أوقعت غارات إسرائيلية مكثفة على قطاع غزة، مساء يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 2025 وصباح اليوم التالي، ما لا يقل عن 104 شهداء و250 جريحًا. استهدفت الغارات، التي ذكَّرت الغزيين بأسابيع الحرب الأولى، كافة أنحاء القطاع، من رفح جنوبًا إلى جباليا شمالًا، بما في ذلك مربعات سكنية ومخيمات نازحين مؤقتة. كانت هذه إحدى أكبر الحملات الإسرائيلية على غزة منذ بدء سريان وقف إطلاق النار، في 10 أكتوبر/تشرين الأول، الذي يمثل الخطوة الأولى من خطة الرئيس ترامب لغزة. ولكنها لم تكن الاختراق الإسرائيلي الوحيد للاتفاق. الحقيقة، أن الانتهاكات الإسرائيلية لوقف النار كانت قد أوقعت ما لا يقل عن 250 شهيدًا من الغزيين مع أوائل نوفمبر/تشرين الثاني.
وحتى بعد إعلان إسرائيل نهاية حملتها العسكرية والعودة إلى حالة وقف إطلاق النار، لم يتوقف الاستهداف الجوي والقصف المدفعي المتقطع، الذي تسبب في سقوط المزيد من الشهداء المدنيين في مواقع مختلفة من قطاع غزة. أما في المناطق التي لم تزل تحت الاحتلال الإسرائيلي، فإن عمليات التدمير الممنهجة لما تبقى من المباني العمومية والمساكن تستمر بلا هوادة. وبدا وكأن الإسرائيليين يحاولون تكريس مفهوم جديد لوقف إطلاق النار، مفهوم يعني منحهم الحق في قصف ما يريدون من أهداف، وتدمير ما تبقى من وسائل الحياة، طالما التزموا بعدم العودة إلى الحرب في صورتها الشاملة، تمامًا كما هي الحال في الجبهة اللبنانية.
والملاحظ، أن الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة لاتفاق وقف النار لم تتسبب في أي رد فعل ملموس من الجهات الوسيطة، سيما الولايات المتحدة، التي يفترض أن تكون الضامن الرئيس لاتفاق وقف النار ولتطبيق خطة الرئيس ترامب. تصريحات ترامب حول حملة الغارات على القطاع أبدت تفهمًا للموقف الإسرائيلي، الذي وصفه الرئيس الأميركي بمجرد دفاع عن النفس؛ بينما تجاهل مسؤولون أميركيون آخرون فداحة الغارات على أهالي القطاع وأكدوا صمود وقف النار، مشيرين إلى أن التصعيد الإسرائيلي لم يكن غير متوقع.
قدَّم الجانب الأميركي لشركائه المفاوضين، المصريين والقطريين والأتراك، في مفاوضات تطبيق المرحلة الأولى من خطة ترامب بشرم الشيخ، ضمانات بأن يمثل وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى نهاية للحرب على غزة، ووعد بأن تتعامل الولايات المتحدة مع طرفي الصراع، بعد قبول خطة ترامب، بصورة عادلة وبقدر عال من الإنصاف. وخلال الأسابيع التي تلت الإعلان عن وقف النار وبدء عملية تبادل الأسرى، كرَّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب توكيده على أن الحرب في غزة قد انتهت، مبشرًا بحقبة من السلم في الشرق الأوسط.
لجأ الإسرائيليون لتبرير انتهاك وقف إطلاق النار إلى ذريعتين مختلفتين: الأولى: تعلقت بهجوم على القوات الإسرائيلية في رفح، التي لم تزل تقع تحت سيطرة القوات الإسرائيلية، أدى إلى مقتل أحد الجنود. وكانت حماس قد نفت أية صلة لها بهجوم رفح، الذي يبدو أن من نفذته كانت مجموعة من المقاومين التي انقطع الاتصال بها، وأن هذه المجموعة لم يصلها بعد خبر اتفاق وقف النار. أما الذريعة الثانية فتعلقت باتهام حماس بالتباطؤ في عملية إفراج جثامين الأسرى الإسرائيليين الموتى، على الرغم من أن حماس أكدت من البداية صعوبة عملية العثور على جثامين الموتى، والحاجة الضرورية لإدخال معدات ثقيلة للمساعدة في الكشف عن مواقع دفن هذه الجثامين وإخراجها.
ما بدا، على أية حال، طوال ساعات الهجمات الإسرائيلية، بين مساء 28 وصباح 29 أكتوبر/تشرين الأول، أنه لم يتفاجأ الأميركيون، ولا الوسطاء الثلاثة الآخرون، بانهيار اتفاق وقف النار، واندلاع الهجمات الإسرائيلية من جديد. والأرجح، أن الوسطاء كافة قد وطَّنوا أنفسهم على التعامل مع خطة سلام بالغة الارتباك والغموض على السواء، لا يعرف حتى من وضعوها كيف ومتى يمكن تطبيق بنودها، وإلى أين ستؤدي. فلماذا تبدو خطة ترامب لغزة بهذه الهشاشة وفقدان معالم الطريق الواضحة؟ وما المخاطر التي تحملها الخطة على أحوال ومصير أهالي قطاع غزة؟
الانخراط الأميركي في تنفيذ خطة غزة
خلال الأسابيع الثلاثة التالية على سريان اتفاق وقف إطلاق النار، عمل الأميركيون في اتجاهات ثلاثة لتثبيت الاتفاق والانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة الرئيس ترامب:
الأول: وتعلَّق بتأمين الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وعملية التبادل مع الأسرى الفلسطينيين خلال الساعات الاثنتين وسبعين التالية على إعلان وقف النار. ولكن واشنطن تجاهلت، أو قبلت على مضض، الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف النار، وما يترتب عليه من التزامات إسرائيلية. ولأن ملف الإفراج والتبادل يمثل المرحلة الأولى من خطة الرئيس ترامب، وأن الانتهاء من هذا الملف لا يتطلب زمنًا طويلًا ولا يشوبه الكثير من التعقيدات، حتى مع إدراك الوسطاء لصعوبة العثور وتسليم كافة جثامين الأسرى الموتى خلال أيام المرحلة الأولى الثلاثة، فقد عمل الأميركيون على أساس أن الانتقال للمرحلة الثانية سيبدأ ربما في الأسبوع الثاني أو الثالث من سريان وقف النار.
الثاني: وتعلق بتحرك إدارة الرئيس ترامب للسيطرة الفعلية على تنفيذ الخطة على الأرض. وهذا ما استدعى إقامة مركز رقابة وتنسيق أمني في موقع على الجانب الإسرائيلي قريب من قطاع غزة، يقول المسؤولون الأميركيون إنه سيُدار من قبل عسكريين ومدنيين على السواء. والواضح، أن أغلب العاملين في المركز، الذي أُسِّس بالفعل في كريات غات (البلدة الإسرائيلية التي أُنشئت على أرض الفالوجة الفلسطينية)، وبدأ العمل على المهمات الموكلة له، سيكونون من العسكريين الأميركيين، إضافة إلى عدد من الخبراء الأمنيين وموظفي الخارجية الأميركية. وانضم إلى هؤلاء عدد قليل من خبراء أمنيين وعسكريين من دول أخرى منها دولتان عربيتان لتوكيد الصبغة الدولية للمركز.
ما تقوله الإدارة الأميركية: إن المركز سيقوم بأعمال الرقابة والتوثق من التزام كافة الأطراف بوقف إطلاق النار؛ ومن هنا جاء تسيير المركز لطائرات أميركية مسيرة فوق مناطق مختلفة من قطاع غزة. كما سيقوم المركز بتنسيق دخول المساعدات المتفق عليها لأهالي القطاع، المهمة التي لا يبدو أنها أُعطيت أي اهتمام يذكر. ولكن الواضح، بالنظر إلى العدد الكبير من العاملين والتجهيزات، أن المركز سيكون الأداة التنفيذية الرئيسة لخطة غزة في كافة مراحلها ومناحيها، أو بكلمة أخرى، أداة التحكم والسيطرة الأميركية على القطاع خلال السنوات المقبلة، بدون أن تضطر الولايات المتحدة لتسيير جنودها على الأرض.
وتَمثَّل الاتجاه الأميركي الثالث في سلسلة من الزيارات التي تعهدها مسؤولون أميركيون كبار لإسرائيل خلال الأسابيع الثلاثة التالية على وقف إطلاق النار. بدأت هذه الزيارات بتوقف الوسيطين الأميركيين الرئيسيين، ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، لعدة أيام في إسرائيل، واجتماعهم بعدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين. ولم يكد ويتكوف وكوشنر يغادران الشرق الأوسط حتى حلَّ نائب الرئيس، جيه. دي. فانس، في زيارة لإسرائيل استمرت ليومين، التقى خلالها برئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو.
ولم يلبث وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أن وصل هو الآخر لإسرائيل في زيارة تضمنت لقاء نتنياهو، كما وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، واطلع على عمل مركز التنسيق والرقابة في كريات غات. في 31 أكتوبر/تشرين الأول، كان رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي خامس مسؤول أميركي كبير يصل لإسرائيل في زيارة شملت لقاءات مع قيادات الجيش الإسرائيلي، والاطلاع على الوضع في غزة خلال جولة في طائرة مروحية إسرائيلية، واستطلاع عمل مركز التنسيق والرقابة. وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني، أُعلن عن وصول مسؤولة مجلس الاستخبارات الوطني إلى إسرائيل بهدف الاجتماع مع مسؤولين إسرائيليين والاطمئنان على آلية عمل مركز التنسيق والرقابة.
في الأحوال العادية للعلاقات بين الدولتين، لم يكن ثمة داع لهذا العدد من الزيارات رفيعة المستوى خلال أسبوعين فقط. الأمر الذي لم يَخْفَ على الرأي العام والإعلام الإسرائيليين أن الدافع خلف هذه السلسلة من الزيارات المتتابعة كان مخاوف الجانب الأميركي من عدم التزام إسرائيل باتفاقية وقف النار، ومحاولة واشنطن إقناع إسرائيل بوجهة النظر الأميركية حول قضايا الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة غزة.
لكن، وعلى الرغم من تزايد الشعور في أوساط الإسرائيليين بأن الولايات المتحدة باتت مصدر القرار الرئيس بخصوص غزة، وأن دولتهم فقدت استقلاليتها، فالواضح أن مسارات التحرك الأميركي لم تصل إلى كافة أهدافها. صحيح أن ليس ثمة انهيار كامل لوقف النار، ولا عودة متوقعة للحرب الشاملة، ولكن الإسرائيليين لم يترددوا في تعهد حملة قصف مميتة لقطاع غزة بمسوغات واهية، أودت بحياة العشرات. ولم يتوقف الإسرائيليون عن تنفيذ هجمات متكررة على أهداف مختلفة في القطاع، تنبئ بتصميم حكومة نتنياهو على مواصلة الإشراف الأمني على قطاع غزة، بغض النظر عن اتفاقية وقف النار.
لم يلتزم الإسرائيليون بإدخال عدد شاحنات المساعدات المتفق عليه يوميًّا، الذي حُدِّد بستمائة شاحنة؛ وحتى أوائل نوفمبر/تشرين الثاني لم يتجاوز عدد الشاحنات المسموح بدخولها للقطاع المائة يوميًّا. وعلى الرغم من إعلان الإسرائيليين تنفيذ الانسحاب الأولي لقواتهم، الذي حُدِّد بخط أصفر في خرائط اتفاق وقف النار، فثمة تقارير إعلامية محايدة تقول بأن الجيش الإسرائيلي قد تجاوز في أكثر من مكان موقعه المفترض في خط الانسحاب الأصفر. إلى جانب ذلك كله، يصر الإسرائيليون على أن خطة غزة لم تزل في مرحلتها الأولى، وأنهم لن يقبلوا التفاوض حول الانتقال للمرحلة الثانية إلا بعد نهاية تسليم كافة جثامين الأسرى الموتى.
ولكن هناك دلائل أخرى تشير إلى أن العقبات أمام الانتقال إلى المرحلة الثانية لا تتعلق بمسألة جثامين الأسرى وحسب.
الانتقال الصعب إلى الثانية
قال نتنياهو، في معرض الرد على اتهامه بالخضوع للإرادة الأميركية (26 أكتوبر/تشرين الأول): إن إسرائيل ستكون صاحبة القرار فيمن سيشارك في قوة الاستقرار الدولية التي يفترض نشرها في قطاع غزة في المرحلة الثانية من خطة ترامب. ولا شك أن ملف قوة الاستقرار يمثل أحد أبرز معضلات الانتقال إلى المرحلة الثانية. لم تحدد خطة ترامب تعداد قوة الاستقرار، ولا اتضحت الدول المفترض أن يشارك جيشها في القوة، ولا طبيعة عملها والمهمات التي ستوكل إليها، ولا الأساس القانوني لها. هذا، إلى جانب الرفض الإسرائيلي للتحرك إلى المرحلة الثانية؛ ما يجعل تشكيل قوة الاستقرار مسألة بالغة التعقيد.
ما يتردد في واشنطن أن إدارة ترامب تفضِّل أن تتكون قوة الاستقرار من جيوش عربية وإسلامية، وأن مصر وإندونيسيا والأردن تقف في مقدمة الدول المرشحة للمشاركة، وأن الرئيس الأميركي يريد أن تكون تركيا وقطر أيضًا ضمن الدول المشاركة، نظرًا لثقة واشنطن في العلاقة مع أنقرة والدوحة، وكون تركيا وقطر بين دول قليلة قادرة على ممارسة الضغط على حماس.
ولكن المشكلة أن حكومة نتنياهو ترفض رفضًا قاطعًا مشاركة تركيا في القوة نظرًا للقطيعة في علاقات البلدين، وهجمات الرئيس أردوغان وحكومته على الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، ولاقتناع الإسرائيليين بأن أية قوات تركية في قطاع غزة لن تكون سوى غطاء لحماس ومصدر دعم لها. لدوائر إسرائيلية أخرى، ثمة خوف ذو طابع تاريخي من وجود قوات تركية في غزة، يستعيد صمود الجيش العثماني الطويل في جبهة غزة خلال الحرب العالمية الأولى، تحت نفس العلم التركي الحالي. في 31 أكتوبر/تشرين الأول، نقلت أكسيوس عن مسؤول أميركي توكيده لرغبة إدارة ترامب في المشاركة التركية، وتوجيهه النقد للتصريحات الإسرائيلية الرافضة لهذه المشاركة. أما الموقف الإسرائيلي من مشاركة قطر فليس واضحًا.
ولكن، حتى الدول التي لم تعلن إسرائيل معارضة لمشاركتها، مثل الأردن ومصر وإندونيسيا، تؤكد أنها لن تُقدم على المساهمة في قوة الاستقرار بدون تفويض من مجلس الأمن الدولي. بمعنى، أن تعمل قوة الاستقرار كقوة حفظ سلام، كما سماها رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن، يكتسب وجودها شرعية دولية-أممية من الأمم المتحدة. يقول الأميركيون إنهم يعملون بصورة حثيثة لتأمين صدور قرار من مجلس الأمن بتشكيل قوة الاستقرار.
ما دامت واشنطن تسعى إلى التحكم في عمل القوة وطبيعة انتشارها، فالأرجح أن الأميركيين لا يريدون أن تكون شبيهة بقوات حفظ السلام والرقابة وفصل المتحاربين الأممية في جنوب لبنان. ولذا، فإن كان التصور الأميركي يقتصر على تحصيل مجرد قرار أممي صوري بتشكيل قوة الاستقرار، بهدف طمأنة الدول المشاركة، ينتهي بصدوره دور الأمم المتحدة، فليس من المتيقن أن تحقق الجهود الأميركية في مجلس الأمن تأييدًا من روسيا والصين.
ويظل الهدف من تشكيل قوة الاستقرار والمهمات الموكلة إليها، خارج نطاق التوافق، حتى بعد مضي ما يقارب شهرًا على إعلان وقف النار. ما تريده الولايات المتحدة هو أن تقوم قوة الاستقرار بحفظ الأمن في قطاع غزة، بديلًا عن أمن حماس وحكومة القطاع، وأن تتكفل بمهمة نزع سلاح جماعات المقاومة المختلفة، وأن تعمل على ألا يشكل القطاع أي تهديد أمني لإسرائيل على المدى البعيد. أما ما يريده الفلسطينيون، وعدد من الدول المرشحة للمشاركة، فهو أن تقدم قوة الاستقرار المساعدة للأمن الفلسطيني في مهمات حفظ الأمن والنظام، وأن تنتشر بصورة أساسية في المحيط الحدودي للقطاع، لتحل محل القوات الإسرائيلية المنسحبة، سواء لتأمين فتح المعابر مع القطاع أو الوقوف في مواجهة أية اعتداءات إسرائيلية على القطاع وأهله.
عدد من مسؤولي الدول العربية والإسلامية المرشحة للمشاركة والوسطاء العرب والمسلمين، يقول بوضوح إن قوات بلادهم، إن شاركت في القوة المقترحة، لن تشتبك في أي حال من الأحوال مع المقاومين الفلسطينيين. ويؤكد هؤلاء أن مسألة السلاح يجب أن تكون محل تفاوض مع المقاومة الفلسطينية، وأن يتم التوصل إلى توافق حولها بصورة سلمية ومسبقة.
والمؤكد أن كافة الأطراف تنظر إلى مسألة نزع سلاح المقاومة بوصفها إحدى أكبر العقد في طريق تطبيق خطة غزة. ثمة انطباع لدى الأميركيين، ولدى الوسطاء العرب والمسلمين، بأن حماس وافقت بالفعل على تسليم السلاح، على الرغم من أن رد حماس على خطة ترامب لم يتضمن مثل هذه الموافقة. ولكن، حتى إن افتُرض أن هناك موافقة ضمنية، تظل هناك جملة من الأسئلة المتعلقة بالسلاح ليس ثمة إجابة عليها بعد. بعض من هذه الأسئلة يتعلق بمن هي الجهة التي سيسلم لها السلاح؟ وهل ستقوم هذه الجهة بتدمير السلاح أو مجرد تأمينه؟ وما هو على وجه التحديد نوع السلاح الذي يفترض تسليمه: هل هو السلاح الهجومي، مثل الصواريخ والمدفعية، أو كل السلاح بما في ذلك السلاح الفردي الذي يعد جزءًا لا يتجزأ من تقاليد الحياة الفلسطينية؟
ولا يقل ملف الهيئة الإدارية الفلسطينية لقطاع غزة، التي يفترض أن تقوم بمهام حكومة القطاع لعدة سنوات انتقالية، تعقيدًا. المصريون، ولسعيهم التقليدي إلى ضمان نفوذهم المستقبلي في القطاع، بادروا إلى فتح هذا الملف قبل أية جهة وسيطة أخرى. وتقول مصادر في القاهرة: إن مسؤولين في الاستخبارات المصرية قدموا بالفعل لائحة بأسماء المرشحين للهيئة الإدارية لوفدي حماس والسلطة الفلسطينية عند اجتماعهم بالقاهرة، في 23 أكتوبر/تشرين الأول، وإن الطرفين توصلا بالفعل إلى توافق على معظم الأسماء المقترحة. ولكن ثمة مؤشرات على أن مثل هذا التوافق لم يتحقق تمامًا.
فعلى الرغم من أن حماس تؤكد باستمرار على وحدة قطاع غزة والضفة الغربية، وعلى أن يكون القطاع جزءًا لا يتجزأ من الكيان الفلسطيني المستقبلي، فثمة هوة عميقة من عدم الثقة تفصل بين المقاومة في قطاع غزة وسلطة رام الله في وضعها الراهن. يقول مسؤولو السلطة: إن وحدة الشعب الفلسطيني تستدعي أن يكون رئيس الهيئة الإدارية بمرتبة وزير في حكومة رام الله وأن يعين من قبل الحكومة، وأن تتشكل قوات أمن قطاع غزة ما بعد الحرب بقرار وقيادة من الأمن الحكومي في رام الله.
في المقابل، تخشى حماس من أن تتجه السلطة، إن تولت السيطرة على أجهزة الحكم والأمن في غزة، إلى استبعاد أبناء أطراف من الفصائل المقاومة من المؤسسات والحياة العامة في القطاع. ولذا، فإن حماس تصر على أن يكون كافة أعضاء الهيئة الإدارية من أبناء غزة الذين لم يغادروا القطاع خلال سنتي الحرب، التكنوقراط والمستقلين سياسيًّا، وأن يتم اختيار أبناء الجهاز الأمني الجديد بناء على المعايير ذاتها، سواء بالمحافظة على معظم عناصر قوات أمن القطاع الحاليين أو تعزيز هذه القوات برجال أمن جدد.
ولكن الخلاف حول الهيئة الإدارية وأمن القطاع لا يقتصر على تباين وجهات النظر الفلسطينية، التي لن يصعب في النهاية جسرها بمزيد من الحوار. فعلى الرغم من أن الأميركيين يبدون وكأنهم تركوا لمصر معالجة كلا الملفين، تصر حكومة نتنياهو على أن يكون لها الرأي النهائي. ما يريده الإسرائيليون هو أن تضم الهيئة الإدارية ولو عددًا قليلًا ممن عُرفوا بالرغبة في التفاهم مع إسرائيل، وأن يتم إدراج عناصر الميليشيات المتعاونة معهم، أو أغلبهم، في أجهزة الأمن الجديدة. والواضح أن كلًّا من المطلبين الإسرائيليين سيواجَه برفض قاطع من غالبية القوى في غزة، وأن محاولة فرضه على الغزيين ستفضي إلى اندلاع عنف داخلي.
مخاطر على الطريق
كتب غراييم وود (ذا أتلانتيك، 26 أكتوبر/تشرين الأول)، في تعليق على خطة الرئيس ترامب لغزة، قائلًا: إن الخطة تبدو مثل الزواج البروتستانتي، الذي يحظى عادة بتأييد الجميع، بدون أن يعرف أحد على وجه اليقين كيف يمكن إتمامه. وهكذا، ومنذ بدأ تطبيق الخطة وإنزالها على أرض الحرب، انطلقت موجة من التدافعات حول تفسيراتها المختلفة، وما يحمله كل بند منها من التزامات ومصالح لكل طرف من أطراف الصراع على غزة.
تخوض إدارة ترامب معركة مكتومة مع الإسرائيليين حول الالتزامات التي يفرضها اتفاق وقف النار، وحول تشكيل قوة الاستقرار والدول التي يمكن أن تسهم في هذه القوة، كما حول قرار مستقبل غزة ككل. وتحاول واشنطن، في الآن نفسه، فرض تصورها لطبيعة قوة الاستقرار ومهماتها ومرجعيتها على مجلس الأمن، وعلى مجموعة الدول العربية–الإسلامية التي أصبحت شريكة على نحوٍ ما منذ اجتماع قادتها مع الرئيس ترامب في نيويورك، كما على حماس والسلطة الفلسطينية.
ويخوض نتنياهو معركة مشابهة ليس مع واشنطن وحسب، بل ومع معارضيه في الساحة السياسية الإسرائيلية، كما مع حماس والوسطاء العرب والمسلمين. في هذه المعركة، لا يحاول نتنياهو تجاهل التزامات اتفاق وقف النار وحسب، بل ويعمل على تأجيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطة لأطول فترة ممكنة، مستهدفًا الاستمرار في سيطرة إسرائيل الأمنية على القطاع. ولكن معركة نتنياهو الكبرى هي تلك المتعلقة برؤيته لما يمكن أن يترتب على الخطة في النهاية، أي إصراره على أن تفضي الخطة إلى تحقيق أهداف الحرب على قطاع غزة، التي لم يستطع تحقيقها بقوة الجيش الإسرائيلي الباطشة.
في الجانب الآخر، تحاول حماس التعامل مع تطبيق مراحل الخطة على الأرض، كل واحدة منها على حدة. ولأن الحاضنة الشعبية كانت طوال الحرب مصدر قوة حماس وجانبها الأضعف في الوقت نفسه، تبذل حماس كل جهد ممكن لمنع عودة الحرب في صورتها الشاملة. ولكن ركيزة حماس الأكبر في خوض تدافع التفسيرات مع الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو هي بالتأكيد تعاطف الوسطاء العرب والمسلمين الثلاثة، وقدرة مجموعة الثمانية على التوصل إلى موقف إجماعي من كافة مسائل الخلاف، واستعداد دول المجموعة لممارسة الضغط على إدارة ترامب.
في النهاية، إن كانت خطة الرئيس ترامب قد نجحت حتى الآن في وضع حدٍّ للحرب الشاملة، التي عاشها قطاع غزة طوال العامين الماضيين، فإن ما تبقى من الخطة يظل مفتوحًا على الاحتمالات، ومحملًا بالمخاطر على القطاع وأهله. ولم تعد هذه المخاطر مجرد تكهنات؛ ففي حديث له أمام جمهوريين مؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة (1 نوفمبر/تشرين الثاني)، هدَّد رون دريمر، مستشار نتنياهو للشؤون الإستراتيجية والمسؤول الرئيس عن مفاوضات تطبيق خطة غزة، بأن على حماس الابتعاد كلية عن إدارة غزة وتسليم سلاحها طوعًا، وإلا فسيقوم الجيش الإسرائيلي بنزع السلاح بالقوة.
كما هدد دريمر بتوقف إسرائيل عن القيام بأي انسحاب جديد من قطاع غزة، بل وأن يتحرك الخط الأصفر مرة أخرى باتجاه عمق القطاع. لم يقل دريمر شيئًا عن فشل الجيش الإسرائيلي في إيقاع الهزيمة بحماس طوال عامين من الحرب المدمرة ولكن تحذيراته تبدو جدية، نظرا إلى أن إسرائيل مقبلة على موسم انتخابي وأن المحافظة على وتيرةٍ ما من الحرب في غزة ولبنان تصب لمصلحة نتنياهو السياسية، ولأنها أيضًا تحررت من ضغوط وجود أسراها لدى الفلسطينيين، وأيضًا لأن من الصعب الركون إلى الضمانات والضغوط الأميركية.
تحرص حماس منذ بدء سريان اتفاق وقف النار على المحافظة عليه. ولكن تجاهل حكومة نتنياهو المستمر للعديد من التزامات اتفاق وقف النار يكشف بصورة واضحة عن أن إسرائيل، إن قررت العودة إلى الحرب، ستخرق الاتفاق دون مبررات. أي خلاف ملموس حول تفسيرات خطة الرئيس ترامب سيكون كافيًا لأن تتوقف إسرائيل عند الخط الأصفر، وتعود إلى القصف والغارات الجوية، حتى إن لم تعد إلى الحرب الشاملة، وهذا ما يُلقي على كاهل دول مجموعة الثماني العربية-الإسلامية عبء العمل على أن يستمر تنفيذ خطة الرئيس ترامب بأقصى سلاسة ممكنة، وأقل ضرر محتمل على أهل غزة.