
شهدت العلاقات العسكرية بين باكستان والسودان تطورًا نوعيًا مع توقيع اتفاقية دفاعية كبرى تُقدّر قيمتها بأكثر من 1.5 مليار دولار(1)، لتشكّل محطة مفصلية في مسار الحرب السودانية الراهنة. فالاتفاقية التي تشمل تزويد القوات المسلحة السودانية بطائرات هجومية خفيفة، ومنظومات متقدمة للطائرات المسيرة والدفاع الجوي، إلى جانب عربات مدرعة، تتجاوز كونها صفقة تسليح تقليدية، بل تُقرأ كرسالة سياسية واضحة من القوات المسلحة السودانية، تؤكد فيها أن خياراتها الاستراتيجية باتت تميل إلى الحسم العسكري، لا إلى الانخراط في مسار تفاوضي. وبذلك تعكس الاتفاقية تحوّلًا في موازين التفكير الاستراتيجي داخل المؤسسة العسكرية السودانية، بما يعزز رهاناتها على القوة الصلبة كأداة رئيسية لإنهاء الصراع، في ظل انسداد أفق التسويات السياسية وتراجع فرص الحلول التوافقية.
فمنذ أبريل/نيسان 2023 يشهد السودان حربًا مدمرة بين القوات المسلحة السودانية (SAF)بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع (RSF) بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي". وتحوّل ذلك الصراع إلى واحدة من أعنف الأزمات الإنسانية في القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، حيث نزح أكثر من 12 مليون شخص داخليًا وعبر الحدود، وفرّ ما يقرب من 4 ملايين إلى الدول المجاورة. دمر الصراع البنية التحتية، بما فيها النظم الصحية، مما تسبب في ظروف مجاعة واسعة النطاق ووضع حوالي 24.6 مليونا في خطر الجوع الحاد، مع تأكيد المجاعة في أجزاء من دارفور وجبال النوبة(2).
وبعد استعادة الجيش السوداني العاصمة الخرطوم وتحقيق تقدم ميداني في جميع الأصعدة، ذهب قائد قوات التدخل السريع محمد حميدتي إلى محاولة فرض مشروع سياسي بنزعة انفصالية، عبر إعلانه تشكيل حكومة موازية في نيالا نهاية يوليو/تموز 2025 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، لينصّب نفسه رئيسا ويعيّن عبد العزيز الحلو نائبا له، وتنتشر قوات الدعم السريع وعدد من الجماعات المسلحة والمليشيات في مناطق غرب السودان مع تمركزات في دارفور وكردفان(3).
ويُحاول حميدتي من خلال الإعلان عن حكومته الموازية تقويض شرعية السلطة القائمة في الخرطوم، مقدّمًا نفسه كبديل عن حكومة الجيش السوداني. غير أن الخطوة تحمل دلالات أعمق على المستوى الميداني؛ فهي تعكس اعترافا ضمنيا من قوات الدعم السريع بعجزها عن العودة إلى العاصمة في المدى القريب أو المتوسط، ويحاول حميدتي تثبيت معادلة جديدة تقوم على التحول من حركة تمرّد إلى سلطة أمر واقع.
إن تشكيل حكومة في غرب البلاد لا يعني فقط إعادة إنتاج الانقسام السياسي، بل يفتح الباب أمام تفكيك ما تبقى من مؤسسات الدولة المركزية. فبعدما كانت قوات الدعم السريع تعمل سابقًا تحت مظلة القائد العام للقوات المسلحة، ثم جرى حلّها رسميًا مع بداية تمردها(4)، فإن إقدامها اليوم على إنشاء حكومة خاصة بها يكشف عن مستوى متقدم من تآكل مركزية الدولة. وعليه، فإن ما أقدم عليه حميدتي يمثل خطوة قد تدفع السودان نحو سيناريو التقسيم بعد حرب طويلة ومرهقة، لتضع البلاد أمام خيارين متناقضين: إما استمرار الحرب واتساعها إقليميًا، أو ترسيخ واقع الانقسام كأمر مفروض بعد صراع ممتد.
وفي المقابل، عززت حكومة الخرطوم، بقيادة البرهان ورئيس وزرائه كامل إدريس، شرعيتها من خلال ملء المناصب الوزارية عبر تعيين 20 من أصل 22 حقيبة وزارية أواخر يوليو/تموز 2025، ثم تبعه أداء القسم الدستوري في 9 أغسطس/آب، ثم ترأس اجتماعًا لمجلس الأمن والدفاع بهدف مراقبة الصراع وتأكيد حكومته باعتبارها السلطة الشرعية الوحيدة(5).
السياق الدولي والإقليمي للصفقة الباكستانية
على الصعيد الدولي، قوبل ظهور حكومة موازية بإدانة سريعة. فقد جددت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وأميركا ومصر ومجلس الأمن الدولي دعمها لوحدة السودان، ونددت بالتشكيل الذي تقوده قوات الدعم السريع باعتباره انتهاكًا لسيادة السودان وتهديدًا لجهود السلام. وقد رفض مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي صراحةً الحكومة الموازية لقوات الدعم السريع، وحث على احترام مجلس السيادة الانتقالي(6). ويمكن اعتبار إعلان الحكومة الموازية تنازعا للسيادة والسلطة سيُفاقم الانقسام السياسي في السودان، ويُعقّد الجهود الدبلوماسية، ويزيد من خطر انقسام البلاد الدائم، على غرار ما حدث في ليبيا.
ومع ذلك فإن الأطراف الدولية والإقليمية تلعب دورا مهمًّا في رسم مسار مستقبل الصراع وتغذيته، كما حدث ويحدث في ليبيا، لكن الفارق هو أن الأطراف الإقليمية -وفي مقدمتهم مصر وتركيا- كان لها دور في تهدئة الصراع وضبطه، مما جعل المشهد شبه مستقر بين شرق وغرب. أما في السودان فالأمر أكثر تعقيدا حيث تشارك العديد من الدول الإقليمية والدولية في الصراع القائم، وتمتلك رؤى مختلفة جذريا لشكل النظام، ويُعززه تضاربُ المصالح المحلية داخل السودان، وتلعب دول الجوار دورا مهما ومحركا للصراع لكن بشكل غير مباشر وصريح، وفي مقدمتها مصر وإثيوبيا، بينما تأتي سلطة شرق ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى كمناطق دعم لوجستي لقوات الدعم السريع. كما تأتي دول أخرى في شكل ضامن أو داعم إقليمي أو دولي وفي مقدمتها السعودية والولايات المتحدة، في حين تنخرط عدد من الدول وتمارس أدوارا محددة ومتفاوتة في الصراع السوداني -سياسيا كان أو عسكريا- مثل إسرائيل وروسيا وإيران.
وفي خضم هذه البيئة الداخلية والإقليمية المستقطبة، تبرز صفقة التسليح التي أبرمها الجيش السوداني مع باكستان باعتبارها خطوة تأكيد على مسار استكمال حرب التحرير لكل الأراضي السودانية من سيطرة وسيادة قوات التدخل السريع، مما يجعل فرص الوصول إلى حلول تفاوضية أمرا يصعب تحقيقه، إلا إذا حدث إجماع إقليمي. وتشير الصفقة إلى عزم الجيش المضي في خيار الحسم العسكري كطريق رئيسي لإدارة الصراع، في ظل انسداد الأفق السياسي وتآكل المبادرات التفاوضية.
كان موقع "بروباكستاني" (propakistani) أول موقع يعلن عن الصفقة في منتصف أغسطس/آب 2025 (7)، وتبعه العديد من المواقع السودانية والحسابات السودانية المقربة والمحسوبة على القوات المسلحة السودانية. ورغم عدم وجود تصريحات أو بيانات رسمية صدرت من باكستان أو السودان، فإن كثرة الأصوات الناقدة للصفقة من حلفاء إقليميين لقوات الدعم السريع ترجّح إبرام الصفقة(8)، وكذلك السؤال عن مصدر تمويلها، خاصة أن دولتي السودان وباكستان تعيشان أزمة اقتصادية خانقة بسبب ارتفاع التضخم الناتج عن الأحداث السياسية وجائحة كورونا في البلدين، حيث بلغ معدل التضخم السنوي في باكستان مع نهاية عام 2024 نحو 12.6% منخفضا من 30.7% في عام 2023 (9). أما السودان فقد ارتفع معدل التضخم السنوي لعام 2024 إلى 218.1% من 193.9% عن العام الذي سبقه(10).
تصنع الصفقة ديناميات إقليمية جديدة باعتبارها خطوة غير متوقعة وغير مألوفة سواء من باكستان أو السودان. والصفقة لا تمثل مجرد استجابة لحاجات ميدانية آنية، بل تكشف عن إصرار في أولويات القيادة السودانية، حيث ستُمكّن القواتِ المسلحةَ السودانية عسكريًا بأسلحة وأنظمة متطورة.
المعدات العسكرية الباكستانية المتعاقد عليها
تشير تفاصيل الصفقة العسكرية السودانية الباكستانية إلى تنوع لافت في مكوناتها، بما يمنح الجيش السوداني قدرات شاملة تغطي الجو والبر والدفاع الجوي. فقد تعاقد السودان على 10 طائرات تدريب/هجوم خفيف من طراز "كي-8 كراكوروم (K-8 Karakorum)، إضافة إلى منظومة واسعة من الطائرات المسيرة تضم 20 مسيرة قتالية من نوع "شهبار-2" (Shahpar-2)، و150 مسيرة استطلاعية "ييها" (YIHA-III)، و50 مسيرة "أبابيل" (Ababeel-5:MR-10K) مخصصة للاستطلاع الإلكتروني. كما تتضمن الصفقة محركات جديدة لطائرات "ميغ-21" (MiG-21) لتمديد عمرها التشغيلي، وكذلك 150 مركبة مدرعة من طراز "محافظ" (ASV Mohafiz) لتعزيز قدرات القوات البرية، فضلاً عن تزويد الجيش بأنظمة دفاع جوي متطورة من طراز "إتش كيو-9" و"إتش كيو-6"، بما يعكس مسعى متكاملا لإعادة بناء التوازن العسكري في ساحة الحرب.
ويوضح الجدول التالي المدى الميداني للطائرات والمسيرات وأوجه الاستفادة التكتيكية للمعدات المتعاقد عليها:
السلاح/المركبة |
المدى الميداني والاستخدامات التكتيكية |
مكان التصنيع/ الدول المشاركة |
طائرة التدريب والهجوم الخفيف"كي-8 كراكوروم" |
المدى: 2250 كلم والسقف التشغيلي 13 ألف متر(11). الاستخدامات: تُستخدم في التدريب الأساسي والمتقدم للطيارين، ولديها قدرة على الهجوم الأرضي الخفيف خلال الحروب، وحمل صواريخ جو-جو، وقنابل، وصواريخ غير موجهة(12) |
الصين وباكستان |
الطائرة المسيرة"شهبار-2" |
المدى: السرعة القصوى 200 كلم/ساعة، والسقف التشغيلي 7000 متر للمراقبة و6.4 آلاف متر للقتال. الاستخدامات: تُستخدم في مهام الاستطلاع والمراقبة والاستخبارات، وتتميز بقدرات قتالية وقدرة على حمل صواريخ موجهة(13). |
باكستان |
الطائرات المسيرة "YIHA-III" Ababeel-5:MR-0K |
هي طائرة تركية-باكستانية مسيرة عالية الدقة ومزودة بأسلحة تشبه القنابل (loitering munition)، وتجمع بين قدرات التخفي والهجوم المتقدم. طورتها شركة Baykar التركية وNASTP الباكستانية(14). Ababeel-5 MR-10K: مُسيرة استطلاعية تصل حمولتها إلى 20 كلغ، بمدى يتجاوز 50 كلم ذهاباً وإياباً، ما يتيح تنفيذ مهام استطلاع دقيقة وضربات متوسطة المدى داخل حدود ساحات المعارك. كما تستخدم في المهام القتالية وقادرة على حمل 6 صواريخ شديدة الانفجار. وهي مصممة كوحدة ضرب عالية الفاعلية لتدمير الأهداف الأرضية الحساسة والمحصنة(15). |
YIHA-III: تركيا وباكستان Ababeel-5:MR-10Kباكستان |
محركات مقاتلات"ميغ-21" |
المحرك الرئيسي: Tumansky R-25-300. المدى: يصل إلى 1160 كلم، وسقفها التشغيلي 19 ألف متر(16). ويُستخدم المحرك لتشغيل الطائرة في مهام الاعتراض الجوي والدعم الجوي القريب، والقدرة على حمل قذائف جو-جو وجو-أرض. |
الاتحاد السوفياتي/ روسيا، وتصنعها أيضا الهند وباكستان والصين |
المركبات المدرعة"محافظ" |
المركبة نسخة باكستانية من M1117 Guardian، وطورتها شركة Heavy Industries Taxila - HIT الباكستانية. السرعة القصوى: 101 كلم/ساعة. تعتبر من المدرعات الخفيفة، وتتميز بحماية ضد الرصاص عيار 7.62 ملم، وتتسع لـ8 أفراد، مع 10 منافذ لإطلاق النار. تُستخدم في مهام الأمن ونقل الجنود، والدوريات ومكافحة التمرد. مُصممة لمقاومة الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة(17). |
باكستان |
أنظمة الدفاع الجوي HQ-6 وHQ-9 |
نظام HQ-9/P - High-to-Medium Air Defence System: هو منظومة أرض-جو بعيدة المدى بنظام توجيه شبه نشط بالرادار (SARH)، طورتها الصين بالتعاون التقني مع روسيا، وتُعد مشتقة شبيهة بنظام S-300. دخلت حيّز الخدمة لدى الجيش الباكستاني في أكتوبر 2021. المدى: يصل إلى 125 كلم بالنسبة للأهداف الجوية، و25 كلم لصواريخ كروز. تتميز بالقدرة على تتبع عدة أهداف في وقت واحد بفضل رادارها(18). نظام HQ-6 (يعرف أيضًا باسم LY-60 ضمن النسخ المُصدّرة): منظومة دفاع جوي صينية ميدانية قصيرة إلى متوسطة المدى، تعتمد على صواريخ أرض-جو وصواريخ جو-جو، تم تطويرها باستخدام تقنيات صينية مستمدة من صاروخ PL-11، وتتميز بمدى يصل إلى 18 كلم، وتستخدم عادةً لتعزيز الحماية في نطاقات القتال المنخفضة، وتكمّل أنظمة المدى البعيد مثل HQ-9 ضمن هيكل متعدد الطبقات(19). |
صينية المنشأ |
كيف تؤثر الصفقة على ساحات الحرب في السودان؟
من الناحية الميدانية، تمثل تلك الصفقة نقلة نوعية في قدرات الجيش السوداني، إذ تتيح له عبر إدخال المسيّرات المتقدمة ومتعددة الاستخدامات -مثل "أبابيل-5" و"شهبار-2"- امتلاك أداة فعّالة لتنفيذ مهام الاستطلاع والاستخبارات، وتوجيه الضربات الدقيقة في عمق مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، دون المخاطرة باستخدام الطائرات المأهولة في أجواء معرضة للتهديد.
أما على المستوى الاستراتيجي، فإن الصفقة تعكس توجهاً نحو سد الفجوات القتالية التي عانى منها الجيش السوداني منذ اندلاع الحرب، وتمنحه قدرة على صياغة معادلة جديدة في مواجهة مرونة قوات الدعم السريع البرية عبر تطوير منظومة تسليحهم بأسلحة تكتيكية هجومية، تستطيع كسر تكتيكات ونمط عمليات قوات التدخل السريع. أي أن تلك الصفقة ستجعل الجيش السوداني أكثر مرونة في مواجهاته، مما يفقد قوات الدعم السريع الميزة الرئيسية التي تتميز بها عن الجيش.
وتمثل طائرات "كي-8 كراكوروم" -وهي إحدى ركائز الصفقة الباكستانية- نقطة تفوّق للجيش السوداني، إذ ستمنحه مرونة مضاعفة في إعداد طيارين جُددا سريعا، وهو عنصر حاسم في معركة طويلة الأمد، فضلًا عن قابليتها للاستخدام في مهام الهجوم الأرضي الخفيف ضد خطوط إمداد قوات الدعم السريع. فهذه الطائرات ستفتح أمام الجيش السوداني هامش حركة أوسع، بما يسمح له بالوصول إلى مطارات استراتيجية داخل دارفور، وفي مقدمتها نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وعاصمة الحكومة الموازية، التي تبعد نحو 900 كلم عن الخرطوم، ومدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، ومدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، أحد أهم معاقل الدعم السريع قرب الحدود التشادية، وكذلك مدينة زالنجي في وسط دارفور، إلى جانب مدينة الضعين شرق دارفور، المعقل القبلي لحميدتي.
غير أن أهمية الصفقة لا تقتصر على المجال الداخلي فحسب، إذ تتقاطع مع مسارات إقليمية متشابكة. فالمسافة بين الخرطوم ومطار أمجراس في تشاد نحو 1050 كلم، أي أن المطار سيكون ضمن المسافة التي ستتمكن القوات الجوية السودانية من استهدافه، حيث تستخدمه الدول الداعمة لقوات الدعم السريع في إمدادها بالسلاح(20)، وهو ما كشفه تحقيق صادر عن الأمم المتحدة(21)، وتقارير صادرة عن مجلس الأمن الدولي في يناير/كانون الثاني 2024 (22). لكن، سيكون من الصعب على القوات الجوية السودانية شل خطوط الإمداد في مطار إنجامينا الدولي (FTTJ) في تشاد لبعده عن نطاق قدراته. والأمر ذاته ينطبق على قاعدة الخادم الجوية في ليبيا بوصفهما مركزًا لوجستيًا طويل الأمد(23).
أما جمهورية أفريقيا الوسطى فتظهر في المشهد كفاعل ثانوي متورط بشكل غير مباشر، إذ ينحدر عدد من المرتزقة المرتبطين بحميدتي وقوات الدعم السريع من أراضيها. وقد استُخدمت عدد من القواعد العسكرية في الشمال الشرقي للجمهورية لتوفير إمدادات عسكرية بدعم إماراتي، بحسب ما ورد في تقارير للأمم المتحدة، وذلك ضمن شبكة إقليمية أوسع لتغذية عمليات قوات الدعم السريع في السودان. ومع ذلك، لا يُتوقع أن تذهب بانغي إلى حد إعلان موقف سياسي رسمي داعم لحكومة حميدتي، مكتفية بدور الظل الذي ينسجم مع طبيعة هشاشتها الداخلية وارتباطها بشبكات إقليمية متشابكة، سواء مع روسيا ومجموعات فاغنر أو غيرها(24).
كما تأتي منظومات الدفاع الجوي كعامل مكمل للتفوق الجوي الذي يبنيه الجيش السوداني، وستستطيع تأمين القواعد الجوية والمراكز الاستراتيجية من خلال طبقتين من الدفاع الجوي: الأولى بعيدة المدى عبر أنظمة "إتش كيو-9"، والثانية متوسطة المدى عبر أنظمة "إتش كيو-6". وتأتي تلك المنظومات الصينية بعد مفاوضات مع روسيا لشراء منظومات "أس-300"، وهو ما يضع الصين أحد الخيارات لدول أخرى تسعى لشراء منظومات سلاح جوي روسية أو حتى أميركية أو أوروبية.
ديناميات التنافس الإقليمي وإعادة رسم موازين القوى بعد الصفقة
تكشف الصفقة سعي السودان إلى تنويع مصادر تسليحه عبر باكستان تجنباً للقيود الغربية، وكذلك الاستفادة من أسعار وتقنيات أقل كلفة مقارنة بأوروبا وروسيا. وتحمل الصفقة رسالة إقليمية إلى دول الجوار بأن الجيش ما يزال قادراً على إعادة بناء قوته وتثبيت مركزية الدولة، في حين يشير التعاون الباكستاني التركي إلى بداية تبلور محور جديد ربما تسعى الخرطوم للانفتاح عليه، بما يتجاوز مجرد الدعم العسكري إلى إقامة شراكة استراتيجية أوسع.
تدخل الصين وتركيا خريطة الصراع السوداني بشكل غير مباشر، حيث تمثل باكستان بوابة لكليهما في تمرير معداتهما العسكرية دون أن يكونا طرفا أصيلا في الصراع، لما يمثله السودان من موقع هام استراتيجيًّا، سواء كمركز لوجستي مُهم للتحركات التركية تجاه القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، كطريق الحرير الصيني الجديد الذي سبق أن أعلنت عنه(25).
ويلاحظ كذلك نمو نشاط المخابرات التركية في التنقل والذهاب إلى بورتسودان، المركز الرئيسي للجيش السوداني، وهو ما يفتح الباب أمام احتمال أن تتخذ أنقرة خطوات علنية في دعم القوات المسلحة مستقبلا(26)، خاصة مع ترجيحات بأن تكون تركيا أو السعودية من بين الممولين الرئيسيين للصفقة الباكستانية، في إطار بديل عن الدعم الإيراني المباشر، وسط تحالف وتنسيق عالٍ في الملف السوري، مقابل تقويض الحضور الإيراني في سوريا، حيث سبق أن أعادت طهران إحياء علاقاتها مع السودان في أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعد انقطاع دام 7 سنوات(27)، لتجمع بين البعدين الدبلوماسي والعسكري في آن واحد. وقد اتُفق حينها على إعادة فتح السفارات، وقدمت إيران دعما نوعيا للجيش السوداني عبر تزويده بطائرات مسيّرة قتالية من طراز "مهاجر-6" وطراز "أبابيل-3"، بخلاف شحنات الذخيرة والتدريب الفني(28). هذا الدعم عزز قدرة الجيش وساهم في استعادة التفوق الجوي، خصوصاً في معارك الخرطوم ودارفور والجزيرة.
ويأتي توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان في سبتمبر/أيلول 2025 كمؤشر يرجّح أن تكون الرياض أحد الممولين للصفقة السودانية، حيث تأتي تلك الخطوة وسط توترات إقليمية متصاعدة، بما في ذلك العملية العسكرية الإسرائيلية في قطر. ويعكس توقيت الإعلان عن الاتفاقية شكوك دول الخليج العربي بموثوقية الولايات المتحدة. وبالرغم من أن الاتفاقية نتيجة سنوات من الحوار وليست استجابة لأي حدث، فإنها تنص على أن أي هجوم على أيٍ من البلدين سيُعتبر هجومًا عليهما، مما يؤكد على شراكتهما الأمنية المستمرة منذ عقود(29).
كما تفتح الصفقة الباكستانية مع السودان المجال أمام بروز الهند كطرف مقابل، إذ تنظر نيودلهي إلى البحر الأحمر والقرن الأفريقي كمسار استراتيجي لأمنها الطاقي وخطوط إمدادها البحرية، بما يرجح أن تتوسع في رفع مستوى علاقاتها مع دول شرق أفريقيا، وتدخل ضمن شبكات الإمارات الإقليمية الداعمة لقوات الدعم السريع، مستندة إلى استثماراتها الاقتصادية وشركاتها الأمنية، في محاولة لاحتواء النفوذ الباكستاني-التركي المتنامي. هذا التوجه يتناغم مع سياسة التوجه نحو أفريقيا التي تبنتها الهند خلال العقد الماضي، والتي تستهدف بالأساس موازنة تمدد الصين وحلفائها في القارة(30).
هل يُحسم مستقبل الصراع في السودان؟
يبقى مستقبل الصراع في السودان رهين تفاعل العوامل الداخلية والإقليمية والدولية على حد سواء. فعلى المستوى الميداني، يعزز الجيش السوداني رهانه على القوة الصلبة من خلال صفقات تسليح نوعية مثل الاتفاق مع باكستان، ما يعني أن أفق الحلول التفاوضية يظل ضيقًا على المدى القريب. وفي المقابل، تراهن قوات الدعم السريع على ترسيخ وجودها في الغرب كسلطة أمر واقع، بما يكرس خطر الانقسام الجغرافي والسياسي للدولة السودانية.
أما على المستوى الإقليمي، فإن تنوع داعمي الطرفين، من إيران وتركيا وباكستان إلى الإمارات والسعودية، يزيد من تعقيد المشهد، حيث تتداخل مصالح القوى الكبرى كالصين وروسيا والولايات المتحدة وكذلك الهند، ما يجعل السودان ساحة مفتوحة لتقاطعات تنافسية أوسع. وبناءً على ذلك، فإن البلاد تقف عند مفترق طرق، إما انزلاق نحو تقسيم فعلي يعيد إنتاج سيناريوهات مشابهة لليبيا واليمن، أو نجاح ضغوط إقليمية ودولية في فرض تسوية سياسية تحفظ وحدة الدولة، وهو احتمال يظل ضعيفًا في ظل ديناميات الصراع الراهنة، لكنه يبقى قائما في حال حدوث إجماع إقليمي.
وقد شكّل مقتل المرتزقة الكولومبيين الذين يقاتلون ضمن صفوف قوات الدعم السريع دلالة على انفتاح الحرب على أبعاد إقليمية أوسع(31)، خصوصًا مع إمكانية امتداد الضربات إلى عمق دول مجاورة مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى التي تشكّل قواعد خلفية وخطوط إمداد لهذه القوات، وربما كينيا وجنوب السودان. في المقابل، يبقى رد فعل الدول الداعمة لقوات الدعم السريع متغيرا حاسما، خاصة في ظل توتر العلاقات الإقليمية وتصاعد الخلافات الحدودية بين السودان وإثيوبيا، إلى جانب التحركات الإسرائيلية في دعم قوات الدعم السريع، والتي تعكس سعي تل أبيب لترسيخ موطئ قدم جديد في بيئة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وتنفيذ مخططات تقسيم السودان التي بدأتها في ستينيات القرن الماضي(32).
كما أن التصاعد الأخير في الاعتقالات داخل صفوف المنتسبين للحركة الإسلامية، يشير إلى احتمال أن يسعى عبد الفتاح البرهان إلى بعث رسالة للوسطاء الإقليميين، مفادها أنه مستعد لإعادة هيكلة القيادة العسكرية واستبعاد الإسلاميين من الصفوف العليا(33)، وهو ما قد يفتح بابا للمفاوضات بدفع من مصر والإمارات والسعودية.
وقد أصدر وزراء خارجية أميركا ومصر والسعودية والإمارات بيانا يوم 12 سبتمبر/أيلول 2025 أكدوا فيه على سيادة السودان ووحدة أراضيه، وأجمعوا على أن لا حل عسكريًا للأزمة، وأن المخرج يتطلب وقف الدعم الخارجي للأطراف. كما طرح البيان خارطة طريق تبدأ بهدنة إنسانية لثلاثة أشهر، ثم إعلان وقف دائم لإطلاق النار، يليه انتقال سياسي شامل وشفاف يقوده مدنيون خلال 9 أشهر، في حين أشار ضمنيا إلى ضرورة تقويض حضور الحركة الإسلامية في الجيش من خلال الإشارة إلى الإخوان المسلمين. وقد أكد البيان التزام الدول الأربع بالضغط على طرفي الصراع لحماية البنية التحتية وضمان أمن البحر الأحمر ومواجهة التهديدات العابرة للحدود(34)، وهي إشارة ضمنية إلى حماية الملاحة ومصالح إسرائيل وسفنها من التهديدات المتوقعة من سواحل السودان.
مما لا شك فيه أن تدخل الولايات المتحدة معنيّ في المقام الأول بضمان أمن إسرائيل وتقويض حركات المقاومة الفلسطينية ووجودها في السودان، وهي ليست معنية كثيرا بمن سيكون على رأس السلطة سواء أكان مدنيا أو عسكريا، كما أنه من الصعب أن يقبل الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع بتولي مدنيين زمام السلطة في البلاد. وبهذا، فإن السودان يقف عند مفترق طرق؛ إما الانزلاق نحو تقسيم فعلي يعيد إنتاج سيناريوهات مشابهة لليبيا واليمن، أو نجاح ضغوط إقليمية ودولية في فرض تسوية سياسية تحفظ وحدة الدولة، وهو احتمال يظل ضعيفًا في ظل ديناميات الصراع الراهنة وتشابك مصالح الأطراف.
(1)- Propakistani. “Pakistan Wins $1.5 Billion Defense Contract from Sudan.” Propakistani, August 15, 2025. https://propakistani.pk/2025/08/15/pakistan-wins-1-5-billion-defense-co….