الحوار السياسي في موريتانيا بين الرهانات الداخلية وشروط التوافق

يستعرض النص مسار الدعوة إلى حوار سياسي شامل بموريتانيا يهدف لمعالجة أزمات بنيوية تتعلق بالعدالة، المشاركة، وتوازن القوى. يوضح تباين المواقف حول شروط المشاركة والضمانات، وتأثير التوترات الاجتماعية والإقليمية، ويؤكد أن نجاح الحوار مرهون بإرادة إصلاحية صادقة وتوافق وطني فعلي.
الرئيس محمد ولد الغزواني دعا الأحزاب السياسية إلى تقديم مقترحاتها بشأن القضايا التي سيتم تناولها في الحوار القادم (الفرنسية)

بالرغم من أنه لم تكن هناك مسوغات سياسية أو اجتماعية لحوار يجمع الطيف السياسي على طاولة واحدة، ظل نظام الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني متمسكا بفكرة الاحتكام -بعد كل انتخابات رئاسية- إلى حوار ربما يجد فيه خلاصا من ضغط الطيف المعارض، على ما تمر به المعارضة من تقهقر في المواقف وفترة محاولة إعادة التشكيل.

سياق الدعوة إلى الحوار

تعثر مسار الحوار السياسي الأول الذي أطلقه النظام سنة 2021 بقيادة الوزير الأسبق يحيى ولد الوقف، وهو ما أفضى إلى إعادة تشكل الساحة الحزبية في محاولة لالتقاط أنفاسها وترتيب مواقعها. إلا أن سلسلة الاستحقاقات الانتخابية المتلاحقة، التشريعية والبلدية والجهوية، ثم الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، أعادت خلط الأوراق وقيدت قدرة كثير من القوى على استعادة حضورها، الأمر الذي ساهم في تقليص مساحة التحرك السياسي للمعارضة والموالاة معاً.

وفي مارس/آذار 2025، عاد الرئيس محمد ولد الغزواني لطرح فكرة الحوار من جديد، هذه المرة بصيغة أكثر شمولاً، تعلن مبدئياً رفع أي شرط مسبق حول المشاركة أو المواضيع. وقد قُدمت المجالات المقترحة للحوار باعتبارها شاملة، تمتد من قضايا الحوكمة ومحاربة الفساد إلى حقوق الإنسان والنظام الانتخابي، بما يوحي برغبة في مقاربة الإصلاح بصورة كلية.

وتم تكليف موسى أمباي فال بتنسيق هذه المرحلة، في إطار زمني محدود لا يتجاوز شهرين لجمع المقترحات قبل عقد الجلسات. وبرغم تجاوب عدد من الأطراف السياسية مع الدعوة، فإن المسار واجه اختباراً مبكراً مع موقف بيرام الداه اعبيد، الذي يمثل أحد أبرز الفاعلين المعارضين في المشهد الراهن(1). فقد أبدى تحفظات جوهرية، وطرح شروطاً واعتبر مشاركته مرهونة بضمانات تتعلق بملفات يراها محورية، من بينها الإرث الإنساني والعبودية والعدالة الاجتماعية، ما جعل عملية استقطابه إلى طاولة الحوار أكثر تعقيداً.

بيرام الداه اعبيد بين شروط المشاركة وورقة الضغط

يدرك نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني جيدا الوزن السياسي الذي يمثله بيرام داخليًا، إضافة إلى تأثيره الخارجي وصلاته الواسعة في الأوساط الحقوقية الدولية، ولذلك يسعى النظام إلى إشراكه في الحوار باعتبار أن وجوده سيمنح العملية قدرا أكبر من المصداقية في الداخل وشرعية في الخارج. وفي المقابل، يدرك بيرام هذه المكانة ويستثمرها لتعزيز موقعه التفاوضي داخل المعارضة، حيث يحاول تقديم نفسه بوصفه صوتا مركزيا يعبر عن مطالب الفئات المتضررة، مقابل أحزاب المعارضة التقليدية مثل "تواصل" و"الصواب" و"اتحاد قوى التقدم" و"التكتل"، التي يعتبرها أقل تأثيرا في الشارع خلال المراحل الأخيرة.

غير أن بيرام لا يُبدي ثقة كبيرة في الضمانات التي يقدمها منسق الحوار موسى فال، ولذلك يشترط ضمانات مباشرة من الرئيس ولد الغزواني، مستندا إلى قاعدته الانتخابية التي منحته نسبة 22.10% في آخر انتخابات رئاسية، وإلى الدعم الذي يجده عبر منظمات حقوقية خارجية يقدم من خلالها سردية تُصوّر النظام على أنه يعاني اختلالات بنيوية في العدالة الاجتماعية. وقد ظهر هذا الخطاب بوضوح خلال مظاهرة لحركة "إيرا" في بروكسل أمام مقر الاتحاد الأوروبي، حيث اتهم بيرام النظام بممارسة تمييز ضد بعض المجموعات، وشبّه الوضع بما يشبه "الأبارتايد". وقد أثارت هذه التصريحات جدلاً واسعًا، وبدت كورقة ضغط خارجية تستحضر قضايا تاريخية ترى السلطة أنها طويت بينما يعتبرها بيرام حاضرة ومؤثرة.

ويرتكز موقف بيرام من المشاركة في أي حوار سياسي على ضرورة توفير ضمانات فعلية تضمن جدية المسار. فبالنسبة له، لا يكفي الإعلان عن الحوار أو الدعوة إليه، بل يتعين أن ترافق ذلك خطوات قانونية واضحة تعيد الثقة في منظومة العدالة وتثبت مسؤولية الرئيس عن حماية نتائج الحوار وتنفيذها. بهذا المعنى، يصبح معيار الدخول في الحوار مرتبطاً بمدى استعداد السلطة لإظهار إرادة إصلاحية ملموسة، لا الاكتفاء بالالتزامات الخطابية.

كما ينطلق خطابه من اعتبار أن القضايا المفترض معالجتها ليست تقنية أو بروتوكولية، بل تمس جوهر البنية السياسية والاجتماعية للدولة. فهو يطرح مسألة الحريات السياسية ووجود جماعات أو فئات تشعر بالتهميش أو الحرمان، بوصفها مشكلات بنيوية تحتاج معالجة على مستوى العقد الوطني المشترك. وفي هذا السياق، يتقدم ملف التفاوت الاجتماعي والتاريخي وما نتج عنه من اختلالات في المواطنة كأحد محاور النقاش التي لا يمكن تجاوزها دون مراجعة جذرية.

أما في ما يتعلق بالتوترات السياسية والأحداث التي شهدتها البلاد بعد الانتخابات، فيرى أن أي حديث عن مصالحة أو حوار يفقد مصداقيته إذا لم تُفتح مسارات مساءلة شفافة بخصوص الانتهاكات التي رافقت تلك المرحلة. ويأتي التشديد على ضرورة التحقيق في أحداث كيهيدي نموذجاً لذلك. وفي خلفية هذا الطرح يتبدى تصور للحوار بوصفه وسيلة لتفادي العنف وتثبيت السلم، شريطة أن يقوم على الثقة المتبادلة والالتزام العملي، لا على الشكلية أو الرمزية(3).

الضمانات المعلنة لمشاركة بيرام تخفي في طياتها جر النظام إلى الاعتراف بمظلمة تدينه دوليا وفتح ملفات تُحرجه داخليا، وربما هي محاولة لعرقلة الحوار حتى اقتراب استحقاقات 2029، وفي قراءة النائب بيرام للحوار أنه محاولة من النظام لتمرير أجندته وعلى رأسها مأمورية ثالثة للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مؤكدا رفضه المشاركة في الحوار بسبب غياب وضوح أهدافه(4).

مشاورات منسق الحوار وحصيلة المرحلة التحضيرية

بدل الشهرين، انتظر منسق الحوار موسى فال سبعة أشهر لإعلان حصيلته وتسليم الرئيس محمد ولد الغزواني تقرير المرحلة التحضيرية، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، كان القصر الرمادي في نواكشوط على موعد مع فتح تقرير قالت الرئاسة: إنه يضم رؤى ومواقف الأحزاب السياسية والقوى الوطنية بشأن الحوار الوطني المرتقب، وذلك في نهاية المرحلة الأولى من التحضيرات للحوار الجامع، الذي تعهّد به رئيس الجمهورية ضمن برنامجه "طموحي للوطن"(5).

وقد أفاد التقرير أن كافة القوى السياسية تفاعلت مع دعوة الرئيس للحوار، باستثناء المرشح الرئاسي السابق والنائب بيرام الداه اعبيد وحزب العدالة والتنمية - حركة التجديد AJDMR.

كما أظهرت الحصيلة مشاركة 20 حزباً سياسياً معترفاً به، و50 حزباً قيد الترخيص، و240 شخصية وطنية مستقلة، و1500 مواطنا من مختلف الفئات، إضافة إلى منظمات شبابية ومدنية وجمعيات مهنية متعددة.

تبيّن عملية إعداد خريطة طريق الحوار أن الأولويات التي برزت لم تكن مفروضة من جهة واحدة، بل جاءت نتيجة تجميع آراء المشاركين وتقاطعاتهم. ويتضح من ذلك أن تعزيز الوحدة الوطنية يشكّل محوراً مركزياً في التصور الجماعي، باعتباره مدخلاً لمعالجة قضايا أكثر عمقاً مثل الإرث المرتبط بالعبودية، وإصلاح المنظومة الانتخابية، وتعزيز الحكامة الاقتصادية. وهذا يشير إلى إدراك واسع بأن الأزمات السياسية والاجتماعية متداخلة، وأن معالجتها تتطلب رؤية شاملة لا حلولاً قطاعية معزولة.

أما التقارب الملحوظ بين مقترحات مختلف الأطراف -من أغلبية ومعارضة ومجتمع مدني- فيمثل مؤشراً على درجة من النضج السياسي قادرة على إنتاج توافقات فعلية. ويُفهم من ذلك أن الإطار العام للحوار لم يُبنَ على شروط فوقية أو هندسة مسبقة من طرف السلطة، بل على القبول بمبدأ المشترك الوطني كأساس للتفاوض. هذا النهج يعكس توجهاً نحو الانتقال من إدارة الخلاف إلى معالجة أسبابه العميقة، بهدف صياغة تحول مستدام في نموذج الحكم واستشراف مستقبل يقوم على التوافق لا الغلبة(6).

وعلى الرغم من انتهاء المرحلة التمهيدية، فإن منسق الحوار موسى فال يشير إلى أن المسار لا يزال مفتوحاً أمام الأطراف التي لم تحسم موقفها بعد، معتبراً أن الانخراط فيه يمثل لحظة سياسية فارقة يمكن أن تؤسس لتعاقد وطني جديد قائم على التهدئة وإعادة بناء الثقة وضمان الاستقرار. فالدعوة هنا ليست بروتوكولية، بل تعبّر عن إدراك لخطورة الظرف وضرورة استثمار اللحظة قبل أن تتحول التوترات الكامنة إلى أزمات مستعصية.

وقد تضمنت الوثيقة الموجهة للفاعلين السياسيين تحديداً دقيقاً لمحاور النقاش، حيث وضعت قضية العبودية وإرثها في صدارة الأولويات، باعتبارها مدخلاً لمعالجة اختلالات المواطنة، إلى جانب الملفات الحقوقية المرتبطة بالذاكرة الجماعية والتنوع الثقافي. كما شملت مراجعة الإطار الديمقراطي والانتخابي بما يضمن عدالة المسار السياسي وشفافيته.

وفي المجال الاقتصادي والإداري، ركزت الوثيقة على تمكين الفئات الهشة وتكافؤ الفرص، وتعزيز الحوكمة عبر مكافحة الفساد وترشيد الإنفاق وتطوير الإدارة وتحسين مناخ الأعمال. وتوسعت أيضاً لتشمل إصلاحات هيكلية في التعليم والقضاء والعقار والصحة، بما يعكس تصوراً لإعادة بناء الدولة لا مجرد معالجة جزئية.

كما حددت الوثيقة المشاركين من أحزاب معترف بها وأخرى قيد الترخيص، ومرشحين سابقين ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات مستقلة وجاليات، مع طرح آلية تقنية تقوم على ورشات موضوعية ولجنة إشراف مشتركة واعتماد المخرجات بالتوافق تحت رعاية رئيس الجمهورية.

هل تعثر الحوار قبل أن يبدأ فعليا؟

برزت ثلاثة محددات أساسية كان لها أثر واضح في تعثر مسار الحوار، أو على الأقل في إفقاده الزخم الضروري الذي كان يفترض أن يمنحه جاذبية واستمرارية؛ تماما كما حدث مع الحوار الذي قاده الوزير الأسبق يحيى ولد أحمد الوقف، ويُنظر إلى موسى فال بوصفه فاعلًا سياسيًا قادمًا من خلفية استشارية تقليدية، ما يجعله أقرب إلى إنتاج المقترحات وتنسيق الأفكار أكثر من قدرته على استيعاب ميزان القوى الفعلي داخل الحقل السياسي. وهذه الخلفية تؤثر في طريقة مقاربته للحوار؛ إذ غالبًا ما يمنح أولوية لمن يملك خطابًا فكريًا أو مطالب مبدئية، حتى وإن كان تمثيله الشعبي محدودًا، بدلًا من القوى ذات الوزن السياسي والتنظيمي.

أما السمة الثانية فتتعلق بدرجة من الثقة العالية بالرأي الشخصي، وهي خاصية قد تحدّ من فاعلية دوره كوسيط أو ضامن لتقريب المواقف، لأن نجاح الوساطة يتطلب مرونة في التعاطي وإدارة للخلافات لا التشبث بالتصورات المسبقة.

والعامل الثالث ذو طابع شبكي–علاقاتي؛ إذ إن قنوات تواصله مع أهم الفاعلين المعارضين تبدو ضعيفة أو مشحونة، خصوصًا مع المحيط الداعم لبيرام الداه اعبيد، الذي ينظر إلى موسى فال باعتباره امتدادًا لنمط سياسي محافظ تشكل عبر عقود. ويضاف إلى ذلك غياب الروابط مع القيادة الحالية لحزب "تواصل"، رغم علاقته الجيدة بقياداته السابقة، وهو ما يقلل من قدرته على بناء جسور فعالة مع الفاعلين المؤثرين اليوم داخل المعارضة(7).

منذ تولّي الرئيس محمد ولد الغزواني الحكم في أغسطس/آب 2019، شهدت الساحة السياسية تحولًا في مستوى التوتر ودرجة المواجهة بين السلطة والمعارضة. فقد تراجع الخطاب التصادمي لصالح لغة أكثر هدوءًا، وهو ما يعكس قدرة الرئيس ولد الغزواني على امتصاص حدة الخصومة السياسية وإعادة ضبط العلاقة مع الفاعلين المعارضين. هذا المسار خلق مناخًا ساهم في تراجع الحضور الراديكالي داخل المشهد، وظهور معارضة أقرب إلى التعايش الحذر منها إلى الصدام المفتوح، بل إن بعضها بدا وكأنه يتحرك داخل هوامش القبول بالنظام بدل مواجهته.

ورغم ذلك، فإن ملامح الإستراتيجية الرسمية تجاه الحوار لا تزال غير محسومة بشكل واضح. فالتعديل الأخير لقانون الأحزاب، وتجارب الحوار غير المكتملة في الولاية الأولى لغزواني، ومحاولة إعادة إطلاقه اليوم، تشير جميعها إلى سعي لإعادة ترتيب الحقل السياسي وإعادة هندسة خريطته، سواء لإعادة دمج القوى أو لإعادة توزيع موازين النفوذ داخلها. هذه العملية، إن صحت، ستكون لها انعكاسات على شكل المجال السياسي وتركيب طبقته الحزبية.

وإذا كان النظام يتجه فعلًا نحو عملية تجديد سياسي شاملة، فإن نجاح هذا المسار مرهون بمدى توفر الإرادة الفعلية لبناء عقد وطني جامع قائم على المساواة والعدالة وإصلاح المؤسسات. أما فشل الحوار أو الالتفاف على مخرجاته فسينعكس على المشهد السياسي بتراجع الثقة وتزايد الإحباط العام. وفي كل الأحوال، يبقى واضحًا أن الشرعية الخارجية ليست موضع إشكال بالنسبة للنظام الحالي، وأن الدافع للحوار ينبع أساسًا من حاجة داخلية لإعادة معالجة قضايا الوحدة الوطنية، والحوكمة، والتماسك الاجتماعي، وهي قضايا تمثل اليوم جوهر النقاش الوطني أكثر من أي اعتبارات تخص علاقات موريتانيا مع الخارج.

الحاجة إلى حوار جامع وسط تحديات داخلية وإقليمية

لا يقتصر الدافع نحو إطلاق مسار حواري شامل على الرغبة في توحيد الجبهة الداخلية وصياغة رؤية مشتركة لمستقبل الدولة، بل تفرضه كذلك البيئة الإقليمية المحيطة بموريتانيا. فالتوترات المستمرة في منطقة الساحل منذ أكثر من عقد، وما يصاحبها من تحولات أمنية وسياسية، تجعل الحوار أداة ضرورية لتعزيز تماسك الداخل في مواجهة محيط مضطرب.

يمثل الوضع الأمني على الحدود الشرقية والجنوبية الشرقية مع مالي أحد أبرز العوامل التي تعكس حجم الضغط الإقليمي على موريتانيا. فالعمليات المسلحة والهجمات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة خلفت خسائر بشرية وأثرت بشكل مباشر على حياة السكان المحليين ومساراتهم الاقتصادية. ويجري ذلك في ظل توتر دبلوماسي غير معلن بين نواكشوط وباماكو، حيث أُثيرت في الإعلام المالي وغيره أنباء حول إغلاق الحدود بين البلدين، وهو أمر لو تأكدت استمراريته فسينعكس سلبًا على أنشطة الرعي والانتجاع التي تعتمد موسمياً على المجال المالي، خصوصًا في ولايات الحوضين والعصابة وكيدي ماغا التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا، في مجال الرعي والتبادل التجاري، بهذا الامتداد الجغرافي.

وفي السياق نفسه، برزت ملفات الهجرة وترحيل المهاجرين كعامل إضافي ساهم في توتير علاقات موريتانيا ببعض دول الجوار في فترات سابقة. إذ لم تكن تلك الملفات مجرد قضايا إجرائية أو إنسانية، بل حملت تبعات سياسية واجتماعية أثرت في مستوى الثقة والتعاون بين الأطراف. هذه التطورات مجتمعة تجعل من إدارة الحدود والتحركات البشرية عبرها جزءًا من معادلة معقدة تُظهر أن التحديات الإقليمية ليست محيطية أو بعيدة، بل لها انعكاس مباشر على تماسك الداخل وواقعه الاجتماعي والاقتصادي.

في مقابل ذلك، تواجه البلاد تحديات داخلية متراكمة، بعضها ضارب في جذور البنية الوطنية، مثل قضايا الوحدة الاجتماعية والتفاوتات والمطالب الشبابية في التشغيل، إضافة إلى ملفات الفساد والحكامة. هذه القضايا تتطلب مقاربات حوارية اجتماعية واسعة تُطرح فيها الأسئلة الأساسية بهدف تفكيك الأسباب العميقة للأزمات لا الاكتفاء بمعالجة آثارها.

غير أن ما يحدث فعليًا هو ميل الحوار إلى أن يكون سياسيًا محضًا، موجّهًا بحسب أولويات النخب وموازين القوى بين المعارضة والأغلبية. وتجارب الحوارات السابقة تثبت أن هذا النوع من المقاربات، حين يبقى أسير الحسابات الحزبية الضيقة، لا يثمر نتائج ملموسة على المجتمع، ولا يلامس جوهر التحديات التي تحتاج البلاد إلى مواجهتها بصورة جدية.

خاتمة

تواجه موريتانيا جملة من التحديات ذات الطابع البنيوي، تتجلى في هشاشة البنى المؤسسية وضعف منظومات الحوكمة، إلى جانب الفقر ونقص الأمن الغذائي وركود الاقتصاد. وتزداد هذه العوامل تعقيدًا مع تصاعد الخطابات الشرائحية وتنامي الإحساس بالتفاوت، ما ينذر بإمكانية تشكل أزمة اجتماعية أعمق قد تتحول، إن تُركت دون معالجة، إلى توترات يصعب التحكم في مآلاتها.

وفي جوهر الأمر، تبدو الأزمة مرتبطة بدور النخبة السياسية وقدرتها على بلورة رؤية جامعة للدولة والمجتمع. فغياب نخبة قادرة على التفكير بعيدًا عن الحسابات الظرفية والمصالح الضيقة يجعل المشروع الوطني في حالة تأجيل دائم، تتحكم فيه ردود الأفعال بدل التخطيط الاستراتيجي.

ويمكن للحوار الوطني، إن جرى وفق مقاربة جادة ومسؤولة، أن يشكل فرصة لبناء توافقات حول القضايا الكبرى وإعادة توجيه الدولة نحو مسار تنموي مستدام. غير أن نجاحه يظل مشروطًا بوجود إرادة سياسية صادقة، واستعداد الفاعلين لتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية، والتعامل مع الحوار بوصفه أداة لإصلاح البنية العامة لا مجرد تمرين سياسي عابر. ومن دون ذلك، سيبقى أي اتفاق نظريًا، بينما يظل واقع الدولة والمجتمع معلقًا في دائرة الانتظار.

ABOUT THE AUTHOR

References

1)- تعيين موسى فال منسقا للحوار، موقع أقلام حرة بتاريخ 10 مارس 2025 (تم التصفح في 25 أكتوبر 2025): https://shorturl.at/HCYdC

2)- موريتانيا: النائب بيرام اعبيد يتظاهر في بروكسل ويصف تظام الحكم بـ«عنصرية الأبارتهايد» والحزب الحاكم يرد ويصفه بالجهل، القدس العربي بتاريخ 1 سبتمبر 2025 (تم التصفح في 25 أكتوبر 2025): https://shorturl.at/XDJFh

3)- بيرام: الحل الوحيد لمشاركتي في الحوار أن يلتزم غزواني بتنفيذ مخرجاته، وكالة الأخبار بتاريخ 14 يولية 2025 (تم التصفح في 27 أكتوبر 2025): https://shorturl.at/Y63Y6

4)- بيرام: الغزواني يسعى لمأمورية ثالثة عبر الحوار، موقع التيار بتاريخ 19 سبتمبر 2025 (تم التصفح في 28أكتوبر 2025): https://shorturl.at/K3MIx

5)- رئيس الجمهورية يتسلم التقرير التمهيدي للحوار الوطني المرتقب، موقع الوزارة الأولى (التاريخ غير محدد) (تم التصفح في 28 أكتوبر 2025): https://shorturl.at/wPSvd

6)- منسق الحوار الوطني يكشف عن الجهات السياسية التي قاطعت الحوار، موقع أطلس أنفو بتاريخ 16 أكتوبر 2025 (تم التصفح في 25 أكتوبر 2025): https://tinyurl.com/55sw6tx9

7)- هل ينجح موسى افال فيما فشل فيه ولد الوقف؟ وكالة الأخبار بتاريخ 10 مارس 2025 (تم التصفح في 27 أكتوبر 2025): https://tinyurl.com/vy8zxh35