لعل وصف صحيفة كيهان ذات التوجه الأصولي الواضح نقل المفاوضات النووية إلى العاصمة القطرية، الدوحة، بأنه "فخ ومكافأة للولايات المتحدة الأميركية"، مؤشر واضح على أن القرار لم يخرج من بوتقة صنع القرار السياسي الإيراني إلا بعد نقاش وتجاذب، وأن القرار الذي نضج داخل المجلس الأعلى للأمن القومي كان له معارضون قرؤوا فيه مخاطر إستراتيجية، لعل من أبرزها التفرد بإيران والفصل ما بينها من جهة وبين روسيا والصين من جهة أخرى؛ وهو ما يعني إجهاض سياسة التوجه شرقًا والسعي لبناء تحالفات من شأنها أن تبطل تأثير العقوبات أو تحيِّده. لكن المدافعين عن القرار وضعوه ضمن الحسابات الإستراتيجية الدقيقة والتي تستجيب للمصالح الوطنية.
وعلى وقع التصعيد وموجة من التشاؤم أحاطت بمستقبل المفاوضات بشأن الاتفاق النووي جاءت زيارة منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إلى طهران، المكثفة التي امتدت لأربع ساعات واشتملت على محادثات مغلقة مع وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان، والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، الذي أكد بعد اللقاء على موقف إيران من القضايا الخلافية وبقاء هذا الموقف على ما كان عليه عندما تعثرت المفاوضات وتوقفت قبل نحو ثلاثة أشهر.
یرى المعارضون أن سبب الجمود في المحادثات النووية لم يكن مكان "المحادثات" ليكون الحل هو نقل مكانها، ولا روسيا أيضًا، ورأى موقع "مشرق نيوز" الأصولي أن إلقاء اللوم على روسيا سببًا في تعثر المفاوضات هو نوع من التهرب الأميركي من "رفع العقوبات بشكل فعال ومستدام ومضمون"، وأن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا هي المسؤولة عن العقوبات ضد إيران وليست روسيا.
وكما يلقي الطرف الأميركي باللوم على إيران ترد إيران بالمثل وترى أن الكرة في الملعب الأميركي. وإنْ كانت الإدارة الأميركية "على استعداد لوضع اللمسات الأخيرة وتنفيذ الاتفاق الذي جرى التفاوض عليه في فيينا.. ولكن يجب على إيران التخلي عن المطالب التي تتجاوز الاتفاق النووي". ومن المؤكد أن مطالبة إيران بإزالة الحرس من قوائم الإرهاب هو ما تعتبره واشنطن مطلبًا من خارج ما نصَّ عليه الاتفاق النووي في حين تصر طهران على تحقيقه.
تعثر واستئناف المفاوضات: الأسباب
تعثرت المفاوضات التي كانت تُجرى في فيينا بسبب الخلافات الإيرانية-الأميركية بشأن مسائل بعينها تتعلق بإزالة كافة العقوبات وتقديم ضمانات بعدم الانسحاب مجددًا وكذلك اختبار مصداقية إزالة العقوبات، وجاءت قضية الحرس وقوائم الإرهاب لتضيف مسألة خلافية أخرى لا تقل تعقيدًا عن سابقتيْها.
أفرز التعثر تصعيدًا من قبل إيران والأطراف الأخرى، وكان من أبرز ما حدث دلالةً على هذا ما صدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية من انتقاد لإيران بسبب عدم "إجابتها بالكامل على أسئلة بشأن آثار لليورانيوم عُثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة". وأقر مجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية مشروع قرار مقدم من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا يحث طهران على التعاون مع تحقيق تجريه الوكالة. وردَّت إيران التي وصفت القرار بأنه "متسرع ومسيس" بإيقاف عمل كاميرات المراقبة في إحدى المنشآت النووية الإيرانية، كما بدأت في تثبيت مجموعة جديدة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة "آي آر 6" IR-6 في محطة نطنز النووية.
مع تعثر المفاوضات وبدء العمل لبناء تحالف وُصِف بأنه "ناتو شرق أوسطي"، شعرت إيران بأنه يجري تجييش دول المنطقة ضدها، وأن هذا التحالف الذي ستقوده إسرائيل، ويراد له أن يكون أمنيًّا وعسكريًّا، يستهدفها بصورة مباشرة، وقرأت استمرار تعليق المفاوضات بأنه يُذكي نار التصعيد ضدها ويقدم ذرائع من شأنها أن تفرز تحديات وتهديدًا لإيران في الإقليم. وإن كانت إيران ترى أن هذا المسعى مصيره الفشل كما فشلت المحاولات السابقة، إلا أنها تستشعر مع التهديد الإسرائيلي وتصاعد حرب الظل مع تل أبيب أن عليها التحرك وإعاقته.
جاء قرار استئناف المفاوضات النووية واختيار الدوحة مكانًا لذلك ضمن حسابات إستراتيجية، تأخذ بعين الاعتبار ما يجري في الإقليم ومواقف الدول منه.
بموازاة ذلك، ينشط العراق في وساطته بين إيران والسعودية، ويبدو أن الإرادة السياسية في طهران تتجه إلى حلحلة تدريجية لمشكلات العلاقة مع الرياض، يدعم ذلك الإعلان عن الموافقة على رفع مستوى المحادثات إلى المستوى الدبلوماسي وهو ما يؤشر إلى احتمالية قرب عودة التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.
لماذا الدوحة؟
تقليديًّا، حظيت عُمَان بمستوى عال من ثقة صانع القرار الإيراني، وهي الثقة التي جعلتها مكانًا لانعقاد المحادثات السرية بين طهران وواشنطن في أواخر فترة حكم أحمدي نجاد، لتثمر المفاوضات لاحقًا الاتفاق النووي الذي وُقِّع عام 2015. وحتى لحظة خروج القرار باختيار الدوحة مكانًا لمفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة كانت أطراف داخل مؤسسات صنع القرار تجادل بضرورة الحفاظ على الدور العُمَاني.
لكن، وبالنظر إلى مجموعة من العوامل والتطورات التي شهدتها المنطقة، جاء القرار الإيراني بأن تكون الدوحة هي المستضيفة للمحادثات، التي ستقتصر على الأطراف الأوروبية وسيمثلها بورل، والجانب الأميركي ويمثله روبرت مالي فيما يمثل إيران في هذه المحادثات كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري.
ويمكن بصورة مركزة إدراج العوامل والمحددات التالية التي أفضت إلى اختيار الدوحة:
- التطور الذي حدث بعد أزمة حصار قطر وموقف إيران من الأزمة والتحسن الكبير الذي شهدته العلاقات القطرية-الإيرانية؛ حيث وجدت إيران فرصة لبناء صورة تقول بأنها جار جدير بالثقة وهو ما يشكِّل نقاط قوة في بناء تحالفاتها مستقبلًا أو تعزيز موقعها لدى حلفائها، وفي المقابل سعت الدوحة ودافعت عن خيار الحوار مع إيران بوصفها جارة مهمة ومؤثرة.
- سياسة أولوية الجوار التي أعلنها إبراهيم رئيسي، ولذلك فإن ما تصفه بأنه منح امتياز للدوحة يمثل في واحد من أوجهه دليلًا تقدمه طهران أرضيةً لبناء الثقة مع الجيران على الرغم من أن مطالبة دول عربية بأن تكون جزءًا من المفاوضات النووية لا تجد قبولًا في إيران.
- النشاط الدبلوماسي القطري النشط والحراك السياسي المؤثر ذهابًا وإيابًا بين طهران وواشنطن، واستثمار تجارب قطر السابقة في الوساطة.
- تصاعد وتيرة تطبيع الدول الخليجية مع إسرائيل وهو ما ترى إيران فيه تهديدًا أمنيًّا مباشرًا، ولذلك فإن من مصلحتها قطع الطريق على إسرائيل من خلال تعزيز العلاقة مع دولة تقر إيران أنها مؤثرة وإن كانت صغيرة من حيث المساحة.
هل يمر الحل من خلال الدوحة؟
سوف تركز محادثات الدوحة على قضايا بعينها تشكِّل جوهر الخلاف بين طهران وواشنطن وتعيق التوصل إلى اتفاق نهائي بإحياء الاتفاق النووي، ولذلك فإن السعي لجعل المحادثات مقتصرة على الطرفين، الإيراني والأميركي، مع دور أوروبي يقوم بالوساطة أو بصورة أدق بـ"نقل الرسائل" بين الجانبين، قد يؤسس لحل يفضي إلى اتفاق في فيينا لاحقًا، ولكن توقع تذليل كافة العقبات يبدو مغرقًا بالتفاؤل بسبب حساسية وتعقيد قضايا الخلاف المتبقية بالنسبة للجانبين، وهو ما قد يقود لإمكانية تفاهمات جزئية بشأن بعض القضايا، وقد تفتح المجال لمحادثات مباشرة بين طهران وواشنطن وهو الأمر الذي ما زالت القيادة العليا في إيران ترفضه.
وأيًّا يكن مستقبل هذه المحادثات، فإن دخول قطر على مربع التفاوض عبر استضافة المحادثات جاء ضمن حسابات إستراتيجية إيرانية تتجه لما هو أبعد من الاتفاق النووي وسيكون له ما يتبعه سواء فيما يتعلق بالعلاقة مع إيران والولايات المتحدة الأميركية، أو ما يتعلق بملفات الإقليم الساخنة.