
في ظل تحوُّلات جيوسياسية عميقة تشهدها منطقة الساحل الإفريقي، تُعيد روسيا تشكيل أدواتها الدبلوماسية لتعزيز نفوذها في واحدة من أكثر المناطق اضطرابًا في العالم. فبعد عقود من التركيز على العلاقات الثنائية مع دول إفريقية فردية، أطلقت موسكو مبادرة منذ نحو عامين "إدارة الشراكة مع إفريقيا" التابعة لوزارة الخارجية الروسية، كآلية جديدة تهدف إلى التعامل مع المنظمات الإقليمية ككيان موحَّد، بدلًا من الدول المنفردة. وقد اعتُمدت ضمن هيكل وزارة الخارجية الروسية، في فبراير/شباط 2025، بحسب ما صرَّح به وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف(1).
تُركِّز هذه الإدارة، التي تترأسها الدبلوماسية، تاتيانا دوفغالينكو، على تعزيز العلاقات مع "تحالف دول الساحل" الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي دول تواجه تحديات أمنية واقتصادية متشابهة. ويأتي افتتاح بعثة دائمة روسية في باماكو، عاصمة مالي، خطوة رمزية وإستراتيجية في آنٍ واحد. فاختيار باماكو مقرًّا للبعثة يُعزى إلى موقعها مركزًا جيوسياسيًّا في المنطقة، فضلًا عن كونها عاصمة لأول دولة في الساحل أعلنت شراكتها العسكرية مع روسيا عبر "مجموعة فاغنر" شبه العسكرية(2).
يأتي هذا التحرك في إطار السعي الروسي لترسيخ وجود إستراتيجي في إقليم الساحل الإفريقي، الذي يُعد بوابة حيوية لامتداد النفوذ نحو العمق الإفريقي، لاسيما في مواجهة التنافس مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا.
وقد تبلورت فكرة الكونفيدرالية عقب سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدول الثلاث بين عامي 2020 و2023، والتي أعلنت حكوماتها الجديدة قطع العلاقات مع الشركاء التقليديين مثل فرنسا، والسعي لبناء تحالفات بديلة. يهدف هذا التكتل إلى توحيد الجهود لمواجهة التهديدات الأمنية المتمثلة في الجماعات المسلحة المنتشرة في منطقة الساحل، بالإضافة إلى التصدي للضغوط الغربية التي تُوصف من قبل هذه الحكومات بـ"الاستعمار الجديد". كما يُنظر إلى الكونفيدرالية درعًا واقية ضد تدخلات دول الجوار الإفريقي المرتبطة بمنظمة الإيكواس، التي تفرض عقوبات اقتصادية على الدول المنقلبة.
رغم الطموحات السياسية، يواجه التحالف عقبات اقتصادية جوهرية، أبرزها عدم توافق البنى التحتية المالية مع أهداف التكامل. فالعملة الموحدة لغرب إفريقيا (فرنك الإيكواس) لا تزال تُستخدم في المعاملات الرسمية؛ مما يعيق جهود الدول الثلاث لخلق نظام نقدي مستقل. كما تفرض دول الإيكواس تعريفات جمركية على تجارة هذه الدول، في غياب آليات اقتصادية موازية تدعم التبادل التجاري بين أعضاء الكونفيدرالية. هذا الوضع يخلق تناقضًا بين الإرادة السياسية للانفصال عن النمط الاستعماري والواقع الاقتصادي المرتبط بمراكز القرار في أوروبا. وتحاول روسيا التي تواجه عقوبات اقتصادية حادة بعد اشتعال الحرب مع أوكرانيا أن تضع الأسس الإستراتيجية مقابل منافسيها التقليديين.
من الناحية الهيكلية، تُشير الخطط الروسية إلى تعيين دبلوماسي برتبة سفير لإدارة هذه البعثة، بدلًا من دمج مهامها مع السفارات الموجودة في الدول المجاورة. هذا القرار يعكس رغبة الكرملين في منح الأولوية للتفاعل مع التحالف الإقليمي ككيان مستقل، مع الحفاظ على تنسيق وثيق مع الحكومات المحلية في نيامي وواغادوغو. ومن المتوقع أن تعمل هذه البعثة جسرًا لتعزيز التعاون في مجالات الأمن والطاقة والتجارة، مع إمكانية توسيعها لاحقًا لتصبح مركزًا إقليميًّا للتنسيق الروسي في غرب إفريقيا.
وقد يكون السبب وراء الإستراتيجية الروسية هو استغلال ضعف الموارد للدول الثلاث في مواجهة التحديات الاقتصادية والتهديدات الأمنية فيكون الاتحاد وظيفته التكامل أمام التحديات ككيان واحد؛ مما يجعل التكامل الكونفيدرالي خيارًا لتعزيز القدرات عبر ترشيد استخدام الموارد. فمالي والنيجر، على سبيل المثال، تعانيان من شح التمويل اللازم لمحاربة الجماعات المسلحة والحركات الانفصالية. بينما تواجه بوركينا فاسو أزمات اجتماعية حادة. هنا، تقدم موسكو نفسها حليفًا بديلًا يوفر الدعم دون شروط سياسية صارمة، مقابل ضمان موطئ قدم إستراتيجي في منطقة غنية بالموارد الطبيعية ومهمة في خريطة النقل العالمي.
تراجع النفوذ الفرنسي وصعود الحضور الروسي-التركي
السياق الأوسع للتوجهات الروسية يتجلى في تراجع النفوذ الفرنسي والأوروبي في المنطقة، الذي بدأ مع انسحاب فرنسا من مالي، عام 2022، وتصاعد المشاعر المعادية للغرب. هنا، وجدت روسيا فرصة لملء الفراغ عبر تقديم نفسها شريكًا بديلًا، يعتمد على خطاب مناهضة الاستعمار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما يتناقض مع النهج الأوروبي الذي غالبًا ما ربط المساعدات بشروط سياسية.
شهدت منطقة الساحل الإفريقي تحولًا جذريًّا في موازين القوى منذ عام 2020، مع تصاعد المطالبات بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي الذي بدأ عام 2013 عبر "عملية سيرفال" لمحاربة الجماعات الجهادية في مالي، والتي تحولت لاحقًا إلى "عملية برخان"، عام 2014، لتمتد إلى دول الساحل. لكن تصاعد السخط الشعبي ضد باريس، الذي غذَّته اتهامات بـاستمرار النهج الاستعماري، تزامن مع سلسلة الانقلابات العسكرية والتي تبعها إعلان من الحكومات الجديدة بقطع التعاون الأمني مع فرنسا؛ ما دفع باريس إلى إنهاء "عملية برخان" رسميًّا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022(3)، تلاها انسحاب كامل من مالي، في فبراير/شباط 2023، ومن بوركينا فاسو، أيضًا في فبراير/شباط 2023، ومن النيجر، في ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد طرد السفير الفرنسي(4)؛ وهو اتجاه عام يسعى إلى تحقيق سيادة وطنية.
وكنتيجة لذلك الفراغ، برزت روسيا لاعبًا رئيسيًّا بالتوازي مع الانسحاب الفرنسي، وذلك عبر شركة فاغنر شبه العسكرية، التي دخلت مالي رسميًّا، في ديسمبر/كانون الأول 2021، بعقد أمني يشمل التدريب وتوريد الأسلحة. وبحلول 2022، انتشر قرابة ألف وخمسمئة عنصر من "فاغنر" في مالي، مع توقيع اتفاقيات مماثلة مع بوركينا فاسو والنيجر، عام 2023؛ حيث قدمت موسكو دعمًا عسكريًّا واستخباراتيًّا مقابل امتيازات في قطاعات التعدين(5).
أما تركيا فقد وقَّعت، في سبتمبر/أيلول 2020، اتفاقية مع مالي لتزويدها بطائرات بيرقدار TB2 المُسيَّرة. ومنذ ذلك الحين، حصلت مالي على ما لا يقل عن 17 طائرة بيرقدار TB2 مُسيَّرة من تركيا، مع استمرار عمليات التسليم حتى عام 2023 وأوائل عام 2024. هذه الطائرات مُجهَّزة بأنظمة استهداف كهروضوئية تركية متطورة من إنتاج شركة أسيلسان؛ مما يُعزز قدرات مالي في مجال الاستطلاع والمراقبة والضربات الجوية الدقيقة ضد الجماعات المسلحة والمتمردة(6).
فيما أنشأت تركيا مركز عمليات بالنيجر في إطار إستراتيجية أوسع لتعزيز النفوذ التركي في إفريقيا، مستفيدة من تراجع النفوذ الفرنسي. وتنظر تركيا إلى النيجر، الواقعة بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، نقطة إستراتيجية في دعم المصالح الاقتصادية التركية في مجالات الذهب والنفط واليورانيوم. وقد شهدت العلاقات الثنائية قفزة نوعية، في يوليو/تموز 2024، بزيارة رفيعة المستوى شملت مسؤولين أمنيين ودبلوماسيين واقتصاديين أتراكًا، جرى خلالها توقيع اتفاقيات متعددة، بما في ذلك اتفاق تعاون استخباراتي. ووفرت أنقرة مساعدات عسكرية شملت طائرات بيرقدار TB2 ومعدات أخرى، كما سهَّلت دخول شركات تركية إلى قطاعي الطاقة والمعادن. ويعزز هذا التوجه نشاط مؤسسات تركية حكومية مثل وكالة التعاون (TİKA) ومؤسسة المعارف ومؤسسة الشؤون الدينية (TDV)(7)؛ مما يؤكد أن النهج التركي شامل بأبعاد متعددة المجالات(8).
في المقابل، تعيد فرنسا رسم إستراتيجيتها العسكرية في إفريقيا في ظل تصاعد المشاعر المعادية لها وصعود أنظمة عسكرية وطنية انقلبت على الأنظمة الحاكمة المقربة لها، وذلك من خلال إعادة تنظيم وجودها العسكري وتكييفه مع المتغيرات الجديدة. تشمل الإستراتيجية تقليص عدد القوات، وتحويل القواعد إلى مراكز تدريب تُدار بشكل مشترك مع الجيوش المحلية(9)، وتوسيع التعاون في مجالات التدريب والدعم اللوجستي وتزويد المعدات(10).
ووفق تقديرات استخبارية، في يونيو/حزيران 2024، خُفِّض عدد القوات الفرنسية بشكل ملحوظ، باستثناء جيبوتي، لتصل إلى نحو مئة جندي في السنغال والغابون، و600 في ساحل العاج، وثلاثمئة في تشاد. وفي هذا السياق، أنشأت باريس "القيادة الإفريقية الجديدة" (CPA) بقيادة الجنرال باسكال ياني، في أغسطس/آب 2024، لتطوير شراكات أمنية مرنة تتجاوز مستعمراتها السابقة، وتوسيع نفوذها في دول مثل غينيا، وموريتانيا، وبنين، والكاميرون، وتنزانيا. كما تدرس التعاون مع دول جنوب القارة مثل ناميبيا وبوتسوانا(11).
وفي وسط إعادة الهيكلة العسكرية التي تجريها فرنسا وبناء إستراتيجية جديدة، أعلن الرئيس الإيفواري، الحسن واتارا، نهاية عام 2024، سحب القوات الفرنسية؛ حيث قال: "لقد قررنا الانسحاب المنظم والمنسق للقوات العسكرية الفرنسية في كوت ديفوار"، مؤكدًا تحديث الجيش الإيفواري سببًا رئيسيًّا لهذا القرار. فيما سيتم تسليم الكتيبة 43 مشاة البحرية، المتمركزة حاليًّا في ميناء بويت في مدينة أبيدجان، إلى القوات المسلحة الإيفوارية كجزء من هذا الانتقال. وكان هناك ما يقرب من ستمئة جندي فرنسي متمركز هناك قبل الإعلان(12). ويعطي ذلك دلالة أيضًا على اتجاه عام بتقليص العديد من الدول علاقاتها العسكرية مع فرنسا.
هذا التحول يأتي في ظل انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو من "إيكواس" وتوجهها نحو اتحاد كونفيدرالي مستقل عن النفوذ الفرنسي، إلى جانب قرارات سيادية مثل إلغاء النيجر اتفاقياتها مع الولايات المتحدة(13). وتُعد هذه التحولات اعترافًا بفشل فرنسا في تحقيق الأمن، خاصة بعد إخفاق عملية "برخان"، التي أطلقتها في 2013، والتي لم تنجح في كبح الجماعات الجهادية، بل أسهمت في نزوح ملايين المدنيين.
الأمن والاقتصاد ركيزة للإستراتيجية الروسية الجديدة
ترتكز الإستراتيجية الروسية في منطقة الساحل على دمج البعدين، الأمني والاقتصادي، ضمن نموذج تعاون متكامل، يعكس طموح موسكو لتعزيز نفوذها الإقليمي. فعلى المستوى الأمني، أعلنت روسيا خلال زيارة وزراء خارجية دول الساحل إلى موسكو، في أبريل/نيسان 2024، عن دعمها لتأسيس "قوة مشتركة" إقليمية تضم خمسة آلاف جندي، بهدف مواجهة تصاعد تهديدات الجماعات الجهادية والحركات الانفصالية، مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية(14).
ولا يقتصر الدعم الروسي على الجانب العسكري المباشر، بل يشمل أيضًا مجالات الاستخبارات، والتدريب، وتطوير البنية التحتية العسكرية، وذلك عبر شركات أمنية خاصة ذات طابع شبه رسمي. ورغم أن هذا الحضور لم يغيِّر بشكل جذري موازين القوى حتى الآن، فإنه يعكس توجهًا روسيًّا إستراتيجيًّا طويل الأمد لترسيخ دورها لاعبًا محوريًّا في معادلة الأمن الإقليمي بالساحل ويأتي بديلًا عن الدعم الاستخباري الذي كانت تقدمه كل من أميركا وفرنسا في السابق.
على الصعيد الاقتصادي، تسعى روسيا إلى تعزيز حضورها في دول الساحل من خلال مشاريع إستراتيجية، أبرزها في مجال الطاقة النووية المدنية. ففي كل من مالي وبوركينا فاسو، تُجرى مفاوضات لبناء مفاعلات نووية صغيرة من نوع (SMRs) لتوليد الكهرباء، وهي تقنية تروج لها موسكو كحل عملي لأزمات الطاقة المتفاقمة في المنطقة(15)؛ حيث سيمنح تنفيذ هذه المشاريع نفوذًا طويل الأمد لروسيا، ليس فقط في قطاع الطاقة، بل أيضًا كبوابة للتوسع في مجالات أخرى مثل التعدين، خاصة في ما يتعلق بالذهب واليورانيوم، إضافة إلى تطوير مشاريع البنية التحتية.
ومع أن موسكو تحاول الدفع بعلاقات التعاون الاقتصادي، إلا أن هذه الجهود تواجه تحديات معقدة، أبرزها العقوبات الغربية المفروضة على روسيا منذ غزو أوكرانيا، في 2022، والتي تعيق تدفق الاستثمارات وتحركات الشركات الروسية في الأسواق الخارجية. كما أن المنافسة مع الصين، التي تُعد الشريك الاقتصادي الأكبر لعدد من الدول الإفريقية، تضع روسيا في موقع صعب من حيث القدرة على تقديم حوافز تجارية وتقنية مماثلة.
ومع ذلك، تراهن روسيا على ميزتين أساسيتين: الأولى هي تقديم نفسها شريكًا "غير مشروط"، لا يربط مساعداته بالإصلاحات السياسية أو معايير الحوكمة كما تفعل بعض القوى الأخرى؛ والثانية هي استغلال الموارد الطبيعية الغنية في إفريقيا وسيلة لتعويض خسائرها في الأسواق الأوروبية، ولبناء شراكات اقتصادية بديلة تُسهم في تنويع علاقاتها التجارية عالميًّا.
التحديات المحلية التي تواجه الإستراتيجية الروسية
على الرغم من الطموحات الروسية الواسعة في منطقة الساحل، إلا أن الإستراتيجية التي تتبعها موسكو تواجه عقبات متنوعة، تتراوح بين تحديات داخلية في دول المنطقة نفسها، ومنافسة إقليمية ودولية شرسة، وتداعيات جيوسياسية أوسع. فمن الناحية الداخلية، تُعاني دول الساحل من عدم استقرار سياسي مزمن، يتجلى في الانقلابات المتكررة، والصراعات بين النخب الحاكمة التي تُضعف تماسك الحكومات وتجعل الشراكة معها محفوفة بالمخاطر. يضاف إلى ذلك ضعف البنية التحتية في دول مثل مالي وبوركينا فاسو؛ حيث يُعيق نقص الطرق وشبكات الطاقة تنفيذ المشاريع الروسية الطموحة، ويرفع من تكاليفها بشكل كبير.
منذ الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل بين عامي 2020 و2023، اشتدت حدة العمليات العسكرية من قبل الجماعات الجهادية، لاسيما في مالي وبوركينا فاسو؛ حيث أسهمت الانقلابات في تفاقم التحديات الأمنية وارتفاع حاد في عدد القتلى والعنف في مناطق متعددة، بما في ذلك شمال وشرق بوركينا فاسو ومنطقة موبتي في مالي. وتُواجه قوات الأمن البوركينابية ضغوطًا هائلة؛ حيث تُكافح العنف الجهادي على جبهات متعددة، بينما يواصل الجهاديون تصعيد هجماتهم في مناطق أخرى.
أدى وجود هذه الجماعات المسلحة وأنشطتها إلى تقويض سلطة الحكومات المركزية وشرعيتها. ففي مالي، على سبيل المثال، انغمست جماعات جهادية مثل كتيبة ماسينا وأنصار الإسلام في النزاعات الاجتماعية المحلية وهياكل الحكم، مُقدِّمةً خدمات محدودة كالعدالة أو الأمن في المناطق التي تغيب فيها الدولة أو تكون غير فعَّالة. وقد أدى ذلك إلى وضع مُعقد حيث تتعاون الدولة بشكل غير رسمي مع بعض الجماعات المسلحة؛ مما زاد من تآكل سلطتها المحايدة وتعقيد الحوكمة(16).
ففي 11 مايو/أيار 2025، شنَّت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين هجومًا واسع النطاق بمشاركة مئات المقاتلين، وسيطرت مؤقتًا على العاصمة الإقليمية، جيبو. واجتاحت قواعد عسكرية، وقتلت أكثر من 100 جندي واختطفت العشرات، ودمرت البنية التحتية. وقد أجبر الهجوم الدعم الجوي البوركينابي على التراجع، وأظهر قدرة الجماعة المتنامية على حشد القوات واستهداف المدن المركزية(17). وسبقه كذلك هجوم منسق ضد عدد من المواقع العسكرية البنينية قرب حدود بوركينافاسو، في أبريل/نيسان 2025؛ مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 54 جنديًّا ونهب معدات عسكرية حيوية، بما في ذلك طائرات مسيرة وقذائف هاون. كان هذا الهجوم الأكثر دموية للجماعة في بنين حتى الآن، ومثَّل تصعيدًا كبيرًا لوجودها في المنطقة(18).
التحديات الإقليمية التي تواجه الإستراتيجية الروسية
أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فتتصاعد المنافسة مع الصين التي تسعى لبسط نفوذها في غرب إفريقيا. وتتفوق الصين على روسيا في القدرة التمويلية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، التي تهيمن من خلالها على مشاريع البنية التحتية الكبرى في القارة. وفي الوقت نفسه، تبرز تركيا لاعبًا نشطًا في المنطقة عبر استثماراتها في قطاعات الدفاع والبناء، مدعومةً بخطاب يجذب شرائح واسعة من الشعوب في تلك المنطقة ويجعلها أكثر قبولًا بالمقارنة مع روسيا. كما أن عضوية تركيا في حلف الناتو قد تجعل أميركا وأوروبا تفضل التنسيق مع تركيا في إفريقيا. من جهة أخرى، تحاول القوى الغربية، وخاصة فرنسا والاتحاد الأوروبي، استعادة نفوذها المتراجع عبر مبادرات مثل (قمة الاتحاد الأوروبي-إفريقيا 2024)، لكنها تواجه شكوكًا إفريقية عميقة تجاه سياساتها التي يُنظر إليها على أنها استعمارية.
على المستوى الجيوسياسي، تعكس الإستراتيجية الروسية في الساحل تحولًا في المشهد الدولي؛ حيث تزداد الدعوات الإفريقية لاعتماد نظام عالمي متعدد الأقطاب بدلًا من الهيمنة الغربية الأحادية. وفي هذا الإطار، تجد موسكو ضالتها في الخطاب المناهض للاستعمار حيث لا تملك تاريخًا سيئًا مع الدول الإفريقية، وهو الخطاب الذي يلقى صدى جيدًا لدى حكومات الساحل الساخطة على الوصاية الأوروبية.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع روسيا تحويل وعودها في منطقة الساحل إلى إنجازات واقعية؟ الإجابة على ذلك تعتمد بدرجة كبيرة على مدى قدرتها على تجاوز العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ غزو أوكرانيا، وتجنب التورط في الصراعات الداخلية المعقدة التي تعصف بالمنطقة، لاسيما في ظل تنامي العنف بين الجماعات المتمردة والتنظيمات المسلحة مثل "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" و"تنظيم الدولة الإسلامية"، وهي الجماعات التي تمارس سلطة فعلية في مساحات جغرافية واسعة في دول الساحل. فروسيا التي وضعت رهانًا على بشار الأسد في سوريا تجد نفسها اليوم في مأزق إستراتيجي في التعامل مع حكومة أحمد الشرع بعد سقوط نظام الأسد ما يجعلها في موضع ضعف في المستقبل بخلاف خسارة الموارد التي وجهت خلال السنوات الماضية.
فنجاح الإستراتيجية الروسية لا يكمن فقط في الحضور العسكري أو توقيع الاتفاقيات، بل في قدرتها على تقديم نموذج تنموي فعَّال ومستدام يُسهم في تحقيق قدر من الاستقرار والازدهار في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا. وعلى الرغم من أن موسكو تسعى لإعادة تقديم نفسها فاعلًا دوليًّا موثوقًا به، فإن البيئة المتقلبة في الساحل قد تُعقِّد من مسعاها. فإستراتيجيتها ليست مغامرة عابرة، بل جزءًا من طموح جيوسياسي واسع لإعادة تشكيل حضورها في إفريقيا. لكن النجاح الحقيقي لن يُقاس بعدد المشاريع أو الحلفاء، بل بمدى قدرتها على معالجة التحديات البنيوية في الأمن، والاقتصاد، والحكم الرشيد. وفي الوقت نفسه تحوُّل دول الساحل نحو شركاء جدد يُذكِّر الغرب بأن إفريقيا لم تعد ساحةً لـ"الاستعمار الجديد"؛ مما يؤكد أن إفريقيا لم تعد مجرد ساحة للتبعية، بل ميدانًا مفتوحًا لتنافس القوى العالمية وفق شروط يضعها الأفارقة أنفسهم.
[1] Foreign Minister Sergey Lavrov’s remarks at a presentation of the Department for Partnership with Africa, Moscow, February 4, 2025, The Ministry of Foreign Affairs of the Russian Federation, Feb 2025, https://mid.ru/en/foreign_policy/russia_africa/1994570/
2 Thompson, Jared, Catrina Doxsee, and Joseph S. Bermudez Jr. "Tracking the arrival of Russia’s Wagner Group in Mali." Center for Strategic and International Studies 2, no. 2 (2022). https://www.csis.org/analysis/tracking-arrival-russias-wagner-group-mali
3 Vincent, Elise. "After Ten Years, France to End Military Operation Barkhane in Sahel’." Le Monde 9 (2022). https://www.lemonde.fr/en/international/article/2022/11/09/after-ten-ye…
4 Reuters, Last French troops leave Niger as military cooperation officially ends, Dec 2023, https://www.reuters.com/world/africa/last-french-troops-leave-niger-mil…
5 Antonio Giustozzi, A Mixed Picture: How Mali Views the Wagner Group, RUSI, Mar 2024, https://www.rusi.org/explore-our-research/publications/commentary/mixed… && Thompson, Jared, Catrina Doxsee, and Joseph S. Bermudez Jr. "Tracking the arrival of Russia’s Wagner Group in Mali." Center for Strategic and International Studies 2, no. 2 (2022). https://www.csis.org/analysis/tracking-arrival-russias-wagner-group-mali
6 Guy Martin, Mali receives more Bayraktar TB2 UAVs, Defence Web, Jan 2024, https://www.defenceweb.co.za/aerospace/aerospace-aerospace/mali-receive…
7 Abdullah Bozkurt and Nordic Monitor, Turkish Intelligence Has Established an Operations Hub in Niger to Project Power Across Africa, Middle East Forum, Jan 2025, https://www.meforum.org/mef-online/turkish-intelligence-has-established…;
8 Demirtaş, T. U. N. Ç., and Ferhat Pirinççi. "Türkiye’s Security Policy in Sub-Saharan Africa." Insight Turkey 26, no. 3 (2024): 103-130. https://www.jstor.org/stable/48790774
9 Elise Vincent, French army works on finishing touches of reorganization in Africa, Lemonde, Jun 2024, https://www.lemonde.fr/en/international/article/2024/06/21/the-french-a…;
10 Pierre-Elie de Rohan Chabot, Paul Deutschmann, French military readies its African revolution, Africa Intelligence, Jun 2024, https://www.africaintelligence.com/west-africa/2024/06/18/french-milita…
11 France's new military command for Africa begins to take shape, Africa Intelligence, Nov 2024, https://www.africaintelligence.com/west-africa/2024/11/19/france-s-new-…
12 Oumar Sankare, French troops to withdraw from Ivory Coast: President, Anadolu Ajansı, Jan 2025, https://www.aa.com.tr/en/africa/french-troops-to-withdraw-from-ivory-co…
13 Rachel Chason and Omar Hama Saley, Niger junta announces end to military relationship with United States, The Washigngton Post, Mar 2024, https://archive.is/UQXO4#selection-285.0-296.0
14 Reuters, Russia vows military backing for Sahel juntas' joint force, Apr 2025, https://www.reuters.com/world/africa/russia-vows-military-backing-sahel…
15 Burkina Faso and Russia: Construction of a new nuclear power plant, Energy news, Oct 2023, https://energynews.pro/en/burkina-faso-and-russia-construction-of-a-new… && Elena Kachkova, Intellinews, Oct 2024, https://www.intellinews.com/russia-s-rosatom-to-support-nuclear-project…;
16 Tobie, Aurélien, and Boukary Sangaré. "The impact of armed groups on the populations of central and northern Mali." (2019). https://www.sipri.org/sites/default/files/2019-11/1910_sipri_report_the…
17 Major Jihadist Attack Exposes Military Failings in Burkina Faso, Crisis Group, 15 May 2025, https://www.crisisgroup.org/africa/sahel/burkina-faso/major-jihadist-at…
18 Benin: JNIM offensive drives a surge in violence to record levels, ACLED, May 2025, https://acleddata.com/2025/05/09/africa-overview-may-2025/?utm_source=r…