استراتيجية الانسحاب والطرد في دول الساحل: سيادة معلقة بين التحرر والتبعية

يرصد المقال استراتيجية "الانسحاب والطرد" التي اعتمدها قادة مالي وبوركينا فاسو والنيجر بعد انقلاباتهم العسكرية، مبرّرين إياها بالسيادة. انسحبوا من منظمات إقليمية ودولية، وطردوا القوات الأجنبية، ثم أنشؤوا تحالفات جديدة مع روسيا وتركيا والصين، دون تحقيق سيادة حقيقية كاملة.
دول الساحل الإفريقي الثلاث والسعي للسيادة في مقابل ارتهان جديد وتبدّل في مراكز النفوذ (الجزيرة)

مقدمة

يشكل الانسحاب والطرد ثنائية تحكم جزءا كبيرا من استراتيجية القادة العسكريين الذين يحكمون مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ذلك أن أغلب الإجراءات الكبرى التي اتخذوها منذ وصولهم إلى السلطة في الدول الثلاث تقوم على هذه الثنائية، تحت لافتة "السيادة".

وقدّم هؤلاء القادة العسكريون بدائل لمعظم عمليات الانسحابات من الهيئات والتجمعات الإقليمية والدولية، واستبدلوا في عمليات الطرد شركاء بآخرين، لكن بالكاد يُلمس اختلاف كبير بين ما كان قائما وما أصبح واقعا جديدا.

والواقع أن السيادة الحقة تقتضي الاستغناء عن الأصل والبديل، إذ نفس المآخذ تقريبا التي يأخذها الحكام العسكريون على شراكات دولهم التي سبقت وصولهم إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية؛ تؤخذ كذلك اليوم على الشراكات التي أرسوها، وبذلك تبتعد بلدانُهم أكثر عن "السيادة" المنشودة، أو تبقى تراوح مكانها في أحسن الأحوال.

وإذا اعتبرنا أن لدى هؤلاء الرؤساء "الانتقاليين" بُعدَ نظر على أساسه يرسون شراكاتهم ورؤاهم الاستراتيجية، وسيقود في النهاية إلى تحقيق الأهداف التي برروا بها الإطاحة بالرؤساء المدنيين المنتخبين، والمتمثلة في "التحرر من الاستعمار الجديد" و"استغلال موارد بلدانهم في البناء والتنمية"، فإن الطريق أمامهم طويل، وقد يتطلب فترة أطول بكثير من التي مضت حتى الآن، وهو ما قد لا يصبر على انتظاره رفاق البزة والسلاح، كما تؤشر على ذلك المحاولات الانقلابية التي يعلن عنها من حين لآخر في هذه الدول.

كما أن ربط هؤلاء الرؤساء تنظيم الانتخابات في بلدانهم بإحلال الأمن في كل مناطق بلدانهم، قد يعني أيضا البقاء لفترة أطول في السلطة، ذلك أن الإشكال الأمني مرتبط بعديد العوامل الأخرى البنيوية، وهو يقترب الآن من إكمال عقد ونصفٍ من استحكامه في هذه الدول.

وأمام هذا الواقع، يكون من المهم بالنسبة للأنظمة الحاكمة في باماكو وواغادوغو ونيامي، الاهتمام أكثر بالجبهات الداخلية، والعمل على تعزيزها والتصالح معها، في أبعادها العسكرية والسياسية والتنموية، مع التقليل من جرعة تعليق أي تعثر على الطرف الخارجي، ومواجهة ذلك بطرد هنا، أو انسحاب هناك، أو خلق أزمة مع هذا الطرف أو ذاك، كي يكون الطريق أكثر سهولة في العبور نحو الأهداف المنشودة.

استراتيجية الانسحاب

تتمثل هذه الاستراتيجية في الانسحاب من هيئات ومنظمات إقليمية ودولية، بدعوى أنها لا تتماشى ومسار السيادة الذي تتوق مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى تحقيقه. ويمكن تقسيم هذه الاستراتيجية إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: الانسحاب الثلاثي المشترك، والانسحاب الثلاثي المتفاوت، والانسحاب الفردي.

أولا- الانسحاب الثلاثي المشترك

وتوجد بالأساس ثلاثة انسحابات رئيسية أعلنتها الدول الثلاث بشكل مشترك، وهي الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، والانسحاب من المنظمة الدولية للفرنكفونية، والانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس".

الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية

أعلن بيان صادر عن كونفدرالية دول الساحل في 22 سبتمبر/أيلول 2025، انسحاب البلدان الثلاثة المشكّلة للكونفدرالية -وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو- من المحكمة الجنائية الدولية، متهما إياها بالعجز عن ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

ووصف البيان الموقع من طرف الرئيس الدوري لكونفدرالية دول الساحل، الرئيس الانتقالي المالي الجنرال عاصيمي غويتا، والذي تمت قراءته عبر القنوات الرسمية في البلدان الثلاثة؛ وصف المحكمة الجنائية الدولية بأنها "أداة قمع استعماري جديد"، مؤكدا رغبة الكونفدرالية في "إنشاء آليات محلية لترسيخ السلام والعدالة"(1).

وعلى إثر إعلان هذا الانسحاب، سارعت منظمة العفو الدولية إلى اعتباره "تراجعا مقلقا في مكافحة الإفلات من العقاب في منطقة الساحل والعالم". وقال المدير الإقليمي للمنظمة في غرب ووسط إفريقيا إن الإعلان "إهانة للضحايا والناجين من أبشع الجرائم، ولكل من يكافح ضد الإفلات من العقاب في هذه البلدان وفي العالم بأسره؟"(2).

وبغض النظر عن طبيعة المسوغات التي قدمتها كونفدرالية دول الساحل، والقلق الذي أبدته منظمة العفو الدولية، فإن تركيز المحكمة الجنائية الدولية على الجرائم التي تحصل في القارة الإفريقية أكثر من غيرها من مناطق العالم يثير الكثير من الانتقاد والجدل، وكان سببا مباشرا في انسحاب عدة دول إفريقية منها في فترة سابقة.

الانسحاب من المنظمة الدولية للفرانكفونية

في مارس/آذار 2025، أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو في بيان مشترك أصدره وزراء خارجية الدول الثلاث، الانسحاب من المنظمة الدولية للفرنكفونية، التي تأسست قبل نحو 55 عاما، بدافع تعزيز اللغة الفرنسية والتنوع الثقافي.

واتهم البيان هذه المنظمة بأنها "أداة سياسية يتم التحكم فيها عن بعد"، كما اتهمها "بالتطبيق الانتقائي للعقوبات على أساس اعتبارات جيوسياسية واستهتار بسيادة" البلدان المنسحبة(3)، وفي ذلك إشارة إلى قرار تعليق العضوية الذي كانت المنظمة قد اتخذته بحق هذه البلدان إثر الانقلابات العسكرية التي شهدتها.

الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا

في 28 يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو في بيان مشترك، انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، متهمة إياها "بالخضوع لقوى أجنبية"، و"خيانة مبادئها"، فضلا عن أنها تشكل "تهديدا" للبلدان الثلاثة، في إشارة إلى العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدول الثلاث(4).

وقد أصبح الانسحاب ساري المفعول عاما بعد إعلانه، لكن الدول المنسحبة ومجموعة إيكواس أبقت على مستوى من التواصل، من أجل ألا يؤدي الخروج من المنظمة إلى قطيعة نهائية، لأن تداعياتها كبيرة على الطرفين، فالبلدان الثلاثة المنسحبة هي دول حبيسة، والفضاء الغرب الإفريقي يشكل متنفسا كبيرا لها فيما يتعلق بحركة البضائع والأشخاص، ومجموعة "إيكواس" كذلك لا يمكنها التفريط في هذه البلدان ذات المقدرات المهمة في عدد من المعادن، كما تشكل وجهة للعديد من مواطني الدول الأعضاء في المجموعة.

ثانيا- الانسحاب الثلاثي المتفاوت:

إلى جانب انسحابها بشكل مشترك من المحكمة الجنائية الدولية، والمنظمة الدولية للفرنكفونية، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، انسحبت مالي والنيجر وبوركينا فاسو كذلك بشكل مشترك، لكن على نحو متفاوت، من مجموعة دول الساحل الخمس.

الانسحاب من دول الساحل الخمس

في منتصف مايو/أيار 2022، أعلنت مالي انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس، التي كانت تضم إلى جانبها كلا من النيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد، وموريتانيا.

وبررت مالي هذا الانسحاب بعدم السماح لها بتولي الرئاسة الدورية للمنظمة، حيث كان يفترض أن تستضيف باماكو في فبراير/شباط 2022 مؤتمرا لقادة هذه الدول، وتتولى في ختامه الرئاسة على غرار ما كان يحصل عادة.

ولكن دول المجموعة أحجمت عن ذلك "بدعوى عدم الاستقرار الداخلي في مالي التي شهدت انقلابا عسكريا حاز بموجبه المجلس العسكري على السلطة"(5).

وبعد أزيد من عام على هذا القرار، أعلنت النيجر وبوركينا فاسو في بيان مشترك لهما مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023، انسحابهما من مجموعة دول الساحل الخمس، وقوتها المشتركة، وبررتا قرارهما بأن "الطريق إلى الاستقلال والكرامة (...) يتعارض مع المشاركة في المجموعة بشكلها الحالي"(6).

وتأسست مجموعة دول الساحل الخمس خلال قمة نظمت بنواكشوط في فبراير/شباط 2014، وعرّفت المنظمة نفسها بأنها "إطار مؤسسي لتنسيق ورصد التعاون الإقليمي في مجالات الأمن والتنمية والحوكمة"(7).

ثالثا- الانسحاب الفردي:

ومن أبرز الأمثلة عليه، انسحاب مالي من اتفاق السلام مع الجزائر، ومن لجنة الأركان العملياتية المشتركة، وكذا انسحاب النيجر من القوة متعددة الجنسيات لمحاربة الجماعات المسلحة.

انسحاب مالي من اتفاق السلام والمصالحة

في خضم توتر العلاقات بين مالي وجارتها الجزائر، أعلن المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في باماكو أواخر يناير/كانون الثاني 2024، انسحاب البلاد من اتفاق السلام والمصالحة الموقع بين السلطات المالية والحركات الأزوادية عام 2015 برعاية الجزائر.

وبررت الحكومة المالية قرار الانسحاب "بأعمال عدائية" قالت إن الجزائر ارتكبتها، وكذا استئناف الجماعات الأزوادية المسلحة هجماتها ضد الجيش المالي(8).

الانسحاب من لجنة الأركان المشتركة

في انعكاس آخر لتوتر العلاقات المالية الجزائرية، أعلنت باماكو يوم 6 أبريل/نيسان 2025 انسحابها من لجنة الأركان العملياتية المشتركة، التي تضم إلى جانبها كلا من الجزائر، وموريتانيا، والنيجر. وكانت اللجنة قد تأسست عام 2010 "بهدف تنسيق الجهود الأمنية في منطقة الساحل"(9).

وجاء الانسحاب الجديد عقب إسقاط الجيش الجزائري طائرة مسيرة تابعة للجيش المالي، قالت سلطات باماكو إن إسقاطها جرى داخل الأراضي المالية، وردت السلطات الجزائرية بأن عملية الإسقاط تمت بعد اختراق المسيّرة أراضيها.

انسحاب النيجر من قوة متعددة الجنسيات

في نهاية مارس/آذار 2025، أعلنت النيجر انسحابها من قوة عسكرية إقليمية متعددة الجنسيات، تأسست عام 1994، وأعادت نيامي تنشيطها بالتعاون مع أبوجا، ونجامينا، وياوندي عام 2015، بهدف تعزيز جهود التصدي لجماعة بوكو حرام الناشطة في حوض بحيرة تشاد(10).

وقد بررت النيجر هذا الانسحاب برغبتها في تعزيز أمن مواقعها النفطية، التي تواجه هجمات من طرف الجماعات المسلحة الناشطة قرب حدودها مع دولتي مالي وبوركينا فاسو.

طرد القوات الأجنبية والدبلوماسيين والدخول في أزمات مع دول الجوار

منذ الوهلة الأولى لوصول العسكر إلى السلطة في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، تبنت الدول الثلاث خيارا تصعيديا تحت لافتة الذود عن السيادة ضد الغرب عموما وفرنسا خصوصا، بحجة أنها تنتهج سياسة كولونيالية جديدة في هذه البلدان.

وقد اتسع خيار التصعيد لدى الأنظمة العسكرية ليشمل بعض بلدان الجوار، بذريعة تهديد الأمن والاستقرار، وانتهاج مسار عدائي ضدها نيابة عن فرنسا.

1- طرد القوات الأجنبية:

انطلقت شرارة المواقف المناهضة لفرنسا في منطقة الساحل من مالي، باعتبارها أولى دول تحالف الساحل التي شهدت انقلابا عسكريا أطاح في أغسطس/آب 2020 بالرئيس المدني الراحل إبراهيم بوبكر كيتا.

لكن المرحلة الأولى التي أعقبت الانقلاب على كيتا لم تشهد توترا كبيرا يذكر بين مالي وفرنسا، ذلك أن العسكر كانوا يبحثون عن الاعتراف بانقلابهم، خصوصا من طرف القوى الغربية. وهكذا ظل الرئيس الانتقالي الذي اختاره العسكر، العقيد المتقاعد باه نداو، يتردد على فرنسا، إلى أن تم الانقلاب عليه في مايو/أيار 2021.

وبعد الإطاحة بالعقيد باه نداو وتولي نائبه العقيد عاصيمي غويتا، الذي تمت ترقيته فيما بعد إلى جنرال، بدأ التوتر يسود علاقات باماكو وباريس بفعل معارضة الأخيرة العلنية والصريحة للانقلاب.

وفي 18 فبراير/شباط 2022 دعت الحكومة المالية -في بيان لها- باريس إلى السحب الفوري لقوة "برخان" الفرنسية وقوة "تاكوبا" الأوروبية الخاصة التي تقودها، متحدثة عن وقوع "انتهاكات متكررة للاتفاقيات الدفاعية" الموقعة بين البلدين منذ فترة طويلة(11).

ولم تستجب فرنسا بشكل فوري لدعوة عسكر مالي، حيث رفضت في البدء معلنة "عدم شرعية" العسكر المطالبين برحيل قواتها، لكن المجلس العسكري الحاكم في باماكو أصر على طلب الانسحاب وضغط لاحقا بالشارع الذي ظل يتظاهر بقوة مطالبا برحيل القوات الأجنبية. وعلى إثر ذلك، استجابت باريس للقرار، وفي منتصف أغسطس/آب 2022 أعلنت اكتمال انسحاب قواتها من البلاد(12).

وقبل إعلان باريس اكتمال انسحاب قوة "برخان" من مالي، أعلنت يوم 1 يوليو/تموز 2022 انتهاء مهمة قوة "تاكوبا" في باماكو، وهي قوة عسكرية شكلتها فرنسا مع 12 دولة حليفة أوروبية وإفريقية أواخر مارس/آذار 2020، بهدف التصدي للجماعات المسلحة(13). وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 سلمت كذلك الأمم المتحدة آخر معسكر لبعثتها لحفظ السلام في مالي، بناء على قرار السلطات المالية أواخر العام 2023 القاضي بمغادرة القوات الأممية للبلاد(14).

وعلى غرار مالي، حددت بوركينا فاسو في يناير/كانون الثاني 2023 مهلة شهر للقوات الفرنسية من أجل الانسحاب من أراضيها، وذلك بعدما شهدت هي الأخرى انقلابين عسكريين، أولهما أطاح في يناير/كانون الثاني 2022 بالرئيس المدني روك مارك كريستيان كابوري، والثاني أطاح في نهاية سبتمبر/أيلول من العام نفسه بالرئيس الانتقالي العقيد بول هنري سانداوغو داميبا.

وقد سحبت فرنسا قواتها من البلاد في الوقت المحدد لها، واضعة بذلك حدا لوجود عسكري فرنسي في بوركينا فاسو دام 15 عاما(15).

وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت النيجر بعد 5 أشهر على انقلاب الجيش على الرئيس المدني محمد بازوم؛ إكمال القوات الفرنسية انسحابها من الأراضي النيجرية، ووضعت بذلك حدا لوجود عسكري استمر زهاء 10 أعوام(16). وبعد أقل من عام على هذا الانسحاب، أعلن الجيش الأميركي كذلك إكمال انسحابه من البلاد(17).

وقد فتحت قرارات الأنظمة العسكرية الحاكمة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر القاضية بطرد القوات الفرنسية من أراضيها؛ الباب أمام عدة دول أخرى لاتخاذ ذات الخطوة، مثل تشاد، والسنغال، وساحل العاج، لكن دون أن يشكل ذلك قطيعة نهائية مع فرنسا.

2- طرد الدبلوماسيين الفرنسيين والأمميين:

إلى جانب طرد مالي وبوركينا فاسو والنيجر القوات الأجنبية من أراضيها، اتخذت كذلك من طرد السفراء والممثلين الأمميين منهجا مكملا، وذلك تحت "بند السيادة" العريض، المقتضي في نظر الحكام العسكريين الجدد أن تتم القطيعة مع كل ما يمت بصلة إلى "الاستعمار الجديد" الذي تمثل فرنسا وجهه البارز، بحسب هؤلاء.

وفي هذا الإطار، فإن الدول الثلاث طردت بشكل متفاوتٍ السفراء الفرنسيين لديها، وتم في سبتمبر/أيلول 2025 تبادل طرد دبلوماسيين بين فرنسا ومالي، وأعلنت باريس تعليق تعاونها في مجال "مكافحة الإرهاب" مع باماكو، في أحدث موجة توتر دبلوماسي بين الطرفين(18).

ولكن الأمر لم يقتصر على فرنسا فحسب، فقد سبق أن أعلنت مالي في أغسطس/آب 2024 السفيرة السويدية شخصا غير مرغوب فيه، وبررت الخارجية المالية طردها بتصريح وصفته بالعدائي لوزير التعاون الدولي والتجارة السويدي ضد باماكو.

وفي فبراير/شباط 2023 طردت السلطات المالية كذلك رئيس قسم حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما"، على خلفية تقرير أممي يتهم الجيش وحلفاءه الروس بارتكاب انتهاكات إنسانية.

وقبل ذلك طردت السلطات المالية أيضا في أكتوبر/تشرين الأول 2021 الممثل الخاص للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" التي ترى باماكو أن فرنسا تتحكم في قراراتها وتوجهاتها.

وفي بوركينا فاسو، طردت السلطات العسكرية الانتقالية في أغسطس/آب 2025 منسقة الأمم المتحدة لديها، على خلفية تقرير حول الأطفال والصراع المسلح في البلاد، قدمه الأمين العام الأممي إلى مجلس الأمن الدولي.

وكانت البلاد قد طردت قبل ذلك المنسقة الأممية السابقة لديها في ديسمبر/كانون الأول 2023، كما طردت في فبراير/شباط 2024 دبلوماسيين فرنسيين.

وأغلقت النيجر في فبراير/شباط 2025 مكاتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر لديها، وطردت الأجانب العاملين فيها، على خلفية توزيع مساعدات إنسانية دون إبلاغ السلطات أو إشراكها في عملية التوزيع.

وطردت البلاد قبل ذلك في عام 2023 منسقة الأمم المتحدة لديها، وأشار بيان للخارجية النيجرية إلى أن السبب هو منع الأمين العام الأممي البلاد من المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للمنظمة الدولية.

وتوجد الكثير من عمليات طرد الدبلوماسيين وممثلي المنظمات الأممية والدولية في الدول الثلاث، وما ذكرنا أعلاه يعتبر أمثلة فقط.

3- الأزمات مع دول الجوار:

لأسباب مختلفة، توترت علاقات مالي مع الجزائر وساحل العاج، كما توترت علاقات بوركينا فاسو مع ساحل العاج، وعلاقات النيجر مع بنين، منذ وصول العسكر إلى السلطة في دول تحالف الساحل.

أ) توتر علاقات مالي مع الجزائر وساحل العاج:

يمكن القول إجمالًا إن هناك ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى توتر علاقات مالي مع جارتها الجزائر التي تتقاسم معها حدودًا يتجاوز طولها 1300 كلم، أولها استقبال الجزائر رجل الدين المالي النافذ محمود ديكو، الذي كان حليفًا للعسكر قبل أن يصبح معارضًا لهم ويوجه لهم الانتقادات بشكل صريح، إضافة إلى استقبالها بعض قادة المجموعات الأزوادية للتنسيق بشأن اتفاق السلام الذي ترعاه البلاد.

أما السبب الثاني فهو معارك تينزوايتين، التي وقعت نهاية يوليو/تموز 2024، وتكبد فيها الجيش المالي وقوات فاغنر الروسية خسائر لافتة على أيدي القوات الأزوادية، واتهمت سلطات باماكو الجزائر بدعم الأزواديين فيها.

أما السبب الثالث، فهو حادثة إسقاط طائرة للجيش المالي ليلة 1 أبريل/نيسان 2025، وسط جدل مستمر بشأن ذلك، فمالي تعتبر أن الطائرة أُسقطت داخل حدودها من طرف الجيش الجزائري، والجزائر تقول إن جيشها لم يُسقط الطائرة إلا بعدما دخلت حدود البلاد. وقد وصلت القضية أروقة محكمة العدل الدولية(19).

أما بالنسبة لتوتر العلاقات بين مالي وساحل العاج، فإن خلفيته الأساسية هي معارضة أبيدجان للانقلاب العسكري في باماكو، لكن السبب المباشر يعود إلى إلقاء السلطات المالية القبض على 49 جنديًا عاجيًا يوم 10 يوليو/تموز 2022، عندما حطت طائرتهم على الأراضي المالية، متهمةً إياهم بأنهم "مرتزقة" قدموا من أجل زعزعة استقرارها، وهو ما نفته السلطات العاجية وقالت إن جنودها قدموا في إطار مهمة لبعثة حفظ السلام الأممية، وإنها أبلغت السلطات المالية بذلك(20).

ورغم الإفراج عن الجنود العاجيين في يناير/كانون الثاني 2023 بعفو من الرئيس الانتقالي المالي عاصيمي غويتا بعد محاكمتهم وصدور أحكام تتراوح بين الإعدام والسجن 20 عاما في حقهم، فإن العلاقات بين باماكو وأبيدجان لم تتحسن.

ب) توتر علاقات بوركينا فاسو مع ساحل العاج:

منذ وصول النقيب إبراهيم تراوري إلى سدة الحكم في بوركينا فاسو إثر انقلاب عسكري أطاح بالعقيد بول هنري سانداوغو داميبا يوم 30 سبتمبر/أيلول 2022، توترت علاقات واغادوغو مع أبيدجان على خلفية الموقف من الانقلاب العسكري.

وقد وجّه تراوري في مناسبات عدة اتهاماتٍ لساحل العاج بأنها تؤوي معارضين لنظامه، وتشكل قاعدة عسكرية خلفية لفرنسا من أجل الإطاحة بنظامه، وظلت السلطات العاجية تنفي تهمة استغلال أراضيها من طرف فرنسا من أجل الانقلاب على النقيب البوركيني، دون أن تنفي إيواء معارضين لحكمه.

ومن أحدث التهم الموجهة من طرف تراوري لساحل العاج، إعلانه في مقابلة تلفزيونية أواخر سبتمبر/أيلول 2025 أن بلاده اعتقلت 6 موظفين عاجيين بتهمة عبور الحدود بشكل غير قانوني وممارسة أنشطة تجسس(21)، وقد نفت أبيدجان ذلك وقالت إن موظفيها دخلوا البلاد في مهمة إنسانية.

ج) توتر علاقات النيجر وبنين:

لقد ظلت النيجر منذ إطاحة الجيش بالرئيس المدني محمد بازوم أواخر يوليو/تموز 2023، وتولي الجنرال عبد الرحمن تياني الرئاسة الانتقالية، ظلت تنظر بحذر إلى جارتها بنين، بحكم علاقاتها الوطيدة مع فرنسا، ولذلك فإن السلطات النيجرية عندما أعادت فتح حدودها مع دول الجوار بعد إغلاقها خلال الانقلاب العسكري، أبقت على إغلاق الحدود مع بنين.

وقد أكد تياني في مقابلة مع التلفزيون الرسمي النيجري قبل أشهر، أن الحدود مع بنين ستظل مغلقة لأسباب أمنية، متهمًا حكومة الرئيس البنيني باتريس تالون "بالتنسيق مع فرنسا والدول الغربية التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار في النيجر"(22).

وتنفي بنين الاتهامات التي وجهتها إليها النيجر، ودعت في وقت سابق السلطات النيجرية إلى زيارة البلاد للتأكد من عدم صحة مزاعمها، كما دعتها إلى الحوار، ولكن نيامي مُصرة على عدم إعادة فتح الحدود رغم الكلفة الباهظة لذلك على البلدين من الناحية الاقتصادية بالأساس.

د) قطع العلاقات مع أوكرانيا:

لم يقتصر توتر علاقات دول تحالف الساحل مع بلدان الجوار فقط، وإنما وصل إلى بلدان أخرى خارج القارة الإفريقية، ويتعلق الأمر بأوكرانيا، فقد أعلنت مالي في أغسطس/آب 2024 قطع العلاقات مع كييف على خلفية إعلان مسؤول أوكراني ضلوع بلاده في معركة تيزواتين التي أسفرت عن مقتل وأسر عدد من الجنود الماليين والمقاتلين في صفوف مجموعة "فاغنر" الروسية على أيدي القوات الأزوادية(23). وبعد يومين فقط من قرار السلطات المالية، أعلنت النيجر قطع علاقاتها مع أوكرانيا "تضامنًا مع مالي"، متهمة كييف "بدعم مجموعات إرهابية" في منطقة الساحل(24). وقد نفت أوكرانيا في بيان لوزارة خارجيتها؛ كل التهم الموجهة إليها من البلدين.

وبغضّ النظر عما إذا كانت التهم صحيحة أم لا، فإنه لا يمكن إغفال جانب آخر يشكل خلفية لتوتر علاقات مالي والنيجر مع أوكرانيا، وهو البعد المتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية وتنافسُ الطرفين على إفريقيا بالنظر إلى كتلتها التصويتية المهمة في الأمم المتحدة، وإلى مواردها كذلك التي تعدّ اليوم محل تنافس دولي غير مسبوق.

وتعد روسيا حليفة مهمة بالنسبة لمالي والنيجر وبوركينا فاسو منذ وصول الأنظمة العسكرية إلى السلطة في هذه الدول، وتوتر علاقات البلدان الثلاثة مع شريكها التقليدي فرنسا.

بدائل استراتيجية الانسحاب والطرد والتوتر

تتعدد الإجراءات التي اتخذتها مالي وبوركينا فاسو والنيجر كبدائل عن انسحابها من المنظمات وطردها للقوات الأجنبية، وأيضًا عن التوترات الدبلوماسية سواء مع الدول الغربية أو مع بعض دول الجوار. ويمكن إجمال تلك الإجراءات فيما يلي:

ـ تشكيل تحالف ثلاثي مشترك:

أسست مالي والنيجر وبوركينا فاسو في يوليو/تموز 2024 "تحالف دول الساحل" كإطار جديد يجمع البلدان الثلاثة التي يحكمها ذات التوجه إزاء القوة الاستعمارية السابقة والغرب بشكل عام، وتنتهج مسارًا "سياديًا" مشتركًا هدفه ضمان استفادتها من مواردها واستقلالية قراراتها، كما أنها تشترك في ذات التحدي والمصير.

وينبثق هذا التحالف من ميثاق "ليبتاكو-غورما" الذي وقّعت عليه هذه الدول في سبتمبر/أيلول 2023 كإطار للتعاون الثلاثي ضمن "كونفدرالية دول الساحل"(25).

وهكذا باتت البلدان الثلاثة مندمجة في إطار موحد، رغم أنها كانت تتخذ قرارات مشتركة قبل تأسيسه، لكن تأسيس هذا الإطار عزز توحّد رؤيتها إزاء الواقع وتحدياته وسبل التخلص منه.

ويأتي تشكيل هذا التحالف الثلاثي بالأساس كبديل عن مجموعة دول الساحل الخمس، وكتكتل موحد في وجه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا خلال فترة التوتر معها.

ـ تشكيل قوة مشتركة ونشر قوات روسية:

كبديل عن القوة المشتركة لدول الساحل الخمس، وفي ظل عدم نشر الاتحاد الإفريقي ومجموعة "إيكواس" قوتين أعلنا في وقت سابق سعيهما إلى نشرهما في منطقة الساحل، أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو ضمن إطار تحالفها الثلاثي الجديد في مارس/آذار؛ عن تشكيل قوة مشتركة لمحاربة الجماعات المسلحة التي تنفذ هجمات على أراضي هذه الدول منذ فترة طويلة، وأيضًا على الحدود المشتركة بينها(26).

وقد أعلن رئيس النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني خلال زيارة إلى باماكو في أكتوبر/تشرين الأول 2025؛ دخول القوة المشتركة مرحلة التشغيل الفعلي، وقال إن العقيد البوركيني إريك دابيري هو من يتولى قيادتها، وإن العاصمة نيامي هي مقر المركز القيادي لهذه القوة العسكرية(27).

أما البديل عن القوات الفرنسية التي تم طردها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وقوة "تاكوبا" والقوات الأممية التي تم طردها من باماكو، والقوات الأميركية التي تم طردها من نيامي، فقد كان روسيا، سواء تم ذلك من خلال التعاقد في البداية مع مجموعة "فاغنر" واستبدالها لاحقًا بقوات "الفيلق الإفريقي"، وهذا ينطبق على الحالة المالية، أو من خلال نشر قوات للتدريب كما في الحالتين النيجرية والبوركينية، كما أن الدول الثلاث اقتنت في مناسبات عدة أسلحة حربية من موسكو.

ـ التوجه نحو إنشاء محكمة جنائية:

قبل انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو من المحكمة الجنائية الدولية، كان وزراء العدل في الدول الثلاث قد اتفقوا في ختام اجتماع بالعاصمة باماكو نهاية مايو/أيار 2025 على إنشاء محكمة جنائية مستقلة تختص "بالحكم على أخطر الجرائم التي تؤثر على التحالف (الثلاثي)". ويشمل اختصاصها كذلك "أعمال الإرهاب والجرائم المنظمة العابرة للحدود الوطنية، فضلًا عن الانتهاكات العظمى لحقوق الإنسان"(28).

ولم يحسم وزراء العدل بشأن مقر المحكمة وتشكيلتها، لكنهم اتفقوا على إنشاء سجن إقليمي مشترك، وعلى تسريع وتيرة توحيد التشريعات بشأن عدة قضايا بينها "الإرهاب" و"غسيل الأموال" و"الاتجار بالبشر" و"الاعتداء على سيادة الدول"(29)، وهو ما عكس توجهًا نحو إقامة منظومة عدلية مشتركة.

ـ خارطة شراكات دولية وإقليمية جديدة:

تجلّت هذه الخارطة على الصعيد الدولي في تعزيز دول تحالف الساحل الثلاث علاقاتها مع روسيا لتشمل التعاون العسكري، سواء في بعده المتعلق بنشر قوات أو الحصول على أسلحة حربية، ولكن أيضًا في الجانب الاقتصادي من خلال حصول عدّة شركات روسية في البلدان الثلاثة على تراخيص التنقيب عن معادن أو استغلالها، فضلًا عن الاستثمار الروسي في إقامة المصانع ومحطّات الطاقة النووية.

كما عزّزت مالي والنيجر وبوركينا فاسو علاقاتها مع تركيا وإيران والصين، وتجلى ذلك في تبادل زيارات المسؤولين وتوقيع العديد من اتفاقيات الشراكة والتعاون في مجالات مختلفة، أبرزها الجانبان العسكري والاقتصادي.

وبالتالي استعاضت هذه الدول عن فرنسا وبعض الشركاء التقليديين الغربيين الآخرين بحلفاء جدد، بعضهم علاقاته مع الغرب في توتر شبه مستمر.

أما على الصعيد الإقليمي، فإن هذه الدول نسجت علاقات هامة مع كلٍّ من المغرب في شمال إفريقيا، وتوغو وغانا والسنغال وغينيا كوناكري في غربها، وتشاد في وسط شمال القارة.

فبالنسبة للمغرب، تعزّزت علاقاته بهذه البلدان بشكل كبير من خلال المبادرة الملكية الأطلسية التي اقترحها الملك محمد السادس عام 2023، والساعية إلى تمكين الدول الثلاث -إضافةً إلى تشاد- من الولوج إلى المحيط الأطلسي.

أما بالنسبة لتوغو وغينيا كوناكري، فإنهما تشكّلان متنفسًا للدول الثلاث الحبيسة، فمن خلال ميناءي لومي وكوناكري تحصل هذه الدول على الكثير من احتياجاتها التي تستدعي شحنًا بحريًا، وينطبق ذلك أيضًا على موريتانيا التي وقفت بشكل كبير إلى جانب مالي خلال فرض مجموعة "إيكواس" عقوبات عليها، وفتحت ميناء نواكشوط المستقل أمامها.

وإلى جانب الدول المذكورة، فقد تعزّزت كذلك علاقات بلدان تحالف الساحل مع السنغال في عهد الرئيس باسيرو ديوماي فاي، ومع غانا في عهد جون ماهاما، وشمل ذلك البعدين الدبلوماسي والتجاري وأحيانًا الأمني.

وبالنسبة لتشاد، فقد تعزّزت علاقات هذه الدول معها عبر البوابة الأمنية بالدرجة الأولى، حيث خاضت جيوش من الدول الأربع عمليات أمنية مشتركة.

ـ تعزيز الثقافات واللغات المحلية على حساب الفرنكفونية:

في تحوّل لافت سبق بأسابيع قليلة إعلان بلدانهم الانسحاب من المنظمة الدولية للفرنكفونية، وقّع وزراء الثقافة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو خلال ملتقى بمدينة سيغو المالية، مذكرة تفاهم بشأن اعتماد "سياسة ثقافية مشتركة واستراتيجية موحدة للصناعات الحرفية"، وذلك بهدف "تعزيز التراث الثقافي المشترك، وتنظيم الفعاليات الثقافية الكبرى بين الدول الثلاث، مما يسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة"(30).

وقبل ذلك، كانت هذه البلدان الثلاثة قد اتخذت خطوات منفصلة على مستوى دساتيرها الجديدة، تمثّلت في تقليص مستوى حضور اللغة الفرنسية، وإعطاء اهتمام أكبر للغات المحلية، من خلال ترسيم عددٍ منها.

ففي مالي، نصّ الدستور الذي تمّ اعتماده في يوليو/تموز 2023، على أن اللغة الفرنسية أصبحت لغة عمل فقط، بعدما كانت لغة رسمية على مدى أزيد من 60 عاما. وبالمقابل، تمّ ترسيم 13 لغة وطنية، في خطوة عكست توجّهًا لافتًا نحو تعزيز السيادة اللغوية(31).

وعلى خطى مالي، اعتمدت بوركينا فاسو في ديسمبر/كانون الأول 2023 مشروع قانون ينصّ على مراجعة الدستور، و"يكرّس اللغات الوطنية كلغات رسمية بدل اللغة الفرنسية"(32). كما نصّ ميثاق "إعادة التأسيس" في النيجر في مارس/آذار 2025، على أن تصبح الهوسا لغة وطنية، وتتراجع الفرنسية إلى لغة عمل، إلى جانب اللغة الإنجليزية(33).

خاتمة

انطلاقًا مما سبق، يتّضح أن القادة العسكريين الحاكمين في مالي والنيجر وبوركينا فاسو بنوا رؤيتهم في الحكم منذ البداية على ربط أسباب عدم الاستقرار الأمني بوجود القوات الأجنبية في بلدانهم، وأسباب تردّي الأوضاع الاقتصادية والتنموية بالشركاء التقليديين، وخصوصًا فرنسا المستعمِرة السابقة لهذه البلدان.

وقد نتجت عن التنزيل العملي لهذه الرؤية قطيعةٌ تامة بين هذه البلدان وفرنسا، من خلال طرد قواتها العسكرية وسفرائها، وإلغاء العقود مع شركاتها. كما شملت القطيعة عددًا من الدول الغربية، وبعض المنظمات الإقليمية، وكذا دولًا مجاورة.

وتجد هذه الخطوات الصدامية في معظمها مستوى كبيرًا من القبول الشعبي، شكّل حافزًا قويًا للعسكر في المضيّ قدمًا في تطبيق توجّههم، وترسّخت في أذهان الكثير من مواطني هذه الدول أن الأنظمة العسكرية الحاكمة في بلدانهم تنشد "السيادة" و"الاستقلال"، وأنه لا سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال المسح الشامل للطاولة.

وفي الواقع، فإن البدائل التي تقدّمها هذه الأنظمة العسكرية الانتقالية لا تكاد تختلف كثيرًا في بعض جوانبها عمّا كان قائمًا. ففيما يتعلّق بالشراكات الخارجية الدولية، تمّ استبدال شركاء تقليديين بآخرين جدد، وتمّ استبدال قوات أجنبية بأخرى، ولعلّ الاختلاف الوحيد في هذا الجانب يكمن في أن الشركاء البدلاء لم يكونوا مستعمِرين سابقين لبلدان تحالف الساحل.

أما بعض البدائل الداخلية الذاتية، أي التي تقتصر على الدول الثلاث، كإنشاء قوة عسكرية مشتركة، والتوجّه نحو إنشاء مصرف مشترك، ومحكمة جنائية مشتركة، وغيرها من الآليات الثلاثية، فإنها قد تصطدم بتحدّي الوسائل والإمكانيات، وهو ما قد يحدّ من فاعليتها.

ومع ذلك، فإن بعض الإجراءات التي اتخذتها دول الساحل الثلاث أثمرت نتائج ملموسة، خصوصًا ما يتعلّق بإعادة التفاوض مع بعض الشركات من أجل رفع حصص استفادة هذه الدول من معادنها المستخرجة، وظهر أيضًا تطور لافت في تسلّح الجيوش، وعلى الصعيد الاقتصادي والتنموي تمّ إنشاء مصانع مختلفة في هذه الدول.

في المقابل، فإن التهديد الأمني يظلّ قائمًا، وتتسم النتائج المحققة على صعيده بالتذبذب، فتارة يحصل تقدّم ميداني لجيوش هذه الدول، وأحيانًا يحصل تراجع، وهناك انتقادات مستمرة من المنظمات الدولية لأوضاع حقوق الإنسان والحريات في هذه الدول، كما أن هناك ضبابية كبيرة بشأن مستقبل الديمقراطية فيها.

ABOUT THE AUTHOR