذي يحمل ميراث الزعيم، الراحل نجم الدين أربكان. ولكن، لا حزب الشعوب، ولا السعادة، يخوض المعركة الانتخابية في كامل تركيا. فالشعوب الديمقراطي يرى أن فرصته في تحقيق مكاسب معتبرة تتمركز في ولايات الجنوب الشرقي، وعدد محدود من بلديات إسطنبول الصغرى، حيث الكثافة السكانية الكردية. أما السعادة، فقد اختار خوض المعركة في البلديات والدوائر التي تُعرف بتوجهها الانتخابي المحافظ والإسلامي.

ثمة عدد من الأحزاب الأخرى الأصغر، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، خاض كل منها معارك انتخابية منتقاة ومحددة، في هذه المنطقة أو تلك. ولكن أيًّا منها لم يكن متوقعًا له ترك أثر ملموس على النتائج النهائية.

أهداف حزبية متباينة
بالرغم من أن هذه كانت معركة على إدارات بلدية ومحلية، لا أكثر، فربما لم تشهد تركيا منذ عقود حملة انتخابية بهذا الحجم والحدة. أردوغان وحده عقد ما لا يقل عن ثمانين تجمعًا شعبيًّا انتخابيًّا، وزار ما يزيد عن خمسين مدينة، ملقيًا خطابات في عدة مدن في يوم واحد في بعض الأحيان. وقد بدت تركيا خلال الأسابيع القليلة السابقة على يوم الانتخابات وكأنها تحولت إلى ساحة صراع انتخابي واحدة، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

لا تتمتع الإدارات المحلية في تركيا بأية صلاحيات سياسية، ولأن مسألة وحدة البلاد تحتل موقعًا مركزيًّا في وعي الأغلبية التركية، فليس ثمة وجود، أو حتى استعداد لإدخال نظام الإدارة الذاتية. ولكن ذلك لا يقلِّل من أهمية الانتخابات المحلية في السياسة التركية. فبحكم علاقتها المباشرة واليومية بحياة الناس ومعاشهم، تلعب الإدارات البلدية والمحلية دورًا مهمًّا في تأسيس وتعزيز العلاقة السياسية بين الأحزاب والناخبين. بالنسبة إلى أحزاب المعارضة الرئيسة، التي أخفقت في الوصول إلى مقاعد الحكم منذ 2002، تعتبر الإدارات المحلية الموقع الوحيد المتاح لتوكيد القدرة على الإدارة العامة والحكم. في المقابل، تعود جذور قطاع كبير من كوادر العدالة والتنمية، بما في ذلك الرئيس أردوغان نفسه، إلى الإدارات المحلية.

على المستوى التفصيلي، عمل كل من الأحزاب الرئيسة على تحقيق أهداف محددة من هذه الانتخابات؛ فقد مثَّلت هذه الجولة الانتخابية فرصة أخيرة، ربما، لحزب العدالة والتنمية لاستعادة عافيته السياسية، التي بدت محل شك منذ الاستفتاء على النظام الرئاسي وبروز مؤشرات على تراجع الدعم الشعبي للحزب. خلال السنوات القليلة الماضية، استُبعد عدد ملموس من قيادات الحزب الكبيرة والـتأسيسية من المواقع القيادية في الحزب والحكم. وعلى خلفية من التحالف مع حزب الحركة القومية، أصبح الخطاب القومي للعدالة والتنمية أكثر بروزًا مما كان عليه في أية لحظة منذ تأسيس الحزب. ونظرًا لعودة الصراع مع حزب العمال الكردستاني، لم يجد العدالة والتنمية طريقًا بعد لاستعادة موقعه التقليدي في أوساط الناخبين الأكراد المحافظين.

كانت هذه الانتخابات، بعبارة أخرى، فرصة العدالة والتنمية للقول بأنه لم يزل حزب الأغلبية الشعبية، وأن قاعدته الانتخابية ليست عابرة للطبقات وحسب، بل وللمناطق والإثنيات كذلك. ولأن الساحة السياسة تمور بشائعات سعي عدد من قيادات العدالة والتنمية البارزة السابقة لتأسيس حزب سياسي محافظ جديد، أراد أردوغان من الانتخابات المحلية حسم الجدل حول توافر مساحة فراغ سياسي لحزب من هذا القبيل.

حزب الشعب الجمهوري، من ناحية أخرى، لم يزل يسعى لإيجاد الرافعة المناسبة التي قد تمكِّنه يومًا من الانتقال من موقع المعارضة إلى مقاعد الحكم. وبالنظر إلى أن استطلاعات الرأي السابقة على يوم الانتخابات أشارت إلى حدة الصراع على بلديات أنقرة وإسطنبول وبورصة، أراد الشعب الجمهوري القول بأنه ليس منافسًا على بلديات مدن حوض بجر إيجة وحسب، ولكن باستطاعته أيضًا الفوز بثقة الناخبين في بلديات حُسبت تقليديًّا لصالح المعسكر المحافظ والإسلامي.

في هذه الانتخابات، استهدف الشعب الجمهوري توكيد منحنى التراجع الانتخابي للعدالة والتنمية، والعودة إلى المنافسة الفعلية على حكم البلاد. كما أخذ توجه داخل الحزب في التبلور يجادل بأن على الشعب الجمهوري تبني سياسة تدعو إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، في حال فوز مرشحيه في بلديات المدن الكبرى، مثل إسطنبول وأنقرة، إضافة إلى إزمير التي تذهب تقليديًّا للشعب الجمهوري.

أهداف حزبي الحركة القومية والجيد مختلفة قليلًا؛ فالأخير هو في جذوره انشقاق عن الأول، وكانت الحسابات في الانتخابات البرلمانية السابقة أن هذا الانشقاق سيحرم الحركة القومية من تجاوز عتبة العشرة بالمئة الضرورية لدخول البرلمان. ولكن الحركة القومية كذبت التوقعات، ونجحت في تجاوز العتبة البرلمانية التمثيلية، مؤكدة على أن الانشقاق لم يؤثِّر كثيرًا على موقعها الانتخابي. هذه الانتخابات كانت فرصة الحركة القومية للقول بأن حظوظه الانتخابية هي بالفعل أكبر من الانشقاق، وأن تحالفه مع العدالة والتنمية كان الخيار السياسي الصحيح من وجهة نظر قاعدته الانتخابية التقليدية. في المقابل، أراد الحزب الجيد أن يحظى بأكبر عدد ممكن من مواقع التمثيل في المجالس المحلية والبلديات، كما نجح من قبل في دخول البرلمان. بذلك، يقول الحزب للناخبين، كما لأطراف الساحة السياسية، إنه وُجد ليبقى، وإنه ليس ظاهرة سياسية عابرة.

أما حزب الشعوب الديمقراطي، الذي تعرَّض لهجوم قضائي وسياسي واسع النطاق خلال السنوات القليلة الماضية، سيما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، فنظر إلى الانتخابات المحلية باعتبارها واحدة من معارك الوجود الرئيسة. عدد من قادة الحزب لا يزال في السجن بانتظار المحاكمة، وعدد آخر قد حُكم عليه بالفعل. كما أن رؤساء بلديات ينتمون للحزب جُرِّدوا من مناصبهم، وَوُضعت بلدياتهم في يد مجالس أمناء انتقالية لإدارتها. ولذا، فقد كانت الانتخابات المحلية فرصة الحزب للتوكيد على أنه لم يزل يمثِّل شريحة ملموسة من القاعدة الانتخابية الكردية، وأن باستطاعته استعادة البلديات التي جُرِّد منها بغير معركة انتخابية.

المنافس الجدي الآخر في هذه الانتخابات، كان حزب السعادة، الذي يتمتع بقاعدة تصويتية صغيرة ومحدودة، وأخفق طوال العقدين الماضيين في تحقيق أي صعود ملموس في حظوظه الانتخابية. كما حزب الشعوب الديمقراطي، يخوض السعادة الانتخابات منفردًا ولكن ثمة اعتقاد برز في صفوف قيادته بأن العدالة والتنمية خسر قطاعًا معتبرًا من الصوت الإسلامي في السنوات القليلة الماضية، وأنه المرشح الوحيد لتلقي دعم هؤلاء المنفضِّين عن العدالة والتنمية. وقد راهن السعادة منذ بداية الحملة الانتخابية على إيقاع الهزيمة بمرشح العدالة والتنمية لرئاسة بلدية أورفة، الصناعية، المحافظة.      

الساحة الانتخابية
دارت المعركة الانتخابية على ساحة واسعة النطاق، وبالغة التعدد السياسي والاجتماعي. من جهة، هناك المعركة الرئيسة، التي تجذب عادة الاهتمام الإعلامي الأكبر، على رئاسة ومجالس بلديات المدن الثلاثين الكبرى (ما تُعرف بالمتروبوليتيات الثلاثين)، بما في ذلك الخمس الأكبر: إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وبورصة، وأضنة. كما تشمل المعركة الانتخابية 1318 بلدية ومنطقة ومجلسًا محليًّا أصغر كذلك. في مجموعها، تطول الانتخابات 20500 عضو في مجالس البلديات الرئيسة، و1251 عضوًا في مجالس المدن الصغيرة (التي يقل سكان كل منها عن ثلاثة أرباع المليون نسمة).

تكتسب المعركة على هذه المواقع، عمومًا، طابعًا سياسيًّا حزبيًّا، بالرغم من وجود عدد من المرشحين المستقلين، الذين تتفاوت حظوظهم من منطقة إلى أخرى، ومن معركة انتخابية إلى أخرى. هذا لا يعني، بالطبع، أن ثمة عوامل وقوى غير سياسية تلعب دورًا مهمًّا أيضًا في تحديد النتائج، مثل: العلاقات العائلية، وتقدير الناخبين لنزاهة وكفاءة المجالس البلدية السابقة، والجاذبية المحلية لبرامج المرشحين. فهذه، في النهاية، ومهما كانت دلالاتها السياسية، انتخابات محلية لإدارة شؤون محلية. من جهة أخرى، لا تُعتبر انتخابات المخاتير، أي عمد النواحي والحارات الصغيرة، على الأغلب، سياسية ولا حزبية الطابع. ولكن أحدًا لا ينظر إلى انتخابات المخاتير باعتبارها مؤشرًا سياسيًّا، على أية حال.

وربما كانت نتائج الانتخابات المحلية السابقة، 2014، واحدة من أفضل إنجازات العدالة والتنمية في المحليات، ليس فقط لحجم وعدد البلديات التي نجح الحزب في تحقيق الانتصار فيها، ولكن أيضًا لأن انتخابات 2014 أُجريت مباشرة بعد اندلاع الصراع بين العدالة والتنمية وجماعة غولن، التي بالغ كثير من المراقبين في تأثيرها على حظوظ العدالة والتنمية الانتخابية. لم يكن الحزب الجيد قد أُسِّس بعد في 2014، ولا كانت النتائج التي حققها السعادة ذات أثر ملموس. ولذا، فإن مقارنة نتائج تلك الانتخابات تقتصر على الأحزاب الأربعة الرئيسة آنذاك: العدالة والتنمية، وحزب الشعب، وحزب الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطية، التي خاضت المعركة الانتخابية بصورة منفردة ودون تحالفات.

في 2014، حقق العدالة والتنمية انتصارًا في المنافسة على 18 من رئاسات بلديات المدن الثلاثين الكبيرة، وحصل مرشحوه على 800 موقع في المجالس المحلية المختلفة، بينما فاز حزب الشعب برئاسة 6 بلديات وعضوية 226 مجلسًا. وفاز الحزب القومي برئاسة 3 بلديات فقط، وعضوية 166 مجلسًا. وفاز حزب الشعوب الديمقراطي برئاسة بلديتين، وعضوية 97 مجلسًا، إضافة إلى رئاسة بلدية واحدة أخرى، فاز فيها مستقل من ذات الخلفية القومية الكردية.

وقد أعطى 17.8 مليونًا من الناخبين أصواتهم للعدالة والتنمية، بنسبة تصويت بلغت 45%، بينما أعطى 10.9 ملايين أصواتهم لحزب الشعب الجمهوري بنسبة 28 بالمئة، و7.4 ملايين للحزب القومي بنسبة 15 بالمئة، و2.6 مليونًا لحزب الشعوب الديمقراطي وحلفائه بنسبة 6 بالمئة. وكان الملاحظ أن نسبة التصويت لحزبي العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري كانت أعلى بصورة واضحة في المدن الكبرى منها في عموم البلاد.

في المدن الخمس الكبرى: إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وبورصة، وأضنة، فاز العدالة والتنمية برئاسة بلديات ثلاث مدن، بينما فاز الشعب الجمهوري برئاسة بلدية إزمير، وحزب الحركة القومية برئاسة بلدية أضنة، المعقلين التقليديين لكلا الحزبين. فكيف جاءت نتائج هذه الجولة الأخيرة من الانتخابات المحلية، من تراجعت حظوظه فيها، ومن بإمكانه ادعاء الانتصار؟

نتائج أولوية
بخلاف معظم الديمقراطيات في العالم، التي لا تعرف عادة إقبالًا كبيرًا على التصويت في الانتخابات المحلية، توجه المواطنون الأتراك نحو مقار الاقتراع يوم الأحد، 31 مارس/آذار (2019)، بأعداد غير مسبوقة في أية انتخابات محلية سابقة. بين 57 مليونًا ممن يحق لهم الاقتراع، وصلت نسبة من أدلوا بأصواتهم إلى 84 بالمئة. نحو 45 بالمئة من المقترعين أعطوا أصواتهم لحزب العدالة والتنمية، 30 بالمئة لحزب الشعب الجمهوري، 7.4 بالمئة للحزب الجيد، 6.8 لحزب الحركة القومية، 4 بالمئة لحزب الشعوب الديمقراطية، و2.1 فقط لحزب السعادة.

بهذا التوزيع للأصوات، يبدو أن حزب العدالة والتنمية حافظ على نسبة الأصوات ذاتها التي حققها في 2014، بينما رفع حزب الشعب الجمهوري نصيبه نقطتين مئويتين. ثمة تراجع كبير في حصة الحزب القومي عمَّا حازه من الأصوات في 2014، وتراجع مشابه في حصة حزب الشعوب الديمقراطية، كردي التوجه. الحزب الجيد، الذي لم يكن قد أُسِّس في 2014، تراجعت نسبة من صوَّتوا له هذه المرة بما يقارب 3 نقاط مئوية عن نسبة داعميه في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في العام الماضي. أما حزب السعادة الإسلامي فلم يحرز أي تقدم ملموس في نصيبه المعتاد من أصوات الناخبين.

على مستوى البلديات، جاءت النتائج مختلفة، حاملة أنباء غير سارة لحزب العدالة والتنمية الحاكم. حتى بعد فرز 99 بالمئة من أصوات إسطنبول، لم تحسم رئاسة بلدية المدينة لأي من المرشحين الرئيسيين المتنافسين: مرشح العدالة والتنمية ومرشح حزب الشعب الجمهوري. ولم يعد مستبعدًا أن تذهب المدينة إلى مرشح المعارضة أو إلى إعادة فرز للأصوات، ربما مرة أخرى أو مرتين، إلى أن تصل إلى المحكمة العليا لحسمها. إحدى المشاكل التي ستواجه إعادة الفرز هي بالتأكيد النظر من جديد في الأصوات التي أُبطلت، والتي تجاوزت المئتي ألف صوت.

خسر العدالة والتنمية رئاسة بلدية أنقرة، بفارق 3 بالمئة من الأصوات، وخسر حلفاؤه في الحركة القومية رئاسة بلدية معقلهم الرئيس في أضنة، بفارق 10 بالمئة من الأصوات. في إزمير، التي خاض معركتها وزير سابق من العدالة والتنمية في مواجهة مرشح حزب الشعب الجمهوري، استطاع الأخير المحافظة على رئاسة بلديتها بفارق مريح، بلغ العشرين بالمئة من الأصوات. بمعنى، أن العدالة والتنمية وحليفه في الحزب القومي دخلوا الانتخابات وهم يرأسون أربع بلديات من الخمس الكبرى، وخرجوا منها برئاسة بلدية بورصة فقط، وبفارق ضئيل من الأصوات، بينما تبقى إسطنبول مؤجلة إلى أن تُحسم بهذه الطريقة أو تلك.

على مستوى أوسع قليلًا، مستوى البلديات الثلاثين الكبيرة في البلاد، تراجع نصيب العدالة والتنمية من رئاسة بلديات 18 إلى 15 مدينة، وتراجع حزب الحركة القومية من 3 إلى واحدة، بينما حقق الشعب الجمهوري الفوز في رئاسة 10 بلديات (بزيادة 4 عن انتخابات 2014). وقد أكد حزب الشعوب الديمقراطية موقعه بالفوز في رئاسة 3 بلديات من مدن الأغلبية الكردية. في المقابل، أخفق كل من الحزب الجيد وحزب السعادة في الفوز بأي من بلديات الثلاثين الكبيرة.

واحدة من النتائج التي حملت بعض العزاء للعدالة والتنمية كانت انتزاعه بلدية شرناق، الكردية، من حزب الشعوب الديمقراطية، ومحافظته على نسبة تصويت مرتفعة نسبيًّا في مناطق الأغلبية الكردية، جنوب شرقي البلاد، بعكس كافة التوقعات السابقة على الانتخابات. كما أنه لم يزل يحتفظ بالأغلبية في عضوية مجلسي بلديتي أنقرة وإسطنبول. إضافة إلى أنه لم يزل يقود ما يزيد عن خمسين بالمئة من كافة البلديات على المستوى الوطني.

المؤكد، على أية حال، أن قطاعًا ملموسًا من الصوت الكردي القومي، المؤيد لحزب الشعوب الديمقراطية في مدينة إسطنبول (التي يقطنها ما يزيد على مليونين من المواطنين الأتراك من خلفية كردية)، ذهبت لمرشح الشعب الجمهوري. هذا، بالرغم من أن مرشح العدالة والتنمية، بن علي يلدرم، رئيس الحكومة السابق، يعود إلى أصول كردية. وقد سُجِّل هذا التصويت الكردي التكتيكي في عدة مدن أخرى، بما في ذلك أضنة، التي كان فوز حزب الشعب الجمهوري فيها مفاجئًا وكبيرًا.

وربما كان الصوت الكردي أحد الأسباب الرئيسة خلف النتيجة المتقاربة وغير الحاسمة لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى. كما أن المؤكد، بالرغم من عدم توافر أرقام دقيقة بعد، أن نسبة أصوات العدالة والتنمية في المدن الثلاثين الكبرى تراجعت عن تلك التي حققها في 2014. وهذه بالذات، أي تخلي قطاع ملموس من سكان المدن عن دعم العدالة والتنمية، ما بدأت ملاحظته منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية للنظام الرئاسي في 2017. فما تكشفه نتائج هذه الجولة من الانتخابات المحلية أن العدالة والتنمية أخفق مرة أخرى في استعادة هذه الشريحة المهمة، والمتزايدة حجمًا، من سكان المدن.

المهم ملاحظته، على أية حال، أن هذه النتائج لم تزل أولية، وليست رسمية بعد. بمعنى أن هذه النتائج التي بثتها وكالة أنباء الأناضول، واعتمدتها وسائل الإعلام المختلفة، وليست تلك التي أعلنت عنها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات. كما أن هذه نتائج فرز ما يزيد قليلًا عن 90 بالمئة من أصوات الناخبين، وليست كل الأصوات بعد. النتائج النهائية، الرسمية، إن حُسمت إسطنبول بصورة مبكرة، قد تتطلب أسبوعًا آخر قبل أن تُعلن.

دلالات
بالرغم من أن الرئيس أردوغان حقق التفافًا شعبيًّا هائلًا بفعل موقفه من محاولة الانقلاب الفاشلة في صيف العام نفسه، إلا أن إصراره على تغيير نظام الحكم في الشهور القليلة التالية إلى نظام رئاسي لم يجد ترحيبًا من شرائح مهمة بين مناصري العدالة والتنمية، الذين دعموا وجوده في الحكم طوال الفترة منذ 2002.

جزء من هؤلاء يعبِّر عن أبناء الطبقة الوسطى الحضرية، الذين تلقوا تعليمًا جيدًا، من مهنيين وأصحاب أعمال، ويحملون توجهًا محافظًا بدرجات متفاوتة. وجزء يعبِّر عن قطاع من الليبراليين، غير المتشددين، الذين وجدوا في العدالة والتنمية جدارًا صلبًا في مواجهة التدخلات العسكرية في الحكم، وضمانة آمنة لحماية الديمقراطية التركية. يضاف إلى هاتين الشريحتين الاجتماعيتين قطاع من الإسلاميين، الذين رأوا أن حكم العدالة والتنمية يزداد تحكمًا وأن قيادته لم تعد تمثل كافة أطياف المعسكر المحافظ. أحجم هؤلاء عن إعطاء أصواتهم لصالح التعديلات الدستورية الخاصة بالنظام الرئاسي، كما كان واضحًا أن قطاعات ملموسة منهم لم تصوِّت للعدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

بيد أن صعوبات العدالة والتنمية الانتخابية لم تنته هنا؛ فمنذ تصاعد الصراع من جديد بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، سواء في جنوب شرقي البلاد أو في مناطق الشمال السوري، أخذ خطاب العدالة والتنمية يكتسب لهجة قومية تركية لم تكن تُسمَع من قادته ووزرائه من قبل. ولم يعمل التحالف مع حزب الحركة القومية إلا على ازدياد هذه اللهجة حدة.

ولم تتضح الصعوبات الانتخابية أمام العدالة والتنمية كاملة كما اتضحت في المعركة على رئاسة بلدية إسطنبول، التي يُنظَر إليها عادة باعتبارها صورة مصغرة عن تركيا. إسطنبول هي مهد العدالة والتنمية، وفيها صعد نجم زعيم الحزب ومؤسسه، الرئيس أردوغان، منذ انتخابه شابًّا لرئاسة بلدية المدينة في 1994. وقد ظلت رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى في يد العدالة والتنمية، كما رئاسة أغلب بلديات المدينة الأصغر، منذ تأسيس الحزب في 2001.

أن تنتهي انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول إلى الخسارة أمام مرشح الشعب الجمهوري (الشخصية المغمورة مقارنة ببن علي يلدرم، مرشح العدالة والتنمية، الوزير ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان السابق)، أو حتى إلى عدم الحسم، فلابد أن خللًا فادحًا وقع في علاقة العدالة والتنمية بناخبيه. بمعنى أن لا أصوات العدالة والتنمية، ولا أصوات حلفائه في حزب الحركة القومية، استطاعت معًا، وللمرة الأولى، حسم معركة رئاسة بلدية المدينة، التي لا تعتبر مدينة العدالة والتنمية الأم وحسب، بل والمدينة التي ضخَّت فيها حكومته من الاستثمارات ما لم تضخه في أية مدينة أخرى.

أعطت هذه الجولة الانتخابية صورة مضيئة عن ثقة الديمقراطية التركية بنفسها. فالحزب الذي يحكم البلاد منذ 2002 أجرى انتخابات شفافة إلى حدٍّ كبير، وكانت لديه الشجاعة الكافية للاعتراف بأن نتائجها لم تأت كما كان يأمل، بالرغم من الحملة الانتخابية الهائلة التي تعهدها الحزب ورئيسه في الأسابيع القليلة التي سبقت اليوم الانتخابي. هذه تُحسب للعدالة والتنمية، بلا شك. بيد أن ذلك يجب ألا يُخفي ضرورة قيام الحزب بمراجعات عميقة لسياساته واستراتيجياته الانتخابية إن كان له أن يحقق نتائج أفضل في المرة المقبلة.