مشكلة الهجرة في تونس: أنواعها وأسبابها وتداعياتها

تشكل الهجرة في تونس تحديا متعدد الأبعاد لم تفلح المعالجات الأمنية في مواجهته. ورغم ما تحمله الهجرة الوافدة والمغادرة من بعض المزايا المحدودة، إلا أن آثارها العميقة تظل أخطر بكثير، سواء لما تمثله من نزيف للطاقات الشابة المتعلمة والماهرة، أو لما يرافق هجرة الوافدين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء من مشاكل العبور والاستقرار.
حرس الحدود التونسي يوقف مركبا من مراكب الهجرة غير النظامية إلى أوروبا (الأناضول)

مقدمة

كانت الهجرة دائمًا موضوعًا متشعِّبًا، نظرًا لارتباطه الوثيق بحياة الإنسان وأحواله المتغيرة. فهو باستمرار يسعى إلى البحث عن الأمن والاستقرار وتحسين شروط العيش. وتحقيق هذه الأهداف ليس متيسرًا للجميع، وإذا تحققت فهي مهدَّدة بالزوال، سواء لأسباب طبيعية، مثل الجفاف والزلازل والفيضانات وغيرها من الكوارث التي يخلِّفها التغير المناخي، أو لظروف يصنعها الإنسان بنفسه مثل الحروب والنزاعات وسياسات القهر والتسلط؛ مما يدفع أبناء البلد الواحد والمجتمع الواحد والعائلة الواحدة إلى مغادرة الأوطان. لذلك، كثيرًا ما يتحول الاستقرار الاجتماعي والمادي والنفسي إلى رحلة محفوفة بالمخاطر ومجهولة العواقب، وإن كانت تمثل للبعض أملًا ومنقذًا. وقد مرَّت بلدان كثيرة بأوضاع جعلت من الهجرة تحديًا أساسيًّا على صعيد المجتمع والسياسة والاقتصاد والنقاش العام. وتنوعت استجابتها لهذا التحدي بحسب نوع الهجرة وموقع كل بلد من هذه الظاهرة، سواء أكان مصدرًا لها أم معبرًا أم وجهة يقصدها المهاجرون.

تتناول هذه الورقة ظاهرة الهجرة في تونس، فتحدد أنواعها وتحلل أسبابها وتقف على مزاياها وتنبه إلى المخاطر التي تحملها للمجتمعات التي تواجه هذه الظاهرة.

أولًا: أنواع الهجرة في تونس وأسبابها

لم تعد مسألة الهجرة في تونس خاصة بأبناء البلد، بل تحولت إلى ظاهرة مركَّبة، لاسيما في السنوات الأخيرة.  فالكثير من المنظمات والمصالح والأفراد يعدون تونس بلدًا آمنًا، لذلك يتعامل معها بوصفها نقطة عبور من دول الجنوب إلى دول الشمال. لذلك، تتعرض تونس إلى موجات متعاقبة من الهجرة والمهاجرين رغم محدودية جغرافيتها مقارنة بدول الجوار. هذا التطور اللافت للهجرة يقتضي تفكيكها والوقوف عند أسبابها، ويمكن تقسيمها إلى نوعين: هجرة محلية، وهجرة عابرة للحدود.

أ- الهجرة المحلية

تقود الهجرة المحلية رغبة بعض التونسيين في مغادرة البلاد والبحث عن حياة أفضل. والمهاجر، حسب القانون التونسي، هو كل شخص يحمل الجنسية التونسية ويبلغ من العمر 15 سنة فأكثر ويقيم في بلد آخر لمدة ثلاثة أشهر على الأقل. وهذا النوع من الهجرة فيه ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: هجرة الطلاب، ويشمل الطلبة الراغبين في مواصلة دراستهم في بلدان أخرى بحثًا عن جامعات أفضل، خاصة في مجال الطب والهندسة. فهذا الخيار، في أغلب الأحيان، يضمن لأصحابه العمل في البلد المستضيف بعد التخرج، ويجنِّبهم الانتظار في طابور العاطلين عن العمل في بلدهم الأصلي. وينقسم هذا الصنف بدوره إلى قسمين: قسم يهاجر عن طريق الدولة في إطار التعاون الدولي والعلمي بين الدول والجامعات، ويخص الطلبة المتفوقين، وقسم يهاجر اعتمادًا على الإمكانات الذاتية والعائلية. وهذا النوع من الهجرة، بقسميه، يستلزم المرور عبر القنوات القانونية والرسمية، وهو -إلى حدٍّ كبير- محمي من المخاطر.

الصنف الثاني: هجرة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، وهذا الصنف جديد نسبيًّا. فقد كان أصحابه ينعمون بالاستقرار والعائدات المجزية ويستفيدون من اليد العاملة الماهرة والرخيصة التي تتميز بها تونس. لكن، في أجواء الربيع العربي وما صاحبه من مطالب مجحفة من طرف العمال، الذين حرصوا على فرض شروطهم متسلِّحين بالإضرابات المتكررة التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل، حدث شلل للكثير من المؤسسات العامة والخاصة. وتحت هذا الضغط الذي تعرضت له المؤسسات الخاصة، تحديدًا، فضَّل الكثير من أصحاب رؤوس الأموال التونسيين والمستثمرين الأجانب مغادرة البلاد بحثًا عن وجهات أفضل للاستثمار والاستقرار.

الصنف الثالث: هجرة العاطلين عن العمل، ويشمل هذا الصنف الراغبين في الهجرة من الشباب العاطل عن العمل، وكذلك من الطلبة الذين تخرَّجوا في الجامعات ولم تستوعبهم سوق الشغل. وهذا الصنف من المهاجرين هو الذي يملأ قوارب الموت المتجهة إلى البلدان الأوروبية في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من الأمان. فالبطالة التي تحاصر أعدادًا متزايدة من الباحثين عن العمل من مختلف الفئات الاجتماعية يضطرُّون لامتطاء قوارب الهجرة السرية والمخاطرة بحياتهم وأحيانًا بحياة أسر بكاملها. وقد فصَّل المسح الوطني التونسي للهجرة الدولية أسباب الهجرة لدى التونسيين ونسبها على النحو التالي:

- تحسين الدخل: 28.5%

- تحسين الظروف المعيشية: 26.7%

- البحث عن عمل: 23.2%

- التعليم: 14.1%  

- الرغبة في السفر: 3.3%

- أسباب أخرى: 2.5%

ب- الهجرة العابرة للحدود

يتعلق هذا النوع من الهجرة بالقادمين من دول الجنوب والساحل والصحراء. ويمكن اعتبار هذه الحالة ملفًّا ثقيلًا ومحرجًا لا لتونس فقط، بل كذلك لبلدان الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وخاصة إيطاليا التي تحولت إلى وجهة مفضلة لعابري الحدود نظرًا للمسافة القصيرة التي تفصل بين الضفتين، فما حيثيات هذا الملف؟ وما تفاصيله؟

من المعلوم أن الوضعية السياسية والأمنية والاقتصادية المهتزة في عدة دول إفريقية من شأنها أن تخلق بؤرًا للتوتر وتفرِّخ المشاكل التي سرعان ما تتحول إلى موجات من الهجرة المنظمة من طرف أباطرة التهريب والسوق السوداء. ومن هذه الدول التي كانت آمنة وتحولت شعوبها إلى مهاجرين ومهجَّرين، السودان وتشاد وغينيا ومالي وساحل العاج.

السودان

استطاع السودانيون إدارة شؤونهم بقدر من الحكمة حتى في ظل التوترات السياسية والأمنية التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير، في 2019. وما أن اشتعل فتيل الحرب، في شهر أبريل/نيسان 2023، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو، حتى حل موسم النزوح والهجرة الواسعة بأهل السودان، وخاصة من المدن التي اشتعلت فيها نيران الحرب. إلى جانب الجيش وقوات الدعم السريع، شاركت في هذه الحرب الأهلية مجموعات عسكرية مسلحة مثل قوة دارفور المشتركة وحركة تحرير السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان. وعلى مدى أكثر من عامين، تحول السودان إلى ساحة صراع عسكري مدمر، فتوقفت الدراسة وتعطلت أغلب المرافق الصحية والخدمية في كثير من المدن والقرى.

دفعت هذه الأوضاع بالكثير من شباب السودان إلى تجاوز الحدود نحو الدول المجاورة. وبما أن تونس تعد أقرب نقطة للغرب وخاصة في اتجاه إيطاليا، بالإضافة إلى اعتبارها بلدًا آمنًا مقارنة بدول أخرى، فقد أصبحت وجهة مفضَّلة لعبور البحر. وحسب إحصاء رسمي بتاريخ يناير/كانون الثاني 2024، بلغ عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس أكثر من 13 ألف شخص، يمثِّل السودانيون 40% منهم. وفي سنة 2023، كانت المفوضية قد استقبلت 7.831 طلب لجوء، بينها 4.676 من السودان، بينما لم يكن عددهم سنة 2022 سوى 868"(1).

فالحرب الأهلية في السودان هي السبب الرئيسي لدفع الآلاف من السودانيين للهجرة إلى تونس، بحثًا عن الأمن والاستقرار المؤقت استعدادًا لعبور البحر إلى أوروبا. فأغلب هؤلاء المهاجرين يمكثون في تونس فترات محددة يستغلونها لترتيب شؤونهم القانونية بالتسجيل لدى مصالح المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ولكن، نظرًا لوجود أعداد كبيرة من جنسيات أخرى في نفس الأوضاع، فإن بعض هؤلاء يُحرَمون من التمتع بهذا الحق فيسعون للاستفادة من فترة إقامتهم في تونس بطرق مختلفة. فبعض المهاجرين السودانيين يستثمرون وقتهم في العمل في بعض القطاعات الخاصة، كالفلاحة والحراسة والصناعة وحظائر البناء. وفي الوقت ذاته يسعون إلى ربط علاقات مع شبكات التهريب لاستخدامها حين تتوافر فرصة عبور البحر على قوارب الموت.

دول الساحل والصحراء (تشاد، غينيا، مالي، ساحل العاج)

اقترنت أسماء أغلب هذه الدول بالانقلابات العسكرية؛ ما يعني غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي رغم ما تتمتع به تلك الدول من ثروات طبيعية هائلة. هذا التنافر بين أرض غنية وسياسة فاشلة يجعل من الهجرة هدفًا رئيسيًّا للمواطنين، فيبحثون عن مختلف السبل للعبور إلى أوروبا(2). تختلف أوضاع هؤلاء المهاجرين نسبيًّا عن أوضاع السودانيين الفارين من حرب أهلية طارئة. فهجرة هؤلاء سببها غياب الاستقرار على كل المستويات، وما انجرَّ عنه من ركود اقتصادي أصبح ملازمًا لدولهم وازداد تراكمًا بسبب جائحة كورونا. كما أسهمت بعض الصراعات الإثنية داخل هذه الدول في تكريس حالة الفوضى والاضطراب.

وقد سمحت عملية إلغاء التأشيرات المتبادلة بين تونس ودول الساحل والصحراء لسنة 2015 بدخول أعداد متزايدة من تلك الدول إلى تونس، وقد كان طريق الهجرة المفضَّل في السابق يمر عبر ليبيا. لكن، بداية من سنة 2017، بعد إبرام الاتفاق بين ليبيا وإيطاليا وما انجرَّ عنه من عمليات احتجاز للمهاجرين، أصبحت الوجهة المفضلة هي تونس. وهكذا تحولت تونس إلى مقصد للمهاجرين القادمين حتى من دول الجوار(3)، وتحولت أعداد كبيرة منهم إلى أزمة تتقاذفها دول المغرب العربي فيما بينها، خاصة مع التشديد المتزايد على حركة العبور إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط.

بسبب الهجرة متنوعة المشارب، تحولت تونس إلى فسيفاء ديمغرافية إفريقية، ومقصد للأفارقة القادمين إليها من جنوب الصحراء بمختلف جنسياتهم. ورغم الصعوبات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بإيواء هذه الأعداد المتزايدة، فقد تمكن بعضهم من التعايش ولو نسبيًّا مع واقعهم الجديد، في انتظار توافر فرصة العبور؛ فانخرطوا في بعض الأنشطة الفلاحية والصناعية، وفي حظائر البناء حتى يتمكنوا من توفير نفقاتهم اليومية وتمويل بقية الرحلة. وقد كان لمدينة صفاقس وقراها نصيب الأسد في استقبال المهاجرين، وتشغيل بعضهم ولو بمقابل زهيد مع إيوائهم في محلات للسكن. ومن خلال هذه الخطوات العفوية تأسَّس ما يمكن تسميته بالاقتصاد الموازي للمهاجرين.

ثانيًا: مزايا الهجرة

رغم الانتقادات الواسعة لظاهرة الهجرة، سواء في بلدان المصدر أم في بلدان العبور والاستقرار، فإن هناك الكثير من المزايا التي يمكن أن تحققها هذه الظاهرة. فإذا نظرنا إلى المهاجرين التونسيين، خاصة من طلاب الجامعات، نجدهم يقدمون عدة خدمات لوطنهم مثل التحصيل العلمي الذي يكتسبونه من أرقى الجامعات في العالم؛ ما يجعل فئة من الشعب التونسي مواكبة لآخر الإنجازات العلمية. كما أن الكثير منهم يحصلون على وظائف فيستقرون في الخارج، فيخففون عن الدولة نصيبًا من أعباء التشغيل. أما العمال المهاجرون، فبالإضافة إلى ضمان مواطن شغل لأنفسهم، فإنهم يوفرون العيش الكريم لكثير من العوائل، ويجلبون العملة الصعبة لميزانية الدولة، ويسهمون في تعزيز الدورة الاقتصادية. وتشير الأرقام إلى أن تحويلات المهاجرين من العملة الصعبة باتت تشكل موردًا مهمًّا للاقتصاد التونسي. وقد كشف محافظ البنك المركزي التونسي، أن المغتربين التونسيين يسهمون بمتوسط تحويلات يناهز 120 دولارًا شهريًّا للفرد الواحد، في حين يصل المستوى العالمي إلى 200 دولار(4)، وهو ما يعد إنجازًا مهمًّا مقارنة بالمستوى العالمي للتحويلات.

أما المزايا التي تجلبها هجرة الأفارقة من بلدان جنوب الصحراء فهي متعددة، منها إدخال حركية على سوق الإيجارات في المدن التي يستقرون بها، مثل مدينة صفاقس. ومنها تغطية العجز في مجال اليد العاملة؛ إذ هناك العديد من الأنشطة التي أصبح الشباب التونسي يعزف عن القيام بها، سواء في مجال الفلاحة أو العمل في حظائر البناء أو غيرها من المهن الصغرى التي عجز أصحاب المؤسسات الخاصة عن توفير اليد العاملة التونسية لها. ونظرًا للظروف الصعبة التي يعيشها هذا الصنف من المهاجرين، فإن لديه الاستعداد للعمل مقابل أجرة زهيدة ودون تغطية اجتماعية، وهو ما يتناسب مع رغبة بعض المشغلين. وقد خلق هؤلاء سوقًا داخلية موازية في الأحياء التي استقروا بها؛ ما رفع من وتيرة الاستهلاك وحرَّك الآلة الإنتاجية لتوسيع طاقة إنتاجها. من جهة أخرى، يسهم بعض هؤلاء المهاجرين في توفير العملة الصعبة من خلال التحويلات الخارجية التي تصلهم. وقد كشف مسؤول بمجلس الأمن القومي التونسي عن تلقي المهاجرين المقيمين بشكل غير قانوني تحويلات بثلاثة مليارات دينار (نحو مليار دولار) من دول إفريقيا جنوب الصحراء خلال النصف الأول من عام 2023(5).

ثالثًا: مخاطر الهجرة

رغم المزايا التي سبقت الإشارة إليها، فإن للهجرة مخاطر على أكثر من صعيد. فهجرة اللاعودة، التي ينخرط فيها الطلبة وغيرهم من أصحاب المهارات والكفاءات العالية، تمثل نزيفًا مستمرًّا لطاقات بلد يسعى إلى بناء ذاته. فأغلب المهاجرين من هذه الفئة نخبة متميزة في تخصصات نوعية مثل الهندسة والطب وعلوم الكمبيوتر، وقد تكفلت الدولة بتعليمهم واستثمرت فيهم عائلاتهم طويلًا. ومع ذلك يقدَّمون على طبق من ذهب إلى دول أخرى، يسهمون في نهضتها ماديًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا. هذا النزيف يحتاج إلى مقاربة وطنية شاملة لوقفه واسترجاع هذا الرأسمال البشري المهدور. ومن المخاطر أيضًا، اضطرار الشباب للزواج بالأجنبيات لترتيب أوضاعهم القانونية أو الحصول على الاعتراف الاجتماعي، وهو ما يترتب عنه بناء أسر مزدوجة الجنسية والانتماء. وفي أحيان كثيرة ينشأ الأبناء جاهلين بلغتهم وثقافتهم الأصلية، بحكم غلبة أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية في بلدان الإقامة.

وتمثل هجرة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، الذين فرُّوا من جحيم الإضرابات العمالية، خسارة كبيرة للاقتصاد الوطني. وكان هذا الصنف من المهاجرين يوفر الآلاف من موارد الرزق للعمال والموظفين، وفجأة تغيرت أوضاعهم، وتضاءلت الفرص التي كانت متاحة أمامهم، ففضلوا مغادرة البلاد والإفلات من آثار الركود الاقتصادي وتراجع حركة التوريد والتصدير التي كانت تنعش أنشطتهم التجارية والاقتصادية.

أما الهجرة الوافدة على تونس، وخاصة خلال السنوات الأخيرة، فتحمل مخاطر متعددة ذات طبيعة أمنية واجتماعية واقتصادية. فقد ترافقت بعض موجات الهجرة غير النظامية مع انتشار الجريمة مثل السرقة والاعتداء بالعنف على الأشخاص والعائلات وإفساد بعض المزارع وغابات الزيتون بعد أن جرى تحويلها إلى أحياء سكنية. حدث ذلك في عدة مناطق أبرزها منطقة العامرة من ولاية صفاقس. وسُجِّلت حالات متزايدة من اقتحام المحلات السكنية الشاغرة في ظل غياب أصحابها، إضافة إلى نصب الخيام في أحياء راقية داخل العاصمة، مثل جهة المرسى؛ ما أضفى مظاهر غير مألوفة على تلك الأحياء المعروفة بنظامها وطبيعتها السياحية.

رابعًا: المعالجات والحلول

نظرًا لما تتسم به ظاهرة الهجرة من تعقيدات، فإن مواجهتها تتطلب بذل الكثير من الجهود المشتركة بين مختلف الأطراف المعنية. لذلك سارعت تونس إلى إبرام اتفاقيات شراكة مع إيطاليا بصفة خاصة، ومع دول الاتحاد الأوروبي عامة. بمقتضى تلك الاتفاقيات، عززت السلطات التونسية من إجراءات مراقبة حركة الهجرة وحراسة الحدود البحرية للحدِّ من ظاهرة قوارب الموت. مقابل ذلك، قدمت الدول الأوروبية مساعدات مالية وزوَّدت المصالح الأمنية التونسية بقوارب ومعدات بحرية تساعدها في تنفيذ مهامها. إلى جانب هذا الحل الأمني والرقابي، هيأت تونس بعض الفضاءات السكنية للمهاجرين، خاصة في ضواحي مدينة صفاقس، لاستيعاب أعدادهم المتزايدة، كما فتحت لهم باب العودة الطوعية إلى بلدانهم.

في هذا السياق، تضمَّن التقرير الوطني الطوعي لمتابعة تنفيذ الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، مجموعة من المشاريع والاتفاقيات والوعود لخدمة المهاجرين. منها تسليم السلطات التونسية المختصة بطاقات إقامة وقتية أو عادية للأجانب الراغبين في الإقامة، وتمكين المقيمين من الحصول على بطاقة إقامة تسمح لهم بتعاطي عمل مأجور في تونس(6).

ما يبدو واضحًا، أن الخيارات أمام تونس لمواجهة التحديات التي تطرحها ظاهرة الهجرة محدودة جدًّا، وأن الجهود المبذولة، رغم تنوعها، لا تزال قاصرة. فإذا نجحت في مهمة حماية الحدود البحرية والحد من أعداد قوارب الموت المتجهة إلى أوروبا، فإن أعداد المهاجرين المتدفقين عبر الحدود الترابية ما زالت في تزايد مستمر. وقد أصبح هؤلاء المهاجرون يشكلون كتلة ديمغرافية مؤثرة، وترحيلهم يحتاج إلى إمكانات مادية وأمنية ضخمة، إضافة إلى الإجراءات القانونية المعقَّدة. ولا مفرَّ لتونس من التنسيق مع بلدانهم الأصلية لإلزامها بمعالجة هذه الظاهرة قبل تفاقمها، وبذلك تلتقي الحلول الأمنية مع الحلول السياسية والدبلوماسية.

أما مشكلة الهجرة المغادِرة التي تتعلق بالتونسيين، فهي تحتاج إلى مقاربة متعددة الزوايا، تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتربوية. ولابد من ابتكار حلول تبدأ من تغيير نظرة الدولة لشبابها كونهم يشكلون رأسمال نوعيًّا وليسوا عبئًا على الاقتصاد أو المؤسسة التعليمية. وعليها أن تحتوي هؤلاء الشباب الراغب في الهجرة من خلال تشجيعه على بعث المشاريع الإنتاجية وتيسير الإجراءات القانونية وإعفائه في بداية نشاطه من الضرائب والتغطية الاجتماعية وغيرها من العوائق التي تحول دون نجاح المشاريع الناشئة بمختلف أنواعها. إلى جانب ذلك، عليها مساعدة المنتجين منهم على تسويق إنتاجهم في الأسواق الداخلية والخارجية.

إنَّ تشجيع الدولة لشبابها على الانخراط في المشاريع الفلاحية والصناعية والخدمية بمختلف أحجامها، ودعمه لبعث مبادرات لتطوير التكنولوجيات الجديدة والفائقة، كفيل بدفعه للاستقرار في وطنه، بدل الهجرة والانسياق في عوالم الغربة بما تتضمنه من مخاطر فردية وجماعية.

خاتمة

تُعدُّ الهجرة، عمومًا، ملفًّا معقدًا على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، ولا يمكن معالجته بالمقاربات الأمنية أو الحلول الفردية. فهو يحتاج إلى مقاربات شاملة تشترك فيها كل الدول المعنية، سواء جنوب الصحراء أو في شمال إفريقيا أو على الضفة الأوروبية من المتوسط. فلا تزال مقاربة ملف الهجرة في دول المغرب العربي، رغم وحدة المأزق والمصير، يغلب عليها الطابع الفردي. وأغلب الاتفاقيات التي عقدتها تلك الدول مع الجانب الأوروبي كانت اتفاقيات ثنائية، لم تأخذ بعين الاعتبار عناصر الشراكة في هذا التحدي. وعندما فشلت تلك المعالجات، أخذت بعض الدول المغاربية تلقي بالمهاجرين الوافدين إليها على حدود جيرانها في حين أن الموقف الموحَّد في التفاوض مع بلدان الضفة الأخرى من شأنه أن يجعل الدول المغاربية في موقع قوة، لأنها تمثل الحاجز الأخير للمهاجرين الأفارقة المتجهين إلى أوروبا. فليس من وظيفة تلك الدول حراسة الحدود الأوروبية الجنوبية مقابل صفقات ثنائية أو مساعدات مالية وأمنية قد تخفِّف بعض الأعباء، ولكنها بالتأكيد لا تعالج أصل المشكلة.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) رحاب بوخياطية، منطقة البحيرة 1: تونس في مواجهة تدفق السودانيين، موقع نواة، 4 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 21 سبتمبر/أيلول 2025)،https://tinyurl.com/ysrtfmpk

(2) حمزة المؤدب وفخر الدین اللواتي، تحوُّل تونس إلى مركز عبور: الهجرة غير الشرعية ومعضلة السياسات، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 2 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 21 سبتمبر/أيلول 2025)،

https://carnegieendowment.org/research/2024/03/tunisias-transformation-into-a-transit-hub-illegal-migration-and-policy-dilemmas?lang=ar

(3) انظر تقرير مجموعة الأزمات الدولية عن إدارة حركة الهجرة في شمال النيجر، رقم 285، بتاريخ 6 يناير/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 21 سبتمبر/أيلول 2025)،

https://www.crisisgroup.org/africa/sahel/niger/285-managing-trafficking-northern-niger

(4) إرم بيزنس: "المركزي" يكشف حجم التحويلات المالية من المغتربين التونسيين، 6 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)،

https://www.erembusiness.com/economy/cs8t5b6

(5) عربي بوست: تحويلات بمليار دولار للمهاجرين الأفارقة في تونس، 15 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)،https://tinyurl.com/4pth8zwj

(6) انظر: "التقرير الوطني الطوعي لمتابعة تنفيذ الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة"، أبريل/نيسان 2022.