غزة بعد عامين من الحرب: استحقاقات التسوية وتحديات تجاوز تداعياتها

تعيش غزة مرحلة حاسمة بعد الحرب الواسعة، بين استحقاقات التسوية ومتطلبات تجاوز التداعيات. مستقبلها يتوقف على وحدة الموقف الفلسطيني، وضبط الدور الإسرائيلي، وجهود الوسطاء لضمان الاستقرار، ومنع عودة الحرب، وفتح مسار الإعمار.
24 November 2025
أدى الانسحاب الجزئي لإسرائيل من غزة إلى تقسيمها لمنطقتين في خطوة أعادت تشكيل الواقع هناك وقد تُرسخ حقائق جديدة على الأرض (رويترز).

مقدمة

بعد عامين من الحرب الإسرائيلية والدمار الشامل الذي تعرض له قطاع غزة، دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ؛ مما فتح أفقًا جديدًا لمرحلة ما بعد الحرب. هذا الاتفاق لا يعد فقط مجرد وقف للنار، بل يُنظر إليه بوصفه جزءًا من إستراتيجية أوسع تُقدَّم في سياق خطة مكونة من 20 نقطة اقترحها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، موزعة على ثلاث مراحل تهدف ليس فقط إلى إعادة ترتيب الوضع السياسي والأمني والإنساني في غزة، بل جعلها بوابة لإعادة هندسة استقرار الشرق الأوسط بالكامل وفق المصلحة الأميركية الكبرى(1).

سرعان ما تحولت خطة ترامب إلى خطة المجتمع الدولي برمته بعد صدور قرار مجلس الأمن 2803، الذي منحها الشرعية الدولية، لتصبح المرجعية الأساسية لأي تحرك سياسي أو إنساني في غزة خلال المرحلة الانتقالية(2).

تعيد خطة ترامب على المستوى الإستراتيجي رسم قطاع غزة بشكل جديد ومغاير على المستوى الجغرافي والسياسي والحكم والمستوى الأمني.

في ظل هذه المتغيرات الجديدة والمنوي استحداثها في غزة ما بعد الحرب، جرَّاء قرار 2803، تبرز أسئلة محورية تناقشها هذه الورقة، أهمها:

ما هو واقع غزة الجغرافي والسياسي الراهن في ظل وقف اتفاق وقف إطلاق النار الذي بات يظلِّلها بعناوين إقليمية وأممية؟ ما الوضع القائم للأطراف الأساسية والأطراف المعنية المنخرطة، وما مطالبها الأساسية؟ كيف ستكون ردود غزة المحتملة على المطالب وسيناريوهاتها وخاصة من قبل حركة حماس وفقًا للخيارات المتاحة فضلًا عن التوقعات حول مآل غزة واتجاهات مستقبلها؟

أولًا: واقع غزة الجغرافي والسياسي الراهن

أدى انسحاب الجيش الإسرائيلي في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار إلى خلق منطقتين جغرافيتين منفصلتين داخل قطاع غزة، يفصل بينهما ما أطلقت عليه إسرائيل اسم "الخط الأصفر"(3). هذا التقسيم أعاد رسم الخريطة الجغرافية والسياسية للقطاع بشكل غير مسبوق؛ مما أثَّر على السكان المحليين والبنية الإدارية والفصائل الفلسطينية.

المنطقة الغربية: تشمل المنطقة الغربية وسط وغرب مدينة غزة، والمحافظة الوسطى ما عدا مناطقها الشرقية، بالإضافة إلى غرب مدينة خان يونس. تتركز غالبية السكان الغزيين في هذه الجغرافيا، التي تمثل نحو 47% من إجمالي مساحة القطاع(4). تدار هذه المنطقة من قبل بقايا حكومة غزة (حركة حماس)، التي تلقت بنيتها السيادية وكوادرها العاملة، ضربات قوية أثناء الحرب؛ مما أضعف قدرتها على الحكم بشكل كبير. ورغم ذلك، تحاول الحركة التعافي وإعادة بناء قدرتها الإدارية، وسط تحديات كبيرة على المستويات الأمنية والاقتصادية والإنسانية.

تنتشر في هذه المنطقة مخيمات النزوح، وتتركز فيها المؤسسات الإغاثية والإنسانية والصحية والتعليمية، في حين يغيب التواجد السكاني خارجها، باستثناء مجموعات محدودة من الميليشيات الفلسطينية التابعة لإسرائيل، مثل مجموعات "ياسر أبو شباب" شرق مدينة رفح.

المنطقة الشرقية: تقع تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وتشمل كامل المناطق الشرقية للقطاع، بالإضافة إلى مدينة رفح جنوبًا، وغالبية مناطق شمال القطاع، مثل جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون. تظل هذه المناطق تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة، ويُحظر على سكان غزة العودة إلى منازلهم أو أراضيهم فيها. وأي اختراق للخط الأصفر يُعامل على أنه تهديد عسكري وخرق لشروط الاتفاق.

يمثِّل حجم الدمار في هذه المنطقة أكثر من 90%، ويصل في بعض المناطق مثل رفح وبيت حانون إلى 100% تقريبًا(5). تُعَدُّ هذه الأراضي المجال الحيوي الذي يتحرك فيه الجيش الإسرائيلي والميليشيات التابعة له، ولا توجد فيها أي مؤسسات رسمية للعمل الإغاثي أو الإنساني.

ومع ذلك، تكمن أهمية هذه المنطقة في احتوائها على جميع المعابر الرئيسية إلى قطاع غزة، سواء في الشمال أو الجنوب أو الشرق، وجميعها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة؛ ما يجعل إسرائيل مسيطرة بشكل مطلق على حركة دخول المساعدات والبضائع، ناهيك عن جغرافيتها الحدودية سواء مع مصر في رفح، أو إسرائيل في الشرق والشمال.

تداعيات التقسيم الجغرافي والسياسي: هذا الانقسام الجغرافي جعل إسرائيل تتمتع بحزام أمني واسع لحماية مستوطنات غلاف غزة، وإمكانية تدمير البنى التحتية للمقاومة في تلك المنطقة دون عوائق تذكر، والتحكم بدخول المساعدات الإنسانية. وسياسيًّا، قد يجعل الانقسام الجغرافي مسارات إعادة الإعمار والتنظيم السياسي مختلفة بين المنطقتين؛ مما يفتح الباب أمام فكرة تقسيم قطاع غزة، وهي فكرة بدأت إسرائيل بالتلميح إليها رسميًّا عبر مشروع "مدينة رفح الإنسانية"(6)، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ غزة الحديث.

ثانيًا: موقف الأطراف الأساسية المنخرطة بالقرار

الموقف الإسرائيلي: تعاني إسرائيل من رهاب ما بعد السابع من أكتوبر، وهو تأثير نفسي وأمني عميق ناتج عن أحداث هذا اليوم التي فجَّرت الأزمة العسكرية الأخيرة في غزة. على مدى عامين من الحرب، ورغم تحقيق إنجازات عسكرية كبيرة، خاصة في تدمير الجزء الأكبر من قدرات المقاومة في القطاع، لم تتمكن إسرائيل من الوصول إلى نتيجة يمكن وصفها بحسم إستراتيجي. الدرس المستفاد داخليًّا، وفق تقييم الجيش الإسرائيلي، هو أن إبقاء الخصم "ضعيفًا نسبيًّا" لا يمنع الانهيار الأمني الكامل، ولا يضمن استقرار الحدود أو حماية المدن الإسرائيلية من الهجمات المفاجئة.

بناءً على ذلك، ظهرت بعد توقيع اتفاقات وقف النار إستراتيجية إسرائيلية هجينة، يمكن اعتبارها نموذجًا موسعًا من نظرية جز العشب، تحت تسمية جديدة: "حرية العمل العسكري"(7). ويشير هذا المفهوم إلى القناعة داخل الجيش الإسرائيلي بأن "الخطأ في عدم الضرب أخطر من الخطأ في الضرب"؛ مما يبرر سلوكًا هجوميًّا دائمًا وحرية عسكرية كاملة في غزة، دون أي قيود من قوات دولية أو رقابة أميركية.

أما على المستوى السياسي، فالأمر أكثر تعقيدًا. لا يزال جزء من النخبة السياسية الإسرائيلية مقتنعًا بأنه قادر على حسم الصراع مع الفلسطينيين في غزة من خلال سياسات التهجير أو السيطرة العسكرية الشاملة، وقطع الطريق أمام أي مسار سياسي قد يؤدي إلى إعادة النقاش حول حل الدولتين. علاوة على ذلك، تؤثر السجالات الداخلية بين الأحزاب الإسرائيلية في تحديد مواقف السياسيين تجاه الاتفاق وبنوده؛ مما يزيد من هشاشة الالتزام الإسرائيلي بخطة ترامب التي وافقت عليها إسرائيل.

كما أن ما حدث من قصف إسرائيلي مؤخرًا بعد صدور قرار مجلس الأمن 2803(8)، رغم ترحيب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، به(9)، يشكِّل رسالة واضحة بأن إسرائيل ستُبقي لها كامل الحرية في "الحفاظ على أمنها" بنفسها. ورغم أن القرار يمنح القوات الدولية الصلاحية التنفيذية لنزع سلاح الفصائل في غزة، فإن الكلمة الأخيرة تبقى بيد الجيش الإسرائيلي؛ مما يعكس استمرار الهيمنة الإسرائيلية على المستوى الأمني، ويضع حدودًا فعلية لأي تدخل دولي محتمل في إدارة الأمن في القطاع.

الموقف الفلسطيني: ينقسم الموقف الفلسطيني إلى موقفين متعارضين:

الموقف الأول: موقف حركة حماس والفصائل الأخرى. كانت حركة حماس أكثر الفصائل تحفظًا على بنود خطة ترامب، رغم موافقتها عليها تحت ضغط ضرورة وقف الحرب بأي ثمن "حفاظًا على الدم الفلسطيني" وما تبقى من غزة. وبناءً عليه، جاء موقف الحركة جامعًا بين القبول و"الغموض"؛ فهي من جهة وافقت على كافة شروط المرحلة الأولى من الخطة، بينما أرجأت بنود المرحلة الثانية، التي تتعلق بنزع السلاح وتشكيل لجنة إدارية لإدارة غزة، إلى النقاش الفلسطيني الجامع(10).

رغم ذلك، اعتبر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، رَدَّ حركة حماس موافقة ضمنية على الخطة. وقد عزَّز هذا الاعتقاد اجتماع شرم الشيخ في مصر(11) وما تلاه من إجراءات، وصولًا إلى إصدار قرار مجلس الأمن 2803 الذي حوَّل خطة ترامب إلى خطة دولية تتمتع بزخم من الشرعية الدولية. هذا الفهم الخاص لدى حماس تجاه خطة ترامب انعكس بشكل واضح على مواقفها لاحقًا، وخاصة إذا أُضيف لذلك تعقيدات المشهد الميداني الذي شهد حرية العمل العسكري الإسرائيلي ومحاولات فرض أمر واقع سياسي خارج الاتفاق.

في ظل هذا المشهد، شهدت غزة محاولات إسرائيلية مستمرة للتحكم بالواقع الحياتي والمعيشي عبر سياسة تنقيط المساعدات وعدم فتح معبر رفح وربطها بتسليم بقية جثامين الأسرى، رغم صعوبة تنفيذ هذا المطلب في ظل غياب الأدوات الميدانية لدى الفصائل. هذا جعل حركة حماس تتخوف من "النوايا الإسرائيلية" ومن عدم التزام إسرائيل بالاتفاق بعد تنفيذ المرحلة الأولى.

بالإضافة إلى ذلك، فحركة حماس لا تعد التخلي عن حكم غزة نهاية لدورها المركزي في مستقبل القطاع والقضية الفلسطينية، كأحد المكونات السياسية البارزة داخل الشعب الفلسطيني، لذلك هي تسعى للحفاظ على مساحة نفوذ سياسي وشعبي وميداني، حتى في حال انتقال السلطة التنفيذية إلى هيئات أخرى أو مجلس السلام، وهو ما يواجه رفضًا إسرائيليًّا وأميركيًّا قاطعًا.

وتبرز أيضًا إشكالية غياب المرجعية السيادية الفلسطينية على غزة، بعد نقل هذه السيادة إلى مجلس السلام وليس للأمم المتحدة(12)، دون وجود ضمانات واضحة وواقعية لعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع في المستقبل؛ مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي ويعمِّق مخاوف الفصائل الفلسطينية من السيطرة الخارجية على غزة، وتذويب القضية الفلسطينية من خلال الوصاية الدولية.

تبقى قضية نزع سلاح الفصائل هي أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في مرحلة ما بعد الحرب، نظرًا لطبيعتها التي يتداخل فيها السياسي بالعسكري، والضغوطات المعيشية بالثوابت الفلسطينية، خصوصًا أن السلاح بالنسبة للفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، ليس مجرد أداة قتالية بل تراه جزءًا من هوية الشعب الفلسطيني وحقًّا أصيلًا له ما دام يعيش تحت الاحتلال.

من هذا المنطلق، يظهر موقف حماس والفصائل بوضوح في رفض مبدأ نزع السلاح كجزء من ترتيبات أمنية تُفرض لضمان أمن إسرائيل، خاصة حين يأتي هذا الشرط ضمن تصور أميركي مدعوم بغطاء من الشرعية الدولية. فالفصائل ترى في هذا المسار محاولة لانتزاع حق أصيل من الشعب الفلسطيني في الكفاح المسلح، ولتحويل غزة إلى كيان منزوع الإرادة والقدرة على الدفاع عن نفسه، بما يكرس الهيمنة الإسرائيلية(13).

ورغم هذا الرفض المبدئي، تدرك حماس حساسية اللحظة السياسية وتعقيد الظروف المحيطة، ولذلك قامت بإحالة ملف نزع السلاح إلى النقاش الفلسطيني الجامع(14)، وبات نقاش: ما طبيعة المواجهة الأمثل للاحتلال في المرحلة المقبلة، وما أولويات الفعل الوطني الفلسطيني، مسؤولية فلسطينية وطنية.

هذا التحول يعكس رغبة الحركة في جعل القرار الفلسطيني بخصوص السلاح قرارًا وطنيًّا، حتى لا تتحمل وحدها مسؤولية القرارات الكبرى، وفي نفس الوقت تفتح الباب أمام حلول وسط قد تتقاطع مع المطالب الإقليمية والدولية، دون التفريط بمبدأ الحق في المقاومة.

ومن المتوقع أن يشهد هذا النقاش الفلسطيني الداخلي -بدعم من وسطاء إقليميين ودوليين- طرح مجموعة من الأفكار التوافقية، مثل:

- تجميد استخدام السلاح لفترة زمنية محددة دون تسليمه.

- وضع جزء من "السلاح الهجومي" تحت عهدة أطراف ضامنة أو مراقبة دولية، مع بقاء "السلاح الدفاعي" داخل غزة.

- ربط مستقبل السلاح بنتائج العملية السياسية وليس شرطًا مسبقًا.

هذه الأفكار، وإن كانت لا تصل إلى حدِّ نزع السلاح الكامل، إلا أنها قد تمنح الوسطاء مساحة توافق تساعدهم على التقدم في المفاوضات، وفي الوقت نفسه تحافظ على جوهر الموقف الفلسطيني القائم على عدم التنازل عن حق المقاومة.

الموقف الثاني للسلطة الفلسطينية: في ظل استمرار الانقسام الفلسطيني بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، جاءت مواقف السلطة الفلسطينية مرحبة(15) بقرار مجلس الأمن 2803، بوصفه يشير إلى مسار سياسي مشروط بتنفيذ إصلاحات داخل السلطة الفلسطينية. ورغم هذه الشروط، فإن القرار قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إحياء حل الدولتين وإعادة قضية إقامة الدولة الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي والإقليمي؛ مما يمنح السلطة موقعًا إستراتيجيًّا جديدًا في إدارة العملية السياسية الفلسطينية.

كما أن القرار يقر بأن السلطة الفلسطينية هي الجهة المخولة باستلام إدارة قطاع غزة بعد الفترة الانتقالية لمجلس السلام(16)؛ ما يعيد السلطة بشكل رسمي وشرعي إلى القطاع، ويتيح لها فرصة إعادة بناء حضورها السياسي والإداري في غزة بعد سنوات من الانقسام والسيطرة الجزئية لحركة حماس، ويعيد ترتيب العلاقة بين مختلف الأطراف الفلسطينية على الأرض.

ثالثًا: ردود غزة المحتملة وسيناريوهاتها

بعد تحويل خطة ترامب إلى خطة دولية تتمتع بالشرعية الدولية عبر قرار مجلس الأمن 2803، تواجه حركة حماس والفصائل الفلسطينية عدة خيارات للتعامل مع المرحلة الانتقالية، والتي يمكن تقسيمها إلى سيناريوهين رئيسيين:

السيناريو الأول: رفض حماس والفصائل قرار 2803، وهنا يمكن الحديث عن اتجاهين من الرفض:

الاتجاه الأول: التعامل مع القوات الدولية أو مجلس السلام واللجنة الإدارية المنبثقة منه، كقوات احتلال أجنبي، يجب مواجهتها عسكريًّا.

هذا الموقف يضع عراقيل وعقبات أمام تنفيذ القرار من قبيل عدم مشاركة دول بقوات عسكرية على الأرض، خاصة الدول العربية والإسلامية والأوروبية، خشية من تداعيات الاصطدام العسكري مع الفصائل الفلسطينية عليها، لاسيما التداعيات القانونية والشعبية، وهذا احتمال وارد.

لكن ما يُضعف هذا الاحتمال أن الولايات المتحدة، كونها القوة الدافعة للمشروع، قادرة على ممارسة أقصى درجات الضغط على الدول التي تعتمد على دعمها العسكري والمالي لدفعها للمشاركة، ولو تدريجيًّا، بدءًا من المناطق التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي. وهذا سيناريو قابل للتحقق بدرجة عالية.

غير أن هذا المسار ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة لحماس والفصائل، أي في حال استخدام القوة العسكرية ضد القوات الدولية؛ فستتحول المواجهة من معركة مع الاحتلال الإسرائيلي إلى معركة مع قوات دولية متعددة الجنسيات، فتخسر غزة والشعب الفلسطيني التعاطف الدولي، الثمرة الأهم لحرب غزة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تتعزز الرواية الإسرائيلية التي تصف حماس والفصائل الفلسطينية بالإرهاب.

وحتى إذا نجحت حماس والفصائل في إفشال هذا القرار بالقوة، فإن الثمن قد يكون باهظًا، قد تستأنف إسرائيل الحرب مجددًا ضد غزة، ولكن هذه المرة دون تعاطف دولي ومع غطاء شرعي للحرب بقرار مجلس الأمن، وتتحول إسرائيل من قوة احتلال تمارس حرب إبادة جماعية وتهجير ضد الفلسطينيين، إلى دولة ضمن ائتلاف دولي تخوض حربًا ضد "الإرهاب" الفلسطيني الذي تقوده حماس والفصائل. وستكون تداعيات هذا الخيار، بهذا الاعتبار، كارثية على الحاضنة الشعبية المنهكة في غزة والتي تتطلع إلى واقع أكثر أمنًا واستقرارًا.

الاتجاه الثاني: هو رفض القرار دون الذهاب إلى مواجهة مسلحة معه، بل مواجهته سياسيًّا وشعبيًّا ضمن خطة فلسطينية موحدة تهدف إلى التأثير في آليات تنفيذ القرار بغرض تعديله بطريقة سياسية غير مباشرة. وهذه إستراتيجية أقل كلفة وأكثر نجاعة خاصة إذا كان الموقف الفلسطيني موحدًا ومتقاطعًا مع المصالح الإقليمية والوسطاء والدول الراعية للاتفاق؛ وذلك من خلال توافق وطني عام على خطة بديلة ورؤية فلسطينية تعالج كل مخاوف المجتمع الدولي، وفي ذات الوقت تقدم بدائل واقعية للبنود السيئة في هذا القرار، بما يساعد الوسطاء على تسويقها، مستثمرين رغبة الدول المشاركة في القوات الدولية بعدم الاصطدام عسكريًّا مع الشعب الفلسطيني وفصائله.

السيناريو الثاني: الموافقة على القرار رغم كل ما فيه من سلبيات وتنازلات مؤلمة، واعتباره مرحلة انتقالية لكنه يضمن وقف الحرب بشكل قاطع وبه آلية لإعادة الإعمار ومنع تقسيم غزة، مع أخذ ضمانات من الوسطاء بعدم عرقلة الاحتلال الإسرائيلي مسار الاتفاق وتسويف استكمال بنوده. وهذا أقرب إلى موقف السلطة الفلسطينية وحركة فتح.

الإشارات التي تخرج من الفصائل في غزة وخاصة حركة حماس حتى الآن، ذاهبة إلى سيناريو الرفض، ولكن يبقى التساؤل: هل الرفض مع المواجهة العسكرية، وهو غير مرجح، أم الرفض بالمواجهة السياسية والتي هي أقرب إلى واقع غزة وتعقيدات حالتها المعيشية والإنسانية بعد الحرب؟

رابعًا: التوقعات حول مآل غزة واتجاهاتها المستقبلية

في ضوء وقف إطلاق النار، وخطة ترامب المعتمدة دوليًّا عبر قرار مجلس الأمن 2803، تواجه غزة مستقبلًا معقدًا يتداخل فيه البعد السياسي والأمني والإنساني. وتعكس التحليلات الحالية مجموعة من الاتجاهات المحتملة للقطاع، والتي تتوقف بدرجة كبيرة على مواقف الفصائل الفلسطينية، خصوصًا حركة حماس، ومدى التزام إسرائيل والادارة الأميركية بالخطة الدولية:

السيناريو الأمني والسياسي: إذا اختارت الفصائل رفض القرار والمواجهة العسكرية، فمن المتوقع أن تتحول غزة إلى مسرح صراع مزدوج، حيث لا تواجه إسرائيل وحدها، بل قد تدخل القوات الدولية بشكل مباشر في النزاع؛ مما يؤدي إلى عزلة دولية للفصائل وفقدان التعاطف الشعبي والإقليمي والدولي، وتعميق الأزمة الإنسانية.

أما إذا اعتمدت الفصائل الرفض السياسي مع إستراتيجيات التأثير على التنفيذ، فقد تتيح لنفسها مساحة من المناورة تسمح بتعديل بعض بنود القرار أو فرض قيود على تطبيقها، دون التصعيد العسكري المباشر. هذا السيناريو يحافظ على المناورة السياسية للفصائل ويقلِّل المخاطر على المدنيين، لكنه يحتاج إلى وحدة فلسطينية نسبية وتنسيق دقيق مع الوسطاء الدوليين والإقليميين.

في حالة الموافقة على القرار كمرحلة انتقالية، ستستفيد غزة من وقف الحرب وإعادة الإعمار ومنع تقسيم القطاع، مع إمكانية تأمين نفوذ محدود للفصائل عبر الوسطاء. إلا أن ذلك يأتي على حساب تنازلات سياسية وعسكرية مؤلمة، خصوصًا فيما يتعلق بملف نزع السلاح ومخاطر التسويف الإسرائيلي في الالتزام بالتنفيذ.

على الصعيد الإنساني: السيناريو العسكري المباشر سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وعودة الحرب، بما في ذلك ارتفاع نسبة الدمار، ونزوح داخلي واسع، واحتمالية تهجير خارجي، وانعدام لما تبقى من الخدمات الأساسية في المنطقة الغربية في غزة، مثل الصحة والتعليم والمياه.

السيناريو السياسي أو الموافقة المرحلية سيوفران فرصة لإطلاق برامج إعادة إعمار وتخفيف المعاناة مع إمكانية تحسن تدريجي في الحياة اليومية للسكان، خصوصًا إذا تم الالتزام بفتح المعابر وتوفير المساعدات الإنسانية.

على صعيد الموقف الدولي والإقليمي: سيعتمد موقف المجتمع الدولي بشكل كبير على مدى التزام الأطراف بالاتفاق وخصوصًا إسرائيل؛ حيث إن أي خرق من جانب الفصائل أو إسرائيل سيؤثر على الشرعية الدولية والدعم المالي والسياسي للقطاع.

تسعى الدول العربية والإقليمية إلى حماية مصالحها وتعزيز الاستقرار، مع مراعاة التوازن بين دعم الفلسطينيين والحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو عامل قد يؤثر على نجاح أي سيناريو سياسي فلسطيني.

على صعيد الاتجاهات المستقبلية، يبدو أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة اختبار وتجربة لكل الأطراف، حيث ستحدد الفصائل، خاصة حماس، حدود مرونتها في التعاطي مع القرارات الدولية.

على المدى المتوسط، إذا نجحت الفصائل في المحافظة على وحدة موقف سياسي، قد تتمكن غزة من تحسين شروط إعادة الإعمار وتعزيز قدراتها المدنية، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية التي من الممكن تطويرها مستقبليًّا بمزيد من العمل الدؤوب والتعافي المجتمعي.

أما على المدى البعيد، فسيحدد مستقبل غزة عدة محددات رئيسية: أولها: نتائج التفاعل بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وثانيها: مدى قدرة الوسطاء الدوليين على ضبط الاتفاق، وثالثها: شكل السلطة في غزة، لاسيما في ضوء مآل وحدة الأراضي الفلسطينية ومصير حل الدولتين.

خاتمة

إن مستقبل قطاع غزة يمر بمرحلة اختبار صعبة لكافة الأطراف. سيحدد تبلور موقف فلسطيني موحد ومتوازن مع المصالح العربية دورًا حاسمًا في إمكانية مواجهة التحديات الإسرائيلية. كما أن إسرائيل تسعى بعد الحرب إلى ترتيب "اليوم التالي" ليس بالقوة العسكرية فحسب، بل من خلال الضغط على الفلسطينيين ودفعهم إلى الاصطدام مع الإرادة الأميركية المدعومة بقرار مجلس الأمن الدولي، مع حرصها على إبقائهم ضمن المسار المفضل لديها، وهو مسار الحرب والتصعيد بعيدًا عن أي مسار سياسي مهما كان هامشيًّا.

في هذا السياق، يؤدي الوسطاء الإقليميون، خصوصًا مصر وقطر وتركيا، دورًا في محاولة التخفيف من اندفاع الولايات المتحدة نحو تحقيق مصالح إسرائيلية أحادية، ومحاولة إعادة توجيه المسار نحو توازن إيجابي بين مصالح إسرائيل وحقوق الفلسطينيين، وهو الأمر الذي يضمن نجاح الخطة الأميركية في الحفاظ على أمن واستقرار الشرق الأوسط.

ويبقى الهدف الأوسع فلسطينيًّا، هو تثبيت الاستقرار ومنع عودة الحرب، وفتح باب إعادة الإعمار، وإعادة تشكيل القطاع بحيث يتمكن الغزيون من العيش فيه بأمان، دون أن يواجهوا تهديد التهجير أو الانهيار الأمني والسياسي. وفي ضوء هذه المعطيات، يظل التنسيق الفلسطيني الداخلي والتوازن مع الأطراف الإقليمية وضمان الالتزام الدولي بالخطة، من أهم المحددات التي سترسم مآل غزة في السنوات المقبلة.

ABOUT THE AUTHOR

References

الجزيرة نت، "أبرز ردود الأفعال الدولية على خطة ترامب لإنهاء الحرب بغزة"، الجزيرة نت، 30 سبتمبر/أيلول 2025 (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://www.aljazeera.net/news/2025/9/30/%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%B…
United Nations in Palestine, “UN Security Council Authorizes Temporary International Force for Gaza,” United Nations in Palestine, 18 November 2025 (accessed 22 November 2025), https://palestine.un.org/en/305520-un-security-council-authorizes-tempo….
عرب جورنال، "الخط الأصفر: هندسة الاحتلال لرسم الجغرافية الجديدة لغزة"، Arab-J، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://arab-j.net/36683
The Times of Israel, “Holding Down Gaza’s Yellow Line, IDF Says ‘Hamas Tests Us Daily’,” The Times of Israel, 21 November 2025 (accessed 22 November 2025), https://www.timesofisrael.com/holding-down-gazas-yellow-line-idf-says-h….

5. UNITAR — UNOSAT, “Gaza Strip — Comprehensive Damage Assessment (Satellite Imagery Analysis),” UNOSAT (United Nations Satellite Centre), 31 October 2025 (accessed 22 November 2025), https://unosat.org/products/4130..

6. الجزيرة نت، "مدينة" إنسانية بين موراغ وفيلادلفيا، فما أهداف إسرائيل؟"، الجزيرة نت، 11 يوليو/تموز 2025 (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://www.aljazeera.net/politics/2025/7/11/%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D…

7.  حسن لافي، رهاب إسرائيل: خطة ترامب كعلاج، أمد، 21 نوفمبر/تشرين الثاني (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)،  https://www.amad.com.ps/ar/post/565837/%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D8%A5%”8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%AE%D8%B7%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D9%83%D8%B9%D9%84%”8%A7%D8%AC?utm_source=chatgpt.com

8- Reuters, “Israeli Airstrikes Kill 25 Palestinians in Gaza, Rattling Ceasefire: Medics,” Reuters, 19 November 2025 (accessed 22 November 2025), https://www.reuters.com/world/middle-east/israeli-airstrikes-kill-10-pa….

9.  يديعوت أحرونوت، "باللغة الإنجليزية فقط: هكذا رحب نتنياهو بقرار الأمم المتحدة الذي يتضمن مسارًا إلى الدولة الفلسطينية"، 18 نوفمبر/تشرين الثاني (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://www.ynet.co.il/news/article/r1tdbsyezx

10. CNN بالعربية، «تفاصيل موافقة حماس وإسرائيل على خطة ترامب بشأن غزة»، CNN بالعربية، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2025/10/04/israel-hamas-sign…

11. الجزيرة نت، «ترامب يعلن إنهاء حرب غزة وتوقيع وثيقة اتفاق شاملة بشرم الشيخ»، الجزيرة نت، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://www.aljazeera.net/news/2025/10/13/%D8%A7%D9%86%D8%B7%D9%84%D8%A…

12- Reuters, “UN Security Council Approves U.S.-Backed Plan for Gaza, Legitimising a Transitional Governing Body,” Reuters, 17 November 2025 (accessed 22 November 2025), https://www.reuters.com/world/middle-east/un-security-council-vote-us-r….

13.حركة حماس، «بيان حول قرار مجلس الأمن 2803: القرار يفرض آلية وصاية دولية على قطاع غزة ورفض الشعب والفصائل» المركز الفلسطيني للإعلام، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://palinfo.com/news/2025/11/18/982221/

14. الجزيرة نت، «حماس تسلم الوسطاء ردَّها على خطة ترامب»، الجزيرة نت، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://www.aljazeera.net/news/2025/10/3/%D8%B9%D8%A7%D8%AC%D9%84-%D9%8…

15- WAFA, “State of Palestine welcomes the UN resolution on Gaza and affirms its readiness to support implementation and assume its full responsibilities,” WAFA – Palestinian News & Information Agency, 18 November 2025 (accessed 22 November 2025), https://english.wafa.ps/Pages/Details/164487.

16-United Nations in Palestine, “UN Security Council Authorizes Temporary International Force for Gaza,” United Nations in Palestine, 18 November 2025 (accessed 22 November 2025), https://palestine.un.org/en/305520-un-security-council-authorizes-tempo….