أُسدِل الستار على انتخابات المجلس التأسيسي في تونس يوم الثالث والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول، وهي أول انتخابات ديمقراطية تجري بعد الثورة ومنذ استقلال البلاد عن الاحتلال الفرنسي سنة 1956. وبهذا تنتقل تونس من شرعية الأمر الواقع التي دامت ما يقرب من عشرة أشهر متتالية تقريبا إلى الشرعية الديمقراطية التي تستند إلى آليات الانتخاب والتداول السلمي على السلطة. فبعد الإطاحة بنظام بن علي في أجواء ثورة سياسية صاخبة، تولت مقاليد الأمور حكومة مؤقتة أولى ولدت من رحم التجمع الدستوري (الحزب الحاكم) بقيادة محمد الغنوشي، أطيح بها في أقل من شهرين تقريبا، وحلت محلها حكومة ثانية بقيادة الباجي قايد السبسي كانت أقرب إلى الميراث السياسي البورقيبي منها إلى نبض الثورة، كما كان للجيش بقيادة رشيد عمار دور خفي في توجيه المشهد السياسي التونسي في مرحلة ما بعد الثورة.
القوى الجديدة: صعود الإسلاميين وتراجع اليسار
تمخضت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عن فوز واضح لحركة النهضة، التي نالت 90 مقعدا من المجلس بنسبة تصل إلى 41.47 بالمائة من المقاعد، وحلَّ حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المنصف المرزوقي ثانيا بـ30 مقعدا بنسبة تصل إلى 13.82 بالمائة، يليه التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر بـ21 مقعدا بنسبة 9.68 بالمائة.
بموازاة ذلك، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلغاء فوز ست قوائم تابعة لـ "العريضة الشعبية" بزعامة الهاشمي حامدي بسبب ما وصفته بوجود مخالفات.
فوز حركة النهضة كان أمرا متوقعا بالنسبة للمطلعين على مجريات الشأن السياسي في تونس، فقد أعطت أغلب استطلاعات الرأي التي أجريت قبيل الانتخابات نسبا متقدمة للحركة مقارنة ببقية الأحزاب السياسية. بيد أن ما فاجأ الكثيرين هو قدرة النهضة تخطي السقف الذي رُسِم لهم سلفا. كانت أوساط الحكم في الداخل مثلما كانت الأطراف الدولية المؤثرة في الوضع التونسي مطمئنة إلى أنَّ تقدم ما يربو على ثمانين حزبا لانتخابات المجلس إلى جانب عشرات القوائم المستقلة ثم وجود نظام قانون انتخابي بالغ التعقيد تم سنه بحسابات دقيقة، يقتطع من أصوات الكتل السياسية الكبرى لصالح الأقل حجما (نظام البواقي)، سيشتت أصوات الناخبين ويحدّ من حجم الإسلاميين بالضرورة، ولن يجعلهم في كل الحالات يتخطون نسبة ربع مقاعد المجلس في أحسن الحالات.
المفاجأة الأخرى التي لا تقل وقعا عن الصعود المدوي لحركة النهضة، هي صعود حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بقيادة الدكتور المنصف المرزوقي. فخلافا لكل التوقعات التي كانت تضع الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة نجيب الشابي في الترتيب الثاني بعد حركة النهضة، انتكس التقدمي إلى الموقع الرابع تقريبا ولم يحصل سوى على نسبة قليلة من المقاعد (17 مقعدا) لصالح حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي حل في الترتيب الثاني. أما عنصر المفاجأة الأكبر فهو الظهور الفجائي لقائمة "العريضة" التي يترأسها الهاشمي الحامدي من لندن، والتي لم يكن أحد يعيرها أي اهتمام يذكر، وما سجلته من تقدم في بعض ولايات الداخل خصوصا. بيد أن "العريضة" لا تمثل ظاهرة سياسية راسخة بقدر ما هي أقرب إلى الوصف بالفقاعة السياسية العابرة لأنها لا تملك تقاليد وهياكل وتنظيما يستمد شرعيته من النضال الديمقراطي.
كان الإقبال على صناديق الاقتراع مرتفعا إلى حد كبير، حيث بلغت نسب المشاركة ما يقرب من تسعين بالمائة في بعض المحافظات التونسية، وربما يعود ذلك إلى جدية المنافسة بين الأحزاب السياسية هذه المرة، ثم شعور التونسيين بأن الانتخابات حرة وديمقراطية وغير مسبوقة منذ الاستقلال، فتبددت المخاوف من ولادة مجلس تأسيسي شرعي ولكن منقوصا في تمثيله الشعبي نتيجة ضعف الإقبال على التصويت.
الواضح أن الناخب التونسي مال بشكل كبير إلى القوى الأكثر جذرية في مناهضة نظام بن علي، والأكثر انسجاما مع مطالب الثورة. وهذا ما يفسر وجود كتلة سياسية كبيرة تتشكل أساسا من النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، مقابل تراجع الأحزاب التي بنت إستراتيجيتها الانتخابية على أساس الاستقطاب الأيديولوجي بين ما سمي بالمشروع الحداثي والمشروع الإسلامي مثل الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة نجيب الشابي، وحزب التجديد بزعامة أحمد إبراهيم، وبقية الأحزاب اليسارية.
تقاطعت جملة من المعطيات الداخلية والخارجية في إنجاح الانتخابات وتجنيب تونس تكرار السيناريو الجزائري المخيف، من بينها التحولات السياسية الهائلة التي فرضتها أوضاع الثورة والتي كان من نتائجها المباشرة تغير الخارطة السياسية بشكل جذري، حيث اختفت أو كادت القوى السياسية "القديمة" التي كانت تتصدر المشهد السياسي التونسي قبل الثورة، وفي مقدمة ذلك التجمع الدستوري الديمقراطي، ومعارضات "الديكور" التي صنعها بن علي على مقاسه. وكان من نتائج ذلك أن عادت القوى السياسية إلى قلب الساحة التونسية بعد أن كانت محاصرة أو مغيبة بالكامل طوال حقبة الحكم المنهار. وقد ترافق ذلك مع رسوخ قناعة بين نخب الحكم والمعارضة على السواء، بأنه لم يعد من الممكن إدارة شؤون السياسة والدولة على ذات المنوال التسلطي والانفرادي الذي سلكه نظام بن علي ومن قبله سلفه بورقيبة.
كما أن وجود حراك شعبي واسع النطاق وضغط شديد مستمد من قوى الثورة، وخصوصا قطاعات الشباب الغاضب، قد دفع بقوة باتجاه التحول نحو الشرعية الديمقراطية. أدركت الحكومة المؤقتة بقيادة الباجي قايد السبسي أنها أمام خيار بالغ الصعوبة يتراوح بين القبول بالانتقال إلى الشرعية الانتخابية، أو مواجهة خطر انهيار الدولة أصلا على وقع عودة الاحتجاج الشعبي وتململ الشباب من أداء الحكومة المؤقتة.
كما أن عملية الطمأنة السياسي التي مارستها النهضة وامتناعها عن الانجرار إلى مناكفة خصومها السياسيين، أو لعبة الاصطفاف العقائدي بين إسلاميين وعلمانيين وتركيزها على العمل الميداني الشعبي، ثم الدخول في سلسلة من الترضيات والمساومات السياسية مع القوى الرئيسية الفاعلة في المشهد السياسي التونسي، بدءا بالإدارة ثم الجيش والداخلية وانتهاء برئيس وزراء الحكومة المؤقتة، فضلا عن مد جسور التواصل مع دول الجوار والقوى الدولية، قد ساهم إلى حد كبير في نزع فتيل الاحتقان والذهاب إلى صناديق الاقتراع بشيء من الاطمئنان.
إلا أن هذه النجاحات لا يمكن إرجاعها بالكامل إلى المهارة السياسية للإسلاميين التونسيين، بقدر ما يمكن إرجاعها أساسا إلى وجود مناخ دولي وإقليمي يتيح مجالا للحركة وتقدم قوى التغيير، ومن ذلك الضغط الشديد الذي مثلته موجة الثورات العربية، ثم عدم قدرة القوى الدولية على تحمل أعباء أزمة جديدة على أبواب المتوسط إلى جانب قوس الأزمات الواسع والممتد من أفغانستان إلى العراق ومن فلسطين إلى ليبيا المجاورة، فضلا عن الأزمة الاقتصادية الواسعة التي باتت تعصف بالاقتصاديات الغربية.
المواقف الدولية والإقليمية
رغم ما سجلته تونس من نجاح في تخطي عقبة الانتخابات إلى حد الآن، إلا أن المشهد السياسي التونسي لن يخلو من تعقيدات سواء في الوضع الراهن أو في الوضع المستقبلي القريب.
الواضح أن باريس ليست مرتاحة كثيرا لوجود حكم يتصدره الإسلاميون في بلد يقع على بضع عشرات الكيلومترات من الحدود الأوروبية، وتتمتع فيه بنفوذ ثقافي وسياسي اقتصادي واسع النطاق منذ الحقبة الاستعمارية. فقد صرح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال اجتماع مجلس الوزراء صبيحة الأربعاء يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول بأن "فرنسا ستكون متيقظة بشأن احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية في تونس"، حسب ما نقلته الناطقة الرسمية باسم الحكومة الفرنسية فاليري باكريس. كما صرح رئيس الحكومة الفرنسية بذات المعاني تقريبا. وهذا يشير إلى أن باريس حتى في حال قبولها عن مضض نتائج الانتخابات، فإنها لن تتوانى عن استخدام ما بحوزتها من أدوات تأثير ظاهرة وخفية لإفشال تجربة الإسلاميين والحيلولة دون امتداد تأثيرها إلى الجوار المغاربي والعربي، لأن باريس ترى في صعود الإسلاميين في تونس، من شأنه أن يبعث برسائل مشابهة لإسلاميي الجزائر وليبيا ومصر مفادها أن مرحلة المشاركة في الحكم من موقع متقدم لم تعد أمرا بعيد المنال، مثلما بعثت الثورة التونسية رسالة إلى الجوار العربي مضمونها أن التغيير السياسي والإطاحة بالأنظمة ليست بالأمر المستحيل.
صحيح أن حكومة ساركوزي التي واجهت انتقادات واسعة نتيجة دعمها الواسع لحكم بن علي في قمع الثورة التونسية، قد اضطرت في نهاية المطاف إلى إقالة وزيرة خارجيتها السابقة، أليو ماري، بحكم العلاقة الوطيدة التي نسجتها مع بن علي وأصهاره، ثم الإتيان بآلان جوبيه الأكثر مراسا بقضايا المغرب العربي والشرق الأوسط. وقد ترافق ذلك مع تعديل موقف باريس من الإسلاميين التونسيين وفتح قنوات تواصل مباشرة وغير مباشرة معهم، إلا أن ذلك لا يعني ذهاب باريس بعيدا إلى حد التعاون معهم في هذه المرحلة على الأقل.
وسيكون هذا الموقف أكثر سلبية في حال تسلم الاشتراكيين الحكم من بعدهم، فهم يحتفظون بعلاقات خاصة بالمعارضات اليسارية التونسية وبكثير من القوى الفاعلة في المجتمع المدني، فضلا عن حرصهم الشديد على حماية ما يسمونه بالتقاليد اللائكية (العلمانية) في تونس. على أن موقف الإعلام والصحافة الفرنسيين يبدوان أكثر توازنا وإيجابية هذه المرة في التعاطي مع مستجدات الوضع التونسي.
الموقف الأميركي يبدو في مجمله أكثر براجماتية وميلا إلى قبول حكم الإسلاميين في تونس، لأن واشنطن تدرك جيدا حجم التحولات السياسية التي فرضتها موجة الثورات العربية واهتزاز نظريتها في الاستقرار السياسي التي ظلت تنتهجها في منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبا، خصوصا بعد سقوط حكم مبارك في مصر. وهم يرغبون اليوم في مسايرة موجة التغيير العاصفة والتعامل مع القوى الجديدة التي أفرزتها الثورة بمزيج من الحذر واستخدام سياسة الاحتواء الهادئ عبر توسيع نطاق الدبلوماسية العامة والقوى الناعمة مع الحيلولة دون ذهاب موجة التغيير إلى الحدود التي تمس التوازنات الكبرى في المنطقة. ونظرا لأن الولايات المتحدة لا تتمتع بحضور قوي في تونس يضاهي الحضور الفرنسي، فضلا عن بعد تونس نسبيا عن الخط الساخن للصراع العربي الإسرائيلي، فإنها لا تجد غضاضة في توجيه رسالة للعالم العربي بأن البيت الأبيض لا يمانع في التغيير الديمقراطي في المنطقة هذه المرة.
ولكن ما هو مؤكد هو أن الأميركيين وسائر الأطراف الدولية تراقب عن كثب ما يجري في تونس، لتحديد استراتيجياتهم في التعامل مع ليبيا المجاورة ومصر وغيرهما من الدول العربية التي تعيش مخاضا ثوريا.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن الأجواء تبدو في مجملها مريحة، بعد أن خف الضغط على تونس من جهة حدودها الجنوبية الشرقية إثر رحيل نظام القذافي. كما أن جنرالات الجزائر قد فَرَضت عليهم موجة التغيير المنبعثة من تونس ثم مصر وليبيا أن يكونوا أكثر براجماتية وقبولا بالواقع الجديد مهما كان ضيقهم به.
التحديات والسيناريوهات المتوقعة
-
إحدى أهم المهام الشاقة التي ستواجه الإسلاميين التونسيين في الأسابيع القادمة هي تشكيل حكومة وحدة وطنية مستقرة لإدارة مرحلة انتقالية لا تتجاوز حدود سنة وفق خارطة الطريق التي اتفقت عليها الأحزاب السياسية الرئيسية قبل إجراء الانتخابات. وسيكون على النهضة في هذه الحالة الدخول في سلسلة مفاوضات ومساومات سياسية شاقة مع حزبي المؤتمر والتكتل الديمقراطي على الأقل. ولن يكون من السهل التوفيق بين مصالح متعارضة بين هذه الأطراف الثلاثة قبل تشكيل الحكومة وبعدها، فضلا عن التوفيق مع مصالح أطراف أخرى قد تنضم للحكومة. فقد أعلنت النهضة أن أمينها العام حمادي الجبالي هو الذي سيتولى تشكيل الفريق الحكومي ضمن نظام سياسي ينحو منحى برلمانيا، في حين أن زعيم التكتل مصطفى بن جعفر يرغب في تولي رئاسة ذات صلاحية واسعة وليست مجرد رئاسة شرفية، وحزب المؤتمر بقيادة المرزوقي لن يقبل بإعطاء هذا الموقع لغريمه التكتل، كما أنه يرغب في تولي حقيبتي الداخلية والعدل للمبادرة بإدخال إصلاحات جذرية وعاجلة في مجالي الأمن والقضاء، وهو ما يثير ارتياب الجهاز الإداري الضارب بجذوره في بنية الحكم في تونس. وبالنظر إلى قصر مدة المجلس التأسيسي، سيكون من الصعب أيضا تكوين حكومة مستقرة وذات برنامج سياسي موحد ومنسجم. فحتى في حال النجاح في تشكيل هذه الحكومة لن يكون من السهل ضمان الانسجام في أدائها وعدم تصدعها بسبب الاختلافات السياسية التي ستشقها. صحيح أن حركة النهضة تمثل الكتلة الانتخابية الرئيسية بما يجعلها في الوضع الأقوى لتشكيل الحكومة القادمة وترجيح الخيار بشأن رئيس الدولة ورئيس المجلس التأسيسي، ولكن ذلك لا يعنى أنها ستكون طليقة اليد في تحديد تركيبة الحكومة وضبط برنامجها وسلم أولوياتها.
-
سيكون أيضا من الصعب على أي حكومة قادمة المواءمة بين تحقيق الرغبة الجارفة في التغيير والقطيعة مع النظام القديم المنبعثة أساسا من قطاعات الشباب والقوى السياسية الجذرية، وبين التكيف مع التوازنات القائمة في المشهد السياسي التونسي المعقد. ومهما كانت إرادتها في تجسيد مطالب الثورة، فإنها لن تستطيع تجاهل قوى نافذة في معادلة الحكم، مثل جهازي الأمن والجيش، فضلا عن مؤسسة الإدارة أو بيروقراطية الدولة الضاربة والتي بقيت تشتغل بقدر كبير من النظام والنجاعة حتى في أجواء الثورة، وهذا ما يرجح احتفاظ وزير الداخلية الحبيب الصيد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي بحقيبتيهما.
-
من المؤكد أن هذه الحكومة ستعكس قدرا معقولا من التغيير، ومن ذلك تَسَلُّم وجوه جديدة من النهضة والمعارضة بعض الحقائب الوزارية السيادية، ولكنها على الأرجح لن تستطيع أن تذهب بعيدا إلى الحد الذي يدفع نحوه الشباب وقوى الثورة.
-
ليس من اليسير على الحكم الجديد في تونس تهدئة جبهات الضغط الكثيرة خلال الدورة الزمنية الوجيزة المخصصة للمجلس التأسيسي. فالمعارضات اليسارية الجذرية التي تشتغل تحت مظلة ما سمي بالقطب الحداثي ستعمل ما أمكنها على تحريك مواقع الضغط والاحتجاج من داخل الساحة النقابية العمالية أو الساحة الطلابية. وقد بدأت نذر هذا المشهد تتشكل من خلال بعض المسيرات والاعتصامات لإرباك الإسلاميين. ومع أن نتائج الانتخابات بينت أن القوى اليسارية لا تتمتع بحضور شعبي يذكر، إلا أن ذلك لا يقلل من قدرتها على إيذاء خصومها من خلال عمليات التعبئة في صفوف المجتمع المدني، فضلا عما تتمتع به من غطاء دولي، خصوصا إذا تعلق الأمر بمناكفة الإسلاميين.
-
من الصعب على الحكومة القادمة التوفيق بين متطلبات معالجة الملفات الضاغطة وخصوصا مسألتي البطالة وتحسين الأداء الاقتصادي المتعثر، الذي أُنهك أكثر بسبب تأثير الاضطرابات السياسية في مرحلة ما بعد الثورة وبين القيام بالمهام المخولة للمجلس التأسيسي أصلا، وفي مقدمة ذلك صياغة دستور جديد للبلاد وتحديد مرتكزات النظام السياسي الوليد. ومما يزيد من تعقيد هذا الوضع أكثر أن طبيعة المهام المطروحة على المجلس التأسيسي ثم تركيبة الحكومة الائتلافية القادمة ستثيران بالضرورة صراعات أيديولوجية واسعة حول قضايا مثل اللائكية والفصل بين الدين والسياسية والفصل بين الدين والدولة.
-
لقد نجح الإسلاميون في استمالة قطاعات اجتماعية واسعة لصالحهم خاصة بين أبناء الطبقات الوسطى والفئات الضعيفة في المدن وبدرجة اقل في الأرياف، إلا أن ذلك لا يعني أنه لا توجد مخاوف لدى بعض الفئات النسوية والطبقات العليا في "جيوب الرفاه" المديني من المس بأنماط حياتهم ذات الملمح الغربي. لا شك أن الكثير من هذه المخاوف مبالغ فيها، إن لم نقل إنها موهومة، فضغط الأجواء الليبرالية في البلد وثقل التأثير الثقافي الفرنسي، ثم توجهات الإسلاميين التونسيين "الحداثية" كلها توفر ضمانات كافية لعدم المس بالخيارات الخاصة للناس أو فرض الأسلمة الفوقية. وربما تحتاج الحكومة القادمة بعض الوقت حتى تبدد هذه المخاوف من خلال إثبات ذلك عمليا.
-
المرجح أن ينشغل الإسلاميون التونسيون بعبء التنمية وتحسين الأداء الاقتصادي وضمان الرفاه المجتمعي أكثر من أي شيء آخر. وربما سيكون على رأس أولوياتهم الحفاظ على الفصل الأول من الدستور الذي يؤكد على الهوية العربية الإسلامية لتونس، مع تخفيف الطابع التدخلي والبوليسي للدولة لصالح نموذج أقل تدخلية وأكثر تسامحا وديمقراطية، وإن قُدِّر لهم إنجاز هذه المهمة الشاقة فسيكون ذلك بمثابة نجاح يسجل في رصيد تيار الإسلام السياسي في المنطقة بعد تعثراته الكثيرة في السودان وإيران.