الشرقاوي يحاضر في تونس حول "حراك الرّيف في المغرب: جدلية التضامن بين ابن خلدون، وهيجل، وفولكان، وفوكوياما"

استضاف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فرع تونس، ندوة علمية دولية حول موضوع "التضامنات الاجتماعية: التعبيرات، والأشكال، والجغرافيات الجديدة"
17 June 2019
24d1e29c6fd0448d91c7e16ae5e120ee_18.jpg

استضاف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فرع تونس، ندوة علمية دولية حول موضوع "التضامنات الاجتماعية: التعبيرات، والأشكال، والجغرافيات الجديدة"، يومي 13 و14 يونيو/حزيران 2019، في مدينة الحمامات التونسية بمشاركة حوالي ثلاثين باحثًا من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وكوت ديفوار وفرنسا والولايات المتحدة. وشملت الندوة سبع جلسات ركزت على محاور متعددة، منها: "النظريات، المفاهيم، وتحول الدلالات"، و"الأدوار الاجتماعية للتضامنات"، و"الأدوار الاقتصادية للتضامنات"، و"أمكنة التضامن وجغرافياته الجديدة"، و"تحولات التضامن التقليدي".

ركز الدكتور محمد الشرقاوي، الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات وأستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن الأميركية، على بلورة نظرية جديدة للتضامن بموازاة الاعتراف بكون التضامن ينمُّ عن سياق ومآل مركَّبَيْن يختزلان ثلاثة أمور رئيسية: 1) العلاقة مع الذات الجماعية والآخر من خلال تباين مفهومي التضامن بين المنحَيَيْن: الشرقي والغربي. ويمكن الحديث عن تقابل مواز بين ما يمكن تسميته: التعاقدية الغربية (Western contractualism) والعلائقية الشرقية (Oriental relationalism). ويشكِّل هذان النسقان محكَّ العلاقة بين الذات والآخر داخل علاقة التضامن أو خارجها. 2) ترميم القيم؛ إذ يقف مفهوم التضامن عند قارعة الطريق بين الحاجة لتكتل الأفراد ضمن نواة اجتماعية قد تتحول إلى مظاهرة أو إضراب أو حركة اجتماعية قائمة بذاتها كما هو حراك الريف من جهة، وبين القناعة والحماسة المشتركة التي تلامس الروح الطوباوية أو المثالية عندما تتعالى أصوات الخطاب الأخلاقي والسرديات المعيارية في الدفاع عن مطالبهم من جهة أخرى. و3) مشروعًا سياسيًّا مستقلبيًّا؛ إذ لا يحيد تحليل التضامن عن ثنائية السياق والمآل، وكلما تعززت العلائقية بين أفراد المجموعة البشرية وتمَّ التواصل الحيوي بينهم كما يتخيله الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، تحوَّل التضامن إلى قوة دفع حيوية تقاوم استدامة الأمر الواقع، وتتمرَّد على علاقات القوة غير المتكافئة بالترويج لخطاب التغيير وتبرير الحاجة إليه.

تعقَّب الشرقاوي في دراسته الجديدة أسباب انتعاش التضامن داخل مجتمع الريف شمالي المغرب وأيضًا بين الشَّتات المغربي في أوروبا منذ مصرع بائع السمك، محسن فكري، داخل شاحنة قمامة قهرًا في مدينة الحسيمة، في الثامن والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2016، وكيف تحوَّل الصراع بين السُّلطات المغربية وحركات الاحتجاج في شمال البلاد إلى مواجهة محتدمة غير محسومة. وفي 27 يونيو/حزيران 2018، تلقَّى ناصر الزفزافي، وتسعة وأربعون من زملائه من نشطاء الريف، أحكامًا بالسجن تراوحت بين عشرين عامًا وثلاثة أعوام، ووصل مجموع العقوبات ثلاثمئة عام سجنًا. وأفرجت السلطات المغربية عن أحد عشر من معتقلي سجن عكاشة وقَّعوا التماس عفو، فجاء ردُّ الملك، محمد السادس، إيجابيًّا بإطلاق سراحهم في سياق عفو ملكي بمناسبة عيد الأضحى، في 21 أغسطس/آب 2018، من بين قائمة شملت 184 معتقلًا.

تناولت الدراسة أيضًا كيف تتعزَّز جدلية التضامن بين الخطاب والقومية والهوية الريفية سواء في تقاطعها أو انفصالها عن الخطاب والهوية الوطنية في المغرب. وركزت على أمرين رئيسيين: أولهما ما يثيره حراك الريف، كدراسة حالة، بشأن حصيلة التطور المعرفي في نظرية التضامن ضمن الحقول الدلالية بين سائر العلوم (كعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم السياسة، وعلم تسوية النزاعات)، ضمن النظرية النقدية الاجتماعية وفق المفهوم الذي كرسه يورغن هابرماس وأكسيل هونيت.

ينطلق هونيت من قناعة نظرية تجمع بين نظرية يورغ هيجل (1770 -1831) حول "النضال من أجل الاعتراف" ونظرية جورج إتش ميد (1863 -1931) حول التفاعل الاجتماعي في تكوين الذات أو ما يسميه "الفعل الاجتماعي" كوحدة أساسية للتحليل لفهم الوجود الاجتماعي الإنساني، وتتطلب بالتالي اهتمامًا أكثر أهمية بكثير مما تلقاه حتى الآن من علماء الاجتماع. ويخلص إلى أن ما اتفق عليه ميد وهيجل من الناحية العملية هو أن "إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية محكومة بضرورة الاعتراف المتبادل، لأنه لا يمكن للمرء أن يطور علاقة عملية مع ذاته إلا عندما يتعلم أن ينظر إلى نفسه من المنظور المعياري لشركائه في التفاعل، باعتباره المُرْسَلَ الاجتماعي إليه".

تتبنى الدراسة منطق الجدلية الهيغيلية في فهم التضامن والاعتراف ليس كمعطى ثابت أو مستقر، بل حركي ضمن التفاعل بين الوعي الذاتي والاعتراف بالآخر في الاتجاهين، وأيضًا كتركيبة نفسية واجتماعية متوازية بين "مجموعتنا" و"مجموعتهم". ويجادل بأن قوة الدفع في ارتفاع وانخفاض مستويات التضامن تكمن أساسًا في ما هو علائقي (Relational) داخل المجموعة البشرية وخارجها، أكثر من الوعي بدينامية المجموعة البشرية من الداخل. وكما يخلص هيجل، فإن "الوعي الذاتي موجود في حدِّ ذاته ومن أجل ذاته، وبسبب حقيقة أنه موجود لآخر، فهذا يعني أن وجوده رهين بالاعتراف به." وإذا تبنَّينا عبارة جاك ديريدا، فإن وجه الآخر يُواجه "قبل التضامن" و"دون رابط الشراكة". فصيرورة التضامن تنطوي على جدلية التفاعل بين أي مجموعتين بشريتين خصمين، وتستدعي مقارنة خطّيْ التوازي بين قوة وضعف مستوى التضامن لدى كل مجموعة مقابل أخرى. ولا يمكن الاعتداد بوجود أي تضامن مجتمعي خارج الإدراك الجماعي بوجود الآخر.

تعتمد الورقة منهجية التحليل المقارن بين عدة نظريات في علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي. ويركز جل الذين كتبوا في نظرية التضامن على وجود عناصر توحيد داخل المجموعة البشرية مثل العصبية القبلية عند ابن خلدون، وعدم المساواة عند دوركايم، والمزاج الجماعي لدى لوبون وغيرهم. بيد أن العلاقة مع الآخر لم تحظ بالاهتمام المطلوب، أو كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي، إيمانويل لوفينا (1906 -1965)، "أنها ليست علاقة شراكة شاعرية ومتناغمة اجتماعيًّا، أو تعاطف نضع أنفسنا من خلاله في موضع الآخر. نحن نعترف بأن الآخر يشبهنا، لكنه خارج عنَّا، العلاقة مع الآخر هي علاقة غموض كبير". 

يقترح الشرقاوي في هذه الدراسة تحديث مفهوم التضامن من خلال تركيب ثلاثية مفاهيمية تجمع بين الحركية العضوية الداخلية للعصبية عند ابن خلدون (عصبية الريف)، أو كما يتخيلها محمد الجابري "الجماعة المعنوية"، ثم الديناميات النفسية الاجتماعية مثل "المجد المختار" (chosen glory) و"الصدمة المختارة" (chosen trauma) لدى فاميك فولكان (Vamik Volkan) في تعزيز اللحمة الداخلية (قومية الريف)، وأهمية الهوية والاعتراف في مثل هذه الصراعات الاجتماعية (كرامة الريف فوق الإصلاحات البنيوية) وفق أحدث ما توصَّل إليه فرانسيس فوكوياما ضمن كتابه الجديد "الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسة الاستياء" (Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment) (سبتمبر/أيلول 2018). والأهم لدى فوكوياما التركيز على معضلة الاعتراف الذي يتبنى معناه الإغريقي الأصلي "ثيموس" أو (thymos) باعتباره "عنصرًا عالميًّا في الطبيعة البشرية الموجودة منذ البدء". بعبارة أخرى، أهمية الهوية والاعتراف في مثل هذه الصراعات الاجتماعية (كرامة الريف وإنهاء مركب الحُكْرَة) وفق النقاش المفتوح بين عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع.

(الجزيرة)