مؤسسة رئيس الحكومة في النظام الدستوري المغربي: قراءة في الأدوار على ضوء التشريع والممارسة

مقدمة

مثَّل الفكر السياسي الجانب الفكري والنظري في بناء الدول وتنظيم مجتمعاتها، عبر التركيز بالبحث في الشكل الأفضل والأنسب للحكم والنظام السياسي والاجتماعي الذي يفترض أن ينتهي إلى إقامته، انطلاقًا من إيجاد تصورات ورؤى متنوعة لاحتياجات المجتمعات والتجمعات البشرية وظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة لتوفير أرضية ترقى بمستويات التنمية المجتمعية وتطوير بنى الدولة ومؤسساتها وترتيبها وعقلنة علاقتها. بالتالي، فإن ما نعيشه اليوم من أنظمة سياسية ديمقراطية وغير ديمقراطية وحكومات وسلطات ثلاث وأحزاب سياسية، ومبادئ حقوق الإنسان، والحريات العامة، جاءت من تطور الفكر السياسي الإنساني على مدى قرون طويلة.

والحقيقة الأخرى التي تمثل خلاصة الفكر السياسي الإنساني أن الأنظمة السياسية لم تكن في يوم من الأيام جامدة، بل هي قابلة للتطور باستمرار في ظل وجود توافق عام بين مكونات كل مجتمع يدفعه دائمًا نحو التطوير.

على ضوء هذا التوجه برزت إلى الواجهة السلطة التنفيذية كأحد أهم البنى للأنظمة السياسية المعاصرة، كسلطة تتأسس عليها فلسفة تدبير الحياة العامة للدول، والهيئة التي تعتبر المعبرة عن سلطة الدولة والقلب النابض لأنظمة الحكم، والتي تختلف في بنائها العام بحسب طبيعة الدولة وشكل نظامها السياسي.

ويجب أن يكون واضحًا في الذهن أن اصطلاح المفهوم العضوي للسلطة التنفيذية ينسحب على معنى واحد، هو الهيئة التنفيذية التي تتضمن المؤسسات التي يعهد لها الدستور بممارسة وظائف التنفيذ، وهي على الغالب اثنان: رئيس الدولة والطاقم الوزاري الذي يشكل في اجتماعاته ما يعرف بالحكومة.

وبقطع النظر عن تباين أشكال السلطة التنفيذية وتركيبتها، يبدو أن نقطة الالتقاء الأساسية تتمثل في كون تصميمها الدستوري والقانوني نتاج طبيعي لنوع الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، وطبيعة الإطار الاقتصادي والاجتماعي للنظام السياسي.

هذا التوجه نجده حاضرًا بقوة في الدسترة المغربية على مر تاريخها، حيث اعتمد المؤسس الدستوري في تصميمه للسلطة التنفيذية على مجموعة من الأعراف والتقاليد التي تتأسس على الحكم الإسلامي للمملكة المغربية، جعلت من الملك يتصدرها ويعتبر سيدها الأول.

غير أنه في سياق الثورات التي عرفها العالم العربي سنة ٢٠١١ فيما بات يعرف "بثورات الربيع العربي"، وبعد خروج المحتجين في إطار حركة عشرين فبراير ٢٠١١ ورفعهم لشعارات تنادي بالإصلاح عبر وضع دستور جديد ديمقراطي، اتجهت المؤسسة الملكية صوب منحى تفاعلي بطرح خطوة الإصلاح الدستوري التي همّت بنية السلطة بالمغرب، وتكللت بإصدار دستور جديد سنة ٢٠١١، الذي جاء بجملة من المتغيرات المتقدمة مقارنة بالدساتير السابقة صبّت في اتجاه تقوية الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي، في مقدمتها إقرار هيكلة جديدة للسلطة التنفيذية عرفت معها مؤسسة رئيس الحكومة تغييرًا جوهريًا.

يهم الإشارة بهذا الخصوص أنه على ضوء هذا المستجد، وعلى ما صارت تمثله أهمية وضرورة مؤسسة رئيس الحكومة لدى معظم الأنظمة المعاصرة، فإن هذا البحث سيركز بالأساس على دراسة وضعية مؤسسة رئيس الحكومة كأحد قطبي السلطة التنفيذية داخل النظام الدستوري المغربي، وتبيان ملامحها الجوهرية وفق رؤية تحليلية لتحديد طبيعة التطور الذي طرأ على هذه المؤسسة ودوافعه، بدءًا من لحظة ظهورها في تجارب الحكم الأولى للدولة المغربية، أيًا كانت التسمية أو الوصف الذي حملته حينها، لغاية شكلها القانوني الحالي، ورصد واقعها بحيز التطبيق قصد إبراز مكامن التباعد والتقارب بينهما، وتوضيح أسباب ذلك.

أهمية الدراسة

تتحدد أهمية موضوع مؤسسة رئيس الحكومة في النظام الدستوري المغربي باعتباره من القضايا التي شغلت النقاش العمومي المواكب لكل الإصلاحات الدستورية التي شهدتها التجربة الدستورية بالمغرب، بضرورة إدخال إصلاحات من شأنها الارتقاء بمكانته، آخرها دستور سنة ٢٠١١ الذي حمل الكثير من عناصر التطور مقارنة بالدساتير السابقة، ما يستدعي دراسة أثر المقتضيات الدستورية الجديدة على مؤسسة رئيس الحكومة في علاقتها بالممارسة التي يُستشف من خلالها مدى التنزيل السليم للنص الدستوري، ومدى انعكاسه على مستوى الإنماء الذي عرفه النظام السياسي المغربي.

وبالرغم من أهمية التراكم العلمي الذي خلفته الدراسات السابقة في موضوع البحث، والتي شكلت إطارًا تأسيسيًا للكتابة الدستورية في هذا المجال، فإنها تبقى محكومة بالوثائق الدستورية لما قبل ٢٠١١. ثم إن هذه الدراسة تكتسب أهميتها ليس فقط من قيمتها العلمية وما يمكن أن يقدمه من إضافات نوعية للبحث الدستوري والعلوم السياسية، بل أيضًا من حيث أهميتها العملية، بالاعتماد إلى جانب المقاربة الوصفية لنصوص الدستور على المقاربة التحليلية التي تقود لمحاكمة الواقع السياسي لمؤسسة رئيس الحكومة ومدى انضباطه للنص الدستوري من عدمه، وذلك استكمالًا للدراسات السابقة وإغناءً للحقل المعرفي.

لذلك، يجتهد البحث هنا في ملامسة أثر النص الدستوري على الجانب السياسي لمؤسسة رئيس الحكومة، وما ينتجه من تفاعلات، وما يعتريه من نقائص ويطبعه من إيجابيات، بغرض الكشف عن أهمية هذه المؤسسة الفعلية والعملية ودرجة تأثيرها في النظام السياسي بالمغرب في ظل التغييرات الحاصلة والمواكبة لموجة التطور الديمقراطي للمغرب في السنوات الأخيرة، بجعلها مؤسسة أكثر شرعية من حيث انبثاقها من صناديق الاقتراع، وأكثر وزنًا من حيث بناء صلاحياتها ومهامها كقائد للسلطة التنفيذية، وذلك انطلاقًا من تفكيك حصيلة الممارسة الدستورية لأول رئيس للحكومة في ظل دستور ٢٠١١ (رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران ٢٠١١-٢٠١٦)، واستخلاص القيود النصية والواقعية التي تحد من هذه الممارسة.

دواعي اختيار الموضوع

تعود أسباب اختيار الموضوع إلى أسباب ذاتية وموضوعية:

الأسباب الذاتية: الرغبة الشخصية في إغناء حقل الكتابات الدستورية والسياسية بالمغرب.

الأسباب الموضوعية: لم يكن اختيار موضوع (مؤسسة رئيس الحكومة في النظام الدستوري المغربي) من قبيل التكرار، بحكم أنه سبق أن حظي بالدراسة والبحث في سنوات التسعينات، لا سيما على مستوى الدراسات العلمية في الجامعة المغربية رغم قلتها (الماجستير والدكتوراه)، بل من باب تعميق النقاش العلمي واستكمال البحث حول مؤسسة رئيس الحكومة بالمغرب، على ضوء التطورات التي عرفها النظام الدستوري والسياسي المغربي بشكل عام، والمؤسسة موضع الدراسة بشكل خاص، سواء على مستوى المركز والوظيفة، أو أنماط علاقاتها بباقي المؤسسات الدستورية الأخرى، سواء من الناحية الدستورية أو الممارساتية.

إشكالية الدراسة

لقد شكلت التعديلات التي عرفها النظام الدستوري المغربي في كل فترة، والآثار التي رتبتها على مكانة مؤسسة رئيس الحكومة بملابساتها التاريخية والسياسية والفقهية، مادة علمية لعدة دراسات. وقد زاد الاهتمام بهذا الأمر بعد إقرار دستور ٢٠١١، الذي شكّل وضعية مؤسسة رئيس الحكومة أهم التحولات التي طبعت بنيانه، حيث بدأ الحديث عن مدى تطورها، ومستويات نموها، وشرعيتها، وأدوارها، ومدى فعاليتها، ومخرجاتها المختلفة.

على هذا الأساس، تتحدد الإشكالية المركزية للبحث كالتالي:  كيف كان تمثل النظام الدستوري المغربي لتحديث وتمتين مركز مؤسسة رئيس الحكومة من أجل الفصل مع الصورة التي لازمتها سابقًا كوزير أول بين الوزراء؟

تبعا لذلك، تتفرع عن الإشكالية المركزية للبحث مجموعة من التساؤلات الفرعية، وتتمثل فيما يلي:

  • هل يعتبر تعضيد وتقوية الوثيقة الدستورية لسنة ٢٠١١ لمركز رئيس الحكومة تحديثًا للمسار الديمقراطي المغربي؟ وهل أرست في ذلك قواعد البرلمانية المتعارف عليها؟ أم أنها كرست خصوصية النظام السياسي المغربي؟
  • ما مظاهر التغيير التي طالت مؤسسة رئيس الحكومة؟ وما مدى فعاليتها؟
  • هل ساهم الشكل الجديد لرئيس الحكومة في إضفاء دينامية جديدة على السلطة التنفيذية تؤسس لتكامل الأدوار مع المؤسسة الملكية بشكل يتجاوز ميكانيزمات اشتغالها في السابق؟ أم أنها ظلت ثابتة؟
  • ما حقيقة الممارسة الواقعية لرئيس الحكومة للأدوار المرسومة له؟ وهل هي متوافقة مع نص دستور ٢٠١١ بشكل يظهر مدى التقدم الحاصل مقارنة بالدساتير السابقة؟
  • هل يمكن لمؤسسة رئيس الحكومة في سياق وضعها الدستوري الجديد أن تكون المعبر الحقيقي عن الإرادة العامة في رسم السياسة العامة للدولة؟ وما دور الملك في ذلك بصفته رئيس الدولة؟
  • ما طبيعة علاقة رئيس الحكومة بالسلطات الدستورية الأخرى على ضوء الرسم الدستوري الجديد؟ وما نظام مسؤوليته السياسية في ممارسته لمهامه؟

فرضيات البحث

من خلال الإشكالية المطروحة والأسئلة الفرعية التي رافقتها، تطرح هذه الدراسة فرضيتين مركزيتين متداخلتين:

الفرضية الأولى: شكلت حركة الاحتجاجات والمطالبات الجماهيرية التي عرفها المغرب سنة ٢٠١١، والتي ارتبطت بأحداث ما عرف "بالربيع العربي"، لحظة فارقة في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، تجاوزت منطق الاحتجاج التقليدي، بحيث تجاوز منطوق مطالبها ما هو اجتماعي إلى ما هو سياسي من قبيل إقرار إصلاح دستوري يؤسس لتعاقد جديد لتدبير الشأن السياسي المغربي، ويساهم في تحسين وتحديث مختلف المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها رئاسة الحكومة.

كان لهذه المدخلات دور مهم في قيام النظام السياسي المغربي بخطوات استباقية لاستيعاب هذه التوترات عبر إقرار دستور جديد سنة ٢٠١١، كانت أبرز مخرجاته تحديث بناء مؤسسة رئيس الحكومة وتعزيز وظائفها بشكل يجعلها قادرة على استيعاب هذه التطورات والتحولات.

الفرضية الثانية: إذا كان دستور ٢٠١١ يشكل تحولًا مهمًا للواقع القانوني لمؤسسة رئيس الحكومة قياسًا بالدساتير السابقة، فإن ذلك لا يستدعي الاستعجال بالحديث عن تطور واقعها السياسي دون ممارسة، بحكم أن الدستور والممارسة الدستورية أمران متلازمان. فمن المفترض أن يقود النص إلى ممارسة سياسية ينتظم معها أداء المؤسسات الدستورية. أما الممارسة السياسية، وهي لا تقل أهمية عن النص الدستوري، فينبغي أن تنضبط بالنص، لأن الممارسة السياسية إذا ما خرجت عن النص يضطرب أداء المؤسسات الدستورية. أي أن التوافق بين النص والممارسة هو الكفيل بإعطاء معنى لهذه المؤسسة في النسق السياسي المغربي، والوقوف على مدى مساهمتها كأحد الآليات المهمة في تعزيز الطابع البرلماني لنظام الحكم بالمغرب.

منهجية البحث

للتحقق من صحة الفرضيات المطروحة والإجابة عن التساؤلات السابقة، يتطلب الأمر اعتماد مقاربة منهجية متكاملة. وانطلاقًا من تصور بول باسكون "بأن عملية تراكم المعلومات وتسخيرها هي من دون شك قضية منهج، وتنظيم، وحسن نظر يقتسمه الجميع"، عمدت الدراسة إلى استحضار المناهج التالية:

المنهج النسقي: يأتي توظيف هذا المنهج لرصد التفاعلات الدينامية لمؤسسة رئيس الحكومة وما تمثله لدى النظام السياسي المغربي وتحليلها وتفسيرها. فإذا كان رسم الأخير لهذه المؤسسة يجري بشكل واعٍ ومقصود حسب ما تمليه بيئتاه الداخلية والخارجية، فإن محرك الاتجاه الرئيسي بهذا الخصوص هو التعرف على مدخلات النظام السياسي التي تدخلت في تشكيل هذه المؤسسة من جهة، ثم من جهة ثانية النظر لما أنتجه من مخرجات بخصوص ذلك، أي النظر للشكل الدستوري لمؤسسة رئيس الحكومة، ومعاينة مدى تأثيره في الحياة السياسية والسلوك السياسي بصورة عامة، وعلى النظام السياسي القائم بصورة خاصة، واستشراف مستقبلها، وإلى أين يريد النظام الدستوري المغربي أن يصل بها مقارنة مع غيره من الأنظمة الأخرى. لذلك كان لا بد من دعم هذا المنهج بالمنهج المقارن.

المنهج المقارن: اقتضت معرفة التطور والنضج الذي بلغته مؤسسة رئيس الحكومة في الدستور الحالي المقارنة بينه وبين المحطات الدستورية السابقة. وحيث تكون المقارنة مع الذات، تكون المقارنة مع الآخر بإحضار تجارب الأنظمة الدستورية الأوروبية، والعربية، والإفريقية، من أجل تطوير النقاش حول مخرجات دستور ٢٠١١ فيما يخص تحديث بناء مؤسسة رئيس الحكومة، وتحليلها ونقدها كلما دعت الضرورة لذلك، وتبيان أوجه التشابه والاختلاف التي يمكن أن تميزها عن نظيراتها في تلك النظم، حيث تتخذ أشكالًا مختلفة.

يتكامل مع ذلك المقترب الإحصائي للوصول إلى الغايات والأهداف المرجوة، والتي يستطيع الباحث عبرها تحقيق فروضه البحثية والإجابة عن تساؤلاتها من خلال مجموعة من الإحصائيات تهم عناصر البحث.

كما شمل موضوع البحث عرض إحصائيات تتعلق بحصيلة التفاعل بين البرلمان والحكومة سواء فيما يهم التشريع أو ما يتعلق بالرقابة المتبادلة بين الطرفين، ومدى انعكاسها على العمل الحكومي خلال أول ولاية نيابية (٢٠١١-٢٠١٦).

محددات الدراسة

تقوم هذه الدراسة على محددين رئيسيين:

محدد زمني: تحدد في رصد مسار التنظيم الدستوري لمؤسسة رئيس الحكومة الذي يبتدئ من سنة ١٩٦٢ إلى غاية دستور ٢٠١١، مع العودة بتسليط الضوء على لحظة انبثاقها الأولى أي أصولها التاريخية كضرورة تقتضيها الدراسة لرصد تقاليد هذه المؤسسة التي تم دسترتها.

محدد مكاني: يناقش الرسم الدستوري المغربي لمكانة مؤسسة رئيس الحكومة بالنظام المغربي، والمجابهة الجدلية بين النص والواقع السياسي.

تصميم البحث

وبالنظر لما أتيح من معلومات، واستنادًا إلى الإشكاليات والفرضيات المطروحة، تم تقسيم الموضوع إلى مقدمة وقسمين وخاتمة.

القسم الأول: يعالج التنظيم القانوني لمؤسسة رئيس الحكومة، حيث حاول في هذا الصدد استيعاب إشكالية الثابت والمتغير في مشروع الإصلاح والتحديث الدستوري لمؤسسة رئيس الحكومة بالإجابة عن ثلاثة أسئلة مركزية، هي: كيف تم التعامل مع ماضي هذه المؤسسة من جهة؟ وما مدخلات الإصلاحات التي عرفتها في ظل التحولات التي شهدها النظام السياسي المغربي خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين من جهة ثانية؟ وما واقع ترتيبها داخل المجال التنفيذي؟

ينقسم هذا القسم إلى فصلين رئيسيين:

    • خصص الفصل الأول لتقصي تاريخ مؤسسة رئيس الحكومة بالعودة إلى تطبيقات التاريخ السياسي المغربي القديم المنشئ لهذه المؤسسة وما يختزنه من تراث، مرورًا بتعقب مراحل تطورها القانوني بداية من فترة الحماية إلى غاية مرحلة الدسترة، والذي لم تخرج فلسفته عن التراث السياسي الإسلامي المغربي. لم يكن مسار تطور هذه المؤسسة في سيره ليخرج عن مسار نهر قديم يشق طريقه عبر أودية متعرجة وملتوية تفتح قنوات جديدة، وهو تطور لم يكن بمنأى عن الأحداث السياسية التي عرفها المغرب، إذ كانت تحتل أحيانًا مكانتها اللائقة بها، ثم تعود لتتوارى تارة أخرى.
    • أما الفصل الثاني من هذا القسم فيناقش المعنى الجديد الذي حملته المستجدات الدستورية لسنة ٢٠١١ لمؤسسة رئيس الحكومة مقارنة مع ما سبقها، ومدى حمولتها في توطيد دعائم البرلمانية للنظام السياسي المغربي، انطلاقًا من دراسة وتحليل التركيب القانوني لمؤسسة رئيس الحكومة، وتعميق النقاش حول سيرورتها نحو الديمقراطية المنشودة، والفصل في كافة الإشكالات والتساؤلات الفقهية بهذا الخصوص.

من خلال جانبين اثنين:

    • الجانب الأول يتعلق بدراسة المركز القانوني لرئيس الحكومة، أي مجموع القواعد الدستورية التي تحكم هذه المؤسسة، سواء من حيث إجراءات تعيينها ونهاية مهامها، أو دورها في تعيين باقي الوزراء وعزلهم، وكذلك فيما يخص مستجدات مسطرة التنصيب البرلماني للحكومة.
    • أما الجانب الثاني فيهمّ دراسة المركز الوظيفي، أي مجموع الصلاحيات والمهام المقررة لرئيس الحكومة في الدستور، مع الاعتماد بهذا الخصوص على نقطة ارتكاز هامة تتمثل في نقل الدستور إلى حيز التطبيق. أي إن القصد هنا هو التحقق من مدى انضباط الأداء السياسي عند تطبيق النص الدستوري وبيان مكامن الخلل.

القسم الثاني:  يتناول بالدراسة والتحليل العلاقة بين رئيس الحكومة وباقي المؤسسات الدستورية على ضوء التغييرات التي أحدثها دستور ٢٠١١ وانعكاسها على درجة برلمنة النظام السياسي المغربي.

    • الفصل الأول من هذا القسم حاول ملامسة ملامح الملكية البرلمانية في الهندسة الدستورية الجديدة، انطلاقًا من تحديد مظاهر التعاون بين رئيس الحكومة والملك والشكل الذي تؤول إليه على مستوى الممارسة، مع الأخذ بعين الاعتبار المكانة السامية للمؤسسة الملكية وخصوصيتها بالنظام السياسي المغربي.
    • كما حاول من جهة ثانية الإسهام في النقاش العلمي حول البعد البرلماني للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وصورة الفصل بينهما، لإثبات مدى نجاح الدستور الجديد أو فشله في إعادة شكل جديد للتعاون بين السلطتين. وقد كان هذا الموضوع موضع جدل وتوظيف سياسيين، وقلما حظي بالتحديد والتوضيح سواء على مستوى الفقه الدستوري أو الخطاب السياسي. وحيث لا يمكن تقديم قراءة موضوعية لطبيعة العلاقة بين السلطتين من النص الدستوري وحده، يبقى مطلوبًا أيضًا رصد واقع الأداء السياسي للسلطتين التشريعية والتنفيذية في أول تجربة في ظل دستور ٢٠١١ واستخلاص نتائجها.
    • فيما يناقش الفصل الثاني مسؤولية رئيس الحكومة أمام الملك، ومسؤوليته أمام السلطة التشريعية بصفته ممثلًا للسلطة التنفيذية من جهة ثانية، كجانب ثانٍ للتكريس الدستوري للفصل بين السلطتين، المتمثل في التوازن والتأثير المتبادل بينهما.

الخاتمة

لقد سمحت هذه الدراسة بتقدير مكانة وأهمية مؤسسة رئيس الحكومة في النظام الدستوري المغربي على ضوء النقاش المتداول حول "النظام البرلماني" الذي يمكن للمغرب أن ينتقل إليه بعد إقرار الدستور الجديد، وما يمثله في الحاضر من فعل مؤثر على وضعية مؤسسة رئيس الحكومة، باستخلاص مجموعة من الاستنتاجات هي كالآتي:

رغم أهمية مؤسسة رئيس الحكومة في النظام الدستوري وداخل الحياة العامة ككل، فإن وضعيتها في ماضيها وحاضرها ترتبط بطبيعة وشكل السلطة بالمغرب وممارستها، المبنية على فكرة وجود فاعل محوري هو الملك؛ الذي يسمو على جميع المؤسسات ويتمتع بأوسع الصلاحيات والسلط التي يحدد مضمونها استنادًا إلى الموروث السياسي المؤسس لإمارة المؤمنين.

وبالرغم من التقدم الملحوظ الذي عرفه تنظيم العلاقة بين رئيس الحكومة والملك على المستويين العضوي والوظيفي، والمكرس في دستور ٢٠١١ مقارنة بالتجارب الدستورية السابقة، فإن هذا الأمر لم يبلغ درجة الأنظمة البرلمانية بحكم أن سلطات الملك وسلطات رئيس الحكومة ليست بالمستوى نفسه، مما يبقي رئيس الحكومة في حالة تبعية للملك دستوريًا وسياسيًا.

إذا كان المشرع الدستوري قد ربط مصير الوجود القانوني للحكومة بعد تعيينها من قبل الملك بتصويت مجلس النواب على برنامجها، فإن الحكومة ورئيسها لا يستقلان في رسم السياسة العامة للدولة. إذ لا يتخذ هذا الأمر طابعًا رسميًا إلا بعد المرور عبر محطة المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك، والذي يملك الكلمة النهائية في الموافقة عليه. وغالبًا ما يتم تكييفه مع التوجهات الملكية بإضافة إجراءات وتدابير لم تكن أصلًا جزءًا من البرنامج، في الوقت الذي يُفترض فيه أنه ثمرة تعاقد بين الحكومة والناخبين.

ارتباط مصير رئيس الحكومة بالسلطة التقديرية للملك أكثر منه بموقف السلطة التشريعية يضعه موضع مسؤولية أمام الملك بشكل غير خاضع لشروط أو إجراءات محددة.

إذا كان الدستور المغربي قد كرس لفصلٍ مرنٍ للسلط بين رئيس الحكومة، بصفته ممثلًا للسلطة التنفيذية، مع السلطة التشريعية قوامه التعاون، فقد تميز هذا الجانب بالنزوح نحو هيمنة رئيس الحكومة على وظيفة التشريع.

أما بالنسبة لجانب التوازن، فبرغم أن الدستور المغربي قد خص البرلمان بوسائل رقابية متعددة تعطي الانطباع بتمتع هذه المؤسسة بفعالية كبيرة في مراقبة عمل الحكومة، يكشف تحليل هذه الآليات سواء المقتصرة على مساءلة الحكومة عن عدم جدواها من الناحية العملية، لأن السلطة التنفيذية لا تسمح عادة للبرلمان بالوصول إلى المعلومات التي تدينها أو تثبت تقصيرها في تسيير الشؤون العامة للبلاد. فهي لا تتعدى منطق الحوار بين المؤسستين، وفي أقصى الحالات اتهام البرلمان للحكومة دون إثارة مسؤوليتها.

فضلًا عن ذلك، راعى المشرِّع الدستوري في تنظيمه للآليات التي تقود إلى المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان مسألة الحفاظ على الاستقرار الحكومي من خلال تسييجها بإجراءات، خصوصًا قيد النصاب القانوني المطلوب لتحريكها، مما أفرغها من محتواها وصعّب تحققها، لتبقى بذلك مسؤولية رئيس الحكومة أمام الملك أقوى من مسؤوليته أمام البرلمان.

لقد شكّل دستور ٢٠١١ منبعًا مهمًا لتجديد وتحديث مؤسسة رئيس الحكومة بتخويلها المركز القانوني والدستوري اللائق بها، إلا أن الممارسة السياسية الحالية لا تسير في اتجاه تسجيل تطوره قياسًا مع الدساتير السابقة، بل قد تقود نحو الخلف بمخالفة مظاهر التطور الثقافي والمجتمعي بالمغرب، في ظل وجود نخب تقليدية محافظة غير قادرة على مواكبة سير الاختيار الديمقراطي المغربي.

فالنقاش الذي يثار اليوم بخصوص تطبيق الدستور لا يضعه في كل الأحوال محط مساءلة من حيث مدى تقدم صيغة تركيبه البنائي وترتيبه المؤسساتي وديمقراطيته، بل من حيث عدم انضباط الفاعل الحكومي (رئيس الحكومة) لمقتضياته وترجمتها إلى واقع سياسي مؤسساتي والنهوض بأدواره، والتزامه في ذلك بقواعد العملية الديمقراطية. خاصة أنه المعني الأول بالترسيم الجديد للمجال التنفيذي، ليس فقط بمشروعيته، بل وشرعيته التي تضمنها عملية فصل السلط التي أقرها الدستور. وقد أظهر هذا الجانب، بحسب بعض الباحثين، عن مفارقة دستور حالم من جهة، وممارسة متخلفة عن طموح النص من جهة ثانية.

تجسد ذلك بالملموس في أول امتحان لدستور ٢٠١١ مع أول حكومة برئاسة حزب العدالة والتنمية (٢٠١١-٢٠١٦ عبد الإله بنكيران)، حيث أبان الفعل السياسي للفاعل الحكومي عن ضعف قدرته على استغلال الإمكانيات الواعدة التي ينطوي عليها الدستور المغربي وترجمتها داخل مؤسسة رئاسة الحكومة عبر أفعال بناءة تعكس قيمة الإصلاح، بعد أن سجل نزوحًا نحو التنازل عن صلاحيات مهمة والتخلي عن تفعيل مقتضيات الدستور الجديد.

وهو الأمر الذي تكرر أيضًا مع التجربة الحكومية التي تلتها بقيادة من الحزب نفسه (سعد الدين العثماني ٢٠١٦-٢٠٢١). ولعل ما في هذا الأمر أنه بقدر ما يرتبط بمعطى موضوعي يتمثل في حدود الممارسة الديمقراطية التي تؤثر، بحسب درجة انفتاحها أو انقباضها، بالإيجاب أو بالسلب على حيوية مؤسسة رئيس الحكومة وتطورها، فإنه يرتبط أيضًا بأسباب ذاتية تتمثل أساسًا في التشبع بثقافة سياسية ماضوية تفرض الطاعة والولاء. وهي ثقافة لا ترى في تعدد الصلاحيات وتوزيعها اعترافًا بتعدد الفاعلين واستقلالهم، بقدر ما تعتبرها مهامًا لا تخرج عن مساعدة الملك الذي هو أمير المؤمنين في تدبير شؤون رعيته ونيل رضاه بشتى الوسائل، لا التصادم معه، مما يشل كل إمكانية للفعل الحكومي كفعل مستقل ومترجم للروح الديمقراطية الكامنة في الدستور. إنها ثقافة ترى في السياسة دفاعًا عن الموروث وفرض تأويل خاص للقيم والمبادئ على المجتمع.

ما يؤكد الطرح القائل في هذا السياق بأن تفعيل وتطبيق مقتضيات الوثيقة الدستورية، مهما كانت درجة تقدمها، رهين بالحالة الإيديولوجية للفاعلين السياسيين واستراتيجيتهم داخل النظام، دون إيلاء أي أهمية بمدى تجاوبها مع طموحات ورغبات المجتمع، والتي على أساسها كان التعاقد معه في فترة الانتخابات.

هذه الممارسة لا تقوم على أساس نموذج أخلاقي تديني يبين ما يجب أن يكون من قبل من يجب أن يحكم، بقدر ما تقوم على تصورات ومبادئ مسبقة. ولهذا فإن الدستور وفق هذه الرؤية التقليدية المحافظة موضوع "لا مفكر فيه"، لأن توزيع المهام وفصل السلط، وتنظيم القوانين، وبناء المؤسسات، ومنح الحريات وفرض الواجبات... كلها ظواهر تقوم على الاعتراف بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي كواقع موضوعي ديناميكي يفرز تناقضات تعكس رهانات ومصالح متضاربة ومشروعة ومفتوحة على المستقبل، يحتاج تأطيرها إلى قوانين ومؤسسات. غير أن هذه الممارسة لا تتماشى وهذا التصور.

على ضوء هذا الواقع، ألم يكن من الأجدر الامتثال لما نص عليه الدستور والإعلاء من شأنه بتقديم مؤسسة رئيس الحكومة بشكلها الدستوري الجديد، وصناعة المستقبل الذي تنشده، بتسديد ما اعوج من ممارسات واستدراك ما فات من واجبات، وإطلاق مزيد من الفعاليات والديناميات؟

مما لا شك فيه أن الرقي بمؤسسة رئيس الحكومة وتحصينها الدستوري معلق على وجهة التطبيق السليم للدستور، وما يقتضيه ذلك من وجود نخب تتمتع بثقافة ووعي سياسي منفتح ملتزم بقواعد العملية الديمقراطية قناعة وثقافة وممارسة وتنظيمًا، بشكل منفتح على متغيرات المرحلة الجديدة. ولا سيما بعد مرور ما يزيد عن عقد من الزمن على إقرار الدستور الجديد، وهي فترة تعد كافية للقطع مع الانحرافات السابقة وإنضاج التجربة الدستورية الحالية.

فلا يمكن لتلازم الحكومات في ظل الدستور الجديد أن يبقي مؤسسة رئيس الحكومة بوضع التكرار والاجترار لنموذج فارغ من أي مضمون يتأسس على الوجود في وضع الماضي الجامد وميكانيزمات معطلة. وهو ما يطرح سؤال الغاية من التغيير والإصلاح إذا لم يصل إلى نتائج وجودية ومآلات متوقعة ومرجوة.

 

تنويه:

  • الآراء الواردة في هذه الدراسة تُعبِّر عن كاتبها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات
  • للاطلاع على النص الكامل للأطروحة (اضغط هنا)
  • يمكن للباحثين الراغبين في نشر رسائلهم وأطروحاتهم مراسلتنا على العنوان التالي:  ajcs-publications@aljazeera.net

ABOUT THE AUTHOR