
مقدمة
أحدثت عملية "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من حرب إبادة إسرائيلية على قطاع غزة، التي قال عنها الطبيب النفسي اليهودي، غابور ماتي(Gabor Maté) : "إنها نقطة تحول للشر الإنساني"، رجَّة غير مسبوقة في أوساط الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية أكبر داعم لإسرائيل وتشكل معها المركزين اليهوديين في العالم. واحتدم نقاش داخلها بشأن عدد من القضايا، منها العلاقة بدولة الاحتلال والموقف من الصهيونية والنظرة للفلسطينيين...، وذلك بعد فشل السردية الإسرائيلية عبر العالم رغم الدعم الذي لقيته من وسائل الإعلام الكبرى في الغرب.
وتجدر الإشارة إلى أن نقاش القضايا المذكورة قديم متجدد، لكن "طوفان الأقصى" جعله يتطور ويتسع، ويشارك فيه طيف واسع من يهود الولايات المتحدة الأميركية، وهم غير متجانسين في النظرة والآراء، ولا يمكن اختزالهم في تلك المنظمات اليهودية الأميركية التي تدعي أنها تتحدث باسمهم، مثل "اللجنة اليهودية الأميركية" المعروفة اختصارًا (AIPAC)، أو "رابطة مكافحة التشهير". وقد كشفت المظاهرات التي نظَّمها اليهود الأميركيون المؤيدون للحق الفلسطيني مدى تراجع نفوذ هذه المؤسسات الرسمية، وهو نفوذ يبدو أنها لن تستطيع استرجاعه في ظل التحديات غير المسبوقة التي تواجهها، منها سؤال الجدوى من وجودها، واتهامها بالفشل، وسعي منظمات معارضة لها إلى إقامة مؤسسات بديلة.
يُجمع يهود الولايات المتحدة الأميركية على أن ما جرى في غزة وما يجري غيَّر كل شيء في حياتهم؛ فقد تغيرت نظرتهم إلى أنفسهم ونظرة الآخرين لهم وعلاقتهم بإسرائيل...، وتحدث بعضهم عمَّا يشبه حربًا أهلية أيديولوجية كانت كامنة فحمي وطيسها. لقد ترتب على الصدمة العنيفة التي زلزلت أركان الجماعة اليهودية تحول في نموذجها الإرشادي Paradigm Shift))(1)، أي حَدَثَ تغيرُ أفكار ومسلَّمات كانت سائدة فترة طويلة من الزمان. وقد تتغير فكرة علاقتهم بـ"الأرض الموعودة" من استيطانية إحلالية إلى علاقة روحية فحسب كما كانت قبل ظهور الصهيونية.
يهود الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل: نقاش لا ينقطع
منذ تأسيس إسرائيل، في 1948، لم ينقطع النقاش بينها وبين الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية في عدد من القضايا في مقدمتها المسألة الشائكة المتعلقة بالهوية، أي "من هو اليهودي؟"(2). وكانت الفجوة بين الطرفين تتسع أحيانًا وتضيق أخرى. إن طبيعة العلاقة بينهما جعلت كذلك النقاش في أوساط يهود الولايات المتحدة الأميركية لا يتوقف في شأن علاقتهم بإسرائيل وصورتها في العالم، والموقف من الصهيونية وغيرها من القضايا. ويبدو أن عملية "طوفان الأقصى" جعلت نقاش القضايا المشار إليها يشتد ويتسع بشكل غير مسبوق.
يصنِّف تقرير لمركز بيو للدراسات (Pew Research center) ما يقرب من 5.8 ملايين بالغ (2.4% من جميع البالغين في الولايات المتحدة) على أنهم يهود. ويشمل ذلك 4.2 ملايين (1.7%) يعرِّفون أنفسهم على أنهم يهود من حيث الدين و1.5 مليون يهودي بلا دين (0.6%). يتم تصنيف الأشخاص على أنهم "يهود بلا دين" إذا أجابوا عن سؤال عن دينهم الحالي بالقول إنهم ملحدون أو لا أدريون أو ليس لديهم دين على وجه التحديد؛ ويقولون إن لديهم أحد الوالدين اليهود أو نشؤوا يهودًا؛ ويرون أنفسهم يهودًا بطريقة ما بعيدًا عن الدين، مثل العرق أو الثقافة أو بسبب أصولهم العائلية.
فضلًا عن ذلك يوجد 2.8 مليون بالغ (1.1% من البالغين في الولايات المتحدة) لديهم أصول يهودية. كان لدى جميع هؤلاء البالغين أحد الوالدين اليهود على الأقل أو نشؤوا في بيئة يهودية، ولكن معظم الأشخاص في هذه الفئة، 1.9 مليون، يعرِّفون أنفسهم بدين آخر، مثل المسيحية. حوالي 700.000 ليس لديهم دين ولا يعدون أنفسهم يهودًا بأي شكل من الأشكال. ويحدد 200 ألف شخص آخرون هويتهم على أنهم يهود من حيث الديانة، ولكنهم يحددون أيضًا هويتهم بدين آخر(3). وهذا يثير المسألة القديمة المتجددة "من هو اليهودي؟".
تشكِّل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة أقوى جماعة ضغط (لوبي) لدعم سياسات الحكومة الإسرائيلية. وقد قدمت الباحثة لي أوبراين(Lee O’Brien) دراسة شاملة رصينة لتاريخ المنظمات اليهودية الأميركية وهيكلياتها وأنساق تمويلها. وما تورده المؤلفة عن دور إيباك (اللجنة الإسرائيلية الأميركية للشؤون العامة)، ومجموعة لجان العمل السياسي التي تدعم إسرائيل وتدافع عن مصالحها، يصلح أن يكون دليلًا سياسيًّا أوليًّا لاستخدام المال والطاقة، بصورة فعالة، للتأثير في النظام السياسي الأميركي، وفقًا لوليام سلون كوفين(William Sloane Coffin) في تقريضه للكتاب(4).
لقد كان لجهود إسرائيل منذ تأسيسها لتعريف وضع اليهود -المقنَّن في قانون العودة، الذي يُحدد أهلية الحصول على الجنسية الإسرائيلية- عواقب وخيمة على اليهود داخل حدودها وخارجها؛ مما جعلها نقطة خلاف دائمة بين إسرائيل واليهود الأميركيين عقدًا تلو الآخر.
في 2025، لا تزال مسألة "من هو اليهودي؟" متقلبة. وقد جلب سقوط الاتحاد السوفيتي، العام 1990، آلاف المهاجرين الجدد إلى إسرائيل، وكثير منهم لم يكونوا يهودًا وفقًا للشريعة الدينية. وبين عامي 1990 و2020، لم يُعَدَّ 36% من المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق يهودًا. واليوم، يوجد ما يقرب من 500 ألف إسرائيلي مسجلين رسميًا على أنهم "لا ينتمون إلى أي دين". وقد أصبح سؤال "من هو اليهودي؟" أكثر أهمية باعتباره قضية اجتماعية إسرائيلية مما كان عليه في 1988(5).
ومنذ ذلك الحين، اتسعت الفجوة بين يهود أميركا وإسرائيل. ووفقًا لدراسة أجراها مركز بيو، في 2021، فإن 70٪ من اليهود الأميركيين غير الأرثوذكس يتزاوجون. وهكذا لن تُعد أعداد متزايدة باستمرار من اليهود الأميركيين يهودًا بموجب الشريعة اليهودية.
إن الأزمة لم تكن تقنية فحسب. لقد كانت ولا تزال أزمة هوية، ودور إسرائيل موطنًا للشعب اليهودي، والرسالة التي ترسلها الدولة القومية إلى اليهود حول العالم عن معنى الانتماء(6).
كل شيء تغير منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023
لقد صدرت مجموعة متنوعة من الردود السياسية اليهودية على لحظة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. فبينما تبنى العديد من اليهود موقفًا متصاعدًا ومتفاعلًا في الدفاع عن إسرائيل، أصبح آخرون أكثر انتقادًا وتحديًا للسياسات الإسرائيلية والإجراءات العسكرية الإسرائيلية(7). ففي أعقاب هجمات حماس، لم تكن خطوط الصدع بين يهود أميركا والدولة اليهودية أكثر وضوحًا وخطورة من أي وقت مضى. وقد تفاقمت الأزمات المتشابكة التي تُحيط بالمركزين اليهوديين في العالم (إسرائيل ويهود الولايات المتحدة)(8).
رغم أن عددًا من الكتَّاب اليهود الأميركيين يؤكد أن كل شيء تغير منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، انقلابًا أدى إلى "تحول في الأنموذج"، يرى توماس فريدمان (Thomas Fridman) أن التغيير لم يحدث بعد. يبدو وفقًا لـ"نموذج كوبلر(The Kübler-Ross model) "، "المراحل الخمس للصدمة" أن الكاتب لا يريد أن يدرك ما حدث ويحدث، فقد يكون، من هول الصدمة، يتفادى النظر في المشكلة مباشرة، وفقد الاتصال بالواقع، وأصيب بالتشويش ويحاول أن يقنع نفسه بأن هذا لم يحدث فعلًا(9).
لكن فريدمان حذَّر من نُذر تغيير نظرة العالم لإسرائيل ولليهود بسبب الطريقة التي تخوض بها حربها في قطاع غزة، "وأن على مواطنيها و”يهود الشتات”وأصدقائها في كل مكان أن يدركوا ذلك". وهو يعتقد أن هذا المستقبل الذي يصفه بالبائس لم يَحِلَّ بعد، ولكن ملامحه تتجمع، وأن من لا يرى ذلك يخدع نفسه.
وفي حال، يقول فريدمان، مضى نتنياهو بتنفيذ وعيده بإطالة أمد الحرب في غزة إلى أجل غير مسمى، فإن فريدمان ينصح اليهود في جميع أنحاء العالم -في هذه الحالة- بأن يعدوا أنفسهم وأبناءهم وأحفادهم لواقع لم يعرفوه من قبل، وهو أن يكونوا يهودًا في عالم تكون فيه الدولة اليهودية كيانًا منبوذًا، ومصدر عار لا موضع فخر(10).
منذ "طوفان الأقصى" يعيش يهود الولايات المتحدة الأميركية، وفقًا لستيفن ويندمولر ) (Steven Windmuller " لحظة ظلام بدأت بشكل مشين في اليوم الأكثر دموية في التاريخ اليهودي منذ العام 1945". وأكد الباحث، وهو من الوجوه اليهودية المرموقة في الولايات المتحدة الأميركية، أن اليهود الأميركيين يشهدون تغييرًا جوهريًّا ليس في نظرتهم لأنفسهم فحسب، ولكن كذلك في نظرة الآخرين لهم، وأن عبارة "كل شيء تغير منذ 7 أكتوبر" لم تعد مجرد شعار.
وفي الوقت الذي يدور فيه هذا الصراع على الأرض في غزة، فإن له تأثيرًا عميقًا وأساسيًّا على اليهود في الولايات المتحدة. ولا شك أن تأثير هذه الأزمة عليهم قد تغير على مدى الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ مما أدى إلى تأثيرات مختلفة. وتجري الآن عملية إعادة تقويم أساسية للتجربة اليهودية الأميركية.
وتحدث ويندمولر عن لحظة جديدة من الزمن لليهود في الولايات المتحدة الأميركية؛ تشير إلى سلسلة من التمزقات في حياتهم بدأت آثارها في الظهور. وهي تشمل تحولات زلزالية في علاقتهم بإسرائيل، وكيفية تشكيلهم لتحالفات سياسية، وطريقتهم في أن يكونوا يهودًا في عالم يبدو أكثر رعبًا ووحدةً، والكلام لويندمولر، وبطرق مدهشة أكثر من أي وقت مضى.
وقسَّم ويندمولر حياة يهود الولايات المتحدة من السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى وقف إطلاق النار في 19 يناير/كانون الثاني 2025 بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزة إلى مراحل عدة. فقد مَرَّ اليهود الأميركيون بسلسلة من التجارب العاطفية والسياسية المميزة، وكانت كل مرحلة من هذه المراحل مميزة ومليئة بالتحديات:
- الصدمة (الأسابيع القليلة الأولى التي تلت 7 أكتوبر/تشرين الأول).
- التعبئة والوحدة (بلغت ذروتها مع المظاهرة في واشنطن في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) يقصد المظاهرة المؤيدة لإسرائيل.
- الأسئلة والتحديات (منذ وقف إطلاق النار، 23-30 نوفمبر/تشرين الثاني).
- عدم اليقين والقلق (بعض غِراء الوحدة يتفكك الآن مع احتمال نشوب حرب أوسع نطاقًا في الأفق).
ويقول ويندمولر: إن يهود الولايات المتحدة يدركون الأثر النفسي العميق الذي تركه الطوفان على الأفراد. وإن "يهود الشتات" لا يزال يعانون، جنبًا إلى جنب الإسرائيليين، من صدمة الأحداث التي أحاطت بالسابع من أكتوبر.
ورأى ويندمولر في مظاهرات الطلبة المؤيدين للقضية الفلسطينية، التي سماها" معاداة الصهيونية الجديدة" هجومًا منسقًا على الجامعات الأميركية(11).
وهذا ما بسط فيه الكلام بيتر بينارت (Peter Beinart) في كتابه "Being Jewish after the Destruction of Gaza A reckoning" (أن تكون يهوديًّا بعد تدمير غزة: تصفية حسابات)؛ إذ سعى عندما تناول مسألة "اللاسامية الجديدة" -وهي مسألة تخلط بين نقد الصهيونية ومعاداة السامية- إلى التشويش على تجربة حركة الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين من خلال استخدام أمثلة فردية عن قصد عن انزعاج الطلاب الصهاينة اليهود من الحركة المؤيدة لفلسطين.
يكتب "أخبرني العديد من الطلاب اليهود أنهم يخشون النبذ إذا ما دعموا إسرائيل علانية"، كما كتب لاحقًا: "لقد أصبح اليهود أحدث حلقة في سلسلة طويلة من الأميركيين الذين يعانون بسبب ارتباطنا بدولة أجنبية يكرهها بعض الأميركيين الآخرين".
ولكن هل يعاني اليهود الصهاينة في أميركا بسبب الإبادة الجماعية في غزة؟
سيكون من الصعب على المرء أن يجد مثالًا واحدًا على مؤيد لإسرائيل يفقد وظيفته أو تمويله أو فرصته الأكاديمية بسبب دعمه لإسرائيل. إن رواية بينارت يرفضها الطلاب اليهود المناهضين للصهيونية الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في جميع أنحاء البلاد. في الوقت الذي يتمتع فيه الطلاب اليهود الصهاينة بدعم إداريي الجامعات والطبقة المانحة والدولة -من البيت الأبيض إلى الشرطة-(12).
وهذا ما يؤكده بيان وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، يوم الاثنين، 30 يونيو/حزيران 2025، تتهم فيه جامعة هارفارد بانتهاك الباب السادس من قانون الحقوق المدنية لعام 1964 من خلال "التصرف بلا مبالاة متعمدة تجاه مضايقة الطلاب اليهود والإسرائيليين" بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويُعد هذا الإعلان تصعيدًا آخر في حملة الضغط التي تشنها إدارة ترامب ضد المؤسسة. ووفقًا لبيان صادر عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فإن "بيئة عدائية كانت ولا تزال موجودة في هارفارد"(13).
ليس الأمر أن بينارت لا يذكر أن الطلاب المؤيدين لفلسطين أكثر عرضة لإجراءات عقابية بسبب نشاطهم. بل إن إصراره على المراوغة والتلميح إلى أن كلا الجانبين ارتكب أخطاءً أو عانى أو يحتاج إلى إعطاء الأولوية للتفاعل عندما يحتج أحد الجانبين بشدة لإنهاء الإبادة الجماعية -بدعم علني وضغط من الطرف الآخر- هو ما يجعل حجته واهية.
في استقرائه لـ"معاداة السامية الجديدة"، الذي يشرح فيه كيف يقع الخلط المتعمد بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية، يخصص بينارت وقتًا لدراسة الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين التي اجتاحت الولايات المتحدة، والادعاءات بأن اليهود شعروا بعدم الأمان أثناءها. وهو ينعى على يهود العالم الذين حوَّلوا دولة إسرائيل إلى صنم، ويؤكد عبثية أن انتقاد إسرائيل أصبح أكثر تدنيسًا للمقدسات من مناقشة اليهودية نفسها. ويشير بينارت إلى أن مجموعة "هيليل" الطلابية الجامعية تصف إسرائيل بـأنها "عنصر أساسي في الحياة اليهودية"(14).
لاحظ ويندمولر أن لغة الشارع اليوم، هي لغة مقلقة ومثيرة للقلق في آن واحد. بما تحمله من تشويهات للصهيونية وتشويهات لليهودية ورفض صريح ل"الشعب اليهودي".
إن ما يسميه ويندمولر "الشعب اليهودي"، يرى فيه شلومو ساند(Shlomo Sand) ، وهو من المؤرخين الجدد، أسطورة اختلقتها الصهيونية وهي تقوم على فكرتين مصدرهما التاريخ التوراتي، الأولى: هي طرد الرومان لليهود، في سنة 70م: بعد تدمير الهيكل، والتي انبنت عليها أسطورة "الشتات اليهودي". أما الفكرة الثانية؛ فتدَّعي أن الدين اليهودي لم يكن دينًا تبشيريًّا، وهذا مؤداه أن "الشتات اليهودي" في العالم يعود إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطُردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثَّرت في نقاء "العرق اليهودي"(15).
ورأى ويندمولر أن هؤلاء اللاعبين (يقصد المؤيدين للقضية الفلسطينية) يحاولون إعادة كتابة الرواية اليهودية المتعلقة بـ"من نحن وما نمثله". كما هي الحال مع النازيين وغيرهم من الأعداء. وتسعى الرسائل التي ينقلها هؤلاء النشطاء إلى "إنكار وجودنا في أرض إسرائيل وارتباطنا التاريخي بهذا المكان المقدس. إن خصومنا في هذه اللحظة يدعون إلى إبادتنا الجماعية، وينحازون إلى أولئك الذين التزموا في فترات سابقة بالسعي إلى زوالنا".
وشدَّد ويندمولر في كلامه على أسطورة "الشعب الواحد"، الذي ذكَّرهم توالي أحداث 7 أكتوبر بمركزيته. لكن ويندمولر يقر بأنه "مع مرور الأسابيع والأشهر المقبلة، يتفكك إحساسنا بالوحدة اليهودية حيث نشهد اليوم انقسامًا عميقًا وصعبًا".
ويتحسر ويندمولر على انفضاض الحلفاء من حولهم؛ فقد فوجئ اليهود في الولايات المتحدة الأميركية بتراجع الدعم لهم أو لإسرائيل، وفي بعض الحالات من أصدقاء قدامى، وفي بعض الأوضاع الكراهية الصريحة التي يسلِّطها هؤلاء الحلفاء السابقون على إسرائيل والصهيونية واليهود الأميركيين. وتساءل: كيف يمكننا المضي قدمًا من هذه اللحظة؟ إلى أين "نذهب" سياسيًّا ونحن نواجه هذه الحقائق الجديدة؟
أما عن التداعيات الاقتصادية للطوفان على يهود الولايات المتحدة الأميركية فيكشف ويندمولر أن العديد من الجماعات الطائفية والكنسية والتنظيمية أخَّرت أو حتى ألغت مبادراتها لجمع التبرعات، مدركةً أن هذه ليست اللحظة المناسبة لطلب الدعم من المتبرعين التقليديين. ونتيجة لذلك، يعاني جزء من البنية التحتية اليهودية الأميركية ضغوطًا مالية خطرة. فبينما يحوِّل المانحون أولوياتهم في العطاء لمواجهة الأزمة الإنسانية التي تواجهها إسرائيل، تواجه بعض منظمات الخدمة الاجتماعية والتعليمية والدينية تحديات اقتصادية(16).
يعتقد بيتر بينارت أن ما يشبه حربًا أهلية أيديولوجية بين اليهود الأميركيين كانت كامنة قبل 7 أكتوبر، لكنها ازدادت حدةً منذ ذلك الحين.
ويُجسِّد بينارت، الذي لم يعد يعتقد بإمكانية وجود دولة يهودية واحدة، الانقسام بين "يهود الشتات"، ويتجاوزه في الوقت نفسه. وقد لاحظ أنه يوجد قدر هائل من التركيز على "معاداة السامية" وتعريف "معاداة السامية" الذي يعتقد أنه خاطئ من الأساس، والذي يساويها بمعاداة الصهيونية ومن ثم يحول جميع الفلسطينيين بشكل أساسي إلى معادين للسامية. وأشار بينارت إلى تهرب تام وغامض من الأسئلة الأخلاقية التي تنطوي عليها هذه المذبحة في غزة.
في كتابه الجديد المومأ إليه، كتب بينارت أنه شاهد في رعب الدمار الذي لحق بالفلسطينيين في غزة بموافقة العديد من اليهود حول العالم. ويقول: "لقد عانيت من الطريقة التي برَّر بها العديد من اليهود -بمن في ذلك أشخاص أعتز بهم- تدمير مجتمع بأكمله". ويأسف على الأسباب المزعومة التي جعلت كثيرًا من اليهود الأميركيين إما يتجاهلون، أو يسوِّغون، أو يصفقون (على حدِّ تعبيره) لما تعرضت له غزة من إبادة جماعية.
ويوضح كيف أن الكثير من اليهود وجدوا طرقًا للتركيز بشكل أساسي على كونهم ضحايا لإنكار قدرتهم على الاضطهاد، ويوجه نداء إلى مواطنيه اليهود لإعادة النظر في موقفهم المتعصب من الدولة التي يعتزون بها والتي تسمى إسرائيل.
في "مذكرة إلى صديق سابق"، يدعي بينارت أنه توقف عن الحديث معه بسبب موقفه من غزة، يكتب: "أعلم أن معارضتي العلنية لهذه الحرب -ولفكرة الدولة التي تفضِّل اليهود على الفلسطينيين- تشكِّل خيانة لشعبنا".
إن السطور الافتتاحية للكتاب مفيدة، وكما هي الحال في معظم أجزاء الكتاب محيرة ومربكة. فهي لا تحدد فحسب نغمة الكتاب الذي يموج بالتردد، بل إنها تضع في مقدمة الكتاب حجة بينارت التي تتعامل مع الصهيونية على أنها أمر مسلَّم به، وتمحو المعارضة اليهودية التاريخية للصهيونية، وتضفي صدقية على المطالبة اليهودية بفلسطين.
ويُبيِّن، أيضًا، كيف تحول الصهاينة بسلاسة من وصف مهمتهم بـ"الاستعمار الفاضل" عندما كان هذا الوصف شائعًا إلى "الضحايا الفضلاء" عندما أصبح الاستعمار كلمة قذرة.
ويقول بينارت: "في معظم العالم اليهودي اليوم، يعد رفض يهودية الدولة اليهودية هرطقة أكبر من رفض اليهودية نفسها". ولكن، هل تمكن هو نفسه من التحرر من سحر الصهيونية؟
سرعان ما يتضح أن بينارت، على الرغم من تعاطفه مع الفلسطينيين وتقديره لهم، يبحث عن طريقة جديدة لسرد قصة قديمة(17).
إن ما حدث ليهود الولايات المتحدة الأميركية من "تحول في الأنموذج"، جرَّاء طوفان الأقصى، يجمله ويندمولر على النحو الآتي: "في النهاية، نتذكر كيف غيَّرت هذه الأشهر السبعة الماضية (يقصد بعد طوفان الأقصى) معتقداتنا وأفعالنا بشكل عميق. مثلما تمر إسرائيل بتحول كبير، يشعر العديد من اليهود الأميركيين بشكل شخصي وجماعي بتأثير هذه الأحداث على حياتهم. إن نظرتنا لأنفسنا على أننا جزء من أميركا، وكذلك فهمنا لعلاقاتنا مع إسرائيل والمجتمع اليهودي العالمي، تخضع لإعادة صياغة. نحن الآن نعيد تعريف هوياتنا بينما نعيد النظر في مكانتنا السياسية، وأولوياتنا المجتمعية، وثوابتنا الثقافية. نحن نواجه لحظة مختلفة تمامًا في وعينا اليهودي. من الناحية الجسدية والعاطفية، نجد أنفسنا في مكان غير مريح وغير مؤكد بينما نستيقظ على التأثير الكامل لهذا التسونامي من الكراهية والاضطراب السياسي الذي يغير الشعب اليهودي"(18).
اليسار اليهودي الأميركي في مواجهة الإبادة في غزة
بعد بداية الإبادة الإسرائيلية لسكان قطاع غزة خرج اليهود المؤيدون للقضية الفلسطينية والمناهضون للحرب في مظاهرات مرتدين قمصانًا سوداء مكتوبًا عليها "اليهود يقولون: أوقفوا إطلاق النار الآن". تدفق المتظاهرون إلى مبنى الكابيتول، وقطعوا الطرق في مدنٍ في جميع أنحاء البلاد، ونظموا احتجاجًا غير مسبوق في محطة غراند سنترال (Grand Central) . لقد نظَّم تلك المظاهرات نشطاء يهود يتحدثون في المقام الأول على أنهم يهود. ومثَّلت تلك الاحتجاجات أكبر انفجار في التنظيم اليهودي التقدمي منذ عقود، وساعدت في إطلاق أكبر موجة في تنظيم التضامن مع فلسطين منذ الانتفاضة الثانية(19).
لقد حاول الصحافيون رصد هذه الظاهرة "الجديدة". وشجب البعض في منظمات المؤسسة اليهودية هؤلاء المنشقين اليهود، إما بدعوى أنهم عملاء للإرهاب، أو خونة لمجتمعهم، أو ليسوا يهودًا على الإطلاق. بينما رأى آخرون في ذلك استعادةً جديدةً للهوية اليهودية، وبناءً لطريقة أصيلة ناشئة للوجود اليهودي، تُخالف الإجماع اليهودي السائد. وبينما كان هذا انبعاثًا للمنظمات اليهودية البديلة والحياة الدينية والثقافية بعيدًا عن الصهيونية المُهيمنة على المؤسسات اليهودية الأميركية، إلا أنه في نظر بنيامين بالتاسر(Benjamin Balthaser) ، لم يكن هناك شيء جديد في هذا الأمر. وكما يشير الباحث في كتابه الجديد Citizens of the Whole World: Anti-Zionism and the Cultures of the American Jewish Left,” (مواطنو العالم أجمع: معاداة الصهيونية وثقافات اليسار اليهودي الأميركي)، فإن رؤية الهوية اليهودية التي تتجلى في المظاهرات التضامنية مع فلسطين، هي المرحلة الأخيرة في تاريخ طويل يرى الهوية اليهودية في علاقة مع جميع المجتمعات التي تواجه القمع.
ويُعتقد أن بعض اليهود في اليسار يشعرون بالإحباط من تركيز اليسار اليهودي الشديد على الصهيونية، على حساب بناء منظمات يهودية تقدمية تخدم مجتمعاتهم وتتحدث إليهم. كما يُوحي هذا الأمر بأن الصهيونية مشكلة يهودية في الولايات المتحدة، بينما هي في الواقع مشكلة إمبريالية أميركية.
ويرى بالتاسر أنه من الواجب على اليسار اليهودي مُواجهة الصهيونية وأن ينتظم تضامنًا مع الفلسطينيين، وأن مهمة هذا اليسار اليهودي هي تصوُّر عالم ما بعد هذه الأزمة، "وأننا ستحتاج إلى منظمات ومجتمعات تدوم إلى ما بعد لحظة الاحتراق الآنية التي نعيشها ونموت من خلالها"(20).
كانت المظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية من تنظيم مجموعتين، هما"IfNotNow" ، وهي منظمة يهودية مناهضة للاحتلال، و(JVP) "Jewish Voice for Peace"، المناهضة للصهيونية بشكل واضح والمثيرة للجدل في العالم اليهودي. يبلغ عدد أعضائهما أكثر من 22000 عضو، انضم الآلاف منهم منذ 7 أكتوبر. ويضم مجلسهما الاستشاري شخصيات يهودية بارزة مثل نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) ونعومي كلاين(Naomi Klein) وجوديث بتلر(Judith Butler) . تعمل كلتا المجموعتين، إلى جانب شركاء آخرين من اليسار اليهودي المتنامي، على حشد آلاف اليهود الأميركيين للاستفادة من دورهم الفريد في هذا المخطط الأميركي-الإسرائيلي-الفلسطيني للمطالبة بإنهاء حرب إسرائيل على غزة. وبذلك، عزَّزتا روح أعضاء المجتمع اليهودي الساعين إلى إعادة تعريف الحياة اليهودية بطرق تعكس رؤيتهم للعدالة، حتى لو وضعهم ذلك على خلاف مع المنظمات اليهودية الرئيسية التي تميل إلى تحديد النبرة في الولايات المتحدة.
لقد شكَّل اليسار اليهودي في شيكاغو تحالفًا تاريخيًّا جديدًا. بعد 7 أكتوبر مباشرة، نظَّمت رئيسة فرع شيكاغو لمنظمة (JVP) في شيكاغو والباحثة في دراسات السلام، آشلي بوهرر (Ashley Bohrer)، سلسلة من الاجتماعات بين نشطاء التضامن مع فلسطين لبناء ما أسمته "جبهة موحدة" في الكفاح، وقالت إنها فقدت أصدقاءها وقطعت علاقاتها مع أفراد عائلتها، بمن في ذلك العديد منهم يعيشون في إسرائيل ويخدمون في الجيش الإسرائيلي، بسبب "انقطاعها عن الصهيونية". لقد نشأتُ حقًّا على فكرة أن تكون يهوديًّا يعني أن تكون صهيونيًّا. "عندما بدأت أتساءل عن الصهيونية بدأت أتساءل عما إذا كنت أنا نفسي يهودية". وقالت لصحيفة "نيو لاينز"(New Lines) : إن "العثور على يهود آخرين مناهضين للصهيونية وغير صهاينة والوجود في مجتمع معهم والوصول إلى جزء مختلف تمامًا... من التاريخ اليهودي الذي تم إخفاؤه عنَّا بشكل منهجي"، وهو ما جعلها تتوصل إلى فهم جديد للحياة اليهودية.
وقال نيت كوهين (Nate Cohen)، عضو شيكاغو في JVP وNever Again Action، أحد المخططين للاحتجاجات واسعة النطاق: "إن أكبر كيان في العالم، والذي يدَّعي التحدث باسم هويتنا الجماعية، يفعل أشياء تتعارض بشكل جوهري مع فهمي لما هي هذه الهوية، وأعتقد أن غضب الناس في محله".
وقالت صوفي إيلمان-غولان(Sophie Ellman-Golan) ، مديرة الاتصالات في المنظمة التقدمية العريقة "يهود من أجل العدالة العرقية والاقتصادية": "أعتقد أن تحولًا هائلًا قد حدث للتوِّ، فالعديد من الجماعات اليهودية التقدمية ستضطر إلى اتخاذ قرار بشأن ما إذا كانت ستنطلق نحو التضامن الكامل مع اليهود، مع مراعاة خسارتنا وحزننا وآلامنا"، "وهناك من سيقررون عدم قدرتهم على المضي قدمًا في هذا النهج لأنهم ما زالوا يعانون من هذا الألم العميق".
لقد أفادت جميع هذه المنظمات بارتفاع هائل في عدد أعضائها، وزيادة وتيرة الاحتجاجات، متابعةً لجهود التحالف التي دفعت السيناتور دوربين (Durbin) إلى دعم وقف إطلاق النار(21).
وقد كان دوربين أول سيناتور أميركي يفعل ذلك، وهو أمرٌ مفاجئ بالنظر إلى علاقته طويلة الأمد مع جماعة الضغط اليمينية المؤيدة لإسرائيل "أيباك"، وهو تاريخٌ وثَّقه تقريرٌ نشره موقع "ذا إنترسبت(The Intercept) "(22).
تحول جيلي في علاقة اليهود بإسرائيل والصهيونية: "هم" بدلًا من "نحن"
دفع طوفان الأقصى وما تلاه من حرب إبادة إسرائيلية لقطاع غزة، شريحة واسعة من الشباب اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية إلى إعادة النظر في "الهوية اليهودية" التي تروج لها المؤسسات اليهودية الرسمية، وقوامها الربط بين اليهودية والصهيونية.
ووفقًا لبيتر بينارت، فإن سعي الشباب اليهود إلى صياغة هوية يهودية لا تتماهي مع إسرائيل وأيديولوجيتها الصهيونية
كان قد بدأ قبل سنوات، وذلك خلال الحروب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة، لكنه اشتد وتوسع ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. فقد كشف استطلاع للرأي، أُجري في أوساط الشباب اليهود في الولايات المتحدة قبل سنوات، أن أغلبهم لا يفكرون في إسرائيل، ولما طُلب منهم الحديث عن يهوديتهم وارتباطهم بإسرائيل لم يتطرقوا إلى موضوع إسرائيل إلا بعد أن طُلب منهم ذلك، واستخدموا كلمة "هم" بدلًا من "نحن" لوصف الموقف.
وفي السنوات الأخيرة، كشف العديد من الدراسات أن "اليهود غير الأرثوذكس الأصغر سنًّا، بشكل عام، يشعرون بقدر أقل كثيرًا من الارتباط بإسرائيل مقارنة بكبار السن"؛ إذ أعلن العديد منهم "غيابًا شبه كامل للمشاعر الإيجابية". في 2008، رفض مجلس الشيوخ الطلابي في جامعة برانديز(Brandeis) ، وهي الجامعة الوحيدة غير الطائفية التي يرعاها يهود أميركا، قرارًا لإحياء الذكرى الستين لقيام الدولة اليهودية(23).
وتحدث ويندمولر عما يواجهه السياسيون الإسرائيليون من لوم من يهود الخارج والذين يشعرون في بعض الحالات بأنه في هذه اللحظة ليس لديهم وطن "يهودي" حقيقي ويشمل ذلك الشباب الجامعي وغيرهم من أبناء الجيل Z وجيل الألفية الآخرين؛ إذ إنهم يقاومون إسرائيل ويوجهون غضبهم بدورهم إلى المؤسسة اليهودية الأميركية والمنظمات اليهودية الكبرى والمتحدثين المؤيدين لإسرائيل. في بعض المواقف، يشعر هؤلاء المنتقدون بأنهم خُذلوا، بعد أن قُدم لهم ما يعدونه الآن رواية كاذبة ومثيرة للمشاكل عن الصهيونية وإسرائيل(24).
لقد وجد بعض النشطاء الذين يشكِّكون في حرب إسرائيل ويعارضونها، خاصة من الأجيال الشابة، أنفسهم مجبرين على الخروج من مجتمعاتهم اليهودية، وأحيانًا حتى من عائلاتهم. "بعد أن سمعت أنني ذهبت إلى مسيرة مؤيدة للفلسطينيين، أخبرتني أمي أنها تشعر بالخجل مني، وأنها لم تعد متأكدة من قدرتها على إقامة علاقة معي بعد الآن"، هذا ما قالته إحدى المتصلات التي ظهرت في حلقة من بودكاست "تيارات يهودية" بعنوان "حديث مع عائلاتنا"(Talking to Our Families.)، "وسألتني كذلك عن سبب عدم ولائي ولماذا لا أعتنق الإسلام"(25).
لقد رفعت حرب الإبادة في غزة تحديات جمة أمام الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية لا قبل لها بها، وخاصة مؤسساتها الرسمية، التي بدأت سلطتها الطاغية -التي تمتعت بها عقودًا- تتراجع، ويبدو أنها لن تستطيع الاستجابة لها. وفقًا لبرونيسلاف مالينوفسكي(Bronisław Malinowski) ، رائد التحليل الوظيفي للثقافة وصاحب "نظرية الحاجات"، فإن المؤسسات هي إجابة الثقافة عن الضرورات الأساسية للإنسان. لكن يبدو أن المؤسسة اليهودية الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية أصبحت في عالم "ما بعد الطوفان والعربدة" متجاوَزَةً، وانفصمت عرى سرديتها، التي تربط الهوية اليهودية بالصهيونية ولم تعد تقنع شرائح واسعة، وجيل الشباب خاصة الذي حدث له تحول يبدو عميقًا وحاسمًا في "نموذجه الإرشادي". فبدل أن تستوعب هذه المؤسسات ذلك، وما يجري من تحولات كبرى نتيجة ما سماه بانكاج ميشرا (Pankaj Mishra) "حفلة عربدة القتل في غزة"، والتي "مزقت في دول عدة مسار الزمن ونقلت عالم ما قبل غزة إلى عصر آخر"(26)، وظفت سلاح العاجز، الاتهام والتخوين. إن داء العطب قديم في هذه المؤسسات؛ فقبل عقد ونصف نعى عليها بيتر بينارت عجزها، وخاصة جذب الشباب إليها. فبعد أن طلبت المؤسسة اليهودية من اليهود الأميركيين على مدى عدة عقود من الزمن أن يراجعوا ليبراليتهم عند باب الصهيونية، وجدت أن العديد من الشباب اليهود قد راجعوا صهيونيتهم بدلًا من ذلك. وهذا ما يثير رعبها(27).
يستعمل مفهوم "النموذج الإرشادي" في مجال مناهج البحث العلمي لوصف نقلة نوعية. فمثلًا حدث تحول في الأنموذج لمَّا عُرف أن الأرض تدور حول الشمس بعدما كان الاعتقاد السائد أنها مركز الكون.
وقفت أول مرة على هذا المفهوم في،
Keith Whitelam, ”The Invention of Ancient Israel, The Silencing of Palestinian History”, London & New York, Routledge, 1996.
الذي يجادل فيه أن إسرائيل القديمة قد اخترعها العلماء على صورة الدولة القومية الأوروبية. استعار كيت وايتلام المفهوم من المفكر ومؤرخ العلم الأميركي توماس كون(Thomas Kuhn) ، وليس هو من صاغه، لكن اكتسب على يده صيغته الكاملة وقوته المنهجية في كتابه "بنية الثورات العلمية" (Structure of Science Revolutions)، الصادر في 1962. وقد شكَّل المفهوم لُبَّ نظرية كون عن العلم وتاريخه ومناهج بحثه؛ فقد انتهى من دراسته لتاريخ العلم إلى أن العلماء في كل عصر يمارسون نشاطهم في إطار براديغم (نموذج إرشادي) مستقر وراسخ في الأذهان والمؤسسات والعادات والكتب والمناهج والأدوات، هذا النموذج هو مصدر إدراكهم للكون والطبيعة والمجتمع والإنسان والتاريخ... وعن الماضي والمستقبل.
لقد نظر العلماء دائمًا إلى عملهم على أنه خطِّي، إذ يزيد كل تقدم جديد على مخزون المعرفة العلمية المتراكمة منذ العصور القديمة ويعززه. ومع ذلك، جادل توماس كون في كتابه بأن العلم كان دوريًّا، أي إن التقدم يحدث في مراحل متكررة.
تنتهي فترة "العلم العادي (القياسي)"، كما رأى توماس كون، عندما يقلب العلماء النموذج السائد؛ مما يخلق فترة من "العلم الثوري". وبدلًا من البناء على مخزون المعرفة الراسخ، فإن الإنجازات التي تحققت في هذه الفترة الثورية تُغير إلى الأبد الطريقة التي يفهم بها العلماء العالم.
يلجأ كون إلى التاريخ للتحقق من صحة نظريته. في القرن الثامن عشر، اكتشف الكيميائي الفرنسي، أنطوان لافوازييه (Antoine Lavoisier)، الأوكسجين. فالأوكسجين كان موجودًا بالطبع قبل هذا الاكتشاف؛ فالبشر كانوا يتنفسونه فترة طويلة جدًّا قبل ولادة لافوازييه. ويوضح كون أن اكتشاف لافوازييه غيَّر النموذج. العالم لم يتغير لكن العلماء لم يروا الأمر بالطريقة نفسها مرة أخرى.
اعتمدت في صياغة هذه الفقرات على،
Jo Hedesan, Joseph Tendler, A Macat Analysis Thomas Kuhn’s the Structure of Scientific Revolutions, Macat Library, London, 2017, p. 10-11.
وعلى، توماس كون، بنية الثورات العلمية [ترجمة: شوقي جلال] الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 168، ديسمبر/كانون الأول 1992. صدرت ترجمة أخرى للكتاب، في 2007، عن الدار العربية للترجمة، من إنجاز حيدر حاج إسماعيل.
لقد غيّر" طوفان الأقصى" من أكتوبر وما تلاه من حرب إبادة لأهل تصور اليهودي الأميركي (نموذجه الإرشادي) عن نفسه، والعالم، والآخر، والماضي (التاريخ) والمستقبل (الأرض المقدسة والوطن القومي).
(2) لتراجع: عبد الوهاب المسيري، "من هو اليهودي؟".
(3) Pew Research Center, Jewish Americans in 2020, May 11, 2021 (https://www.pewresearch.org/religion/2021/05/11/the-size-of-the-u-s-jew…
Accessed, May 19, 2025).
للاستزادة، راجع:
Brandeis University, American Jewish Population Project, US Jewish Population Estimates 2020
(https://ajpp.brandeis.edu/us_jewish_population_2020 Accessed, May 19/ 2025).
(4) لي أوبرين، المنظمات اليهودية الأميركية ونشاطاتها في دعم إسرائيل، ]ترجمة: جماعة من الأساتذة بإشراف محمود زايد[، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لبنان، سلسلة الدراسات رقم 76، الطبعة الأولى، 1986.
(5) بعد الانتخابات الإسرائيلية، في 1988، جعلت الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة مشاركتها في الائتلاف الحكومي مشروطة بتغيير تشريعي يلزم الدولة الاعتراف بالتحول إلى اليهودية على الطريقة الأرثوذكسية حصرًا. في مواجهة الإصلاحيين والمحافظين.
وأثار التعديل المقترح رد فعل غير مسبوق من جانب اليهود الأميركيين، الذين أدخلوا صوتهم مباشرة إلى السياسة الإسرائيلية. وقد أدَّت هذه الأزمة في نهاية المطاف إلى عملية تفاوض سرية بين مكتب رئيس الوزراء، إسحاق شامير، ورؤساء الحركات الدينية اليهودية الأميركية الثلاث الكبرى -الإصلاحية، والمحافظة، والأرثوذكسية-. وبعد ما يقرب من عام من المحادثات، توصل فريق التفاوض إلى حل وسط كانت الحاخامية الأرثوذكسية المتطرفة في إسرائيل مستعدة لقبوله والحكومة الإسرائيلية لتبنِّيه. وبعد ذلك انهارت العملية برمتها.
Tracy Frydberg, ”Jew? Not a Jew?”, Religion, Politics, Et Cetera. June 10, 2025. (Accessed: June 21, 2025. https://arcmag.org/jew-not-a-jew/ 1/11).
(6) Frydberg, ”Jew? Not a Jew?”,
(7) Steven Windmueller, ”In the Wake of October 7: Reflections on the American Jewish Community”, Accessed, 06/ 01/ 2025. In the Wake of October 7: Reflections on the American Jewish Community).
(8) Tracy Frydberg, ”Jew? Not a Jew?”,
(9) لتراجع: الحاج محمد الناسك، "عرض حالة إسرائيل بعد طوفان الأقصى على نموذج كوبلر"، مركز الجزيرة للدراسات، 25 أبريل/نيسان 2024 (تاريخ الدخول: 3 يوليو/تموز 2025)،(https://studies.aljazeera.net/ar/article/5902
(10) Thomas L. Friedman, ”This Israeli Government Is a Danger to Jews Everywhere”, The New York Times, June 10, 2025. (Accessed: June 10/ 2025. https://www.nytimes.com/2025/06/10/opinion/israel-gaza-anti-semitism.ht…).
(11) Windmueller, ”In the Wake of October 7: Reflections on the American Jewish Community”,
(12) Azad Essa, ”Being Jewish after Gaza: Peter Beinart’s ‘reckoning’ is a bid to rehabilitate Zionism”, 14 February 2025. (Accessed: Juin 23, 2025. https://www.middleeasteye.net/discover/peter-beinart-being-jewish-after…).
(13) Avery Lotz, ”Harvard’s treatment of Jewish students violates Civil Rights law, HHS says”, Juin 30, 2025. (Accessed: July 01, 2025. Harvard’s treatment of Jewish students violates Civil Rights law, HHS says).
(14) Essa, ”Being Jewish after Gaza : Peter Beinart’s’reckoning’ is a bid to rehabilitate Zionism”,
(15) إن الاختلاق الصهيوني لأسطورة "الشعب اليهودي" قام على فكرتين مصدرهما التاريخ التوراتي، الأولى: هي طرد الرومان لليهود، في سنة 70م، بعد تدمير الهيكل، والتي انبنت عليها أسطورة "الشتات اليهودي". أما الفكرة الثانية؛ فتدعي أن الدين اليهودي لم يكن دينًا تبشيريًّا، وهذا مؤداه أن "الشتات اليهودي" في العالم يعود إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطُردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثَّرت في نقاء العرق اليهودي.
يفنِّد شلومو ساند الفكرتين ويرى أنهما تفاسير تلمودية لاختلاق خصوصية يهودية قومية، اتخذتها الحركة الصهيونية أساسًا لدعوتها إلى عودة اليهود إلى "أرض الميعاد"، وهكذا تحول "الشتات" إلى واحدة من أساطير الهوية "الإثنية"، والواقع أنه لا يوجد أي دليل على أن الرومان قد طردوا اليهود من يهودا بعد استيلائهم على القدس، وحتى بعد قمعهم انتفاضة هؤلاء التي اندلعت في 132م. فكيف وُجدت إذن أسطورة نفي "الشعب اليهودي" بعد تدمير الهيكل؟
لم يكن مصطلح "منفى" في هذه الفترة يعني الطرد، إنما الخضوع السياسي، ولم تُختلق أسطورة الطرد إلا بعد الأسطورة المسيحية عن طرد اليهود عقابًا لهم على صلب السيد المسيح عليه السلام.
إذن، لم يحدث "الطرد"، كما أثبت ساند بعد تمحيصه للمصادر التاريخية مصدر هذه الأسطورة، ولم تكن فلسطين الأرض الوحيدة التي كان بها وجود يهودي في الفترة التي تقول الأسطورة إنها شهدت "الطرد".
وبناء على هذا، فإن الوجود اليهودي ارتبط بالدين اليهودي وليس بالإثنية وهذا ما يثبته تفنيد ساند لأسطورة "الشعب اليهودي"؛ فساند يهدم مقولة: إن اليهودية لم تكن دينًا تبشيريًّا وإنها ظلت ديانة القبائل التي اعتنقتها في أول أمرها. إن هذه الأسطورة -بحسب ساند- اختُلقت لبناء تاريخ مزيف لخدمة المشروع الأيديولوجي الصهيوني؛ فاليهودية -شأنها شأن المسيحية والإسلام- كانت ديانة تبشيرية، وقد شكَّل البحر الأبيض المتوسط الفضاء الجغرافي الأساس لانتشارها.
ووفقًا لساند، أصبح الوجود اليهودي في يهودا يتقلص بعد تحول عدد من اليهود إلى المسيحية، ومع مرور الوقت أصبح أغلب سكان القدس مسيحيين. ونعرف من خلال المصادر التاريخية أن من بقي من اليهود تطلَّع إلى الفاتحين العرب لتخليصه من الاضطهاد الروماني، وبفضل الوجود الإسلامي عاد عدد منهم إلى القدس، وقد يكون بعضهم اعتنق الإسلام.
هذه الفقرات تلخيص للفصل الثالث من كتاب ساند ”Comment Le Peuple Juif Fut Inventé”، ص. 247 – 348.
(16) Windmueller, ”In the Wake of October 7: Reflections on the American Jewish Community”.
(17) Julian J. Giordano & Charles M. Covit, ”A Conversation With Peter Beinart”, February 2, 2024. (Accessed, June 23, 2025. https://www.thecrimson.com/article/2024/2/2/covit-beinart-oct-seven/).
(18) Windmueller, ”In the Wake of October 7: Réflexions on the American Jewish Community”.
(19) Shane Burley, ”Jewish Activists Mobilizing Against War Are Finding a New Community”.
January 15, 2024. )Accessed: May 14, 2025. https://newlinesmag.com/reportage/jewish-activists-mobilizing-against-w…).
(20) Shane Burley, ”The Past, Present, and Future of Left Jewish Identity, An interview with Benjamin Balthaser”, Jacobin, May 08/2025. (Accessed: May 14, 2025).
(21) Burley, ”Jewish Activists Mobilizing Against War Are Finding a New Community”,
(22) Ryan Grim & Dick Durbin, ”AIPAC’S First Successful Recruit Becomes First Senator To Call For Gaza Ceasefire”. November 2, 2023. (Accessed, July 01, 2025: Dick Durbin Becomes First Senator to Call for Gaza Ceasefire).
(23) Beinart, ”The Failure of the American Jewish Establishment”, June 10, 2010. (Accessed: June 23, 2025.
(24) Windmueller, ”In the Wake of October 7: Reflections on the American Jewish Community”,
(25) Shane Burley, ”Jewish Activists Mobilizing Against War Are Finding a New Community”.
لتستمع إلى الحلقة على الرابط الآتي، Talking to Our Families
(26) (26) Pankaj Mishra, ”The World After Gaza A History”, New York, Penguin Press, 2025, Proluge, eBook.
(27) Beinart, ”The Failure of the American Jewish Establishment”, June 10, 2010. (Accessed: June 23, 2025. https://www.nahostfrieden.ch/pdf/The%20Failure%20of%20the%20American%20…