معركة الديمغرافيا وتغيير التركيبة السكانية في العراق

تُعالج هذه الورقة البحثية ظاهرة التغيير الديمغرافي في العراق، منذ الغزو الأميركي، عام 2003، سواء كان نتيجة عرضية للصراعات الطائفية والعسكرية، أو بكونه مشروعًا مدروسًا ومخططًا له. تطرح الورقة إشكالية التغيير في مناطق عدة من العراق وتركز على مناطق "حزام بغداد" ومحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى متجاوزة التفسيرات الظرفية المرتبطة بمكافحة الإرهاب أو المخاوف الأمنية.
هجمات تنظيم الدولة ومعارك مواجهتها تسببت بنزوح ملايين العراقيين (الجزيرة)

تُعالج هذه الورقة البحثية ظاهرة التحولات في التركيبة السكانية في العراق، فمنذ الغزو الأميركي، عام 2003، لم يكن التغيير في التركيبة السكانية مجرد نتيجة عرضية للصراعات الطائفية والعسكرية، بل كان مشروعًا مدروسًا ومخططًا له(1). لقد تم تنفيذ هذا المشروع من قبل قوى مسلحة تتجاوز مهمتها المعلنة في الحرب على تنظيم الدولة (داعش). ومرَّت هذه الظاهرة بمرحلتين رئيسيتين، الأولى: من الغزو الأميركي حتى انسحاب القوات في نهاية عام 2011، والثانية: مرحلة ما بعد سيطرة تنظيم الدولة على مناطق واسعة من محافظات غرب وشمال غربي العراق في عام 2014. مع التركيز على المناطق الحيوية في حزام بغداد ومحافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى، وكذلك منطقة جرف الصخر جنوب غرب بغداد لتجسيد هذه الآليات على أرض الواقع.

وتتناول الورقة ظاهرة التغيير في التركيبة السكانية (التغيير الديمغرافي) في العراق وهي أحد أكثر تداعيات المشهد العراقي بعد عام 2003. تجادل الورقة بأن ظاهرة التغيير على أسس عرقية أو طائفية ليست نتاجًا عرضيًّا للعنف الطائفي، وإنما هي سياسة ممنهجة تقوم على "التهجير القسري" أو الهجرة الطوعية أو الإقصاء المكاني لإحلال مجموعات سكانية من طائفة أو عرق آخر. وقد تبلور هذا التحول وتكرَّس بعد عام 2014 تحت غطاء محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).

تطرح الورقة إشكالية التغيير في مناطق عدة من العراق وتركز على مناطق "حزام بغداد" ومحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى متجاوزة التفسيرات الظرفية المرتبطة بمكافحة الإرهاب أو المخاوف الأمنية.

خلال سنوات طويلة نفَّذت الفصائل المسلحة التي نشأت بعد الغزو الأميركي، عام 2003، أو بعد هجوم تنظيم الدولة، عام 2014، عمليات تهجير واسعة للسكان العرب السنَّة من مناطق حيوية مثل جنوب بغداد وديالى وصلاح الدين ونينوى. هذه المناطق ومناطق أخرى مثل جرف الصخر ويثرب والعوجة لم تُستهدف عشوائيًّا بل لأهميتها الأمنية والعسكرية حيث تحولت بعد إخلاء سكانها إلى ثكنات عسكرية ومواقع نفوذ دائمة لتلك الفصائل. وعلى الرغم من أن موقف الحكومات العراقية المعلن يهدف إلى تسهيل عودة النازحين إلا أن الواقع على الأرض يظهر تناقضًا كبيرًا حيث تظل مناطق رئيسية مغلقة أمام سكانها الأصليين وتُظهر سلطة الدولة ضعفًا في مواجهة نفوذ القوى غير الحكومية.

وتخلص إلى أن التهجير القسري وعمليات تغيير التركيبة السكانية تمثل تحديًا لوحدة المجتمع العراقي وسيادة الدولة العراقية واستقلالية قرار مؤسساتها، وعودة المهجَّرين إلى مناطقهم الأصلية وتحقيق العدالة.

مرحلة ما قبل الانسحاب الأميركي من العراق نهاية 2011

تعد النشاطات المتعلقة بتغيير التركيبة السكانية من أكثر القضايا خطورة وتعقيدًا في المشهد العراقي الحديث. ويمكن التركيز على فترتين رئيسيتين، هما الفترة التي سبقت الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، عام 2011، والفترة التي تلت سيطرة تنظيم الدولة (داعش) على مدينة الموصل ومناطق واسعة من غرب وشمال غربي العراق، في عام 2014.

إن عمليات التهجير القسري في العراق لم تكن وليدة لحظة سيطرة تنظيم الدولة على الموصل، عام 2014، بل كانت لها جذور تعود إلى مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي، عام 2003. ففي الفترة ما بين عامي 2003 و2011، شهد العراق تشكُّلَ ونموَّ فصائل مسلحة أدَّت دورًا محوريًّا في رسم ملامح المشهد الأمني والسياسي. هذه الفصائل لم تعمل بمعزل عن الدولة فحسب، بل قامت بإنشاء نظام أمني موازٍ مستغلة ضعف سلطة الحكومة المركزية واستحواذها على جزء مهم من قرار الدولة الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي(2)، وهو ما مثَّل المحرك الأساسي لعمليات التهجير الممنهج في مناطق معينة.

أدَّى العنف الطائفي، الذي اندلع بين عامي 2006 و2008 بعد تفجير المرقدين في سامراء، شتاء 2006، ثم صعود تنظيم الدولة، عام 2014، إلى إحداث تغييرات حقيقية في توزع السكان على مستوى المحافظات. ووفقًا لتقارير رسمية بلغت نسبة التغير في حجم سكان العراق على مستوى المحافظات قرابة ثمانية ملايين نسمة خلال الفترة المذكورة(3). ولم يكن النزوح مجرد فرار من القتال بل كان جزءًا من عملية أكثر تعقيدًا تم فيها إجبار أعداد كبيرة من السكان على ترك منازلهم وممتلكاتهم(4). هذه العمليات التي وصفتها المنظمات الحقوقية بأنها "تهجير قسري"(5) أثَّرت بشكل خاص على مناطق ذات أهمية جيوسياسية في محافظات جنوب بغداد وديالى وصلاح الدين ونينوى لتغيير دائم في التركيبة السكانية.

وبلغ عدد النازحين خلال الحرب الطائفية (2006-2008) حوالي 2.7 مليون نازح، وفق تقديرات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، شملت نحو 400 ألف شخص من الأحياء المختلطة طائفيًّا في العاصمة، بغداد(6). في حين تتحدث مصادر متطابقة عن نحو 35 ألف شخص قُتِلوا خلال عام 2006 وحده(7).

شكَّل تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، في فبراير/شباط 2006، الشرارة التي أشعلت حربًا أهلية طائفية شاملة استمرت لعامين. تحولت الأحياء المختلطة في العاصمة ومناطق "حزام بغداد"(8) إلى أحياء مغلقة ذات لون طائفي واحد، معزولة بجدران إسمنتية لا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم في بعض المناطق. فرَّ السُّنَّة من المناطق ذات الأغلبية الشيعية، وفرَّ الشيعة من المناطق ذات الأغلبية السُنِّيَّة ما أدى إلى غياب إمكانية التعايش الاجتماعي في العديد من المناطق، ورُسِّخ منطق الفصل بين المكونات على أساس طائفي أداةً لتحقيق الأمن.

انتهت هذه المرحلة بانسحاب القوات الأميركية في نهاية عام 2011. وبدلًا من أن يمثل الانسحاب بداية لاسترداد السيادة العراقية كاملة، فإنه كان عاملًا كشف عن هشاشة البنية الأمنية والسياسية التي أُنشئت في ظل الاحتلال. بمجرد انسحاب القوات، لم تكن الدولة العراقية الضعيفة قادرة على ملء الفراغ الأمني الذي تركه الانسحاب حيث عملت حكومة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، في رئاسته الثانية للحكومة (2010–2014) على تهميش العرب السنَّة وتعزيز دور ونفوذ الفصائل المسلحة، كما أن الفراغ الذي خلَّفه الانسحاب الأميركي كان عاملًا أساسيًّا لنمو تنظيم الدولة وصعودها بشكل غير مسبوق، وهو ما وفر لاحقًا المبرر لفتوى الجهاد الكفائي(9) ومن ثم استثمارها في تشكيل الحشد الشعبي؛ مما يربط بشكل مباشر بين فشل الاحتلال الأميركي والفوضى الأمنية اللاحقة.

لم تكن الفصائل المسلحة ذات الأجندات الطائفية وليدة مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، بل كانت موجودة وفاعلة قبل ذلك بسنوات. لقد لعبت دورًا محوريًّا في عمليات التهجير خلال مرحلة الحرب الطائفية. فمن جهة، نفذت جماعات مسلحة سُنِّيَّة مثل تنظيم القاعدة حملات لتهجير الشيعة من مناطق معينة. وفي المقابل، قامت جماعات شيعية مسلحة، كان في مقدمتها جيش المهدي، بعمليات تهجير منظمة للسنَّة من الأحياء المختلطة في بغداد والمناطق المحيطة بها بهدف "تأمين" العاصمة من الهجمات التي كانت تشنُّها الجماعات السنية المسلحة.

تُظهر قراءة هذه المرحلة أن جيش المهدي، الذي تأسس في عام 2003، كان فاعلًا أساسيًّا في العنف الطائفي، لدرجة أن تقريرًا لوزارة الدفاع الأميركية، عام 2006، وصفه بأنه "المجموعة ذات التأثير الأكثر سلبية على الوضع الأمني في البلاد"(10). من جهة أخرى، تُعد منظمة بدر مثالًا أوضح على طبيعة هذه القوى التي دُمِجت في الهيكل الأمني والسياسي الجديد بعد عام 2003، ثم سيطرتها على تشكيلات في الحشد الشعبي بعد 2014 لتعزيز قدراتها ونفوذها في تحقيق مشاريع ومخططات بعضها يتعلق بتغيير التركيبة السكانية طويلة الأمد.

الفصائل المسلحة ودورها في التهجير بعد 2014 

من أبرز فصائل الحشد الشعبي المسؤولة عن التغيير السكاني، فصائل نشأت قبل غزو العراق أو بعده، وتعززت بشكل أكبر بعد فتوى "الجهاد الكفائي" وتشكيل هيئة الحشد الشعبي، عام 2014، مثل منظمة بدر وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وغيرها. منظمة بدر، على سبيل المثال، تأسست في إيران، عام 1982، كجناح عسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وقد حاربت إلى جانب إيران خلال الحرب العراقي- الإيرانية ثم عادت إلى العراق بعد عام 2003 لتتحول إلى قوة سياسية وعسكرية نافذة. كتائب حزب الله التي تشكلت بعد عام 2003 ترتبط ببيعة "شرعية" لنظام ولاية الفقيه في إيران وتتلقى تمويلًا وتسليحًا وتدريبًا ودعمًا من الحرس الثوري الإيراني. وقد صنَّفتها الولايات المتحدة منظمةً إرهابية في عام 2009. أما عصائب أهل الحق فانشقت عن جيش المهدي، عام 2006، بقيادة قيس الخزعلي وعملت بشكل مستقل، وهي أيضًا مرتبطة بولاية الفقيه.

وقد استهدف التهجير مناطق محددة في "حزام بغداد" مثل أبو غريب غرب بغداد، والمحمودية واليوسفية جنوب بغداد، وجرف الصخر شمال محافظة بابل، ويثرب والعوجة في محافظة صلاح الدين شمال بغداد، ومدن عدة في محافظة ديالى 50 كيلومترًا شمال شرقي العاصمة في سياق ما يُعرف باسم مشروع "طوق بغداد" الذي أُعلن عنه في العام 2014. وهو مشروع أمني وعسكري يشمل إنشاء حزام أمني حول العاصمة بغداد، بهدف حمايتها من الهجمات ومنع سيطرة تنظيم الدولة أو أي مجموعات مسلحة أخرى على مناطق قريبة من بغداد.

في المشهد العام، تعرض عدد من المحافظات لموجات تغيير "جزئية" في تركيبتها السكانية على أساس طائفي أحيانًا أو ديني أو عرقي، ومنها محافظة نينوى التي شهدت مدن كبرى فيها موجات من النزوح الطوعي أو الهجرة القسرية لسكانها الأصليين، مثل قضاء تلعفر الذي يقطن مركزه نحو 320 ألف نسمة معظمهم من التركمان السُّنَّة، وتلكيف ذات الأغلبية المسيحية، ومدينة سنجار التي تقطنها أغلبية أيزيدية، وجميعها في محافظة نينوى شمال غربي العراق، وكذلك محافظة ديالى المختلطة عرقيًّا وطائفيًّا بأغلبية عربية سُنِّيَّة، وقد مُنع مئات الآلاف من السكان السُّنَّة من العودة إلى مناطقهم في المقدادية وجلولاء والسعدية وقرة تبة بعد استعادتها من سيطرة تنظيم الدولة(11). وأشارت تقارير إلى عمليات حرق وتفجير واسعة للمنازل والممتلكات بهدف منع العودة بشكل دائم. وأكد تقرير لوكالة الاتحاد الأوروبي للجوء (EUAA) أن وحدات الحشد الشعبي، خاصة منظمة بدر وعصائب أهل الحق، تتمتع بنفوذ قوي في ديالى، ووثق حالات "عودة قسرية ومبكرة" لنازحين من المخيمات، وفي الوقت نفسه منع نازحين آخرين من العودة إلى مناطقهم الأصلية(12).

وفي محافظة صلاح الدين، تكرر منع عودة جميع أو نسبة من السكان إلى مناطقهم الأصلية في مناطق مثل يثرب، وعزيز بلد، والعوجة، وذراع دجلة؛ حيث لا يزال آلاف النازحين ممنوعين من العودة رغم مرور أكثر من ثماني سنوات على إعلان تحرير هذه المناطق من سيطرة تنظيم الدولة. وتخضع هذه المناطق لسيطرة فصائل مسلحة تفرض شروطها الأمنية والسياسية(13)، وهو ذات الأمر بشكل ما فيما يتعلق بناحية جرف الصخر في محافظة بابل جنوب العاصمة.

جغرافيًّا، تُعد ناحية جرف الصخر التي تقع شمال محافظة بابل وعلى بعد حوالي 60 كيلومترًا جنوب غرب بغداد منطقة بالغة الأهمية على مستويات متعددة؛ حيث تتصل بجغرافية ممتدة من الأراضي الزراعية المنبسطة المفتوحة وصولًا إلى مدينتي الفلوجة وعامرية الفلوجة في محافظة الأنبار. كما أنها تتصل بمدن "حزام بغداد الجنوبي" مثل اللطيفية والإسكندرية واليوسفية والمحمودية. هذه الأهمية الجغرافية جعلت السيطرة على جرف الصخر أولوية قصوى للقوات الأمنية والفصائل المسلحة حيث إن تأمينها يضمن السيطرة الكاملة على المداخل الجنوبية لبغداد ويمنع أي تقدم لتنظيم الدولة أو أي جماعات مسلحة أخرى باتجاه كربلاء أو بغداد. كما أن السيطرة عليها تمنع الانتقال المباشر غير المسيطر عليه بين الأنبار ووسط وجنوب العراق.

لا يُعرف على وجه اليقين طبيعة ما يجري في (جرف الصخر) منذ سيطرة الفصائل المسلحة عليها، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2014، بعد أقل من ثلاثة أشهر على دخولها من قبل تنظيم الدولة، وقد جرى في ذلك الحين خروج من تبقى من سكانها الـ(140) ألفًا، وتحولت إلى "ثكنة عسكرية مغلقة"، يسيطر عليها مجموعة محددة من الفصائل المسلحة أبرزها (كتائب حزب الله). وبرغم ورود تقارير عن بناء مواقع عسكرية فيها لتخزين السلاح وتدريب المقاتلين ومصانع لإنتاج الصواريخ(14)، فإن هذه المعلومات لم تتأكد بسبب منع دخول أية وسائل إعلام أو جهات سياسية أو عسكرية فضلًا عن المسؤولين السياسيين ذاتهم. وحتى الآن يُمنع السكان الأصليون لجرف الصخر، من العودة إلى ديارهم. وهذا المنع ليس إجراء أمنيًّا مؤقتًا، بل سياسة معلنة ومستمرة.

التهجير الدائم والإحلال السكاني

في المرحلة التالية لمرحلة التهجير القسري، انتقلت آليات التغيير من استخدام القوة المسلحة أحيانًا وفرض السيطرة، إلى منع العودة بشكل دائم واستغلال المناطق عسكريًّا واقتصاديًّا من خلال المنع الدائم للعودة أو شراء العقارات والأراضي الزراعية من مالكيها الأصليين في المناطق المستهدفة، أو نهب المنازل ثم تدميرها بالعبوات الناسفة كما في محافظتي صلاح الدين وديالى من قبل فصائل في الحشد الشعبي إبان القتال مع تنظيم الدولة(15)، أو إعادة تهجيرهم واحتجازهم في المخيمات ومنع عودتهم بذريعة الحاجة إلى "التدقيق الأمني" أو لارتباطهم بصلات قرابة مع أعضاء في التنظيم (16)، أو منع عودتهم من قبل الحكومة الاتحادية التي تقدم اقتراحات بتوطين عشرات آلاف العراقيين النازحين في مناطق النزوح، تمهيدًا لإبعادهم عن مناطق سكناهم الأصلية بشكل نهائي(17)، أو من خلال "الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي، سواء عبر فسخ العقود الزراعية أو عبر الضغط والابتزاز أو إصدار قرارات إخلاء بحجج أمنية أو اعتقالات تعسفية لأبناء هذه المناطق وتهديدهم بالسجن بتهمة الإرهاب ثم تقتلع الأشجار، وتطمر الأنهر، لتغيير طبيعة الأرض وجعلها قابلة للتقسيم وكذلك تحويل طبيعتها من زراعية إلى مدنية فتتحول إلى أراض أو مجمعات سكنية تقضي على هوية المنطقة، بل وتجري عمليات توزيع الأراضي أو بيع لمنتسبين ينتمون إلى فصائل مسلحة، أو إلى مستثمرين تابعين لتلك الجهات"(18).

كما تعد مناطق يثرب والعوجة في محافظة صلاح شمال بغداد الدين من المناطق التي تتداخل أهميتها مع أهمية جرف الصخر في تأمين الطرق والسيطرة على المناطق الشمالية من العاصمة وصولًا إلى قضائي تلعفر وسنجار في محافظة نينوى على مقربة من الحدود العراقية مع سوريا. وتشير التقارير إلى أن الفصائل المسلحة تستخدم المناطق التي تم إخلاؤها مقراتٍ لها أو للاستفادة من أراضيها مما يخدم مصالحها وسياساتها في فرض السيطرة الدائمة. 

مواقف الحكومات العراقية

يعكس موقف الحكومات العراقية من قضية التهجير والنزوح تناقضًا واضحًا بين السياسة المعلنة والواقع على الأرض. على المستوى الرسمي، تُظهر الحكومة جهودًا لتشجيع العودة الطوعية للنازحين؛ حيث أعلنت وزارة الهجرة والمهجَّرين عن عودة مئات العائلات إلى مناطقها في صلاح الدين وتوزيع منح مالية للعائلات العائدة. كما صرَّحت الحكومة بأنها عملت على إغلاق مخيمات النزوح كدليل على نجاحها في تمكين المدنيين من العودة إلى ديارهم بأمان. وتؤكد التقارير أن عمليات العودة تتم بالتنسيق مع القوات الأمنية والحشد الشعبي. وشكلت الحكومة الاتحادية، في 7 سبتمبر/أيلول 2025، لجنة برئاسة هيئة الحشد الشعبي ستتولى، بمشاركة تسع جهات رسمية، مهمة إعادة سكان العوجة إلى منازلهم(19). ومن بين الجهات التي ستشارك في المهمة، مستشارية الأمن القومي وجهاز المخابرات وقيادتا العمليات في الجيش وقوات الحشد الشعبي، إلى جانب مستشار خاص لرئيس الوزراء ووزارة الهجرة والمهجرين لتنفيذ خطة إعادتهم على أربع مراحل تبدأ بعقد مؤتمر في تكريت لإعلان العودة، ثم المباشرة بعودة العوائل على دفعات تفصل بين الواحدة والأخرى 10 أيام. بعد ذلك يتم تحديد الجهة الأمنية المسيطرة على المنطقة، ثم المباشرة بعودة الخدمات البلدية وإصلاح البنى التحتية. لكن فصائل مسلحة تابعة للحشد الشعبي، مثل اللواء 35 (قوات الشهيد الصدر) المرتبط بحزب الدعوة الذي يرأسه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والذي يعد القوة المسيطرة الأهم في المنطقة إلى جانب فصائل أخرى، لم يعلن موقفًا رسميًّا من خطة الحكومة لإعادة سكان ناحية العوجة. وتعرضت هذه المنطقة إلى حملات أمنية متصلة منذ عام 2003 كونها مسقط رأس الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، وتقطن فيها عشيرته وأبرز أقاربه.    

ويكشف الواقع الميداني عن صورة مختلفة عما تعلنه الحكومة العراقية. فبينما يتم تشجيع العودة في مناطق معينة تظل مناطق رئيسية مثل جرف الصخر ويثرب والعوجة مغلقة أمام سكانها الأصليين. وتُظهر التقارير أن إغلاق المخيمات لم يكن دائمًا طوعيًّا حيث أُجبرت عائلات على المغادرة دون وجود ضمانات كافية لعودتها الآمنة مما تركها في وضع صعب اضطرهم للعيش في مناطق نائية.

إن التناقض الأبرز يكمن في اعتماد الحكومة على الفصائل المسلحة لضمان عودة النازحين. هذا التنسيق يوضح أن قرار العودة ليس بيد الحكومة المركزية وحدها، بل هو رهين بموافقة هذه الفصائل. ومع رفض أو تنصل بعض قادة الفصائل أو مسؤولين حكوميين الإقرار بوجود تغيير سكاني، تؤكد قيادات سياسية منهم أعضاء في مجلس النواب العراقي وجود حقيقي للتغير السكاني(20).

الاستنتاجات

التغيير في التركيبة السكانية لم يكن مجرد نتيجة عرضية للعنف الطائفي، بل هو مشروع مُخطط له ومُدار، استهدف إعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية والسياسية للبلاد على أسس طائفية، مُستخدمًا آليات رئيسية هي التهجير القسري أو الإقصاء المكاني. تم تنفيذ هذا المشروع عبر مرحلتين: الأولى من 2003 حتى 2011؛ حيث رسَّخت الفصائل المسلحة جذورها وبدأت عمليات التهجير في أحياء بغداد المختلطة وحزام بغداد بعد تفجير سامراء، والثانية ما بعد 2014، حيث تَكَرَّس المشروع تحت غطاء محاربة تنظيم الدولة.

إن فصائل مسلحة مُحددة داخل المؤسسة الأمنية الرسمية أو المتحالفة مع إيران ضمن تشكيلات هيئة الحشد الشعبي، كـمنظمة بدر وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، هي القوة التي تقف خلف هذه العمليات في مناطق حيوية في حزام بغداد ومدن جرف الصخر شمال محافظة بابل، ويثرب والعوجة في محافظة صلاح الدين، ومدن عدة في محافظة ديالى لأهميتها الأمنية والجغرافية والاقتصادية.

لذلك، فإن الهدف يتجاوز مكافحة الإرهاب أو الحرب على تنظيم الدولة؛ إذ تحولت المناطق المُخلاة، مثل جرف الصخر، إلى ثكنات عسكرية ومراكز نفوذ دائمة لهذه الفصائل، وتُستخدم نقاطًا عسكرية لخدمة مصالح "محور المقاومة"، بما في ذلك تأمين "الممر البري" الإيراني.

وتستنتج الورقة حقيقة التناقض بين السياسة الحكومية المعلنة لتشجيع عودة النازحين والواقع الميداني؛ حيث تظل مناطق رئيسية مغلقة أمام سكانها الأصليين بقرار من قادة الفصائل؛ مما يكشف عن ضعف سلطة الدولة المركزية ورهن قرار العودة بموافقة القوى غير الحكومية، كما أن آليات التغيير انتقلت إلى منع العودة الدائم، والاستيلاء على الأراضي، وتدمير المنازل، لتثبيت الإحلال السكاني بشكل نهائي ما يُمثل تحديًا وجوديًّا لوحدة المجتمع العراقي ولسيادة الدولة.

ABOUT THE AUTHOR

References

 

  1.   التغيير الديمغرافي والتحول نحو الطائفية والعرقية في العراق أضعف الانتماء الوطني، قناة الرافدين، 28 فبراير/شباط 2025 (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://shorturl.at/kknjD
  2.   الدولة العراقية في مواجهة قوة ونفوذ الدولة الموازية، مركز الجزيرة للدراسات، 2 أغسطس/أب 2021 (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1gtTf 
  3.   رعد عبد الحسين محمد، تحليل جغرافي لتغير توزيع سكان العراق للمدة 1997 إلى 2017، جامعة المثنى، 17 فبراير/شباط 2021 (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)،
    https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2024/12/31/2a4aea62e1d71b8047de39206713d65d.pdf
  4. ورقاء محمد رحيم، التهجير القسري وأثره في التكيف الاجتماعي في العراق (مرحلة ما بعد داعش)، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، جامعة بغداد، 7 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2024/12/07/ef3e0036db3c6ffe88563babbd13a55b.pdf
  5.  يُعرِّف القانون الدولي الإنساني "التهجير القسري" بأنه الإخلاء غير القانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها بصفة مشروعة. وتُصنَّف هذه الممارسات حين تكون ممنهجة وواسعة النطاق على أنها جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما تحظر المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشكل صريح النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراضٍ أخرى إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة. إن هذا الإطار القانوني يوفر المعيار الذي يجب أن تُقاس عليه الأحداث في العراق ويؤكد أن التهجير القسري ومنع السكان من العودة إلى ديارهم بعد انتهاء الأعمال القتالية دون مسوغ قانوني يرقى إلى مستوى جريمة حرب.
  6.   أعمال العنف الطائفي أدت إلى تهجير 10 آلاف عائلة عراقية، القدس العربي، 15 أبريل/نيسان 2006 (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1bOF0 
  7.  سقوط أكثر من ألف قتيل في العراق خلال شهر مايو/أيار، فرانس 24، 1 يونيو/حزيران 2013 (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1bOF9      
  8. يشكِّل "حزام بغداد" نحو 84 في المئة من مجمل المساحة الكلية لمحافظة بغداد وتتصف مناطقه بكونها مناطق خصبة تشكل عنصرًا مهمًّا لرفد الاقتصاد الزراعي لمدينة بغداد؛ إذ تشتهر بكثرة بساتين النخيل وزراعة مختلف المحاصيل على مدار السنة. ويضم حزام بغداد عدة أقضية منها قضاء المدائن شرقًا، والمحمودية جنوبًا، وقضاء أبو غريب غربًا، وقضاء الطارمية شمالًا، في حين تنفتح حدودها الشمالية الشرقية على قضاء بعقوبة التابع لمحافظة ديالى.
  9. فتوى "الوجوب الكفائي"، وهي فتوى شرعية أصدرها المرجع الديني، علي السيستاني، في 13 يونيو/حزيران عام 2014، موجِبًا إياها على العراقيين للتصدي ومحاربة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد ثلاثة أيام من سيطرتهم على عدد من المناطق في غرب وشمال غربي العراق.
  1. - جيش المهدي والعنف الطائفي في العراق، قناة الجزيرة-برنامج ما وراء الخبر، 23 ديسمبر/كانون الأول 2006(تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1gtU2 
  2. - ديمغرافية المناطق السُنِّيَّة بالعراق مهددة بالتغيير، الجزيرة نت، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2014(تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1bOFv 
  3. - Diyala - EUAA - European Union, The European Union Agency for Asylum, January 2021, (Viewed at 23/9/2025): https://euaa.europa.eu/el/print/pdf/node/16348 
  4. - قضية النازحين في العراق.. انتهاكات صارخة تمارس بحقهم، يقين نيوز، 21 مايو/أيار 2024 (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1bOGB 
  5. - بعد نزوح وسيطرة موالين لإيران.. "جرف الصخر" العراقية تعود إلى الواجهة، موقع إرم نيوز، 29 مارس/آذار 2024 (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1bOGK   
  6. - انتهاكات "الحشد الشعبي" في المناطق السنية بالعراق.. سجل حافل، وكالة الأناضول، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2016 (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2025)،  https://short-url.org/1bOGX  
  7. - أقارب داعش يُجبرون على العيش في مخيمات، هيومن رايتس ووتش، 3 فبراير/شباط 2018 (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1gtVO
  8. - رفض مقترح توطين النازحين العراقيين خارج مدنهم.. تغيير ديمغرافي وحل ترقيعي، شبكة الساعة، 31 أغسطس/آب 2025 (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1bOHk  
  9. - من يستولي على مناطق حزام بغداد؟، إندبندنت عربية، 9 أغسطس/آب 2025 (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1gtWc  
  10. - السوداني يوجه بعودة سكان العوجة بعد 11 عامًا من النزوح، شبكة الساعة، 22 سبتمبر/أيلول 2025 (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2025)، https://is.gd/TA0AFh
  11. - عبد الخالق العزاوي: التغيير الديمغرافي في ديالى موجود ولدينا العديد من القرى التي هُجِّر أهلها، قناة دجلة الفضائية، 7 مارس/آذار 2023 (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2025)، https://short-url.org/1gtWD