"أسلوب البازار": النموذج الإيراني في "قوة التفاوض" لعباس عراقجي إسهام في أدبيات التفاوض الدولي

تبيِّن هذه القراءة في كتاب عباس عراقجي "قوة التفاوض" من منظور مقارن، أن التفاوض ليس مجرد تقنية إجرائية، بل ممارسة سيادية تتقاطع فيها المدارس الواقعية والبنيوية والتاريخية مع الخصوصيات الثقافية والوطنية. ويقدم عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، في كتابه، التفاوضَ على أنه فن صبر وإدارة للتوازنات. وبناء عليه تحاول هذه الدراسة أن تبين خصوصية النموذج الإيراني في التفاوض الذي يمزج بين الواقعية والإستراتيجيات الثقافية المعروفة بـ"أسلوب البازار"؛ مما يمنحه قيمة مميزة في الحوار النقدي مع الأدبيات الغربية عن الدبلوماسية. كما تؤكد الدراسة أهمية تعددية المقاربات لفهم ممارسات التفاوض الدولي بشكل كامل.
(الجزيرة)

مقدمة: التفاوض أداة سيادية

تبيِّن هذه القراءة في كتاب عباس عراقجي "قوة التفاوض" من منظور مقارن، أن التفاوض ليس مجرد تقنية إجرائية، بل ممارسة سيادية تتقاطع فيها المدارس الواقعية والبنيوية والتاريخية مع الخصوصيات الثقافية والوطنية. ويقدم عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، في كتابه، التفاوضَ على أنه فن صبر وإدارة للتوازنات. وبناء عليه تحاول هذه الدراسة أن تبين خصوصية النموذج الإيراني في التفاوض الذي يمزج بين الواقعية والإستراتيجيات الثقافية المعروفة بـ"أسلوب البازار"؛ مما يمنحه قيمة مميزة في الحوار النقدي مع الأدبيات الغربية عن الدبلوماسية. كما تؤكد الدراسة أهمية تعددية المقاربات لفهم ممارسات التفاوض الدولي بشكل كامل.

يُعد التفاوض في حقل العلاقات الدولية، أداة جوهرية لإدارة التفاعلات بين الدول، وجسرًا يربط بين المصالح المتعارضة في بيئة دولية تتسم عادة بعدم الاستقرار والتنافسية. غير أن التفاوض لا يقتصر على كونه وسيلة تقنية لحل النزاعات، بل يتجاوز ذلك ليغدو ممارسة سيادية تعكس القوة الوطنية، وتترجم مكانة الدولة وفاعليتها على الساحة العالمية. فالتفاوض، كما يؤكد عباس عراقجي في كتابه "قوة التفاوض"، يمثل امتدادًا للسيادة الوطنية وفنًّا إستراتيجيًّا يتطلب ذكاءً ثقافيًّا، وصبرًا استنزافيًّا، وقدرة على تحويل عناصر القوة الوطنية إلى خطاب تفاوضي يحافظ على الكرامة والاستقلال.

وتبرز هذه الرؤية بوضوح عند مقارنتها مع تجربة وزير الخارجية الإيرانية الأسبق، جواد ظريف، في "صمود الدبلوماسية"، حيث تلتقي النظرية بالممارسة من خلال تجارب المفاوضات النووية الإيرانية. فالنموذج الإيراني الذي يستلهم تقاليد "مساومة البازار"، القائم على المراوغة والصبر والانطلاق بمطالب مرتفعة، يُظهر كيف يمكن للثقافة أن تتحول إلى أداة عملية للصمود أمام القوى الكبرى. وهنا تتجلى إشكالية المقال الأساسية: كيف يمكن للدول الصاعدة أن تحافظ على سيادتها وهويتها الثقافية في مفاوضات دولية غير متكافئة تهيمن عليها القوى العظمى؟

وانطلاقًا من هذه الإشكالية، تقوم الدراسة على فرضيات ثلاث:

  1. أن التفاوض يمثل امتدادًا للسيادة الوطنية وأداة لترجمة القوة المعنوية والصلبة معًا.
  2. أن الخصوصية الثقافية، كما في نموذج "مساومة البازار"، يمكن أن توفر للدول الصاعدة أدوات تفاوضية بديلة عن المناهج الغربية التقليدية.
  3. أن فاعلية هذا النموذج تبقى مرهونة بقدرة الدولة على التوفيق بين الهوية الثقافية والمصالح الإستراتيجية في بيئة دولية تتجه نحو تعدد الأقطاب.

ومن خلال محاولة التحقق من هذه الفرضيات، تهدف هذه الدراسة إلى:

  • تحليل الرؤية النظرية لعباس عراقجي في "قوة التفاوض" وربطها بالتطبيقات العملية في تجربة جواد ظريف. من خلال مذكراته "صمود الدبلوماسية".
  • مقارنة النموذج الإيراني، اعتمادًا على كتاب عراقجي ومذكرات وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، "صمود الدبلوماسية"، بالمناهج الغربية في التفاوض، كما تعكسها ويندي شيرمان(Wendy R. Sherman) ، الدبلوماسية الأميركية التي كانت تفاوض عباس عراقجي في الملف النووي الإيراني، في كتابها  "Not for the Faint of Heart"، والعمل الكلاسيكي "Diplomacy" لهنري كيسنجر (Henry Kissinger)  وزير الخارجية الأميركي الأسبق، و"Histoires diplomatiques" لجيرار أرود(Gérard Araud) ، المفاوض الفرنسي في القضية النووية الإيرانية.
  • تقييم مدى صلاحية هذا النموذج في تمكين الدول الصاعدة من الحفاظ على هويتها وتعزيز مكانتها في النظام الدولي.

أما من الناحية المنهجية، فتعتمد الدراسة على مقاربة تحليلية-مقارنة تجمع بين البعد النظري والبعد التطبيقي؛ إذ يتم أولًا تفكيك المفاهيم التي يتضمنها كتاب عراقجي وربطها بالتجربة التفاوضية لظريف، ثم مقارنتها بالمقاربات الغربية للتفاوض، قبل الانتقال إلى استلهام الدروس التاريخية لتقدير مدى فاعلية هذه الإستراتيجيات في مواجهة التحديات الراهنة.

وبذلك، تسعى هذه الدراسة إلى المساهمة في النقاش الأكاديمي والسياسي عن دور الثقافة والسيادة في التفاوض الدولي، من خلال تقديم قراءة للتجربة الإيرانية بوصفها نموذجًا غير غربي يقدم بدائل فكرية وعملية لإدارة المفاوضات في عالم متسارع التحولات ومنجذب أكثر فأكثر نحو تعدد الأقطاب. 

I: قوة التفاوض: عباس عراقجي وفن المساومة السيادية

يمثل كتاب "قوة التفاوض" لعباس عراقجي رؤية شاملة توضِّح كيف يتحول التفاوض إلى أداة سيادية قادرة على إبراز هوية الأمة وحماية مصالحها. ومن خلال ستة فصول متكاملة، يعرض المؤلف مفاهيم التفاوض وأنواعه وصلته بالقوة الوطنية، فضلًا عن المهارات العملية اللازمة، والسمات الشخصية للمفاوض، وصولًا إلى بلورة نظرية "مساومة البازار" التي تستند إلى موروث ثقافي وتجربة تاريخية متجذرة. غير أن قيمة هذا الإطار النظري تتضح أكثر عند مقارنته بالتجربة العملية التي قدمها محمد جواد ظريف في مذكراته "صمود الدبلوماسية". فبينما صاغ عراقجي المرجع الفكري والثقافي للتفاوض الإيراني، جسَّد ظريف هذه الرؤية في الممارسة الميدانية، ولاسيما خلال المفاوضات النووية؛ حيث تحولت مبادئ مثل المساومة التدريجية والاستنزاف الزمني إلى أدوات فعلية لتحقيق مكاسب تفاوضية. إن هذا التلاقي بين النظرية والتطبيق يكشف أن الدبلوماسية الإيرانية ليست مجرد استجابات ظرفية، بل عملية إستراتيجية متوازنة تجمع بين التمسك بالثوابت الوطنية والمرونة التكتيكية لتفادي العزلة الدولية.

- الفصل الأول: التفاوض السياسي: المفهوم والوظيفة

في عودة إلى مفهوم الحوار ومستعينًا بالسردية الدينية "الحوار كجوهر خلق الإنسان" والفلسفية "الإنسان في الأصل كائن اجتماعي"، يفتتح عراقجي كتابه بتأسيس مفاهيمي دقيق لمصطلح "التفاوض السياسي"، مؤكدًا أنه ليس عملية تقنية لإدارة الخلافات فحسب، بل أداة كذلك لتنفيذ السياسة الخارجية لتحقيق الأهداف الوطنية (عراقجي، 2025، ص 40). ويرى أن التفاوض يتضمن عناصر رئيسية: اعترافًا متبادلًا، تناقضَ مصالح، أهدافًا واضحة، أدوات ضغط، وقنوات اتصال. كما يشدِّد على أن التفاوض لا يُعدُّ نقيضًا للحرب، بل هو ساحتها (عراقجي، 2025، ص 27)، وهو أيضًا امتدادٌ لها بأساليب سلمية (عراقجي، 2025، ص 49). في هذا السياق، يمكن استحضار مقولة كلاوزفيتز (Clausewitz): "الحرب ليست سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى" (Clausewitz, 2007, p. 28). وهو ما يوازي رؤية عراقجي التي تضع التفاوض امتدادًا للحرب ولكن بوسائل دبلوماسية.

ولتعزيز هذا الإطار، يقدم عراقجي في هذا الباب تحديدًا أكثر تفصيلًا لماهية التفاوض، فيؤكد أنه فعل اجتماعي يقوم على تفاعل مباشر بين الأطراف، وأن غايته تحقيق أفضل صفقة ممكنة ترضي الجميع (عراقجي، 2025، ص 38-39). وتكشف هذه النقاط عن أن التفاوض ليس مجرد أداة صراع، بل عملية تواصلية مشروطة بالبحث عن تسوية متوازنة، حتى في ظل التناقضات. وهذا ما يُعرف في نظرية اللعب بإستراتيجيات توازن ناش (Nash Equilibrium)، حيث لا يجد أي طرف فائدة من تغيير موقفه إذا بقي الطرف الآخر على موقفه (, pp. 79-952013 Tadelis, ).

- الفصل الثاني: أنواع التفاوض السياسي–تنوع الأشكال وتكيُّف الأدوات  

ينتقل عراقجي في الباب الثاني إلى تصنيف المفاوضات السياسية عبر مجموعة من المعايير التي تكشف عن تعدد وظائفها وأبعادها. فهو يميز، من حيث الأهداف، بين التفاوض من أجل التعاون، والتفاوض المخصص لتسوية الخلافات، والتفاوض لمواجهة الضغوط الداخلية أو الخارجية، زيادة على التفاوض الوقائي، والتفاوض القائم على الوساطة لتقريب المواقف بين الأطراف. كما يلفت الانتباه إلى "التفاوض من أجل التفاوض"، الذي يُستدعى في بعض الحالات ليكون أداة بحد ذاتها لشراء الوقت، أو امتصاص الضغوط، أو تبادل الاتهامات، أو الحصول على المعلومات، أو تأكيد المكانة والاعتبار الدولي لطرف معين (عراقجي، 2025، ص 53-66).

ومن زاوية أخرى، يصنِّف الكاتب المفاوضات وفق الشكل والتركيب أو البنية والإجراءات، فيتحدث عن المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف، الرسمية وشبه الرسمية وغير الرسمية، المباشرة وغير المباشرة، إلى جانب السرية وشبه السرية والمعلنة، جامعًا هذه الأشكال تحت مسمى "المفاوضات المركبة" لما تنطوي عليه من تداخل في المستويات والأدوات (عراقجي، 2025، ص 67-82). ويتوسع في ذلك ليشمل بعض الأمثلة حسب طبيعة الموضوع (نووي، أمني، تجاري، ثقافي)، والعلاقة بين الأطراف (عدائية، تعاونية، غير متكافئة). ويعود دائمًا الى القضية النووية الإيرانية وهي أحد الملفات المعقدة التي تتطلب الجمع بين عدة أنماط في آن واحد، نظرًا لتداخل عناصر الأمن والطاقة والتجارة والشرعية الدولية فيها.

ويشدِّد عراقجي على أن التعامل مع أطراف غير متكافئة يستدعي تبني إستراتيجيات تفاوضية مرنة مثل تأجيل القبول إلى اللحظة الحرجة، أو تجزئة الملفات، أو إشراك أطراف ثالثة للضغط غير المباشر. ومن أبرز الأمثلة التي يستعرضها مفاوضات إيران مع الولايات المتحدة عبر وساطات، عمانية (من 2011 الى 2013 نموذج للمفاوضات السرية) وسويسرية (الملف النووي بين إيران و5+1 مفاوضات شبه سرية)، والتي أظهرت كيف يمكن للقنوات غير المباشرة أن توفر هامشًا أوسع للمناورة السياسية.

بهذا المعنى، يكشف عراقجي أن التفاوض ليس عملية جامدة تخضع لنموذج واحد، بل هو ممارسة ديناميكية قابلة للتكيف المستمر مع تحولات الزمن والسياق الدولي. ويتقاطع هذا الطرح مع ما يبرزه فيشر وأوري (Fisher, Ury, & Patton, 1991, pp. 10–11) من أن التفاوض عملية إبداعية تستلزم البحث عن حلول مبتكرة تتجاوز الجمود التقليدي وتستجيب لتعقد الأطراف وتعدد القضايا. وتتجلى هذه الرؤية النظرية بوضوح في التجربة العملية لمحمد جواد ظريف، الذي جسَّد من خلال قيادته لمفاوضات 5+1 قدرة الدبلوماسية الإيرانية على الانتقال المرن بين أنماط تفاوض متعددة، وبناء تحالفات ديناميكية وفق مقتضيات الموقف. فقد نسَّق مع روسيا والصين لمواجهة الضغوط الغربية، رغم إدراكه لمساعي موسكو لإفشال أي تقارب إيراني-غربي، واضعًا صمود الأمة والكرامة الوطنية في قلب العملية التفاوضية (ظريف، 2025، ص 216-217؛ ص 356-364).

- الفصل الثالث: التفاوض ترجمة للقوة الوطنية

يشكِّل هذا الفصل ربما العمود الفقري للفكر التفاوضي عند عراقجي. فهو يرفض الفصل بين التفاوض والقوة لكنه يعيد تعريفها معتبرًا أنها تتجاوز بعدها العسكري لتشمل كذلك القوة الناعمة والقوة المعنوية؛ الثقافة والهوية والدين والتاريخ، والقوة الذكية والتنمية الاقتصادية، وقوة الشرعية الداخلية من خلال التلاحم الوطني الذي يشكِّل دعمًا شعبيًّا للمفاوض. ويحذر الكاتب من أن الدخول في التفاوض دون رصيد من هذه القوى يعرِّض الدولة للضعف أمام خصومها. كما يشرح كيف استخدمت إيران قوتها الوطنية من خلال أدواتها المحدودة في وجه قوى كبرى من خلال تقدم القدرات النووية لتوسيع هامش التفاوض: التلويح بالرد غير المتماثل، واستثمار الدعم الشعبي لردِّ الضغوط (عراقجي، 2025، ص 113-120). يعزز هذا الطرح تصورًا واقعيًّا عن العلاقات الدولية؛ إذ لا يكفي "الحق" دون "القدرة"، ولا معنى للكرامة إن لم تتجسد في خطاب تفاوضي قائم على الثقة بالنفس. وفي هذا الصدد، يتقاطع تصور عراقجي مع ما أكده جوزيف ناي (Joseph S. Nye) (Nye, 2004, p. 5-6)؛ إذ يوضح أن مصادر القوة الحديثة لم تعد حكرًا على البعد العسكري، بل تشمل عناصر رمزية وثقافية واقتصادية تتيح للدول الصغيرة والمتوسطة توسيع نطاق تأثيرها عبر أدوات تفاوضية أكثر ذكاءً.

- الفصل الرابع: مهارات ومراحل التفاوض–من التحليل إلى الممارسة

ينتقل عراقجي إلى الجانب العملي من التفاوض، فيعرض مراحله الكلاسيكية: مرحلة قبل التفاوض الخاصة بتعزيز القوة المتعددة الأبعاد كما جاء شرحها في الفصل السابق. وذلك لخدمة المساومة خلال المفاوضات (عراقجي، 2025، ص 126-148). ثم تأتي مرحلة إجراء التفاوض عبر استعراض القوة. وتستوجب هذه المرحلة العديد من النقاط: تفادي الغموض في تقديم المفاهيم، واحترام قيم الآخر والامتناع عن الاقتراحات المتطرفة (عراقجي، 2025، ص 149-167). وأخيرًا/ مرحلة نهاية اللعبة والتي تفضي إلى اتفاق معين بين الأطراف أو إلى مأزق عند فشل المفاوضات، وهو ما تحاول الأطراف تفاديه وتفضِّل ترك الباب مفتوحًا أملًا في مفاوضات مستقبلية لإيجاد حل يرضي الجميع (عراقجي، 2025، ص 168-185).

لكن هذا الفصل لا يكتفي بهذا العرض الهيكلي، بل يغوص في المهارات الناعمة مثل إدارة الصمت والاستفزاز أو التهديد، واستخدام المفاجأة والاستنزاف الزمني، وقراءة لغة الجسد، أو استخدام التضحية التكتيكية لبناء الثقة (عراقجي، 2025، ص 152). كما يروي حكايات دقيقة من تجربة الإيرانيين في التفاوض النووي، والإشادة الأميركية بالأسلوب الإيراني المتمثل في الصبر ورباطة الجأش لإرباك الخصم، (عراقجي، 2025، ص 194- 195، الهامشان 72و73).

ويرى عراقجي أن كل مرحلة تفاوضية هي اختبار نفسي بقدر ما هي اختبار عقلي، وأن النجاح فيها يتطلب مزيجًا من ضبط الأعصاب والدقة اللغوية والإلمام بالتفاصيل. هذا الطرح ينسجم مع ما يبرزه جي. ريتشارد شيل (G. Richard Shell) (Shell, 2006, pp. 108-112; 135-140; 201-205)؛ إذ يؤكد أن نجاح التفاوض لا يعتمد على البنية الهيكلية للمراحل فحسب، بل على مهارات ناعمة كذلك مثل التحكم في الإيقاع النفسي للمقابلة، واستثمار الصمت، والموازنة بين الحزم والمرونة. ومن هنا تبرز أهمية النظر إلى التجربة العملية؛ حيث يُظهر مسار محمد جواد ظريف كيف تتحول هذه المبادئ النظرية إلى ممارسة ملموسة في سياق التفاوض النووي (2013-2015). فقد استطاع أن يحوِّل القوة الرمزية الوطنية غير الصلبة إلى رافعة تفاوضية عبر خطابات دولية مؤثرة، موظفًا "الاستنزاف الزمني" تكتيكًا لتحقيق تنازلات غربية. كما تجسَّدت "مساومة البازار" في إدارته للملف النووي بدءًا بمطالب قصوى (رفع العقوبات فورًا)، ثم المناورة عبر تنازلات مرحلية (تخفيض التخصيب مقابل رفع جزئي للعقوبات).

- الفصل الخامس: شخصية المفاوِض–بناء الذات السياسية

في هذا الفصل، ينتقل التحليل إلى المستوى الفردي، فيُركِّز على خصائص المفاوض الناجح (عراقجي، 2025، ص 189-198). وفقًا لعراقجي فإن المفاوض ليس مجرد موظف عادي ينقل أوامر، بل هو ذات سياسية تمتلك ذكاءً إستراتيجيًّا، ووعيًا قوميًّا وثقافيًّا، ومرونة تكتيكية، وصبرًا استنزافيًّا على المناورة والمحاورة بلغة التفاوض تجنبًا لأيِّ سوء فهم قد ينتج عن الترجمة المتاحة في مثل هذه المفاوضات. كما عليه ترك أدنى انفعال إلا إذا كان ذلك ضمن خطة التفاوض التكتيكية.

كما يروي عراقجي كيف تعلَّم أبجديات التفاوض في صغره من والدته التي "كانت تساوم باستمرار وصبر" أثناء تسوُّقها (عراقجي، 2025، ص 203، الهامش 75)؛ مما منحه فهمًا مبكرًا لفن الكتمان، والصبر، واللعب على التفاصيل. ويشدد على أهمية المظهر الشخصي، نبرة الصوت، ترتيب الأولويات، وكيفية التفاعل مع اللحظة التفاوضية. وهذا الطرح يجد صداه في ما عرضه ريموند كوهن(Raymond Cohen)  (Cohen, 1997, pp. 45-49; 92-95; 121-124)، إذ يؤكد هذا أن شخصية المفاوض وحمولتها الثقافية واستعدادها النفسي تشكِّل عاملًا حاسمًا في تفسير سلوكياته وتحديد فُرص نجاحه. ويزداد هذا البعد وضوحًا عند النظر في تجربة محمد جواد ظريف، الذي جسَّد عمليًّا رؤية عراقجي حول المفاوض بوصفه ذاتًا سياسية؛ إذ جمع بين الاعتزاز بالنفس في تعامله مع نظرائه الغربيين بهدف "كسر غطرستهم"، وبين المرونة النفسية كما ظهر في إدارته لأزمة الطائرة الأوكرانية (2020)؛ إذ احتوى الانتقادات الداخلية بينما حافظ على الملف التفاوضي (ظريف، 2025، ص 162-166).

- الفصل السادس: مساومة البازار-النظرية الإيرانية في التفاوض

هذا الفصل هو الأكثر ثقافية في الكتاب، ويُعد تجسيدًا للهوية الإيرانية في عملية التفاوض. يقدم عراقجي "مساومة البازار" على أنها نظرية تفاوضية قائمة على المساومة المتواصلة دون كلل، مع استخدام عامل الوقت تكتيكًا، وتكرار المطالب نفسها بشتى الطرق والأشكال المنطقية لإرهاق الخصم، كما يفعل أصحاب سوق السجاد الإيراني مع الزبون (عراقجي، 2025، ص 205).

يشرح الكاتب كيف أن الثقافة التفاوضية الإيرانية ليست نسخة من الغربية، بل تستند إلى تجربة تجارية-اجتماعية متجذرة في البازارات؛ حيث لا يُعرض السعر الحقيقي أبدًا في البداية، بل يُخاض التفاوض طقسًا رمزيًّا يعكس الاحترام المتبادل والمكانة. ويرى أن هذا الأسلوب مكَّن إيران من الثبات في مفاوضات طويلة رغم العقوبات؛ لأنها لم تدخل المفاوضات بهدف الحل السريع، بل على أنها معركة إرادات طويلة النفس. ويُظهر الفصل كيف تُترجم الثقافة الشعبية إلى إستراتيجية تفاوض، ويعيد الاعتبار لما يسمى بـالذكاء الشعبي في السياسة الخارجية.

ما يقدمه عراقجي يجد ما يوازيه في دراسات مقارنة مثل عمل لوسيان باي(Lucien Pye) ، الذي يعتمد على مقابلات مكثفة مع رجال أعمال أميركيين ويابانيين، فيُبرز باي أن التفاوض التجاري-الثقافي ليس مجرد ممارسة اقتصادية، بل انعكاسًا لهوية جماعية وقيم اجتماعية متجذرة مثل "guanxi" و"face" (Pye, 1982, p. 88-91)، تُترجم إلى تكتيكات سياسية ودبلوماسية من خلال دمج العناصر العاطفية مثل "xenophobia" و"xenophilia" (Pye, 1982, p. 81-83)، واستخدام الطقوس الرمزية (حتى للعلم والتكنولوجيا) جزءًا من الأسلوب التفاوضي (Pye, 1982, p. 84). وهذا النهج، والذي يعكس الذكاء الشعبي في مواجهة التحديات الدبلوماسية، يبقى إلى حدٍّ بعيد مشابهًا للثبات الإيراني في المفاوضات الطويلة؛ إذ يُفضِّل الجانب الصيني، كما هو واضح عند باي (Pye, 1982, p. 49)، اختبار صبر الطرف الآخر، وهو ما يتماشى مع إستراتيجية إيران في تجنب منطق الحلول السريعة.

II: القوة والهوية على طاولة التفاوض: قراءة مقارنة بين الشرق والغرب

تفتح الفصول الآتية نافذة على التفاوض من خلال مقارنات نظرية وتاريخية، مركِّزة على رؤية عباس عراقجي في مواجهة ويندي شيرمان، وكيسنجر، وأرود. وتستكشف أيضًا كيف تتشابك القوة والثقافة والتاريخ في صياغة إستراتيجيات تفاوضية، مقدمة تحليلًا أوسع للدبلوماسية المعاصرة.

1: عراقجي وشيرمان: تشابك الإرادة الوطنية والأصالة الفردية

يستعرض هذا الفصل ثنائيةً فكريةً وعمليةً في فن التفاوض، من خلال مقاربة الدبلوماسي الإيراني، عباس عراقجي، ونظيرته الأميركية، ويندي شيرمان. فبينما يستند عراقجي إلى قوة الدولة وهويتها الثقافية باعتبارها مصدرًا للشرعية التفاوضية، تُعلي شيرمان من شأن الأصالة الفردية والمرونة العاطفية. ويُجسِّد الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 نقطة التقاء بين المنهجين؛ إذ نجح في دمج صبر "مساومة البازار" الإيرانية (عراقجي، 2025، ص 205) مع البراغماتية والعفوية الأميركية (Sherman, 2018, p. 15)، ليُبرِز أن الدبلوماسية الفعَّالة تقوم على الجمع بين الإستراتيجية المُحْكَمة والذكاء العاطفي.

- أسس القوة التفاوضية: الجماعية مقابل الفردية

ينطلق عراقجي من رؤية أن التفاوض الناجح يستند إلى رصيدٍ متعدد الأبعاد من القوة الوطنية، يشمل القوة الرمزية (الكرامة والهوية)، والناعمة (الثقافة والتاريخ)، والاقتصادية، والشرعية الداخلية. ويوضح كيف وظَّفت إيران هذه العناصر في مفاوضاتها النووية مع مجموعة 5+1 عبر التخصيب، والرد غير المتماثل، وحشد التأييد الشعبي، محذرًا من أن التفاوض من موقع الضعف يعرِّض الدولة للابتزاز. وبهذا، يُمثِّل منهجه تعبيرًا عن واقعية سياسية ترى في التفاوض معركة إرادات للحفاظ على السيادة في مواجهة الهيمنة.

في المقابل، تقدِّم شيرمان (Sherman, 2018, pp. 12-14) رؤيةً مختلفةً لمصدر القوة، فترى أنها تكمن في الأصالة الشخصية والجرأة الفردية، خاصةً في بيئة دبلوماسية يهيمن عليها الذكور. وتستشهد بلحظة انفعالها خلال مفاوضات فيينا (يوليو/تموز 2015)، فقد أسفرت دموعها الصادقة عن كسر الجمود وتليين موقف الوفد الإيراني. وهي ترفض تفسير هذه العاطفة على أنها ضعف، بل تعدها مصدر قوةٍ وتواصلٍ إنساني، حتى في سياق ثقافي مختلف قد لا يُتقبَّل ذلك بسهولة. وبينما يربط عراقجي القوة بالدولة ومؤسساتها، ترى شيرمان أنها تُبنى خلال العملية التفاوضية ذاتها عبر الصدق العاطفي. إلا أن كلا المنهجين يتقاطعان في اعتبار القوة -سواءً أكانت جماعية أم فردية- أساسًا للتأثير والنفوذ على طاولة المفاوضات.

- التأثير الثقافي على الأسلوب التفاوضي

يصف عراقجي النمط التفاوضي الإيراني بـ"مساومة البازار"، المستمد من تقاليد الأسواق المحلية، والذي يعتمد على المطالب العالية، والصبر الإستراتيجي، والمرونة التكتيكية. ويرى في هذا النهج أداةً ثقافيةً لتعزيز الموقف التفاوضي والحفاظ على الكرامة الوطنية في مواجهة الضغوط الدولية، كما حدث خلال مفاوضات البرنامج النووي.

أما شيرمان (Sherman, 2018, p. 15)، فتنطلق من خلفية أميركية تقدر الفردية والتعبير الشخصي، مدعومة بتجربتها في حركات الحقوق المدنية والنسوية. وقد استخدمت هذه الخلفية في تبني أسلوبٍ قائمٍ على الصراحة والعفوية، كما في لحظة البكاء التي أسهمت في إذابة الجليد مع الوفد الإيراني. وهكذا، يظل الإطار الثقافي حاسمًا في تشكيل الأسلوب التفاوضي: فبينما يستخدم عراقجي الثقافة درعًا جماعية، تستخدمها شيرمان جسرًا فرديًّا نحو التواصل.

- الأدوات والتكتيكات: بين التخطيط والعفوية

يؤكد عراقجي أهمية الإعداد المُسبق والمراحل المُنظمة للتفاوض، بدءًا من التحضير ووصولًا إلى مرحلة ما بعد الاتفاق. ويركز على مهارات مثل إدارة الصمت، والاستنزاف الزمني، وقراءة لغة الجسد، بما يعكس نهجًا منهجيًّا يهدف إلى السيطرة على إيقاع المفاوضات.

وفي مقابل هذا النهج المحسوب، تُبرز شيرمان (Sherman, 2018, pp. 12-14) قيمة المرونة والاستجابة اللحظية للظروف. فانفعالها العاطفي في فيينا -وإن لم يكن مُخططًا له- أدى إلى كسر الحواجز النفسية وتسهيل الوصول إلى أرضية مشتركة، وهي لحظة يؤكدها عراقجي نفسه في روايته للحدث (عراقجي، 2025، ص 208). ويظهر الاتفاق النووي كيف يمكن للتخطيط الإستراتيجي والمرونة العاطفية أن يتكاملا في تحقيق نتائج دبلوماسية معقَّدة.

- دور المفاوض: ممثل الدولة أم صوت الشخصية؟

ينظر عراقجي إلى المفاوض بوصفه ممثلًا للدولة وهويتها، ويرى أن صفاته الشخصية يجب أن تخدم الأهداف الوطنية وتعزز السيادة. وهو بذلك يدمج العاطفة في إستراتيجية أوسع، ولا يفسح في المجال للعفوية خارج هذا الإطار. بالمقابل، ترى شيرمان (Sherman, 2018, p. 14) أن المفاوض هو -قبل كل شيء- إنسان يستند إلى تجاربه وقناعاته الخاصة، وأن صدقه العاطفي قد يكون عاملًا حاسمًا في تحقيق الاختراقات. ويبقى القاسم المشترك بينهما هو الإيمان بأهمية البعد الإنساني في التفاوض، وإن اختلفت طريقة توظيفه.

- الرؤية والأهداف: بناء الدولة أم تمكين الفرد؟

يسعى عراقجي في كتابه إلى تقديم نموذج تفاوضي إيراني يدمج الواقعية السياسية بالخصوصية الثقافية، بهدف تعزيز أداء الدبلوماسية الوطنية وتقوية موقفها في المحافل الدولية. أما شيرمان، فتهدف من خلال سرد تجربتها إلى إلهام القرَّاء -خاصة النساء- وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم التفاوضية، وترى أن النجاح لا يعتمد على الإعداد الجيد فحسب، بل على الشجاعة العاطفية كذلك (Sherman, 2018, p. 14).

2- بين الهوية والمصلحة: مدارس التفاوض في مرآة الفكر الدبلوماسي

يستكشف هذا الفصل التباينات والتكاملات بين مدارس التفاوض المختلفة، من خلال مقارنة منظور عباس عراقجي في "قوة التفاوض" مع رؤى دبلوماسيين غربيين بارزين مثل هنري كيسنجر وجيرارد أرود، اللذين ينتميان إلى مدرستين مختلفتين. يركز النقاش على كيفية تفاعل الهوية الثقافية مع المصالح السياسية في عملية التفاوض؛ إذ يدمج عراقجي الثقافة الإيرانية أداة إستراتيجية للصمود، بينما يؤكد كيسنجر الواقعية الكلاسيكية المبنية على توازن القوى، ويضيف أرود بُعدًا تاريخيًّا يحذر من مخاطر الغطرسة في إدارة الصراعات. من خلال هذه المقارنات، يبرز الفصل كيف يمكن للدبلوماسية المعاصرة أن تتجاوز الإطار الغربي التقليدي لتشمل أبعادًا ثقافية وتاريخية؛ مما يثري فهم التفاوض باعتباره عملية متعددة الأبعاد في عالم متعدد الأقطاب.

- التفاوض بين الشرق والغرب: عراقجي وكيسنجر بين الواقعية الثقافية والواقعية الكلاسيكية

لإثراء التحليل، نورد مقارنة بين منظور عباس عراقجي في "قوة التفاوض" ومنظور هنري كيسنجر في كتابه الشهير "Diplomacy" الذي يقدم تاريخًا شاملًا للدبلوماسية من عصر ويستفاليا(Westphalia)  إلى نهاية الحرب الباردة، مع التركيز على الواقعية أساسًا للعلاقات الدولية. كلا الكاتبين ينطلقان من منظور واقعي يرى التفاوض امتدادًا للقوة، لكنهما يختلفان في الإسهام: عراقجي يدمج الثقافة والسيادة الوطنية على أنها عناصر مركزية، بينما يركز كيسنجر على توازن القوى العالمي والدور الأميركي على أنه محور للنظام الدولي، مُعرِّفًا الدبلوماسية على أنها فن إستراتيجي يعتمد على التوازن بين المصالح الوطنية والقوى الكبرى. في كتاب كيسنجر، يُعرَّف التفاوض على أنه أداة لإدارة التوازن بين الدول، مستلهِمًا نموذج نابليون الثالث وبسمارك؛ إذ تشكل القوة المادية (العسكرية والاقتصادية) الأساس لأي اتفاق (Kissinger, 1994, pp. 103-136) . كما يرفض كيسنجر المثالية الويلسونية (نسبة إلى الرئيس الأميركي السابق، وودرو ويلسون)، التي ترى التفاوض وسيلة للعدالة العالمية، ويؤكد أن فكر ويلسون قام بفصل الدبلوماسية عن مفهومي القوة والمصلحة الوطنية، واستبدل بها مبادئ قانونية وأخلاقية مجردة، وهو ما يراه غير فعَّال بل خطرًا pp. 52-54) (Kissinger, 1994, ، وهذا يتقاطع مع معادلة عراقجي التي تفيد بأنه لا يوجد تفاوض ناجح دون قاعدة قوة وطنية. ومع ذلك، يوسع عراقجي تعريف القوة ليشمل الأبعاد الرمزية والناعمة مثل الهوية والثقافة، كما في "مساومة البازار" الإيرانية التي تعتمد على الصبر والمراوغة طقسًا ثقافيًّا. أما كيسنجر، فيراها أكثر ميكانيكية، كما في تحليله لمؤتمر فيينا 1815؛ حيث كان التفاوض لعبة شطرنج بين قوى أوروبية متكافئة، دون التركيز على الخصوصيات الثقافية .(Kissinger, 1994, pp. 81-83)

وهذا الاختلاف يعكس سياق كل سياسي: فعراقجي، دبلوماسي إيراني، يدافع عن نموذج غير غربي يقاوم الهيمنة الأميركية، بينما كيسنجر، الذي شغل منصب وزير الخارجية الأميركي من 1973 إلى 1977، ومستشار الأمن القومي من 1969 إلى 1975، فإنه يرى الولايات المتحدة حارسًا للتوازن العالمي، كما في سياسته تجاه فيتنام والشرق الأوسط.  من الناحية النظرية، هما يتشاركان في الواقعية، لكن عراقجي يزيد بُعدًا ثقافيًّا يجعل التفاوض "ترجمة للهوية الوطنية"؛ إذ تكون الكرامة والاستقلال أدوات للثبات أمام العقوبات، كما في مفاوضات النووي الإيراني. أما كيسنجر، بالمقابل، فإنه ينتقد الثقافات "الثورية"، مثل الإيرانية حاليًّا أو السوفيتية سابقًا (Kissinger, 1994, pp. 350-355)، إذ يرى أنها تعيق التوازن؛ لأنها تعتمد على الأيديولوجيا بدلًا من المصلحة البراغماتية.

من جهة أخرى في شخصية المفاوض، يؤكد عراقجي الوعي الثقافي والصبر الاستنزافي، أما كيسنجر فيراها "ذات سياسية" براغماتية، كما في نموذج تاليران (Talleyrand) أو ميترنيخ (Metternich)  (Kissinger, 1994, pp. 78-88)، اللذين كانا يجسِّدان المصلحة الوطنية دون الغوص في الأبعاد الشخصية أو الثقافية.

تجدر الإشارة إلى أن المنظورين يتكاملان في رفضهما للتفاوض على أنه وسيلة مثالية، لكنهما يختلفان في السياق: فعراقجي يبني نموذجًا إيرانيًّا مقاوِمًا للهيمنة، يدمج الثقافة قوة ناعمة لتعزيز السيادة، بينما يرى كيسنجر الدبلوماسية نظامًا عالميًّا يديره الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة؛ حيث تكون الثقافات غير الغربية تحديًا يجب إدارته بالقوة.

- إدارة القوة وتجنب الغطرسة: عراقجي وأرود في مرآة التفاوض الدولي

لإثراء التحليل، يمكن مقارنة منظور عراقجي مع رؤية الدبلوماسي الفرنسي السابق، جيرارد أرود في كتابه "Histoires diplomatiques: Leçons d'hier pour le monde d'aujourd'hui"، الذي يستمد دروسًا من التاريخ لفهم الدبلوماسية في عالم متعدد القطب(Araud, 2022, pp. 4-10).  يبدأ أرود بغزو روسيا لأوكرانيا، في 2022، على أنه دليل على عودة "لعبة القوى الكبرى"، محذرًا من أوهام الأوروبيين الذين اعتقدوا أن السلام أصبح طبيعيًّا بعد 1945، ويشبِّه ذلك بتحذير كيسنجر من "الدول الثورية" التي تتحدى التوازن . (Araud, 2022,  p. 5)  وهذا يتردد صداه مع رفض عراقجي لفصل التفاوض عن القوة؛ إذ يرى كلاهما التفاوض امتدادًا للصراعات، لكن أرود يزيد بُعدًا تاريخيًّا بأن "الإنسان لا يتغير" (Araud, 2022,  p. 8)، مما يعزز دور الثقافة الفارسية القديمة عند عراقجي أداة للثبات في مواجهة الهيمنة.

في الفصل الأول عن حرب الخلافة الإسبانية، يؤكد أرود أهمية "معرفة إنهاء الحرب"؛ إذ يجب على المنتصر عدم الإفراط في الطلبات لتجنب إطالة الصراع، كما حدث مع لويس الرابع عشر الذي رفض تنازلات أولية. (Araud, 2022, pp. 15-17) ، وهذا يتكامل مع مراحل التفاوض عند عراقجي، لكنه ينتقد "الغطرسة" )مستعملًا مفهومها الاصطلاحي الإغريقي القديم( (hubris)  والتي تحول دون التوازن، وهذا يبدو مشابهًا لتحذير عراقجي من التفاوض دون أنواع القوة الأخرى، الناعمة والمعنوية.

أما في فصل السلام في أميانس، فيناقش أرود كيف أنَّ "في الزواج الدبلوماسي على الزوجة ألا تكون جميلة جدًّا"، أي عدم فرض شروط مثالية في المفاوضات تثير الندم بعد ذلك، كما فعل نابليون مع بريطانيا (Araud, 2022, pp. 28-37) .  وهذا يعزز نظرية "مساومة البازار" عند عراقجي؛ حيث الصبر والمراوغة هما السبيل الى تجنب الإفراط.

وهذه المقارنة تكشف كيف يمكن لتاريخ أرود أن يثري واقعية عراقجي، خاصة في زمن عودة القوى الكبرى؛ إذ يجب دمج الثقافة مع التوازن لتجنب الفشل.

في الأخير، تجدر الإشارة إلى أن هذه القراءة المقارنة تشير إلى شبكة من التكاملات والتقاطعات التي تكشف عن تنوع مدارس التفاوض وثرائها. فحين يقدِّم عباس عراقجي في كتابه تصورًا يجعل من التفاوض أداة سيادية متجذرة في الخصوصية الثقافية، يأتي جواد ظريف في "صمود الدبلوماسية" ليؤكد هذا التصور عبر شهادات عملية من قلب المفاوضات النووية؛ حيث تتحول النظرية إلى ممارسة حية تعكس توازنًا بين الهوية الوطنية ومتطلبات البراغماتية السياسية. هذا التلاقي بين عراقجي وظريف يمنح التجربة الإيرانية بعدًا مزدوجًا: نظريًّا وعمليًّا، يثري أدبيات التفاوض بمنظور غير غربي يعتمد على الثقافة رافعة تفاوضية.

وعلى الجانب الآخر، تبرز ويندي شيرمان مقاربة مختلفة تقوم على البعد النفسي والإنساني للتفاوض، مركزةً على الصبر، والمرونة، وبناء الثقة، وهي عناصر تلتقي مع بعض ملامح النموذج الإيراني، لكنها تنطلق من سياق غربي يعطي الأولوية للشفافية والالتزام القيمي. أما هنري كيسنجر في الدبلوماسية فيقدم إطارًا واقعيًّا كلاسيكيًّا يختزل التفاوض في لعبة مصالح بين قوى كبرى، وهو منظور يتقاطع مع عراقجي من حيث إدراك مركزية القوة، لكنه يختلف عنه في إغفال البعد الثقافي والرمزي.

ويأتي جيرار أرود ليضيف البعد السردي-التاريخي، فيكشف كيف تتشكل الممارسات التفاوضية عبر تراكم الخبرة والتجارب الدبلوماسية المتنوعة. وهو بهذا يلتقي مع شيرمان من حيث إبراز البعد الشخصي، ومع عراقجي وظريف من حيث التركيز على الدور المركزي للهوية والسياق.

إن هذا التداخل بين الكتب جميعها يعكس مشهدًا غنيًّا: عراقجي وظريف يقدمان بديلًا ثقافيًّا غير غربي، وشيرمان تمثل البعد القيمي-النفسي، في حين يرسِّخ كيسنجر المقاربة الواقعية التقليدية، وأرود يجمع بين السرد التاريخي والتحليل العملي. ومن خلال هذا التكامل، يتضح أن التفاوض ليس أداة تقنية فحسب، بل هو فضاء تتقاطع فيه القوة، والثقافة، والتجربة الشخصية، والتاريخ، بما يمنح الباحثين مادة خصبة لإعادة التفكير في مستقبل الدبلوماسية الدولية.

خاتمة عامة: التفاوض في عالم متغير: تساؤلات للمستقبل

يشكِّل كتاب "قوة التفاوض" أكثر من شهادة دبلوماسي على مرحلة معقَّدة من السياسة الإيرانية؛ إنه تأريخ ثقافي-سياسي لطريقة تفكير دولة في العالم المعاصر. فمن خلال دمجه بين المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية (القوة، المصلحة، الردع) والمدرسة الثقافية (القيم، الرموز، اللغة)، يقدم عراقجي تصورًا متماسكًا عن التفاوض باعتباره أداة سيادية وهوية وطنية. وهذا المزج يرسِّخ نموذجًا تفاوضيًّا إيرانيًّا متمايزًا، إسهامًا غير غربي في أدبيات التفاوض الدولي.

غير أن قيمة الكتاب لا تتوقف عند حدود التجربة الإيرانية، بل تفتح آفاقًا للمقارنة مع تجارب أخرى، كما عند ويندي شيرمان، أو في أطروحات كيسنجر وأرود. فجميعها تكشف أن التفاوض عملية متعددة الأبعاد، تجمع بين القوة المادية، الثقافة السياسية، والتجربة الفردية. لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات جديدة: كيف يمكن للدول ذات الموارد المحدودة أن توظف ثقافتها لموازنة ضغوط القوى الكبرى؟ وهل تكفي الأصالة الفردية والعاطفة، كما في تجربة شيرمان، لتعويض نقص القوة الصلبة؟ ومع عودة "لعبة القوى الكبرى"، كما يحذِّر أرود، كيف يمكن صياغة مقاربة تفاوضية تدمج بين الدروس التاريخية والخصوصيات الثقافية غير الغربية؟

في عالم يتسم بتسارع التحولات الجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط، تصبح الحاجة ملحَّة إلى نماذج تفاوضية مرنة تراعي الهويات الثقافية دون التفريط بالمصالح الإستراتيجية. يقدِّم عراقجي نموذجًا من هذا القبيل يعتمد على الصمود والذكاء الشعبي، لكنه يثير في الوقت ذاته سؤالًا عن كيفية تكييف هذا النموذج مع تحديات المستقبل، مثل التفاوض في عصر الذكاء الاصطناعي أو النزاعات السيبرانية. كما يذكِّرنا بأن التفاوض ليس مجرد تقنية إجرائية، بل فنًّا سياديًّا يجمع بين العقل والعاطفة والتاريخ. وهنا تتجلى قيمة الكتاب: دعوة لإعادة التفكير في التفاوض باعتباره عملية تتجاوز منطق القوة المادية وحدها، نحو دبلوماسية مبتكرة قادرة على التعامل مع عالم متعدد الأقطاب يتطلب أدوات غير تقليدية وإبداعًا دبلوماسيًّا غير مسبوق.

 

عنوان الكتاب: قوة التفاوض: مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية

المؤلف: عباس عراقجي

دار النشر: دار هاشم للكتب والنشر

تاريخ النشر: 5 مايو/أيار 2025

اللغة: العربية

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 213

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) عراقجي عباس، "قوة التفاوض: مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية"، بيروت: دار هاشم للكتب والنشر، 2025.

(2) ظريف محمد جواد، "صمود الدبلوماسية"، بيروت: دار هاشم للكتب والنشر، 2025.

 

(3) Araud, G. (2022). Histoires diplomatiques : Leçons d'hier pour le monde d'aujourd'hui. Paris: Grasset.
(4) Clausewitz, C. von. (2007). On war (M. Howard & P. Paret, Eds. & Trans.). Oxford University Press.
(5) Cohen, R. (1997). Negotiating Across Cultures: International Communication in an Interdependent World (rev. ed.). Washington, DC: United States Institute of Peace Press.
(6) Fisher, R., Ury, W., & Patton, B. (2011). Getting to Yes: Negotiating Agreement Without Giving In (3rd ed.). New York: Penguin Books.
(7) Kissinger, H. (1994). Diplomacy. New York, NY: Simon & Schuster.
(8) Nye, J. S. (2004). Soft power: The means to success in world politics. New York: PublicAffairs.
(9) Pye, L. W. (1982). Chinese commercial negotiating style. RAND Corporation. (R-2837-AF)
(10) Shell, G. R. (2006). Bargaining for Advantage: Negotiation Strategies for Reasonable People (2nd ed.). New York: Penguin Books.
(11) Sherman, W. R. (2018). Not for the faint of heart: Lessons in courage, power, and persistence. New York, NY: PublicAffairs.
(12) Tadelis, S. (2013). Game Theory: An Introduction. Princeton University Press.