نهايات 2019: اتجاهات المشرق والعالم

لا تزال القوى الكبرى تتزاحم على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط دون حسم نهائي للمواجهة، ولم تتمكن قوة الثورة المضادة بقيادة السعودية والإمارات من أن تقضي على قوى التغيير بالمنطقة، ولم تتوصل القوى الإقليمية إلى ترتيبات تحقق الأمن والاستقرار، وفشلت إسرائيل في فرض صفقة القرن.
91bedb78533840d7baa5029686538576_18.jpg
توافقات قلقلة تطبع منطقة الشرق الأوسط (الأناضول)

بعد مرور ما يقارب تسعة أعوام على اندلاع حركة الثورة العربية، يعود التوتر وعدم الاستقرار، داخليًّا، وارتفاع حدة التدافع، إقليميًّا، لرسم ملامح الموقف في المشرق العربي. ولم تزل الولايات المتحدة، بالرغم من وعود الانسحاب من الشرق الأوسط وبؤر الصراع الأخرى التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في طريقه إلى البيت الأبيض، لاعبًا رئيسًا في شؤون المنطقة؛ بينما تحاول روسيا زيادة عدد أصدقائها، بعد أن أصبحت صاحبة القول الفصل في سوريا.

إخفاق محاولات صناعة الاستقرار التي تعهدتها دول الثورة المضادة منذ 2013، يتجلى هذه المرة على خلفية من فشل السعودية والإمارات في تحقيق أهدافهما في الإقليم، فرض حصار ثقيل الوطأة على إيران وخيبة أملهما في الوعود التي حملها التحالف مع روسيا، والضغوط الملموسة التي تتعرض لها تركيا من قِبل روسيا والولايات المتحدة في الجوار السوري. 

في الوقت نفسه، وبالرغم من الدعم الدولي غير المسبوق، والانفتاح الإقليمي، العلني والسري، تواجه الدولة العبرية مناخًا استراتيجيًّا قلقًا، ووضعًا سياسيًّا داخليًّا لا يقل قلقًا.

كما يتجلى هذا الإخفاق على خلفية من احتدام التدافع في الساحة الدولية بين الولايات المتحدة، من جهة، وروسيا والصين، من جهة أخرى، سواء في المجال الاقتصادي، الاستراتيجي، أو في بؤر الأزمات الحادة، مثل إيران وفنزويلا. بيد أن احتدام التدافع على الساحة الدولية لا يعني أن القوى الكبرى النشطة في المشرق، سيما الولايات المتحدة وروسيا، تغضُّ النظر عن صعود القوى الإقليمية.

الساحة الدولية: تزاحم مستمر على النفوذ

يمكن وصف الاستراتيجية التي تتبعها إدارة ترامب عالميًّا باستراتيجية "التعزيز القومي"، التي تهدف إلى إعادة تنمية المقدرات الأميركية وتوكيد تفوق الولايات المتحدة، سواء اقتصاديًّا أو عسكريًّا. ولأن سياسات أوباما العالمية كانت في جوهرها محاولة لاستدراك ما خسرته الولايات المتحدة في سنوات حروب بوش شرق-الأوسطية الفاشلة، ثمة توافقات ملموسة بين سياسات ترامب وأوباما، وبعض الاختلافات.

جعل أوباما التوازن الاستراتيجي في حوض الباسيفيك أولوية لإدارته، وعمل على الخروج التدريجي من بؤر الحرب والصراع، ولكن التوسع المفاجئ لتنظيم الدولة في سوريا والعراق جعل تلك القوة تنخرط مجددًا في العمليات العسكرية ضده. ترامب، من جهته، يواصل المواجهة مع الصين على الصعيد التجاري/الاقتصادي، مستهدفًا إبطاء الصعود الصيني الاقتصادي، كما يستمر في محاولات أوباما استدراج الهند إلى موقف منحاز لاستراتيجية حصار الصين الأميركية. 

بيد أن سياسة الصدام التجاري/الاقتصادي لم تقتصر على العلاقات الأميركية-الصينية، بل طالت أيضًا حلفاء للولايات المتحدة تقليديين، بما في ذلك كندا، والاتحاد الأوروبي، والمكسيك.

وبالرغم من أن الأمور لم تزل في بداياتها، فالواضح أن إدارة ترامب تدعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باعتباره خطوة نحو إقامة كتلة اقتصادية تضم بريطانيا ومستعمراتها السابقة، الولايات المتحدة، وأستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، التي يجمعها منذ عقود تحالف استراتيجي-أمني، يُعرف بالعيون الخمس. في حال تحقق هذا الهدف، ستصبح هذه الكتلة الاقتصادية الأكبر في العالم، بناتج قومي يفوق الناتج القومي لكل القارة الأوروبية، بما في ذلك روسيا، وليس الاتحاد الأوروبي وحسب.

في الوقت نفسه، تبنَّت إدارة ترامب سياسة إنفاق عسكرية لم تعرفها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.

في مجملها، تنسجم سياسات إدارة ترامب الخارجية مع هدف التعزيز القومي. ولكن، وما أن تخرج هذه السياسات عن هاجس إعادة بناء مقدرات القوة الأميركية وتجنب الخسائر حتى يقع الاضطراب. مثلًا، أعلنت إدارة ترامب تخليها عن الاتفاق النووي الإيراني وفرض عقوبات مميتة على إيران، ولكن ترامب يبدو مصرًّا على تجنب اللجوء إلى الحرب؛ كما عملت إدارته على إطاحة النظام الحاكم في فنزويلا، مستبعدة في الوقت نفسه الخيار العسكري. في كلتا الحالتين، وبالرغم من أن الولايات المتحدة في موقع قوي تجاه دولتين صغيرتين نسبيًّا، لا تبدو أهداف إدارة ترامب سهلة التحقق.

في حالات أخرى، تصطدم سياسات ترامب، في أكثر من حالة، بمؤسسات الدولة الأميركية، ويجبَر الرئيس على التراجع عن أهدافه المعلنة، كما حدث في قراره الانسحاب من سوريا في المرة الأولى ثم الإعلان مجددا في بداية أكتوبر 2019 عن انسحاب فعلي من شمال شرق سوريا مجددا، وفي مساعي إدارته للتوصل إلى اتفاق مع طالبان في أفغانستان، وفي محاولاته المبكرة لتحسين العلاقات مع روسيا.

مشكلة ترامب الرئيسة أنه، وعلى المستوى الشخصي، لا يعرف حدود منصب الرئاسة، ولم يستطع الارتقاء لشروط الموقع ودوره في مؤسسة الدولة الأميركية. هذا القصور، الأخلاقي والمعنوي، جعله يواجه إمكانية العزل، أو ربما يضع نهاية لها في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2020.

عالميًّا، يمكن القول: إن التدافع أصبح السمة الرئيسة للعلاقات بين القوى الكبرى الرئيسة في الساحة الدولية، وإن طرفًا لم يحقق، وربما لن يستطيع تحقيق نصر حاسم في السنوات القليلة المقبلة. المعركة التجارية بين الولايات المتحدة والصين ستنتهي، على الأرجح، باتفاق يميل لصالح الطرف الأميركي؛ ولكن من الصعب تصور كيف ستستطيع الصين فرض سيطرتها على خطوط الملاحة في بحر الصين. في الوقت نفسه، وبالرغم من الجهود الأميركية المناهضة، تقوم الصين، ببطء وبصورة حثيثة، بتوسيع نطاق انتشارها التجاري-الاقتصادي من خلال سلسلة من الشراكات في مشروع إحياء طرق الحرير.

واشنطن، من جهتها، لم تستطع بعد إطاحة النظام الحاكم في فنزويلا، ولم تستطع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في أوكرانيا، بالرغم من أنها أفشلت المساعي الروسية في تغيير النظام في كييف وحافظت على ميل أوكرانيا وجورجيا للمعسكر الغربي. كما يبدو أن إدارة ترامب ارتضت مجرد التهدئة في شبه الجزيرة الكورية، بدون أن تستطيع في المدى القصير نزع سلاح كوريا الشمالية النووي.

روسيا، بالطبع، تعزز من وجودها في سوريا ونجحت في الاحتفاظ بشبه جزيرة القرم، ولكنها لم تستطع تغيير وجهة أوكرانيا وجورجيا السياسية.

وربما كان قرار واشنطن بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني أحد أكبر القرارات الأميركية تأثيرًا في الشرق الأوسط؛ القرار الذي تبعته سلسلة من الإجراءات العقابية ثقيلة الوطأة على إيران. وبالرغم من أن روسيا والصين ترفض الالتزام بالعقوبات الأميركية، وأن أوروبا لم تزل تعلن التزامها بالاتفاق النووي وسعيها لإيجاد وسائل للتجارة مع إيران كي تتفادى نظام العقوبات، إلا أن الواضح أن القرار الأميركي بفرض عقوبات ثانوية على من يتاجرون مع إيران يكشف عن الثقل الأميركي الكبير في الساحة التجارية الدولية وعجز روسيا والصين وأوروبا عن الوقوف أمام هذا الثقل.

في هذا السياق، لم تتمكن القوى الإقليمية من لعب دور حاسم في تحديد مصائر المشرق وأزماته، أولًا: لأن صعود القوى الإقليمية بات مصدر قلق ومخاوف متزايدة في موسكو وواشنطن (إضافة لعواصم أوروبية مثل لندن وباريس)، التي تعمل جاهدة للحفاظ على مكتسباتها في المشرق؛ وثانيًا: لاحتدام الصراع بين القوى الإقليمية في المشرق، مثل تركيا وإيران والسعودية ومصر، وتباين مواقفها من بؤر الأزمات والنزاع الإقليمية.

الساحة الإقليمية: التوازن المفقود

كان انهيار النظام الإقليمي أحد أبرز نتائج حركة الثورة العربية في 2011. وربما كانت محاولة السعودية إقامة محور يمثل الثقل الأكبر في المشرق ويقرر شؤونه، التي بدأت في 2015، أكثر المحاولات طموحًا على المستوى الإقليمي. ولكن، يمكن القول الآن: إن المشروع السعودي فشل فشلًا ذريعًا.

رفضت تركيا، بالرغم من العلاقات الدافئة بين أنقرة والرياض في العامين الأولين من حكم الملك سلمان، الانضواء في تحالف ما في مواجهة إيران، بينما رفضت الرياض التوقف عن دعم النظام المصري وانسحبت من معادلة الأزمة السورية؛ ثم لجأت لحصار قطر. ومنذ اغتيال خاشقجي، توترت العلاقات التركية-السعودية، وانتقلت إلى ما يشبه الحرب غير المعلنة. 

ونظرًا لضعف نظام السيسي اقتصاديًّا وهشاشة شرعيته السياسية، لم تعد القاهرة لاعبًا إقليميًّا رئيسًا، ولم تستطع الرياض دفع مصر لتعهد دور ملموس خارج حدودها، لا في اليمن ولا في المواجهة مع إيران. كما فشلت السعودية في الهيمنة على قطر، أو إخضاع الحكم في قطر للقرار السعودي. وانتهى الجهد السعودي إلى تحالف محدود مع الإمارات؛ ولكن حتى هذا التحالف لم يصمد طويلًا، بعد أن برزت خلافات إماراتية-سعودية ملموسة في اليمن، وأخذت الإمارات في تبني مساع حثيثة للتهدئة مع إيران.

فشل المحاولة السعودية لإقامة محور رئيس، والتباينات الحادة حول الموقف من حركة التغيير في المنطقة، والدور الإسرائيلي في تأجيج الصراع بين دول المشرق، أدت إلى ارتفاع حدة التدافع بين القوى الإقليمية الرئيسة، وانكشاف هذه القوى أمام ضغوط القوى الكبرى:

- السعودية: تعيش السعودية اليوم واحدة من أكثر فترات وجودها تأزمًا، داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. سعي ولي العهد لفرض سيطرة مركزية مباشرة على مجالات السياسة والاقتصاد والدِّين نجم عنها انقسام فادح في المجتمع السعودي، وخروج المئات إلى المنافي، معلنين معارضة واسعة النطاق للنظام. وتبدو السعودية اليوم بدون حلفاء يعتد بهم ويعتمد عليهم في الإقليم. وقد فشلت السعودية، بعد أكثر من أربع سنوات من الحرب في اليمن، في تحقيق أدنى أهدافها، بعد أن تحولت الحرب إلى عبء مالي غير مسبوق ومصدر تهديد مباشر للأمن السعودي.

وإن وُضعت الحرب في اليمن ضمن إطار الصراع السعودي مع إيران، فالواضح أن كفة إيران باتت هي العليا، بعد أن نجحت في فرض حصار استراتيجي على السعودية في الجنوب والشمال.

مشكلة السعودية الأكبر أنها أصبحت عرضة لابتزاز أميركي لا نهاية له، لا يقتصر على الجانب المالي، وحسب، بل ويدفع نحو جرِّ السعودية لتأييد سياسات أميركية، مثل صفقة القرن، يمكن أن تقوض ما تبقى من وزن السعودية المعنوي في المجالين العربي والإسلامي.

- تركيا: شهدت تركيا تراجعًا ملموسًا في حظوظ الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، الانتخابية في الانتخابات البلدية التي عُقدت في ربيع هذا العام. ونظرًا للخلافات داخل العدالة والتنمية، يبدو أن حزبين سياسيين، من عائلة يمين الوسط المحافظ، في طريقهما للتأسيس؛ مما قد يفضي إلى إعادة رسم الخارطة السياسية للبلاد من جديد. من جهة أخرى، ثمة مؤشرات على بداية تعاف اقتصادي بعد مرور أكثر من عام على الأزمة المالية/الاقتصادية التي عصفت بالبلاد في صيف العام الماضي.

تشهد العلاقات التركية-السعودية قطيعة شبه كاملة؛ ولم تزل هناك خلافات حادة حول سوريا بين أنقرة وطهران، بالرغم من التفاهمات الإيرانية-التركية ذات الطابع الاقتصادي. وتواجه تركيا، كما نظيراتها الرئيسات في الإقليم، ضغوطًا بالغة من الولايات المتحدة وروسيا في الساحة السورية وشرق المتوسط، بداية من التقدم العسكري الروسي-السوري في جنوب إدلب، وجرِّ الأميركيين أقدامهم بتثاقل في شرق الفرات، ودعم الغرب للموقف القبرصي بشأن التنقيب عن النفط في شرق المتوسط. في هذه المناطق الثلاث، ثمة مصالح حيوية لتركيا تتعرض للتهديد؛ ولأن تركيا تجد نفسها بدون حليف إقليمي أو دولي رئيس فمن الواضح أن خيارات أنقرة في الرد على التحديات تبدو محدودة.

بيد أن تركيا، بالرغم من ذلك كله، مؤهلة أكثر من أي من نظيراتها في المنطقة للصعود نحو مرتبة متقدمة على صعيد ميزان القوة العالمية، لأسباب تتعلق بصلابة البنية التحتية للاقتصاد التركي، والتقدم الكبير في الصناعات العسكرية التركية، ولثقل تركيا المعنوي في الجوار، ولاستعصاء نظامها الديمقراطي وقدرته على مواجهة التحديات.

- إيران: لم تستطع إيران التمتع طويلًا بالآثار الإيجابية، السياسية والاقتصادية، لتوقيع الاتفاق النووي مع إدارة أوباما. بإلغاء إدارة ترامب للاتفاق، والعودة إلى سياسة العقوبات، تواجه إيران نظام عقوبات لم تعرفه دولة في زمن السلم في العصر الحديث. والواضح أن صعوبات إيران لا تقتصر على نزعة إدارة ترامب العدائية؛ ويعتقد الإيرانيون أن السعودية وإسرائيل تلعبان دورًا رئيسًا في تأجيج العداء لهم ومحاولة حصارهم، بالرغم من أن إلغاء الاتفاق النووي الإيراني كان أحد الوعود الانتخابية لترامب.

ويعتقد الإيرانيون أن الحرب السعودية في اليمن، ومحاولات السعودية تأسيس موطئ قدم لها في العراق، والضربات المتتالية التي توجهها إسرائيل لأهداف إيرانية في سوريا، ومؤخرًا العراق، والمستمرة بلا هوادة منذ أكثر من ثلاثة أعوام، تندرج جميعًا في إطار الهجمة الأميركية ومحاولة تركيعهم.

بيد أن إيران حصنت نفسها عسكريًّا بصورة بالغة الكفاءة. في حال اشتعلت الحرب، ليس ثمة شك في أن الولايات المتحدة تستطيع إيقاع دمار واسع النطاق بإيران. ولكن الحرب قد لا تكون بدون خسائر للجانب الأميركي. وهذا، على الأرجح، ما يجعل الرئيس الأميركي أقل رغبة في الحرب من حلفائه الإقليميين في السعودية وإسرائيل.

ولأن إيران لا تستطيع التعايش طويلًا مع منظومة العقوبات الأميركية القاسية، فلابد لها أن تعمل على تصعيد مستوى التوتر في المنطقة لتجبر العالم كله على العمل على حل الأزمة. وهذا ما يدفع إيران إلى توظيف مقدراتها العسكرية وحلفائها في الإقليم لتوجيه الضربات للسعودية والملاحة في الخليج، على السواء. بكلمة أخرى، إن نظرنا للأزمة الإيرانية من منظار ثلاثي، فالواضح أن إيران تتمتع بموقع أقوى في الصراع مع السعودية، بينما تعتبر الطرف الأضعف في دائرة الصراع مع الولايات المتحدة.

بيد أن إيران تواجه عقبات أخرى في دائرة نفوذها الإقليمي. ثمة أصوات متزايدة في العراق تدعو لإخراجه من دائرة الصراع الإقليمي. وهناك مؤشرات على أن روسيا تعمل على إضعاف الوجود الإيراني في سوريا، سواء بتنظيم ميليشيات سورية مرتبطة بالقرار الروسي، وإخراج القيادات السورية العسكرية والأمنية وثيقة الصلة بإيران من دائرة القرار السوري، أو بغضِّ النظر كلية عن الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سوريا.

- مصر: وضعت السعودية وعدد من دول الخليج الأخرى استثمارات هائلة في نظام الحكم المصري منذ 2013. لم تكن السعودية تريد عودة مصر قوة قائدة في النظام العربي، ولكنها أرادتها حليفًا قويًّا، عسكريًّا وسياسيًّا، يدعم أهدافها. ولكن عددًا من العوامل المتضافرة لم يزل يحد من قدرة مصر على الفعل، في جوارها العربي والإقليمي.

لأسباب عديدة، تزداد أزمة النظام المصري الاقتصادية تفاقمًا، ويقف النظام موقفًا ضعيفًا في علاقاته مع حلفائه الإقليميين والدوليين؛ وبالرغم من حملة القمع غير المسبوقة في حجمها وأمدها، يفتقد قادة النظام الثقة في القدرة على الاستمرار الآمن وفي تأسيس استقرار مستديم. هذا، إضافة للطموحات المحدودة التي ترتكز إليها سياسات النظام في الإقليم.

نظرًا لعداء النظام المصري لتوجهات التغيير الديمقراطي في الإقليم، تقف القاهرة إلى جانب النظام السوري وحلفائه الإيرانيين ضد الثورة السورية. كما عجزت القاهرة عن تسلم زمام المبادرة في لحظة التغيير السودانية، وتركت إثيوبيا تلعب الدور الرئيس في الوساطة بين العسكريين وقوى التغيير السودانية. وبالرغم من المصالح الحيوية لمصر في جوارها الليبي، ارتضى النظام المصري لنفسه دور الملحق والمساعد للإمارات في الصراع على ليبيا.

فقط في قطاع غزة (وليس حتى في الضفة الغربية)، يبدو أن مصر تلعب، أو تُركت لتلعب دورًا ملموسًا، بغض النظر عن الوجهة الأخلاقية لهذا الدور.

- إسرائيل: حققت الدولة العبرية مكاسب ملموسة في السنوات القليلة الماضية، سواء على صعيد الاستيطان في الضفة الغربية وصناعة أمر واقع في القدس، أو الانفتاح على عدد من الدول العربية الخليجية، وإن بصورة غير رسمية بعد، على خلفية من التحالف في مواجهة إيران، أو الدعم الكبير وغير المشروط من إدارة ترامب. ولأن روسيا تحرص على إقامة علاقات جيدة بالدولة العبرية، تتمتع إسرائيل بحرية شبه كاملة للعمل ضد إيران وحلفائها في سوريا.

بيد أن من التبسيط الاستنتاج أن الدولة العبرية نجحت في إقامة مناخ استراتيجي مواتٍ تمامًا في جوارها الإقليمي. حركة التغيير في دول المجال العربي لم تتوقف، ولابد من ملاحظة مدى القلق والتوتر الذي ينتاب الأوساط الإسرائيلية كلما اندلعت حركة تظاهر شعبية في هذا البلد العربي أو ذاك؛ وهو ما يكشف عن هشاشة السلم القائم بين الدولة العبرية وبعض الأنظمة العربية. وبالرغم من الجهود الإسرائيلية الحثيثة لتقييد جهود التسلح للقوى المعادية، مثل حماس وحزب الله، فإن السلاح الذي باتت التنظيمات المناهضة للدولة العبرية تملكه يمثل تهديدًا حقيقيًّا لإسرائيل وشعبها.

تحتفظ إيران بترسانة سلاح، سيما سلاح الصواريخ، بحيث بات بإمكانها إلحاق ضرر بالغ بالأمن الإسرائيلي، إضافة إلى أنها لم تزل تحتفظ بالمقدرات التي تؤهلها لتطوير سلاح نووي؛ بينما تكشف تساؤلات أردوغان الأخيرة عن شرعية منع تركيا من امتلاك السلاح النووي، أن أنقرة ربما بدأت تشعر بضرورة تطوير قدرات نووية.

وفي ضوء متغيرات السياسة الإسرائيلية، والرفض الفلسطيني القاطع، وخشية دول عربية مثل مصر والسعودية من إعلان تأييدها، يبدو الآن أن مشروع التسوية الأميركي، الذي يمكن أن يوفر للدولة العبرية شرعية السيطرة على معظم فلسطين وتطبيعًا شاملًا مع جوارها، لم يعد مطروحًا، وإن طُرح فلن يتحقق.

حركة الثورة والتغيير: انحسار الثورة المضادة

واجهت حركة الثورة والتغيير الديمقراطي في العالم العربي انتكاسة مؤلمة منذ النجاحات الباهظة التي حققتها قوى الثورة المضادة في الإقليم في مصر في صيف 2013. كانت مصر، أكبر الدول العربية وأكثرها تأثيرًا، مركز حركة التغيير، وبإجهاض عملية الانتقال الديمقراطي في مصر أُجهض المسار الديمقراطي في معظم دول الثورة العربية الأخرى.

بيد أن التقدم الذي حققته الثورة المضادة لم يَسِرْ في طريق مستقيم. عادت السلطة لعناصر من النظام القديم في تونس، ولكن انقلابًا على التحول الديمقراطي لم يقع. ولم تستطع أدوات الثورة المضادة فرض سيطرة كاملة على ليبيا، بعد أن أدخلت البلاد في الحرب الأهلية. وحتى في سوريا، استمرت أوضاع النظام في التدهور إلى أن استُدعيت القوة الروسية العسكرية في خريف 2015، لتصنع انقلابًا في ميزان القوة، وإن بتكلفة هائلة. ولا يختلف الأمر في اليمن، حيث اندلع صراع أهلي مرير، وقفت فيه إيران إلى جانب الانقلاب الحوثي.

المسألة الأساسية في الصراع المحتدم بين حركة الثورة والتحول الديمقراطي، من جهة، والثورة المضادة، أن الأخيرة، أخفقت في تقديم بديل مقنع، لا على المستوى السياسي والاقتصادي، ولا على مستوى العلاقة بين مؤسسة الدولة وشعبها. في أغلب الحالات، قدمت حركة الثورة المضادة بديلًا مشوهًا عن أنظمة ما قبل 2011، ولم تستطع بالتالي أن تؤسس استقرارًا ولا أن تكتسب شرعية لنماذج الحكم الانقلابية الجديدة.

ولعل في هذا التطور ما يكفي للدلالة على عمق ما شهده المجال العربي في 2011؛ فقد أصبح واضحًا أن حركة الثورات الشعبية التي بدأت من تونس وانتشرت في عدد من الدول العربية الأخرى، لم تكن موجة غضب عابر، بل مؤشرًا على نهاية حقبة تاريخية برمَّتها، وعجز دولة ما بعد الحرب الأولى العربية عن إعادة صناعة نفسها، وإعادة توليد شرعيتها، كما حدث في أكثر من منعطف خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ولذا، لم يكن غريبًا أن يشهد العام الحالي انتفاضتين شعبيتين في الجزائر والسودان، تدفعان، وإن ببطء وصعوبة، إلى تغيير حقيقي في الدولتين. كما لم يكن غريبًا أن تشهد مصر، وبالرغم من مستوى القمع الدموي الهائل الذي يمارسه النظام، بوادر تململ وموجة جديدة من الحراك الشعبي.

المنطقة العربية، باختصار، ليست في طريقها للاستقرار؛ والأرجح أن حركة الثورة والتغيير ستستمر لسنوات طويلة قادمة، مهما كانت تكاليف الصراع على روح المجال العربي ومستقبله باهظة.